مَرْجِعِيَّاتُ الأدَاءِ الشِّعْرِيِّ في قصيدةِ النَّثــرِ المِصْــريَّةِ/ شريف رزق

 

مَرْجِعِيَّاتُ الأدَاءِ الشِّعْرِيِّ في قصيدةِ النَّثــرِ المِصْــريَّةِ

« مِنْ بدايَاتِ الأربعينيَّاتِ إلى نِهاياتِ الثّمانينيَّات»

شريف رزق

……

 

تُمثِّلُ بدايةُ الأربعينيَّاتِ ونهاياتِ الثَّمانينيَّاتِ علامتينِ أساسيَّتينِ على تحوُّلاتٍ سياسيَّةٍ وثقافيَّةٍ وأيديولوجيَّةٍ واجتماعيَّةٍ، قادت إلى تغيير مشهدِ الواقعِ المصريِّ.

وفضاءُ النَّصِّ الشِّعريِّ، دائمًا، هو ساحةٌ تتقاطعُ فيها هذه التَّحوُّلاتُ ؛ بل إنَّه يُرهصُ بأكثرها؛ عَبْرَ اقتراحاتٍ شعريَّةٍ تتفجَّرُ، وقد تترسَّخُ، في العديد من التَّجاربِ، بقوانينَ، جماليَّةٍ أخرى.

وتُشكِّلُ هذه المساحةُ الزمنيَّةُ: من أوائل الأربعينيَّاتِ حتَّى نهاياتِ الثَّمانينيَّاتِ، أربعَ مراحل أساسيَّةٍ – في مسيرةِ قصيدةِ النَّثرِ المصريَّةِ – وهيَ مراحلُ لا ترتبطُ بفكرةِ جيلٍ كلّ عقدٍ؛ فباسْتثناءِ المرحلةِ الأولى، كانت كُلُّّ مرحلةٍ، من هذه المراحلِ، تبدأ في نهايات عقدٍ، ويتأكُّدُ حضورُها في العقدِ التَّالي، وهيَ مراحلُ تُجسِّدُ تحوُّلاتِ القصيد النَّثريِّ، منذ انفجارات وعيه الحداثيّ.

 

المرحلةُ الأولى :

تبدأ مع بدايةِ عقد الأربعينيَّاتِ، وقد برزتْ فيها – بشكلٍ واضحٍ – آلياتُ الشِّعريَّةِ الفرانكفونيَّةِ والشِّعريَّةِ الأنجلوسكسونيَّةِ، وهو ما تمثَّلَ في تجاربَ شعريَّةٍ وتيَّاراتٍ حداثيَّةٍ تتَّصلُ براهنِ الشِّعريَّةِ الفرانكفونيَّةِ والشِّعريِّةِ الأنجلوسكسونيَّةِ؛ نتيجةً لازديادِ حركاتِ التَّحرُّرِ على الأصْعدةِ السِّياسيَّةِ والاجتماعيَّةِ والفكريَّةِ، واتِّصال شعراء النُّخَبِ الاجتماعيَّةِ بالشِّعريِّةِ الأوربيَّةِ المُنتصِرَةِ، في أشكالها الطَّليعيَّةِ، ومن شُعراءِ هذه التَّجاربِ: جورج حنين، كامل زهيري، بدر الدِّيب ، لويس عوض، كما استمرَّ تيَّارٌ يستندُ على رُؤى شعريَّةِ طاغور(1861-1941) وآلياتِ الشِّعريَّةِ في أطوارِهَا الأُولى، عَبْرَ نموذجِ حسين عفيف.

 

المرحلةُ الثَّانيةُ :

بدأت في أواخر الخمسينيَّاتِ وامتدَّتْ في السِّتينيِّاتِ، ولم تبرزْ في هذه المرحلةِ سوى تجربةِ إبراهيم شكرالله، باسْتنادِها على آلياتِ الشِّعرِ الحُرِّ بمفهومِهِ الأنجلو سكسونيِّ.

 

 المرحلةُ الثَّالثةُ :

ظهرتْ في أواخرِ السِّتينيَّاتِ، واسْتمرَّتْ أمواجُها في عِقْدِ السَّبعينيَّاتِ، وتمثَّلتْ في تيَّار يرفضُ الواقعَ المهزومَ، ويركنُ إلى عالمِ البراءةِ الأولى، والأشياءِ في بكاراتِها الأولى، والتَّعبيرِ الفِطريِّ الحُرِّ، ومَثَّلَ هذا التَّيار: عزَّت عامر، فاروق خلف، ولحق بهما، في أوائلِ السَّبعينيَّاتِ، علي قنديل، و في أواخِرها، حسن عقل .

 المرحلةُ الرَّابعةُ :

 ظهرتْ في أواخرِ السَّبعينيَّاتِ، وامتدَّتْ إلى نهاياتِ الثَّمانينيَّاتِ، وتمثَّلتْ في تيَّارٍ أعلنَ قطيعتَهُ معَ النَّموذجِ الشِّعريِّ المُسْتقرِّ؛ بالإيغالِ في التَّجريبِ اللغويِّ والمَجَازيِّ؛ وهو ما تقدَّمَ معه الدَّالُ على الدّلالةِ، وقد ظهرَ هذا في تجاربِ حلمي سالم، ومحمد عيد إبراهيم، ورفعت سلاَّم، وأمجد ريَّان، ومحمد آدم، وزملائِهم، وقد تنوَّعتْ مصادرُ الأداءِ الشِّعريِّ عند هؤلاء الشُّعراءِ، وكان منها: العودةُ إلى آلياتِ وإمكانيَّاتِ السَّردِ، ورُؤى شعراءِ مجلَّةِ: ( شِعْرِ)؛ وتحديدًا أدونيس وأُنسي الحاج.

إنَّها حَلْقاتٌ أساسيَّةٌ، لشعريَّةِ الحداثةِ في قصيدةِ النَّثرِ المصريَّةِ، تفاوتتْ درجاتُ طاقاتِها الذَّاتيَّةِ واحتفائِها بآلياتِ النَّماذجِ التي اسْتلهمتْها، ولكنَّها ساهمتْ، جميعها، في اقتراح شعريَّاتٍ خاصةٍ في شعريَّةِ القصيدِ النَّثريِّ، وترسيخِ مشهدِهِ، بدرجاتٍ مُتفاوتةٍ عَبْرَ هذه العقود.

 

-1-

 تُعدَّ مرحلةُ الأربعينيَّاتِ، في مصرَ، من أهمِّ المراحلِ التي شهدتْ تحولاتٍ فارقةً، أو أرهصتْ بها، على مُستوياتٍ مُتعدِّدةٍ؛ ولهذا رأى محمود أمين العالم (1922- 2009) أنَّ هذه المرحلةَ، في حاجةٍ إلى «أن تكونَ محلّ دراسةٍ مُعمَّقةٍ، في مختلفِ أبعادِها السِّياسيَّةِ والاقتصاديَّةِ والاجتماعيَّةِ والفكريَّةِ والأدبيَّةِ والفنيَّةِ، لا في مصرَ وحدَها، بل في الوطن العربيِّ كلِّه، وخاصةً في بلاد الشَّامِ والعِراقِ؛ فلقد كانتْ هذه الأربعينيَّاتُ في هذه البلادِ سنواتِ اختيارٍ وإرْهاصٍ، لكثيرٍ ممَّا جرى ويجري في بلادنا، حتَّى اليوم من قضايا وإشكاليَّاتٍ حياتيَّةٍ وإبداعيَّةٍ.»(1)

 والواقع أنَّ مرحلةَ الأربعينيَّاتِ، في مصرَ، تُمثِّلُ علامةً فارقةً، في مسيرةِ القصيدِ النَّثريِّ، حيثُ شهدتْ – منذُ بداياتِها – بدايةَ وعيٍ جديدٍ؛ وعيٍ يتجاوزُ الوعيَ الرُّومانسيَّ الرَّمزيَّ الذي هيمنَ على ما قبلها، وعي حداثيّ، إشكاليّ، مُركَّب عبَّرَ عنه أحدُ أبناءِ هذا الجيلِ: لويس عوض، بقوله: «جيلُنا مُعذَّبٌ وجيلُنا ثائرٌ، وجيلُنا عاشَ في الأرضِ الخرابِ التي انجلتْ فيها الحرْبانِ، ورقصَ حولَ شجرةَ الصَّبَّارِ، وجيلُنا لم يُولدْ ببابِ أحدٍ، وجيلُنا يقرأ فاليري و ت ، س إليوت، وجيلُنا يكسبُ قوتَه بعرقِ جَبِيْنِه، وجيلُنا يُكافِحُ الاسْتعبادَ والاستبدادَ»(2)، وقد كان هذا الوعيُ حافزًا إلى ارتيادِ مناطق جديدةٍ، في تأسيسِ خِطاباتٍ شعريَّةٍ جديدةٍ، ونستطيعُ أن نلحظَ، في هذه المرحلةِ، مجموعةً من المَسَاراتِ:

 

   -1-                                                                                                                                

 مَسَارٌ تجسَّدَ فيه استمرارُ التَّيارِ الرُّومانسيِّ الرَّمزيِّ المُحمَّلِ بظلالِ شِعريَّةِ طاغور و رُؤى جبران، ويقفُ في طليعةِ هذا المَسَارِ حسين عفيف (1902-1979)، بأدائِهِ الخاصِّ الذي يُجسِّد شعريَّةَ (أبوللو) محلولةً؛ عَبْرَ مجموعَةٍ منْ الدَّواوينِ التي أصْدَرَهَا، وبَدَأهَا – في الثَّلاثينيَّاتِ – بدواوينِ: (مُنَاجَاة) 1934، ثمَّ:(الزَّنبقَة)1938، ثمَّ :(البُلبل) 1939، ثمَّ أعقبَهَا – في الأربعينيَّاتِ – بدواوين: (الأغنية)1940، (العبير)1941، مُعمِّقًا تيارَه الخاصَّ، الذي يقتربُ فيه من شِعريَّةِ طاغور، ومن أداءِ جماعةِ (أبوللو) الرُّومانسيِّ؛ حيثُ الرَّوحانيَّةُ المُحلِّقةُ، والدَّفقُ الوجدانيُّ الغنائيُّ الرُّومانسيُّ الحُرُّ، والاحتفاءُ بنقَاوةِ اللغةِ، والتَّصويرِ، والرَّمزيَّةُ، والصُّوفيَّةُ؛ ففي ديوانِهِ: (العبير) – الّذي أهداه «إلى رُوحِ الشَّاعرِ الأكبرِ: رابندارنات تاجور» – نقرأ:

 

– 9 –

«مَا أنْتِ إلاَّ زهرةٌ مَرْمُوقةٌ وَأنَا النَّحْلةُ التي

تَمْتَصُّ رحيقَكِ ، وَتَطِيرُ مُترنِّحَةً في الرِّيَاضِ؛

فَعَلَى شَفَتيَّ منكِ حَلاوةٌ، وَبشَدْوي طنينٌ ثَمِلٌ

وَهَكَذَا أشْرَبُ كأسِي مِنْ خَمْرِكِ، حَتَّى إذا

أرْسَلتُ أنْغَاميَ سَكْرَى، غَفَا على نُُعَاسِهَا

النَّاسُ.

-10-

في الصَّباحِ، حَمَلتُ سِلالي الخَاليةَ، وقَصَدْتُ

إلى رَوْضِك.

وَطَفِقْتُ – حَتَّى انَْصَرمَ النَّهَارُ – أجْمَعُ مِنْ

خَدِّكِ الخَوْخَ، وَالكرَازَ مِنْ ثَغرِكِ

وَعِنْدَمَا عُدْتُ لدَارِي وَسِلالي مُفْعَمَةٌ

أفْرَغْتُهَا بجانبِ قلبي، وَرُحْتُ في نومٍ لذيذٍ،

كَطِفْلٍ احْتَضَنَ دُمْيَتَهُ وَنَامْ.

 

– 13-

إنْ كُنْتِ زَهْرَةً، فلا تُصْغِي لِكُلِّ رِيْحٍ.

مِيْلِي لِي أنَا

لا يَتَضَرَّجْ خَدُّكِ إلاَّ مِنِّي، لا يَبْتَسِمْ

ثَغْرُكِ إلاَّ لِي.

إيَّاكِ أنْ تَذْكُرِي غَيْري، أوْ يزورَكِ في

الكَرَى طَيْفُ سِوَايَ

أنَا وَحْدِي الذي أُبلبْلُ فِكْرَكِ وَأقْتَحِمُ

عليكِ مَنَامَكِ.

إنِّي مَلَكْتُكِ بالذي ذَرَفْتُ في سَبِيْلِكِ مِنْ

دموعٍ ، وَأرْسَلْتُ في الدُّجَى مِنَ نَفَسٍ مُحْتَرِقٍ.

وَلَقَدْ مَلَكْتِنِي أيْضًا بِمِثْلِ مَا مَلَكْتُك بِهِ.»(3)

إنَّ شِعريَّةَ طاغور تبدو من بعيدٍ، وتغيبُ، لدى شاعرِنَا المِصْرِيِّ؛ الذي اسْتطاعَ – بأعمالِهِ المُتعدَّدةِ عبْرَ نصفِ قرنٍ – أنْ يُؤسِّسَ مشروعًا خاصًّا في شِعْرِ النَّثرِ العربيِّ، وإنَّه لمن الغريبِ أنْ يُقاسَ ما أنجزَهُ حسين عفيف – منذُ الثَّلاثينيَّاتِ – على شكلِ قصيدةِ النَّثرِ الرَّاهنَةِ؛ ليُسْتَبعَْدَ مِنْ مَسيرةِ القصيدِ النَّثريِّ المِصْريِّ، عِدَّة مَرَّاتٍ.(4)

 

 

     -2-

مسارٌ تمثَّلتْ فيه بدايةُ تيَّارِ القطيعةِ معَ التَّقاليدِ الشِّعريَّةِ العربيَّةِ، ضِمْنَ القطيعةِ معَ التَّقاليدِ المُجتمعيَّةِ الباليةِ والواقعِ المُتردِّي، والقطيعةِ معَ تقاليدِ الفنِّ القديمةِ؛ ويُمثِّلُ هذا التَّيارَ شُعراءُ السِّرياليَّةِ المِصْرِيونَ؛ الذين التحموا بالفِعلِ السِّرياليِّ في فرنسا، وتبنَّوا آلياتِه الشِّعريَّةِ، للدَّرجةِ التي نرى أبرزَ هؤلاء الشُّعراءِ: جورج حنين (1914- 1973) ينشرُ أشعارَهُ بالفَرنسيَّةِ ثُمِّ بالعربيَّةِ، وكانتْ مجلَّةُ: (التَّطوُّرِ) – التي أصْدَرَها هؤلاء الشُّعراء مع رِفَاقِهم المُصَوِّرينَ والأدباءِ والمُفكِّرينَ في عام 1940- ومجلَّةُ:(المجلَّة الجديدة) – التي حرَّرَها رمسيس يونان (1913- 1966) – فضاءً لتجاربِهِم الإبداعيَّةِ والفنيَّةِ والفِكريَّةِ، وكانَ مشروعُهُم الثَّوريُّ عامًا، ونُخْبَويًّا؛ فكانت ثورتُهُم الشِّعريَّةُ الحداثيَّةُ الطَّليعيَّةُ جُزءًا من ثورةٍ شاملةٍ، وقد ضمَّتْ حركتُهُم مِصْريِّينَ وأجانبَ ومُتمصِّرينَ؛ واسْتضافوا شعراءَ فرنسيِّينَ، كما كتبوا بعضَ إبداعاتِهم بالفَرنسيَّةِ، وكتبَ بعضُهُم القصيدةَ الداديَّةَ؛ التي تلعبُ المُصَادفةُ دُورًا أساسيًّا، في إنتاجِ شِعريَّتِها، ويتساوى المبدعُ والمتلقِّي في اكْتِشَافِ شِعْريَّتِها، كَمَا في قولِه:  

 

« عِنْدَ مَدْخَلِ قوسِ الكنيسةِ                                 

حَيْثُ تَجْرِي مُبَاحَثةٌ شَرْعِيَّةٌ

رَجُلٌ يستعملُ صِيْغَةَ الحَاضِرِ عِِوَضًا عَنِ المَاضِي

يَخْطُو خُطْوَةً رَاقِصَةً نَحْوَ صِنْدوقٍ بَيْضِيِّ الشَّكلِ

يَتَضَمَّنُ هَدَايَا عيدِ الفَصْحِ

فينالُ أغلبيَّةَ الأصْوَاتِ

في شِرْكةٍ تِجَاريَّةٍ أو حِزْبٍ سِياسِيٍّ

قابلٍ للتَّجْزِئَةِ».(5)

 

وعندَ جورج حنين، تتابعُ الاسْتعاراتِ، وتتوالى؛ لتشكيلِ صُورٍ سرديَّةٍ، سرياليَّةٍ، مُدْهشةٍ؛ كما في قصيدتِهِ: (انتحار مؤقَّت) التي يستهلُّها هَكَذَا:

 

« في أعْمَاقِ الأدْرَاجِ الزَّرقاءِِ

التي رَحَلَتْ مَفَاتيحُهَا إلى الأقفالِ المُتوحِّشَةِ

وَتَاهَتْ خِطَابَاتُهَا في سُوقِ الاعْترَافَاتِ

في أعْمَاقِ الأدْرَاجِ المُلوَّنةِ بلونِ التِّلميذَةِ

بينَ سِيجَارَةٍ ذابِلةٍ وَصَفْعَتَيْنِ

يرجِعُ تاريْخُهَا إلى الفضِيْحَةِ الأخِيرَةِ

يَحْدُثُ أحْيَانًا أنْ تلْتَقِطَ

شِفَاهٌ مُرَّةٌ

تَتْلُو كَلِمَاتٍ قريْبَةً

تَهْبِطُ كالْحَصَى

مُنْحَدَرَ الصَّوتِ

شِفَاهٌ نادِرَةٌ مُخْتَصَرَةٌ

تَتَفَتَّحُ لِتَدَعَ جَاسُوْسًا يَمُرُّ

وَهُو مُتَخَفٍّ في فِرْقَةٍ عَازِفةٍ

لا أعْرِفُ أبدًا أيَّ لَحْنٍ

يَتَشَبَّثُ بِطَوْقٍ مِنَ اللهِيْبِ.» (6)

 

لقد جسَّدتْ هذه الشِّعريَّةُ وثبةً مبكِّرةً، في الأفقِِ الحَداثيِّ، توازتْ، وتزامنتْ، معَ وثبةِ الشِّعريَّةِ السِّرياليَّةِ في فرنسا، وسعتْ – بحِرَاكٍ جماعيٍّ – إلى ترسيخِ شعريَّتِها المُغَايرةِ، في مشهدِ الشِّعريَّةِ المِصْريَّةِ.

 

 -3- 

 مسارٌ ثالثٌ يلتحمُ  بِشِعريَّةِ ت. س. إليوت (1888- 1965)، في الشِّعريَّةِ الأنجلوسكسونيَّةِ؛ التي تقومُ على كثرةِ الإحَالاتِ، وتوالي الإشَاراتِ المعرفيَّةِ الكثِيفَةِ، وتَشَابُكِ الثَّقافاتِ في النِّصِّ الشِّعريِّ، ويُمثِّلُ هذا المسارَ لويس عوض (1914-1990)، وحده، في ديوانه (بلوتولاند)؛ الذي كتبَه فيما بين عاميْ 1938-1940، ونشرَه ُفي عام 1947، وفي قصيدتِهِ (الحُبّ في سان لازار) يقول:

 

« في محطةِ فكتوريا جلستُ وبيدي مِغْزَلٌ

وكانَ المِغْزَلُ مِغْزَلَ أدِويسيوسَ

عفوًا إذا اخْتَلَفْنا أيُّهَا القارئُ

فقدْ رأيتُهُمْ، رأيتُهُمْ سُكَّانَ الأرجو، وجُلُّهُم مِنَ النِّسَاءِ

ارْتَدَيْنَ البنطلوناتِ وَلَبِسْنَ أحْذِيةَ كاوتْشُوك».(7)

 

وفي النَّصِّ نفسِه يقول:

« لأنِّي سَمِعْتُ مَاركَ أنطونيو يقولُ:

There’s beggary in the love that can be reckon`d

وفي سَان لازَار نَزَلْنَا

وَحَمَلَ دُون جُوان حَقِيْبَةَ مَرْيَمِ المَجْدِليَّةِ

وفي سَان لازَار نَسيْتْ مريمُ المَجْدِليَّةُ مَا حَدَثَ لَهَا في حَوَارِي أورشَلِيمَ

نَسِيتْ أنَّ المَسِيْحَ رَجَمَ رَاجِمِيْهَا بِكَلامٍ مِنْ سِجِّيلٍ

كَمَا نَسِى سَان لازَار أكفانَهُ في مَخْزَنِ المَحَطَّةِ وَسَارَ مَعَنَا

ليشْتَرِي أمَّ الخُلُولِ وَقَدَحًا مِنَ الكُونْيَاكِ».(8)

 

من الواضحِ هُنَا احتشاد النَّصِّ بتداخُلِ الثَّقافاتِ، وتداخُل الإشاراتِ، وتداخُل الأسَاطيرِ، وهذا الأداءُ – المُثْقَلُ بالمعرفيَّةِ – يحتاجُ إلي تلقٍّ مُغايرٍ، كما «يحتاجُ إلى عِلْمٍ بالأساطيرِ الأوربيَّةِ وتفقُّهٍ في الثَّقافةِ الأوربيَّةِ»(9)، ورغمَ ارتفاعِ الثَّقافيِّ – في هذا النَّصِّ- على الشِّعريِّ؛ فإنَّه يكتسبُ أهميًَّةً تاريخيَّةً، بارتيادِهِ منطقةَ (توظيفِ الأسَاطيرِ) في الشِّعريَّةِ العربيَّةِ الجديدةِ.

وفي هذه الأثناءِ كان محمد منير رمزي (1925- 1945) يُنْجِزُ- في الإسكندريَّةِ – نُصوصًا بالعربيَّةِ والإنجليزيَّةِ ، يتجاوزُ- الكثيرُ مِنْهَا – رُومانسيَّةَ الشِّعرِ المنثورِ، المُحيطَةِ بِهِ، ويتداخلُ فيها الأداءُ الرُّومانسيُّ بالرَّمزيِّ بالسِّرياليِّ، وتكشفُ عن اتِّصالِهِ بالشِّعريَّةِ الرُّومانسيَّةِ الإنجليزيَّةِ؛ وإنْ كانتْ هذه النُّصوصُ لمْ تُعْرَفْ في حِيْنِهَا إلاَّ على نحوٍ ضَيِّقٍ، وَمِنْهَا قولُهُ، في «الرُّباعيَّاتِ»:

 

« أنْغَامُ أمُّهَاتِنَا مَزَّقَهَا الزَّمنُ

مَزَّقَهَا الزَّمنُ

وَمَازِلْنَا نَرْقُصُ على أشْلائِهَا

أقْدَامُنَا تَدْمِي ، وَالمَوْتُ في رَقَصَاتِنَا.

…..

 

يَتَنَفَّسْنَ ضَبَابًا مِنْ أنْفَاسِ المَوْتَى وَيَلدْنَ أمْوَاتًا

ثُمَّ يُغنِّينَ لَهُمْ كَلَّ مَسَاءٍ أُغْنِيَةَ الحَيَاةِ

إنَّ الكَلِمَاتِ كَلِمَاتُهُنَّ

لَكنَّ الأنْغَامَ أنْغَامُ مَوْتَى.

 

…..

 

دِفءُ أنْفَاسِنَا يَرْشُفُهُ الثَّرَى

وَأجْفَانُنَا يُثْقِلُهَا التُّرابُ

مَا أسْعَدَ الدِّيدَانِ بالآمَالِ الغَضَّةِ

التي اكْتَسَتْ بِالضَّبَابِ.

 

…..

 

خَطَرْنَا عَاشِقَيْنِ تَحْتَ أشْجَارِ الخَرِيْفِ

رَاقِصَيْنِ على وَقْعِ أنْغَامِ جَنَازٍ

على رُءوسِنَا رَفَّ الشَّاحِبُ مِنْ أوْرَاقِهَا

وَتَدَلَّتْ بَاقَاتُ الزُّهورِ مِنْ أعْنَاقِنَا.

 

…..

 

يَا مَنْ تُشَيِّعُونَ مَوْتَاكُمْ عَلى ألْحَانِ مُوْسِيْقَى

وَتَنْثُرُونَ عَلى أجْسَادِهِمْ بَاقَاتِ الزُّهُورِ

اعْزِفُوا مُوْسِيْقَاكُمْ للبَائِسِيْنَ مِنْ أحِبَّائِكُمْ

وَاتْرُكُوا الأزْهَارَ تَذْوِي في سَلامٍ.

 

…..

 

أفْوَاهُنَا الطَّافِحَةُ بِالرَّمَادِ

تَتَغَنَّى بِجَمَالِ التُّرَابِ المُجَسَّمِ

أنْصِتُوا إلى أغَانِي الحُبِّ في أحْلامِنَا

ففي اليَقَظَةِ تَخْنُقُنَا الظِّلالُ.»(10)

وما همَّشَ منْ تجربةِ رمزي، أنَّهَا لمْ تُعْرَفْ – في حِيْنِهَا – إلاَّ على نحوٍ ضيِّقٍ، لمْ يتجاوزْ دائرةَ أصدقائِهِ، كَمَا أنَّه قدْ رَحَلَ مُبكِّرًا، مُنْتَحِرًا، وهو دونَ العِشرينَ من عُمرِهِ. 

 

-4-   

مَسَارٌ رابعٌ، يتبدَّى فيه اسْتِيعابُ التَّجارب الحداثيَّة، بآلياتِها المُخْتلفةِ، ورُؤاهَا الفلسفيَّة، وَصَهْرهَا في تجارب جديدةٍ على الشِّعريَّةِ العربيَّةِ، في آلياتِها ونبراتِها، ويُمثِّلُ هذا المَسَارَ: بدر الدِّيب (1926- 2005)، في أواخر الأربعينيَّاتِ في كتابه (حرف الـْ ح)، وآخرونَ قلائل لمْ يَصِلْنَا منْ إنتاجِهِمْ شيءٌ (11)، ويُعدُّ (حرف الـ ْح) أبرزُ ما وَصَلَنَا عن هذه الفترةِ، وهناكَ شِبهُ إجماعٍ منْ كُتَّابِ هذا الجِيْلِ (12) على تأثيرِهِ فيهم ، وفي زُملائِهم؛ وَلِهَذَا تساءَلَ إدوار الخراط (1926- ) بعدَ نشرِ (حرف الـْ ح) 1988، مُتأخِّرًا أربعةَ عقودٍ كاملةٍ: «أيُّ تغيُّرٍ- بلْ أيَّةُ ثورةٍ – كانَ منْ المُمْكِنِ أنْ تحدثَ في حياتِنِا الأدبيَّةِ، وفي أسلوب تلقِّينا ومَعْرِفتِنَا بالأدبِ الحَداثيِّ، لو أنْ تلكَ النُّصوصَ نُشِرَتْ على النَّاسِ، في تلكَ الحِقْبَةِ؟، وأيَّةُ ثمارٍ كانَ يُمْكِنُ أنْ تُونِعَ عن تلكَ البذورِ المُخَصَّبةِ، التي مازالتْ حَتَّى اليومِ، تسبقُ زمانَهَا، وتحملُ بشارةً، في الوقتِ الذي تدقُّ فيه أجْراسَ النَّذيرِ؟»(13)، والواقع أنَّ (حرف الـ ح) قد تعدَّى دائرةَ الأصْدقاءِ؛ حيثُ نُشِرَتْ مقاطِعُ منه في مجلَّةِ :(البَشِير) الطَّليعيَّةِ .(14)

ويكشفُ (حرف الـْ ح)،عنْ إلمامٍ واضحٍ ، بِمُنْجَزَاتِ الحَدَاثةِ الشِّعريَّةِ، بالإضَافةِ إلى أسَاليبِ الشِّعريَّةِ العربيَّةِ، وإجرَاءَاتِ الكِتَابِ المُقدَّسِ التَّعبيريَّةِ، والإيقاعِ الشَّخْصِيِّ الذي يندُّ عن انتظامِ التَّفعيلةِ .(15)

 

ODE TORIMBAUO

إلى رامبو

 

خَرَجَ يَخْرُجُ فَهُوَ خَارِجٌ إذَا وَجَدَ لَهُ مَخْرَجًا وَهِيَ خَارِجَةٌ عَلى طَاعَةِ زَوْجِها

خَرَجَ مُوْسَى بِالْيَهُودِ مِنْ مِصْرَ وَخَرَجَ لِعَاذَرَ مِنْ قَبْرِهِ على يدِ المَسِيْحِ

وَخَرَجْتُ أنَا وَحْدِي أتَنَزَّهُ في الحُقُولِ

دَفَعْتُ يدي في جَيْبِي وَتَذَكَّرْتُ رَامبو وَسِرْتُ

رَامبو أنَا سَعِيدٌ لأنَّكَ مَعِي

أنْتَ وَحْدَكَ أُحِبُّكَ وَأعْرِفُكَ وَآلفُ عيونَكَ

خُذْني إلى جِوَارِكَ. خُذْنِي في يدِكَ. انْظُرْ لي

رامبو هلْ تَعْرِفُنِي؟

أنَا لَسْتُ أنْتَ، أنَا أذْكُرُكَ أذْكُرُكَ فَحَسْب وَأنَا خَارجٌ أتَنَزَّهُ في الحُقُولِ

لا تَدْفَعْ حِمَمَكَ عَليَّ. لا تَجْعَلْنِي أخْتَفِي كَمَا اخْتَفَتْ أمْرِيكا وَآسيا وَأُوربا

أنَا مَازِلتُ أحْلمُ بِقُصُورِكَ وَفُصُوِلكَ.

رَامبو لا تَقْسُ عَليَّ. لَقَدْ تَفُهَتْ حَيَاتِي وَلكِنِّي أُحِبُّكَ

رَامبو كيفَ خَرَجْتَ مِنَ الجَحِيم.»(16)

 

نستطيعُ أنْ نلحظَ لدى بدر الدّيب شيئًا لمْ يكنْ موجودًا لدى شُعراءِ السِّرياليَّةِ المِصْريينَ، أو لويس عوض؛ وهو وضوحُ التَّجربةِ الخاصةِ، بينَ الآليَّاتِ الشِّعريَّةِ الحداثيَّةِ؛ فالسِّرياليُّونَ المِصْريُّونَ تركوا الشِّعريَّةَ العربيَّةَ؛ ليرتموا في فَضَاءِ الشِّعريَّةِ الفَرَنسيَّةِ السِّرياليَّةِ؛ كذلكَ التحمَ لويس عوض بِشِعْريَّةِ ت. س. إليوت؛ فكانَ الثَّقافيُّ أعلى مِنَ الإنسانيِّ في الحالتينِ، رغمَ أهميَّةِ الإنْجَازِ الشِّعريِّ!؛ وَلَهَذا ذَكَرَ محمود أمين العالم أنَّ «هذه الكتاباتِ – في الحقيقةِ – رَغْمَ أهميَّتِها ، تكادُ تمتلئُ بأصْداءٍ تعبيريَّةٍ مُباشرةٍ، لثقافةٍ غربيَّةٍ خالصةٍ، وتكادُ في الكثيرِ منها أنْ تُعبِّرَ عن تجاربَ ذهنيَّةٍ شكليَّةٍ خالصةٍ»(17)، في الوقتِ الذي رأى فيه « بنيةَ حرف الـْ ح، برغمِ استفادتِها العميقةِ والغنيَّةِ من الثَّقافةِ الغربيَّةِ في أرقى مستوياتِها؛ وخاصةً منْ كتاباتِ كافكا وكيركجارد، إلاَّ أنَّها تَمْتَحُ من الثَّقافةِ العربيَّةِ في أرْقى مُسْتوياتِها الأسْلوبيَّةِ والبلاغية، وتتجاوزُها وتخرجُ عليها من داخلِها.»(18)

 إنَّها أرْبعُ مَسَاراتٍ ، تُمثِّلُ أرْبعَ بداياتٍ، و أرْبعَ رياداتٍ، وأرْبعَ حداثاتٍ، في شِعريَّةِ القصيدِ المِصْريِّ في الأربعينيَّاتِ.

 

– 2 –

 اللافتُ أنَّ الحضورَ المُتنوِّعَ للقصيدِ النَّثريِّ لمْ يكنْ في الخمسينيَّاتِ على النَّحوِ الذي برزَ في الأربعينيَّاتِ؛ فَحَتَّى أواخِرِ الخمسينيَّاتِ وبداياتِ السِّتينيَّاتِ لمْ تبدُ سوى تجربةِ إبراهيم شُكْر الله (1921- 1995)، وحيدةً، في الهامشِ الشِّعريِّ المِصْريِّ، وتجدرُ الإشارةُ إلى أنَّ شُكْر الله نفسَهُ صَرَّحَ أنَّه بدأ تجاربَهُ الشِّعريَّةَ في أواخِرِ الأربعينيَّاتِ.(19)

وقد مثَّلتْ تجربةُ شُكْر الله نموذجَ الشِّعرِ الحُرِّ بمفهومِهِ الأنْجلوسكسونيِّ في القصيدِ النَّثريِّ، في هذهِ الحِقْبَةِ، وكانتْ تجربةُ شُكر الله جُزءًا أساسيًّا مِنْ تيَّارٍ ظهرَ في مجلَّةِ: (شِعْرٍ) اللبنانيَّةِ؛ ساهمَ فيه، بالإضافةِ إلى إبراهيم شُكْر الله، توفيق صايغ (1923- 1917) وجبرا إبراهيم جبرا (1920- 1994)، ويوسف الخال (1917- 1987)، وقد مزجتْ تجربةُ شُكْر الله – مع هؤلاءِ الشُّعراءِ- مفهومَ الشِّعرِ الحُرِّ بالتَّصوفِ المَسِيحيِّ، كما يُشيرُ شُكرالله، بوضوحٍ، إلى تأثيرِ تجربةِ النَّفَّريِّ في: (المَوَاقفِ والمُخَاطَبَات)، فيه(20)، ومع تنوُّعِ مصادرِ الثَّقافةِ الشِّعريَّةِ لِشُكْرالله، فقد حاولَ الوصولَ إلى أداءٍ شِعْريٍّ خاصٍّ وَحُرٍّ يُلائِمُ تدفُّقَ التَّجاربِ الإنسانيَّةِ، ويلتحمُ به:

 

«رَأيْتُكَ مَصْلوبًا في سَان بَاولي

وَجُرْحُكَ الذي في جَنْبِكَ يَدْمِي مِنْ جَدِيْدٍ

وَالدَّمُ يَخْتَلِطُ بِالْمَنِيِّ

يَصْنَعُ خَمِيْرَةً جَدِيْدَةً

لِعَذَابٍ جَدِيْدٍ.

وَحِيْدًا في سَان بَاولي

وَالصَّلعُ يَدُبُّ وَئِيْدًا في مُقدِّمَةِ رَأسِكَ

وَالتَّرهُلُ يَشِيْعُ هُنَا وَهُنَاكَ

يَصْنَعُ مَآسِيَ صَغِيْرَةً

وَكُومِيديَاتٍ للمَوَاقِفِ.»(21)

 

ويُعبِّرُ شُكْر الله عنْ هذا الأداءِ الشِّعريِّ الجديدِ بقولِهِ؛ إنَّ على «كُلِّ جيلٍ – إذا أرادَ أنْ يَصْدُقَ معَ نفسِهِ – أنْ يحيَا التَّجاربَ الإنسانيَّةَ من جديدِ، بعدَ أنْ يُزيحَ عن كاهِلِهِ عِبْءَ القديمِ وتراكُمَاتِهِ»(22)، وهو يرى «كَمَا رأى شُعراءُ الغربِ المُحْدثونَ، الذين آثروا مَنْهَجَ  الشِّعرِ الحُرِّ – أنَّ التَّعبيرَ الدَّافقَ المُنْطلِقَ، بما يحملُهُ منْ بِطَانَاتٍ عاطِفِيَّةٍ مُكثَّفةٍ، يحملُ كذلكَ مُوسِيقاه الخاصةَ به، وأنَّه – على نقيضِ الإيقاعِ التَّقليديِّ المُنْتَظِمِ – أكثْرُ تنوُّعًا وَتَهَدُّجًا.»(23)

وتتحقَّقُ دراميَّةُ الصُّورِ السَّرديةِ عنده، من علاقاتِ المُفَارَقَةِ، في أحَايين كثيرةٍ، كَمَا في (موقفِ اللذةِ):  

 

« في أعْقَابِ الجُيوشِ

تَسِيْرُ البَغَايَا وَتُجَّارُ الرَّقيقِ

وَتُحلِّقُ جَوَارِحُ الطَّيرِ

يَمْتَصُّونَ الحَيَاةَ مْنَ الأشْلاءِ الصَّامتةِ

يَصْنَعونَ اللذَّةَ مِنْ عُصَارةِ التَّعَاسَةِ

وَيَصِلُونَ صَرْخَةَ العَذَابِ

بِعَرْبَدَةِ الجَسَدِ المُتَمَرِّغِ

في الرُّضَابِ وَالخَمْرِ وَخُضَابِ الدَّمِ.

 

في أعْقَابِ الجُيُوشِ

تَسِيْرُ الخَدِيَعَةُ وَالإثْمُ.

فأيُّ قُوَّةٍ قادَتْ رِجْلَيْكَ الكَلِيلتينِ

إلى هَذَا الدَّربِ يَاتِيريسيوسُ الضَّريرُ

أيُّ حُلْمٍ جَنَّحَ بِكَ أو فِكْرَةٍ رَادَتْكَ؟

أم هيَ السَّلاسِلُ التي تُصَلْصِلُ دَاخِلَ نَفْسِكَ الحَبِيْسَةِ التي هَيَّمتْكَ

تَتَعَثَّرُ بينَ الجُدْرَانِ المُنْهَارَةِ وَالشَّجَرِ الذَّبِيْحِ

وَأوْحَالِ المَنِيِّ وَالمَلاريا.

آمِلاً بَعْضَ الأمَلِ أنَّ شِدَّةَ العَدْوِ

سَتُطْلِقُ نَفْسَكَ مِنْ عِقَالِ نَفْسِكَ.

أنَّ السَّعيَ في المَكَانِ

سَيُحرِّرُكَ مِنْ كُلٍّ مِنْ المَكَانِ وَالزَّمَانِ

وَيَرْفَعُ العصَابةَ عنْ عَيْنَيْكَ المُطْفَأتَيْنِ

وَيَشْفِي غُلَّتَكَ يَا تِيريسيوسُ الحَزِيْنُ.

في السَّاعَةِ العَاشِرَةِ في قَهْوَةِ بَاشْكُوالي

يَجْتَمِعُ حُكَمَاءُ المَدِيْنَةِ يَشْرَبُونَ القَهْوَةَ بِالْكُونْيَاكِ

وفي الثَّانيةَ عَشْرةَ يَصْطَفُّونَ على البَارِ المُتَرنِّحِ

يَمْزِجُونَ المَاءَ بِالجِنِّ المُصَفَّى

وفي السَّادِسَةِ يَتَّكئونَ على الأرَائِكِ العَرِيْضَةِ

يَشْرَبُونَ الويسْكِي وَيَتَحَدَّثونَ

عَن العَرَبِ وَالطّليَانِ

وَمَذْبَحَةِ اليَهُود.»(24)

 

– 3 –

في أواخِرِ السِّتينيَّاتِ؛ عشيَّةَ نكسةِ 1967، ظهرَ تيَّارٌ جديدٌ، في قصيدةِ النَّثرِ المِصْرِيَّةِ، يرفضُ الهزيمةَ، ويرفضُ تقاليدَ الواقعِ الشِّعريِّ المَهْزُومِ، وإمعانًا في البُعدِ عنْ أنقاضِ الواقعِ المُنهارِ، التحمَ بآلياتِ الشِّعرِ في أطْوارِهِ الأُولى؛ حيثُ البراءةُ، والأشياءُ في بَكَارَاتِها الأُولى، وَالتَّعبيرُ الفِطْرِيُّ البسيطُ الحُرُّ، ظهرَ هذا لدى عزَّت عامر (1944- )، وفاروق خلف (1939-)، في أواخِرِ السِّتينيَّاتِ، ثُمَّ لدى علي قنديل (1953- 1975)، في بداياتِ السَّبعينيَّاتِ، ثم حسن عقل (1953- ) في أواخِرِ السَّبعينيَّاتِ.

أمَّا عزَّت عامر، فقد نشرَ بعضَ نصوصِهِ، في مجلَّةِ: (جاليري68)، وفي صحيفةِ: (المَسَاءِ)(25)، ثُمَّ ضَمَّها ديوانُهُ: (مَدْخَل إلى الحَدَائِقِ الطَّاغوريَّةِ) .(26) 

وقد ظهرَ في هذا الدِّيوانِ نزوعٌ واضِحٌ للشِّعريَّةِ الطَّاغوريَّةِ، تمثَّلَ في رَوحانيَّةِ التَّعامُلِ مع الطَّبيعةِ، ومفرداتِ العَالمَِ الرِّيفيِّ الفِطْريِّ، وصوفيَّةِ الإنسانيِّ داخل هذا العَالَمِ، والغنائيَّةِ البسيطةِ النَّقيَّةِ ،كَمَا ظهرَ نزوعٌ آخرٌ إلى شِعْريَّةِ النشيدِ، والرَّمزيَّةِ، ذاتَ الصِّلةِ بالشِّعرِ المِصْريِّ القديمِ، وبأناشيدِ الكِتابِ المُقَدَّسِ ومزاميرِهِ، كَمَا ظهرَ نزوعٌ واضِحٌ لتجسيدِ أسطورةِ الميثولوجيا الرِّيفيَّةِ المِصْريَّةِ، كقولِهِ:

 

« كُلُّ إيقاعَاتِ العَجْنِ وَالخَبْزِ تَرْتَفِعُ في الظَّهِيْرَةِ

وَتَلْتَهِمُ النِّيْرَانُ أغْصَانًا كَثِيْرَةً

الدَّقيقُ الأبْيَضُ على الوجُوهِ المُوَرَّدةِ وَالأذْرُعِ ..

نَتَمَاسَكُ بِشَغَفٍ وَنَتْرُكُ العَمَلَ ..

لَقَدْ كَفَتْنَا الأمْطَارُ مَؤونَةَ رَيِّ الحَقْلِ

وَأمَامَ الخُبْزِ وَقْتٌ لِيَنْضُجَ ..

وَلَنْ يَنْتَظِرَنا عُنْقُودُ العِنْبِ الذي اسْتَوَى ..

فَرِيْحُ هَذا العَالَمِ بَارِدَةٌ وَمُهْلِكَةٌ..»(27)

 

وَمِنْهَا كذلكَ قولُهُ:

« لِلسُّوقِ وَالغَدَاءِِ ..

خَرَجْتُ وَحَبِيْبَتِي؛ لِنَجْمَعَ الطَّمَاطِمَ الحَمْرَاءَ..

على مُنْبَسَطِ الأرْضِ افْتَرَشْنَا وُرودَ الحَقْلِ..

وَمَرَّ على الطَّريقِِ مَوْكبُ جِهَازِ العَرُوسِ..

لَقَدْ سَرَقَنَا الوَقْتُ فَنَسِيْنَا الطَّمَاطِمَ..

وَإذَا أبو قردان عَائدٌ في مَجْموعَاتٍ لا تَنْتَهِي

انْفَتَحَتْ قُبُورٌ كَثِيْرَةٌ وَرَأيْنَا هَيَاكِلَ..

وَكَانَتْ الحَشَرَاتُ اللزِجَةُ مُكَدَّسَةً.»(28)

 

أمَّا فاروق خلف، فقد حمل صوتُهُ الشِّعريُّ نبراتِ الشِّعريَّةِ المِصْريَّةِ القديمةِ التِّعبُّديَّةِ والعِشقيَّةِ، ونصوصَ الأساطيرِ الأُولى الحُرَّةِ، ونشيدَ الإنشادِ وسواه من النُّصوصِ التَّوراتيَّةِ والملحميَّةِ القديمةِ، ومن ذلك قولُه:

-1-

«هذَا المَسَاءَ أيضًا

رَأيْتُهُ في عَيْنِي

جَلَسَ إلى جِوَارِي

قلَّبَ في دَفْتَرِي

نَفْسُ الإلهِ الذي فاجَأنِي بِالنَّارِ وَالنُّجومِ

لمْ يُرْسِلْ شُعَاعًا أوْ قَبَسًا

لمْ يُوحِ لي بِفِكْرةٍ

جَاءَنِي بِنَفْسِهِ

قَلَّبَ في دَفْتَرِي وَابْتَسَمَ

وَابْتَسَمَ قبلَ أنْ يَمْضِي

مَا أعْذَبَ تِلكَ الدُّموع التي تَرْحَلُ في الأقاليمِ

وَتُوزِّعُ مِلْحَها على الغُيومِ

لِتُمْطِرَ

لِتُمْطِرَ..»

 

-2-

 

« أسْتَحْلِفُكَ أيُّهَا السَّرَابُ الغَرَيبُ

لا تَسْتَوقِفْ هذِهِ الحُقولَ

وَلا هَذَا الرَّمَادَ

لا تَسْتَوقِفْ هَذا الصَّغيرَ

وَلا تُوقِظْ المَوَانِي التي تَسْبِقُ أحْلامِي

وَلا الجُزُرَ التَّائهةَ في بِحَارِي

لا تُشْعِلْ هذِه الأغَانِي

وَلا تُبَارِكْ هَذَا النَّخِيلَ الذي يَسْتَيقِظُ

كُلَّمَا اقْتَرَبْتُ أكْثَرَ

أسْتَحْلِفُكَ أيُّهَا السَّرَابُ الغَرِيبُ

لا تُمِدَّنِي بِالمَزِيدِ مِنْ قِصَصِ الجَانِ

وَعُواءِ الصَّحَرَاءِِ.»(29)

 

وكَمَا لدى عزَّت عامر، يُلاحَظُ جنوحُ الأداءِ الشِّعريِّ للسَّردِ الشِّعريِّ ولشعرية النَّشيدِ؛ بتراتِيلها وتهجُّداتِها وصُوفيَّتها ودِراميَّتِها، ولدى فاروق خلف ثمَّةَ نزوعٌ آخرٌ للحُلْمِ:

 

« كُنْتُ تَوًّا نَهَضْتُ مِنْ حُلْمِي

بَعْدَمَا رَأيتُكِ في مَنَامٍ شَريدٍ

غَارِقةً في فِرَاشِكِ

مِثْلَمَا تَكونُ جِرَاحُكِ في قَلْبِي

وفي أحْضَانِكِ يَرْتَعُ شَخْصٌ مَا

هُوَ بِاليَقِيْنِ لَيْسَ أنَا

لأنِّي كُنْتُ مَصْلوبًا على نَافذتِكِ الشَّرقيَّةِ

وَلمْ تُعِيرينِي التِفَاتَةً

لأنَّ البَهْجَةَ كانَتْ تَحْجُبُ وجُودِي

مِنْ فَرْطِ مَا كَانَتْ ضَافِيَةً

وَلَقَدْ فَضَّلتُ الانْسِحَابَ

بَعْدَمَا تَمَّ صَلْبِي

وَبِقَدْرِ مَا اسْتَطَعْتُ

جَمَعْتُ أشْلائِي

لكي أخْرُجَ بِلا صَوْتٍ.»(30)

 

 أمَّا علي قنديل فقدْ حوى كتابُهُ الشِّعريُّ الوحيدُ (31)؛ الذي نُشِرَ عَقِب رحيلِهِ، سبعَ قصائد نثرٍ؛ كتبَهَا بين عاميْ (1973- 1975)، تجمعُ بينَ النُّزوعِ إلى المُطْلَقِ والنِّسبيِّ معًا، وإيثارِ الموقفِ الميتافيزيقيِّ المُلتاعِ، والاحْتفاءِ بالنُّبوةِ والإشْراقاتِ، والتَّداخُلِ معَ التُّراثِ، والجُنوحِ إلى الغِنَاءِ غالبًا، وإلى السَّردِ أحيانًا، وإلى المَجَازِ الجُزئيِّ الاسْتعاريِّ حينًا، والصُّورةِ السَّرديَّةِ الكُليَّةِ حينًا، في لُغةٍ تجنحُ إلى الكيمياءِ وبزوغِ الوعي الفلسفيِّ وحضورِ مُفرداتِ الطَّبيعةِ، وتتبدَّى مُعظمُ هذه الآلياتِ في قصيدتِهِ: (إشْرَاقاتٌ شِعْريَّةٌ)، ومنهَا قولُهُ:

 

« كُلُّ دَمِي، كُلُّ الخَمَائِرِ التي تَجَاذَبْتُهَا

وَكُلُّ الأصْوَاتِ التي تَعَشَّقْتُهَا، تَلْتَمُّ عِنْدَ حَنْجَرَتِي:

عَنَاقِيْدَ مِنْ ذَهَبٍ، وَكُرَاتٍ مِنْ نُحَاسٍ،

وَقَلْبِي مُشْتَعِلٌ عَلى كُلِّ الجَبَهَاتِ.

أنْ أكونَ بَيْنَ الأرْحَامِ: البذرَةَ المُعَذَّبَةَ، وَالشَّمسَ التي تَغْلِي،

والنُّطفةَ التِي تَنْبَثِقُ بِمَا لمْ تَعْرِفْهُ الولادَةُ.

 

أنَا وَهَامِلْت وَنِيْتَشَه..

ثَلاثَةُ مَجَانِيْنَ.

عِنْدَ شَاطِِئِ البَحْرِ التَقَيْنَا ذاتَ ظَهِيْرَةٍ

وَتَبَادَلْنَا الصَّمْتَ المُنْتَفِخَ بِالجَمْرِ وَالبُخَارِ

كُنْتُ أعْرِفُ..

رَمَى هَاملِتُ نَفْسَهُ في البَحْرِ وَرَاءَ سَمَكَةِ الذَّهَبِ

نِيتشَه المُبَاغِتَ أسْقَطَنِي وَرَاءَ هَاملِتَ

وَأنَا صِحْتُ عَاليًا.

اكْتَشَفَتْ الآلِهَةُ أنَّ شَيْئًا مَا قدْ يَثْقُبُ كُرَةَ الأرْضِ اليَابِسَةِ

لَوَّحَتْ مِائةُ ذِرَاعٍ إلهيِّةٍ بِنِيتشَه في هَوَاءٍ خَرِيفيٍّ

ثُمَّ ألْحَقَتْهُ بِنَا.

 

وَاقِفٌ تَحْتَ نَخْلَةِ العَالَمِ أرْقُبُكَ خُلْسَةً

مَنْ أنْتَ إذَا لَمْ تَأْتِ؟

بَيْنَ كَفَّيَّ الفَرَاشَاتُ المُنِيْرَةُ وَالبَلَحُ الأخْضَرُ

وَالنَّملُ يُحَاصِرُنِي،

وَأدْعُوكَ،

إذَا لَمْ تَأتِ تَسْحَقْنِي اللزوجَةُ وَالشُّموسُ القَاسِيَةُ

أَتَفْهَمُ؟

دَارَتْ الأرْضُ حَوْلِي، لَسْتُ مَرْكَزَهَا.

تَقَلَّبْتُ في الكَوْنِ، اسْتَطَلْتُ صَرْخَةً لَيْسَتْ مُنْتَهِيَةً،

حَسِبْتُكَ تَسْمَعُ، وَانْتَظَرْتُ صَدَى الصَّرْخَةِ..

إذَنْ فَلَسْتَ هُنَاكَ!

عَوْدَتِي عَبْرَ الطَّريْقِِ التُّرَابِي المُظْلِمِ بِالمَقَابِرِ

ارْتِعَادَاتي التي تُجَمِّدُ الأطْرَافَ

قَلْبِي الهَابِطِ،

مَا مَعْنَى هَذَا كُلّهُ بَعْدَ انْفِلاتِ التَّارِيْخِ

وَاسْتِهْلاكِي صَوْتِي وَعَبْقَرِيَّتِي عِنْدَ الأطْرَافِ النَّائيَةِ؟.»(32)

 

أمَّا حسن عقل فيبدو احتفاؤه بعالَمِ (الحُلْمِ) – خلاصًا من عالم الهزيمةِ – في اختياره هذه الدَّالة: (الحُلمِ) عنوانًا لتجربتِهِ الأولى، وَعَالمُ الحُلْمِ، عندَهُ، يحتفي بالطَّبيعةِ والعِشْقِ في إطارٍ رُوحانيٍّ صُوفيٍّ أُسْطُوريٍّ، ونظرًا لطبيعةِ التَّجربةِ، تُهيمنُ آلياتُ الإنشادِ والمُخاطَباتُ المَوْصولةُ، والنِّداءاتُ، والمُناجيَاتُ الغِنائيَّةُ، والرُّؤى التَّجريديَّةُ المُطلقةُ؛ فالمعشوقةُ ذاتُها كائنٌ أُسطوريٌّ:

 

« لازِلْتُ أحْلُمُ بِالمَرْأةِ

التي تَجْرِي عَارِيَةً على شَاطِئِ البَحْرِ

في مُنْتَصَفِ النَّهَارِ

تَتَفَجَّرُ بِالشَّهْوَةِ

مِثْلَمَا تَتَفَجَّرُ السَّمَاءُ بِالزُّرَقَةِ

وَتَتَفَجَّرُ الشَّمْسُ بِالبَرِيْقِ

أنَا الغَريْبُ عَلى امْتِدَادِ الأرْصِفَةِ

وَعَلى طُولِ اصْطِفَافِ الشُّرُفَاتِ

وَتَحْتَ عُلوِّ أسْوَارِ الحَدَائِقِ

وَبِاتِّسَاعِ المَيَادِيْن

لازِلْتُ أحْلُمُ بِالْمَرْأةِ

التي أرَى بِعَيْنَيْهَا سِحْرَ اللونِ

وَتُحِسُّ بِأُذُنِي إيقَاعَ الكَلِمَاتِ

وَيُدْرِكُنَا البَحْرُ فَجْأةً

وَنَحْنُ نُواصِلُ الحُلْمَ

عَلى الرِّمَالِ البَيْضَاءِ.»(33)

 

 ويبدو اتِّصالُ حسن عقل بِشِعْريَّةِ طاغور من استخدامِهِ لعناصرِ الطَّبيعةِ، وعلاقتها بالتَّجربةِ الإنسانيَّةِ، ومن عنوانِ إحدى قصائِدِهِ: (مُنَاجَاةٌ أخيرَةٌ إلى شَجَرَةِ التِّينِ البِنْغَالِي).

-4-

 في أواخرِ السَّبعينيَّات ظهرَ تيَّارٌ شعريٌّ جديدٌ، في قصيدة النَّثر المِصْريَّةِ، ينزعُ إلى التَّجريبِ اللغويِّ والمَجَازيِّ، واسْتحداثِ بِنْيَاتِ الخِطابِ الشِّعريِّ؛ ليكونَ – هذا الخِطابُ – عالَمًا لُغويًّا، بديلاً، ومن شعراء هذا التَّيَّارِ: حلمي سالم (1951- 2012)، محمد عيد إبراهيم (1955- )، رفعت سلاَّم  (1951- )، أمجد ريَّان (1952 – )، ويعدُّ شعراءُ هَذا التَّيار أبْرَزَ فَصِيلٍ شِعريٍّ عَمَّقَ مَسَارَ كِيميَاءِ اللغَةِ وَالتَّجريبِ اللغويِّ وَالتَّكثيفِ المَجَازيِّ؛ الَّذي بَدَأ تحتَ مظلَّةِ مجلةِ شِعرٍ اللبنانيَّةِ، كمَا بَرَزَ في تجربَةِ محمَّد عفيفي مَطَر(1935- 2010).

 

لدى حلمي سالم – في ديوانِهِ: (دهاليزي) 1977، و ديوانِهِ: (سكندريًّا يكونُ الألم) 1981، وديوانه: (الأبيض المتوسِّط) 1983- يبدو انفتاحُ أدائِهِ الشِّعريِّ على طاقاتِ السَّردِ العربيِّ، في ترسُّلِهِ وسجْعِهِ، وسرْدِ الشَّطحِ الصُّوفيِّ، وأسطوريَّةِ سرْدِ ألف ليلة وليلة، مع وَلَعٍ واضحٍ بإرجاءِ الدَّلالةِ وإزاحتِها؛ لصالحِ إبرازِ التشكيلِ المجازيِّ المحكَمِ، مع وَلَعٍ آخرٍ بتشكيلِ البِنيةِ المَجَازيَّةِ والإلحاحِ على القيمِ الإيقاعيَّةِ البلاغيَّةِ؛ كالجناسِ والسَّجعِ – والتَّقفيةِ في أحْيَانٍ عديدةٍ – والتَّوازياتِ التَّركيبيَّةِ والإيقاعيَّةِ، وتشكُّلاتِ الأسطورةِ، وشعريَّة أداءِ الرُّقى والتَّعازيمِ والسِّحرِ والطُّقوسِ البدائيةِ الأسطوريةِ؛ فمن قصيدة(بزوغ)، في ديوانه (الأبيض المتوسِّط) يقول:

 

« حنجرةً في الميدانِ يُصْبِحُونْ

تَرُشُّ النَّوَافيرَ بِاللبانِ وَالْمِسْكِ وَالليمُونْ

جِسْمينِ عَارِيَينْ .

جِسْمُ الفَتَاةِ طَيِّعٌ كَلِِيْمْ .

جِسْمُ الفَتَى طَيِّعٌ كَلِيْمْ .

يَتَلاصِقَانْ

يَتَدَاخَلانْ

يَتَسَامَقَانْ

بِحَجْمِ المَيْدَانِ يُصْبِحَانْ .

* * *

الكَائِنُ الذي لا يَخْتَفِي وَلا يَبِيْنْ

مُهَيْمِنٌ على نَوَافذِ الحُضُورِ وَالاغْتِبَاطْ

هُوَ الكَائنُ الصِّرَاطْ .»(34)

 

وفي قصيدتِهِ : (الصَّوت – أكتوبر 1976) نقرأُ :

« المَرْأةُ التي عَلى قُبَّةِ الجُرْحِ وَالمَاءِ

تُحَرِّضُ المَجْرَى عَلى تَفْجِيْرِ الاسْتَاتِيْكِيِّ

وَتَفْردُ السَّاقَيْنِ تَحْتَوي خَرِيْطَةً.

* * *

الزَّغَبُ الزَّغَبْ

وَهَارمونيَّةُ اللهَبْ:

إذْ أدَقُّ في ارْتِخَاءِالعُشْبِ خَيْمَةً

تَطْلَعِيْنَ في ارْتِخَاءِالعُشْبِ خَيْمَةً.

* * *

قُلْتُ: دَغْلٌ يَنُثُّ أقْمِشَةً وَدَلالَة.

قَالَتْ: يَدُهُمْ الكلوروفيل أرْضًا.

* * *

وَالرِّمَاحُ نَوَاهِلُ:

جُثَّتِي في حَجْمِ لَفْظِ: خَانَ – أوْ نَشِيْجْ.

جِسْمِي-  الصَّهَارِيْجْ.

* * *

قِيْلَ: الأقَالِيمُ قُبَّتَانِ مَثْقُوبَتَانْ.

قِيْلَ : النِّسَاءُ يَنْتَقِيْنَ بُرْتُقَالَةً.

* * *

الكَائِنُ الذي لا يَخْتَفِي وَلا يَبِيْنْ.

مُهَيْمِنٌ عَلى شَجَرِ الحُضُورِ وَالاغْتِبَاطْ.

الكَائِنُ الصِّرَاطْ.»(35)

 

 أمَّا محمد عيد إبراهيم فقد ركَّزتْ تجربتُه الشِّعريَّةُ، منذ ديوانه الأوَّل: (طَوْر الوَحْشَة) 1980، على تشظِّي الأسلوبِ، والتَّفتيتِ، والانقطاعَاتِ، والهَذيَانِ، وتحطيمِ التَّركيبِ اللغويِّ المألوفِ، وَحَذْفِ الكثيرِ منْ عناصِرِ الجُملةِ، وَالإبقَاءِ على شَظَايَا نحويَّةٍ مِنْهَا؛ وبالتَّالي إحْدَاث التَّشتيتِ الدَّلالي، وَالتَّوقُّفِ أطْوَل أمَامَ بِناءِ الخِطابِ، ثمَّةَ احْتفاءٌ وَاضِحٌ ببنيَةِ التَّشظِّي، وَبكِمْيَاءِ اللغَةِ، وَبآليَّةِ الكُولاجِ، وَبالحَدَاثةِ الدَّاديَّةِ، وَهَذا الأدَاءُ يقودُ إلى تقدُّمِ الحُضورِ الشَّخصَانيِّ لِلغَةِ؛ تشكيلاً وَإيقاعًا، على إنتَاجِ الدّلالاتِ، في خِطابِ محمَّد عيد إبراهيم، تقدُّمًا لافتًا، يُميِّزُ خِطابَهُ عنْ بقيَّةِ شُعرَاءِ جِيلهِ، وَمِنْ (طَوْرِ الوَحْشَة) هذا النَّصُّ:

 

لُغَةٌ فَرْحَتِي

 

في الأرْضِ وَالذي يَمْضِي

نَاصِبَةً وَرْدَتِي

مِرْآةٌ. كَمُديةِ شَمْسٍ

بَعْدِي تَعِيْشُ بِكَلِمَاتِي تُصَلِّي

لا جُوْعَ يَسْمَعُ صَوْتَها

ذَهَبِيًّا، مِنْ هَنَاءٍ بَعِيْدٍ،

حِيْنَ آخُذُ صَامِتَةً فَرْحَتِي

تَحْتَ وَجْهِي

حَلَّقَ الليلُ كَعْبَتَهُ، انْحَنَى

لِخُطَاكِ، يَا دَائِمًا حَنَّنْتُ بَيْتِي!

صَوْتُ بَلابِلي

التي تَصْبُغِيْنَهَا عَلى كَتِفَيْكِ

وَلا أمَلُّهَا يَوْمًا

قَمِيْصُ نَهَاركِ يَهْتَدِي بِخُصْرَتِنَا

وَمِنْ دَمِي قَطَعْتُ خُبْزَهَا السِّريِّ

بَلَّلهَا طِيْنَتِي في صَمْتٍ وَبَكَارَةٍ

هَكَذَا مَرَّةً، وَيَبْهَتُ التَّعَبُ

في تَجَاعِيْدِ البُكَاءِ

وَكَانَ لِنَظْرَتِهَا أيّ هَيْمَنَةٍ

لِلْمَسَافَةِ

دِرَاسَةٌ وَرْدَتِي

في الأرْضِ وَالذي يَمْضِي.»(36)

 

 من الواضحِ أنَّ الشَّاعرَ يعتمدُ أسلوب أُنسِي الحاج؛ بخاصةٍ في ديوانِهِ: (لَنْ)، لكنَّه يذهبُ أبعدَ من أُنسي كثيرًا، في التَّشظي الشِّعريِّ، وتفتيتِ الجُملِ والعلاقاتِ النَّحويَّةِ، وَهُوً ما يقودُهُ إلى إرْجَاءِ الدَّلالةِ، وتوارِيهَا خَلفَ حضورِ الدَّالِ، والحُضُورِ الفيزيقِيِّ لِلخِطَابِ الشِّعريِّ، بِِشَكلٍ عَام.

 

أمَّا رفعت سلاَّم فقدْ أسَّسَ خِطابَهُ الشِّعريَّ الخَاصَّ، في مشهدِ القصيدِ النَّثريِّ المِصْريِّ، اعْتِبارًا منْ نصِّه (إشْرَاقَات) (37)؛ اسْتِنادَا إلى مَجْمُوعةٍ مِنَ الآليَّاتِ المَركزيَّةِ، وأبرزُهَا؛ تَخَطِّي حدود(القصيدةِ) إلى رَحَابةِ (النَّصِّ) الشِّعريِّ، وبناءِ النِّصِّ منْ مجموعةٍ منْ الوَحَدَاتِ الشِّعريَّةِ المُتتاليَةِ والمُتنامِيَةِ، واعْتِمادِ بِنيةِ المُنولوجِ الدِّراميِّ، بنبراتٍ شِعْريَّةٍ مُخْتَلفَةٍ، ومُتزامِنَةٍ، في اللحظةِ الشِّعريَّةِ (38)، تَتَّخذُ أبْنَاطًا طِبَاعيَّةً مُخْتَلفةً؛ للتَّأكيدِ على تعدُّدِهَا وتنوُّعِهَا، ويتوسَّعُ الخِطَابُ في ضُروبٍ مِنَ التَّناصَاتِ، وتَجَاوُرِ المَجَازيِّ والمَعِيْشِ، يَتَدَفَّقُ الخِطابُ الشِّعريُّ – في:(إشْرَاقَات) – في« دَفَفَاتٍ مُتَوَاليةٍ، تَنْدَفِعُ كُلُّ دَفْقَةٍ كُرَةً مِنَ اللهيبِ الصَّاخِبِ، دَفْقَةَ ذَاتٍ مُلتَاعَةٍ، مُنْسَلِخَةٍ، ومَارِقَةٍ؛ لِتُجَسِّدَ تاريخًا مَوصُولاً منْ عَنَاءِ واحْتِدَامِ الرَّفضِ وَانْدِفَاقِهِ المُتَمَوِّجِ الحَارِّ، تَدَفُّقًا – لاتَحُدُّهُ فَوَاصِلُ – تَتَرَاكبُ فيه المُسْتَويَاتُ وَالبنَى؛ لِتَكْشِفَ عنْ ذَاتٍ – خَارِجَةٍ على الأعْرَافِ الشِّعريَّةِ والاجْتِمَاعيَّةِ- يحتشدُ بِهَا التَّاريخُ الرُّوحيُّ للشَّاعرِ، وتوارِيخُ أسْلافِهَا المَارقينَ، في مُوَاجَهَةِ خَرَابِ العَالَمِ»(39)، ومنْ هذا قولُهُ، في نَصِّ: مُرَاوَغَة، مِنْ:( إشْرَاقَات):

 

« هَكَذَا أجِيْئُكُمْ عَاريًا بِلا نُبوُّةٍ وَلا شِهَادَةٍ ولارِسَالةٍ تَدَّعِي قَدَاسَةً مَا كَمَا يَدَّعِي الشُّعرَاءُ عَادَةً أوْ تَدَّعُونَ هَكَذَا أجِيْئُكُمْ رصَاصَةً أوْ خِيَانَةً أو فضِيْحَةً وَأسَمِّي نَفْسِي انْتِهَاكًا وَالوَطَنَ مُسْتَنْقَعًا وَالبَحْرَ قُبَّرَةً وَأنْتُمْ القَتَلةَ لِي أنْ أجِِيءَ عَاريًا مِنَ الصِّفَاتِ وَالخُزَعْبَلاتِ وَالتَّواطُؤاتِ وَمِنْ نَفْسِي وَأقُولُ هَاأنَا هَاويةٌ بِلا قَرَارٍ تَقْطَعُ الطَّريقَ دُونَ شَارَةٍ أوْ بِشَارَةٍ أُسَمِّي الأشْيَاءَ بأسْمَائِهَا الأُولى وَأمْضِي في اتِّجَاهِ البَحْرِ رَأْسيًّا بِلا اسْتِئْذَانٍ فَمَا لِلأسَى يَسْتَوطِنُ القلبَ على رَحِيْلِ الطَّائرِ البَحَريِّ نَحْوَ غَابَاتٍ لاتَرِدُ الحُلْمَ وَأقْواسٍ كَمَا الغَابَات هَكَذَا أجِيءُ عَاريًا مِنَ الخَليلِ وَالجُرْجَانيِّ وابْنِ قُتَيْبَة حَتَّى آخِرِ وَغْدٍ عَصْرِيٍّ يَنْبُحُ في الصَّفَحَاتِ الأدبيَّةِ عَارِيًا مِنِّي أكْثَرَ مِنِّي يَوْمَ وُلِدْتُ وَيَوْمَ أمُوتُ فلا يَبْقَى إلاَّ جَسَدٌ قَوْسٌ جَسَدِيٌّ يُوْصِدُ أبْوَابَ الهَرَبِ السِّريَّةِ في اللحَظَاتِ الفَاصِلَةِ فَلا لَوْمَ عَليَّ وَلا تَثْرِيْبَ إذَا عَثَرَتْ قَدَمِي بِالحُفْرَةِ فَهَوَيْتُ إلى هَاوِيَةٍ دَونَ قَرَارٍ وَأنَا أتَشَبَّثُ بِالخَيْطِ المَقْطُوعِ وَأهْتُفُ يَاقَاتِلَتِي المَأجُورَةَ الخَيْطَ الخَيْطَ فلا تَسْتَجِيْبُ لِي..»(40)

 

 

أمَّا أمجد ريَّان فقدْ عكستْ تجربتُهُ ميلاً واضحًا إلى الدَّفقِِ الغنائيِّ المُسترسِلِ؛ الذي يمتزجُ فيه المجازيُّ بالمَشْهَديِّ البَصَريِّ، والمَعَيشِ الشَّعبيِّ المِصْرِيِّ بالسِّرياليِّ التَّخييليِّ بالمِيْتَافِيْزِيْقِيِّ في جَديلةٍ شِعْريَّةٍ وَاحِدةٍ، كما وضحَ لديه وَلَعٌ بأداءِ الحُلْمِ والأسْطورةِ، وتداخُلِ الغنائيِّ بالوَصْفيِّ بالسِّرديِّ، وإنْ كان الإفراطُ في التَّداعياتِ مِمَّا يُهدِّد هيكليَّةَ نَصِّه الشِّعريِّ ويُقلِّلُ من كثافته الشِّعريَّة:

 

« يتوجّهُ الأهالي في مُظاهرةٍ لِقِمَّةِ التَّلةِ، حيثُ تجسَّدَ شيخهمو الشَّفَافُ ، خَبَطوا بِالصَّفيْحِ، وَغنَّوا للعروسَةِ الدُّميةِ، غَنُّوا للزَّائرِ المُجَسَّدِ العميقِِ، وَكُنْتُ في كُتْلَةِ البيوتِ، أسْتَشِيْرُ حُزْنِي، وَذَاكِرَتِي المَشوبةَ في التَّباريحِ، أوْصَلَتْنِي الدُّروبُ إلى النَّجمةِ المَسْنونةِ، أوْصَلَتْنِي أُغْنِيَتِي إلى الشَّعْبِ المُكَدَّس في البَوابَاتِ وَالزَّناقيرِ، وَالأسْوَار المُبَطَّّطة. في العُشْبِ الخَيَاليِّ رُحْ، في الصَّخْرَةِ الشَّمسِيَّةِ، وَادْخُلْ الدَّائرةَ الحُبْلى، وَعِنْدَمَا تَبُصُّ مِنَ النَّافذةِ الوَهِجَةِ غَنِّ، وَتَهَيَّأ، رَامِيًا تَبَاعِِيْضَكَ في الأنْحَاءِِ كُلَّهَا، أنْتَ في ظِلِّ البيوتِ الآنَ، فَاخْطُ، وَعَانِقْ الأبْيَضَ، هَاهُمْ أهَالِي المُدَنِ الشَّعبيُّونَ حَوْلَكَ، التِّحَايَا يَرْمُوْنَهَا في عِظَامِكَ، هَاهُمْ يَحُطُّونَ الأكُفَّ في كَتِفَيْكَ، لِيُنْهِضُوكَ، رُجَّ الظَّلامَ بالذِّرَاعَيْنِ، وَاخْرُجْ للمَدَى، وَلِلشَّجنِ المُبَاغِتِ. تَأخُذُنِي تَحْتَ سَقِيْفَةِ البُوْصِ المُخَلَّعِ، وَالسَّمَاءُ تِكِيَّتُنَا، تَأخُذُني، وَهِيَ أرَقُّ مِنَ الشُّرْفةِ في الشُّروقِِ، وَأنْضَجُ مِنَ الحَدِيْقَةِ المُمْتِعَةِ، تُطْرِبُنِي في طِيْنَةِ الجَسَدِ، وَالْكَونُ أُنْثَى، تَفُكُّ في ظَهْرِي جَنَاحَيْنِ وَتَأخُذُنِي، في كِتَابِ الشَّمسِ، أوْ عَلى أمْثُولتِي وَيَقِيْنِي، مَطَرٌ عَلى الصّبيةِ، وَبَارِقةٌ تُزِيْحُنِي إلى الشَّجَنِ، ضَمِّدِيْنِي، تُضَمِّدينَنِي، علَّلِي لِي وَلَهِي، تُّعلِّلُ لِي، تُبَصِّرُنِي بِالمَصَابِيْحِ الفَقِيْرةِ هِيَ تَرْمِي نُوْرَهَا العَشْوَائيَّ، تُبَرِّدُنِي بِالغِنَاءِِ الدَّاخِليِّ، تَنْحَدِرُ بِي في الامْتِلاءِِ، تُرْضِعُنِي مِنْ جَبَلِ الحَليبِ قَطْرَتَيْنِ، وَتُعْطِيْنِي مِنْ حُقُولِ الكَوْثَرِ رُمَّانَتَيْنِ، تُعَبُّؤنِي بِالضُّلوعِ وَاللدونَةِ، تَلفُّنِي في التَّلالِ الحَنونَةِ، لَكِ مَدِّي وَجَزْرِي، لَكِ مَائِي وَبَذْرِي، وفي شَوْكَتِكِ انْتِفَاضِي وَحَيْلولَتِي.»(41)     

 

وقد لاحظَ وليد منير(1957 – 2009) على قصيدةِ أمجد ريَّان، انْطلاقَها « من عاطفةٍ غامضةٍ – في إيقاعٍ مُتدفِّقٍ، ويتَّسمُ بالُّلهاثِ – لتنشرَ في كافةِ الاتِّجاهاتِ، وتنمُّ عن تحوُّلٍ مُستمرٍّ للعلاقاتِ المتبادَلةِ بين الألفاظِ والصُّورِ، بحيثُ تُعدِّلُ القصيدةُ مِنْ بِنْيَتِهَا بِصِفَةٍ مُتَّصلِةٍ، إلى أن تُكمِلَ حركَتَها الكُليَّة بأكملها؛ فتبدأ الدلالةُ في التَّخلُّقِ الحثيثِ، سابحةً فوقَ فراغاتِ المسافةِ التي ملأتْها الصُّورُ التَّركيبيَّةُ العديدةُ .»(42)

 

وبمعزلٍ عن جماعتيْ (إضاءة 77) و (أصوات) الشِّعريَّتينِ السَّبعينيَّتين، كانت (قصيدةُ النَّثرِ) جُزْءًا أساسيًّا من تجربةِ محمد آدم (1954- ) الشِّعريَّةِ، في ديوانِهِ (مَتَاهَة الجَسَد): 1988؛ وفيها ظهرَ وَلَعُهُ بشعريَّةِ الكِتابِ المُقدَّسِ، وبخاصةٍ في مزاميره، ونشيدِ الإنشادِ، وسردِهِ، بالإضافةِ إلى اسْتدعاءِ إمكانيَّاتِ السَّردِ العربيِّ الشِّعريَّةِ، ورُؤى البشريَّةِ في عُصورِهَا الأُولى، والاحْتفاءِ بالمواقفِ المِيْتَافيزيقيَّةِ الدِّراميَّةِ، وآلياتِ التَّصوفِ، وفلسفةِ الموقفِ الشِّعريِّ، وتنتشرُ في خِطابِهِ التَّناصاتُ الشِّعريَّةُ وصيغةُ الإنشاد بآلياتٍ توراتيَّةٍ:

 

« لِيَكُنْ …

سَأتْبَعُ الضَّوءَ إلى عَتْمةٍ أُخْرى وَأُقِيْمُ في الفَضَاءِ صَلوَاتِي

إلى أنْ يحلَّ الليلُ رموزَهُ في غابةِ النَّهَارِ

ويحلَّ النَّهَارُ شَفْرتَه على مَغَالِيْقِ الليلِ..

سَأتْبعَُ امْرَأةً مَا إلى بَلَدٍ مَا وَأكونُ بمثابَةِ الشَّكلِ للمَعْنَى

سَأدْخُلُ الحَدِيْقَةَ أوَّلاً

وَأقِفُ على سِدْرَةِ الرَّأسِ وَأتنفَّسُ مَا بينَ النَّهدينِ هَوَاءً صَافيًا

وَأُقيمُ بِنَاءَاتِي مَا بينَ النَّهْدِ وَشَريْعَة النَّهْدِ

وَأُؤذِّنُ للصَّلاةِ منْ غَسَقِِ الليلِ إلى مَطْلَعِ الفَجْرِ.»(43)

 

كما يبدو لدى الشَّاعرِ- القادِمِ منْ جحيمِ الفلسفةِ والتَّصوُّفِ- ولعٌ واضِحٌ بالموقفِ الوجوديِّ للكائنِ البشريِّ في توقُّداتِ الوجودِ وتحوُّلاتِهِ، وتقودُ الرُّؤيا عنده إلى ضُروبٍ من تَشَكُّلاتِ الشَّطْحِ الصُّوفيِّ، في رُؤى كُليَّةٍ للوجودِ وللعالم وللمصيرِ الإنسانيِّ كُلِّه:

 

« وَالشَّمْسُ  تَتَدَحْرَجُ منْ بينَ رِجْليَّ تَدَحْرُجَاتٍ هَائِلةً

وَتَنْدَفعُ أمَامِيَ تَارَةً

وَتَارَةً

تَنْدَفِعُ خَلْفِي

وَهَكَذَا تُحِيْطُ بي في تَوهُّجٍ وَظُلْمَةٍ وَتَنْفَلِتُ إلى السَّديمِ دُوْنَمَا

جَلَبَةٍ أوْ انْفِجَارٍ

وَالأرْضُ تَنْسَحِبُ منْ على كُرْسِيِّهَا وَتَلْتَفُّ بِعَبَاءَةِ الزَّمنِ

وَتَتَقَدَّمُ بَرْدَانَةً إليَّ..!!»(44)

 

وباكْتمالِ عقدِ الثَّمانينيَّاتِ، يكتملُ قوسُ الحَدَاثةِ الشِّعريَّةِ، في القصيدِ النَّثريِّ المِصْريِّ؛ الَّذي انْفتَحَ منذُ بدايةِ الأربعينيَّاتِ؛ لتبدأَ منذُ التِّسعينيَّاتِ ملامحُ شعريَّةٍ أُخْرَى للقصيدِ النَّثريِّ المِصْريِّ، سَاهَمَ في تَشْكيلِها شُعراءٌ سَبعينيّونَ وثَمانينيّونَ وتِسعينيّون، أسَّسوا لمرحلةِ ما بعدَ الحَدَاثةِ في شِعريَّةِ القصيدِ النَّثريِّ المِصْريِّ – وهو مَا حَدَثَ بالأقْطارِ العربيَّةِ الأُخْرَى، بالتَّزامُنِ- وإنْ ظلَّ تيَّارُالحداثةِ موجودًا، بدرجةٍ ما، وقد قادتْ مُحَاولاتُ تطويرِهِ إلى ضُروبٍ من الحداثةِ الأُخْرى؛ الحَدَاثةِ الجديدةِ، الحَدَاثةِ العُليا.

وكما كانتْ شَتَّى الظُّروفِ مُهيَّأةً، منذُ بدايةِ الأربعينيَّاتِ، لتحوُّلٍ شِعْريٍّ هائِلٍ، يُواكِبُ التَّحوُّلاتِ الدُّوليَّةَ والقوميَّةَ، كانَ انْتهاءُ عِقْدِ الثَّمانينيَّاتِ يُؤْذِنُ بتَحَوُّلٍ، لا يَقلُّ زلزلةً، وكانَ التَّحوُّلُ الشِّعريُّ ضِمْنَ هذه التَّحوُّلاتِ الحَادَّةِ؛ ففي العامِ التَّاسعِ والثَّمانينَ كانَ الإعلانُ عن سُقوطِ الكُتْلَةُ السُّوفيتيَّةُ الضَّخمةُ، وتفتيتِهَا، ثم كانَ انْهيارُ حائطِ بارلينَ، وتفتيت قوميَّاتٍ أُخْرى؛ كالاتِّحادِ التّشيكسلوفاكيِّ، والاتَّحاد اليوغسلافيِّ، وكانتْ الحملةُ العسكريَّةُ الأنْجلو أمريكيَّةُ على العِرَاقِ في مطلع التِّسعينيَّاتِ، إيذانًا ببدايةِ الهيمنةِ الأمريكيَّةِ على العالمِ، وبثِّ شعارِهَا المَرْكزيِّ: العَوْلَمَةِ؛ الذي اسْتَهْدَفَ القضاءَ على الملامحِ المحليَّةِ، وسَحْقِ الهُويَّاتِ الصُّغرى، وسائرِ الثَّقافاتِ الأُخْرَى، ومع هذه الانهياراتِ الحادةِ، والتَّحوُّلاتِ الضَّارية، بدأتْ تحوُّلاتُ الشِّعريَّةِ في القصيدِ النَّثريِّ، تتخطَّى آليَّاتٍ وَرُؤى، قدَّمتْ تجاربَ مُهمَّةً في العقودِ السَّابِقَةِ.                                                                                             

الإحَالات والتَّعليقاتُ

 

(1) محمود أمين العالم – كتاب حرف الـ ح ، لبدر الدِّيب – مجلَّة :(أدب ونقد) – العدد 48 – يوليو 1989 – ص:127، وانْظُرْ: لويس عوض- بلوتُولاند – الطَّبعة الثَّانية – الهيئة المصريَّة العامة للكتاب – 1989 – ص:141 ، وما بعدها.

(2) لويس عوض – بلوتُولاند – سابق – ص :10.

(3) حسين عفيف –  الأعمال الكاملة – المجلَّد الأوَّل – المجلس الأعلى للثَّقافة – 2002 – ص: 352، 353 ، 358.

 (4) منها على سبيلِ المِثالِ:

-1- « وما يُهمِّشُ من قيمةِ أعمالِ هذا الشَّاعرِ، رغم كثرتِها، هو سطحيتُها ورُومانسيَّتُها السِّنتمنتاليَّةُ. ولا غرابةَ إذنْ أنْ تمضي أعمالُ الرَّجل دونَ تساؤلٍ كبيرٍ؛ لأنَّه لمْ يطرحْ إشكاليَّةً ما، أو وعيًا جديدًا، اللهمَّ إلاَّ التَّخلي عن الإيقاع التَّفعيليِّ.» : حِميده عبد الله – قصيدة النَّثر الثَّمانينيَّة وانكسارُ النَّموذج السَّبعينيِّ – مجلَّة: (الأربعائيُّونَ) – العدد: 3/4 – شتاء 1992- ص: 38.

-2- « قصيدةُ النَّثرِ التي كتبَها حسين عفيف، لا ينقُصُها سوى الانضباطِ الموسيقيِّ؛ لكي تُلبيِّ مُتَطَلَّباتِ النَّموذجِ الرُّومانسيِّ بدقَّةٍ، وتنساقُ لمعيارِهِ انْسِياقًا تامًا؛ حيثُ تخضعُ هذه القصيدةُ، لعمودِ البلاغةِ الرُّومانسيِّ، خُضوعًا كاملاً .. يختلفُ عفيف عن شُعراءِ أبولُّو بالتَّأكيد، ولكنَّه ينسجمُ معهم في التَّكوينِ الذِّهنيِّ والثَّقافيِّ، بكُلِّ تأكيدٍ؛ كانوا يَنْظِمُونَ الشِّعرَ، وكانَ هو يكتبُ النَّثرَ المُرَكَّزَ الغريبَ ، الذي يُشْبِهُ سَجْعَ الكُهَّانِ، أو شطحاتِ الصُّوفيَّةِ، ممَّا يُسَّمى في وقته بالشِّعرِ المنثورِ» : أمجد ريَّان – حولَ مفهوم قصيدة النَّثرِ- مجلَّة: (أدب 21) – مارس 1996- ص ص: 56-57 .   

-3- « ما كتبه عفيف- شِعْرًا ونثرًا – يقعُ في الإطارِ المتحفيِّ ؛ فنصوصُهُ قافزةٌ على التَّاريخِ الذي كتبت فيه، ولا نستطيعُ أنْ نُدْرجَهَا في تاريخِ النُّصوصِ المُؤثِّرةِ، ولكنَّهَا صَيْحَاتٌ فرديَّةٌ، وصَرَخَاتٌ خارجَ السِّياقِ الطَّبيعيِّ للإبداعِ المِصْريِّ العربيِّ عمومًا، بلْ إنَّها كانت نوعًا من التَّرفِ الذِّهنيِّ، الذي لمْ يحرصْ صاحبُهُ على ترويجِهِ بشكلٍ قويّ، ولكنَّه أرادَ أن يسوقَهُ بهدوءٍ ، وطَرَاوَةٍ ( ؟ )، لا تتناسبُ مع تفجّرِ العصرِ بأيِّ شكلٍ من الأشكال» : شعبان يوسف – قراءةٌ في المُقدِّماتِ التَّاريخيَّةِ لقصيدةِ النَّثرِ- مجلَّة: (الثَّقافة الجديدة)، العدد: 223 – إبريل 2009 – ص 85 .

(5) عصام محفوظ – السُّورياليَّة وتفاعُلاتها العربيَّة – المُؤسَّسة العربيَّة للدِّراسات والنَّشر – 1987 – ص:51.

(6) مجلَّة: ( التَّطوُّر) – العدد الثَّاني –  فبراير 1940 –  ص : 50.

(7) بلوتُولاند – سابق –  ص:57.

(8) السَّابق : ص:66.

(9) السَّابق : ص: 25.

(10) محمد مُنير رمزي – بريق الرَّماد – دار شرقيَّات للنَّشر والتَّوزيع – 1997- ص ص: 150 – 152.

(11) يوسف الشَّاروني – القصَّة تطوُّرًا وتمرُّدًا – مركز الحضارة العربيَّة – 2001- ص: 173.

(12) راجع ْ: إدوار الخرَّاط، في مُقدِّمة كتاب: (تلالٌ من غُروب)، لبدر الدِّيب – الكتاب الذَّهبي – يناير 1988 – ص: 11 ، محمود أمين العالِم  – كتاب حرف الـ ح ، لبدر الدِّيب – سابق – ص ص:117 ، 122، يوسف الشَّاروني – القصَّة تطوُّرًا وتمرُّدًا- سابق – ص ص: 173 – 174.

(13) مُقدِّمة : ( تلالٌ من غُروب) – سابق – ص: 12.

(14) صدرتْ في عام 1948، وصدرَ منها أربعةُ أعدادٍ، تزخرُ بالتَّمرُّدِ على التَّقاليد المورثةِ الثَّابتة؛ دونَ أنْ تنحازَ إلى تيَّارٍ مُحدَّدٍ، وقد ظهرَ هذا واضحًا في افتتاحياتِها، التي كتبَهَا محمود أمين العالم- وإنْ لم يُوقِّعْ عليها – تحت عنوان: ( نحنُ أبناءٌ ضَالونَ )، كان منها :

«  نَحْنُ أبْنَاءٌ ضَالُونَ ..

فَقَدْنَا الطَّريقَ إلى أثْدَاءِ أمُّهَاتِنَا .. حَرَكَتُنَا عَشْوَائيَّةٌ ، وَخُطْوَاتُنَا فَوْقَ المَاءِِ؛ ذلكَ لأنَّنَا أبْنَاءٌ ضَالُونَ..

لَنَا نُقْطَةُ بَدْءٍ .. وَطَرِيْقٌ .. وَهَدَفٌ..

أمَّا النُّقْطَةُ، فَهِيَ الآنَ .. أمَّا الطَّريقُ، فهو «الفِعْلُ والتَّجْرِبَة».

أمَّا الهَدَفُ فَهُوَ التَّعبيرُ المُطْلَقُ..أجلْ التَّعبيرُ المُطْلَقُ ؛ بِلا تَاريخٍ .. مُنْذُ فَقَدْنَا الطَّريقَ إلى الأثْدَاءِ ..

مُنْذُ أدْرَكَتْ طُفُولتُنَا الهَشَّةُ أنَّ الفِطَامَ مَسْئوليَّةٌ وَالْتِزَامٌ- إنْ شِئْتَ- أُستاذيَّةٌ.

أجَلْ نَحْنُ أبْنَاءٌ ضَالُونَ أيُّهَا القَارِئُ..

لأنَّنَا أبَيْنَا السُّجودَ في مِحْرَابِ البَلاغَةِ التَّشبيهيَّةِ، وَالمَنْطِقِ الأرِسْطَطَالِي، وَالرَّياضَةِ الإقليديَّةِ..

لأنَّنَا أبَيْنَا الطُّمَأنِيْنَةَ الرَّخِيصَةَ في أحْضَانِ الكِنَايةِ وَالجِنَاسِ وَالتَّشْبِيْهِ».

(15) مُقدِّمة: تلالٌ منْ غُروب – ص: 8 .

(16) بدر الدَّيب –  كتاب حرف الـ ح – دار المُستقبل العربيِّ – 1988 – ص: 17.

(17) محمود أمين العالِم – كتاب حرف الـ ح ، لبدر الدِّيب – سابق – ص: 124.

(18) السَّابق – نفسه .

(19) إبراهيم شُكْر الله – الأعمال الكاملة: إعداد وتقديم: عبد العزيز موافي – المجلس الأعلى للثَّقافة – 2003 –  ص: 31 .

(20) السَّابق – ص: 33 .

(21) السَّابق – ص:93 .

(22) السَّابق – ص :22 .

(23) السَّابق – ص: 33 .

(24) السَّابق – ص ص: 103 – 104 .

(25)  نَشَرَ عزَّت عامر في : (جاليري 68) :« البريق والصَّمت» – عدد أكتوبر 1969، و : «ما يُسمَّي بالبريق» – في العدد نفسِهِ – « قلبُ الأسْوَاق» – عدد فبراير 1969، كَمَا نَشَرَ في صحيفةِ (المساء) قصيدةَ : « قُوَّة الحقائق البسيطة » ، في عام  1969.

(26)  صدرَ عن سلسلة كتاب الغد، (1) – القاهرة – 1971، كما نُشِرَ، مع قصائد أخرى، من هذه المرحلةِ ، ضِمْنَ ديوان: « قوَّة الحقائق البسيطة » ، في سلسلةِ:(أصوات أدبيَّة)،  الصَّادرة عن الهيئة العامة لقصور الثَّقافة في عام 2000، كما صدرتْ طبعةٌ أُخْرَى، من: « مَدْخَل إلى الحدائق الطَّاغوريَّة » ، عن دار أرابيسك في عام 2010 .

(27) عزَّت عامر –  قوَّة الحقائق البسيطة –  أصوات أدبيَّة – العدد: 292 – الهيئة العامة لقصور الثَّقافة – مايو 2000 –  ص: 127.

(28) السَّابق : ص:192 .

(29) فاروق خلف – سَرَابُ القمر – مركز الحضارة العربيَّة – الطَّبعة الأُولى: سبتمبر 1997- ص ص: 7 – 8 ، وقدْ تمَّ إنجازُ هذا القصيدِ في أواسِطِ السِّتينيَّاتِ، كَمَا أخْبَرَنِي، بذلكَ ، الشَّاعرُ .

(30) فاروق خلف – إرْهَاقُ القِنْدِيلِ – د ن – 1973 – ص ص: 26 – 27. ونصُّ القصيدِِ مُنجَزٌ، في أواخِرِ السِّتينيَّات، كَمَا أخْبَرَني، بذلكَ ، الشَّاعرُ .

(31) صَدَرَتْ الطَّبعةُ الأُولى منه، عَقِبَ وفاتِه، بِعُنوانِ: (كائناتُ علي قنديل الطَّالِعَة )،  بتقديمٍ لمُحمَّد عفيفي مطر، ثم صدرتْ – عن مركز إعلام الوطن العربيِّ – أعمالُهُ الكاملةُ في عام 1993، ثُمَّ صدرتْ طبعةٌ أُخرى في مكتبةِ الأُسْرةِ، بالهيئةِ المِصْريَّةِ العامةِ للكتابِ،  في عام2012، تحت عنوان:( الآثار الشِّعريَّة الكامِلَة ) .

(32) علي قنديل – الآثارُ الشِّعريَّة الكامِلَة – مكتبة الأسرة، الهيئة المصرية العامة للكتاب -2012  – ص ص:120- 123.

(33) حسن عقل  – الحُلْمُ –  دار الفِكر المُعاصر – مايو 1979- ص: 64.

(34) حلمي سالم – الأبيضُ المُتوسِّط ُ- كتاب إضاءة الشِّعريِّ ، (2) – 1983 – ص : 6.

(35) حلمي سالم –  سَكَندريًّا يكونُ الألم – دار المصير – بيروت – الطَّبعة الأولى  – 1981 – ص ص: 20- 21 ، مجلَّة : (إضَاءة 77)، العدد الثَّاني ، ديسمبر 1977، ص ص: 33 – 35، ولنلاحِظْ تكرارَ المقطعِ الأخيرِ في هذا النَّصِّ، وفى النَّصِّ السَّابق ، من ديوان حلمي سالم : ( الأبيضُ المتوسِّطُ ) ، وهو ما يُوحي بتكامُلِ التَّجربتينِ، واتِّصالِهُمَا، واعْتِبارِهُمَا نِتاجَ مرحلةٍ واحدةٍ .

(36) محمَّد عيد إبراهيم – طَوْرُ الوَحْشَة – كتاب أصوات، (4)- ديسمبر1980– ص: 25.

(37) صَدَرتْ الطَّبعةُ الأولى، بِعُنوان: (إشْرَاقَات) ، بِمُقدِّمةٍ لإدوارالخَرَّاط، في طبعةٍ مَحْدودة ٍفي عام 1987، ثُمَّ نُشِرَتْ في مجلَّة:(كلمات) البحرينيَّة مصحوبةً بدراسةِ إدوار الخرَّاط ، ثُمَّ بدأ الشَّاعرُ نشرَهَا منْ جديدٍ ، على نحوٍ جديدٍ؛ حيثُ أضافَ نُصوصًا صغيرةً على هامشِ المتنِ الشِّعريِّ؛ فَظَهَرَ في مجلَّة:(الثَّقافة الجديدة) نَصُّ:(مُرَاوَدَة) في عدد أكتوبر1990، وظَهَرَ في مجلَّة:(أدب ونقد) نصُّ: (مُكَابَدَة) في عدد فبراير1991، ثُمَّ صَدَرَتْ عن الهيئة المصريَّة العامة للكِتاب، بعنوان:( إشْرَاقَات رِفعت سَلاَّم) في عام 1992، وأصبحَ الشَّاعرُ يُشِيْرُ إلى هذه الطَّبعةِ باعْتِبَارِهَا الطَّبعةَ الكَامِلَة.

(38) في حِوارٍ معه شدَّدَ الشَّاعرُ على تعدُّدِ نبراتِهِ الشِّعريَّةِ وَتَزامُنِهَا وَتَقَاطُعِهَا بقولِهِ:

«مُنْذُ كِتابَاتِي الأُولى، وَأنَا مَشْغولٌ بإشْكَاليتينِ شِعْريَّتينِ:« تعدُّد» و« تَزَامُن» الأصْوَاتِ الشَّعريَّةِ، وكيفيةِ تحقِيقِهِمَا في النَّصِّ الشِّعريِّ.. فَرَأسِي مُتْرَعٌ دَائمًا بِمَا لايُحْصَى مِنَ الأصْوَاتِ الهَامِسَةِ وَالصَّاخِبَةِ، الشَّاكيةِ وَالصَّارخَةِ، اللاعِنَةِ وَالمُبْتَهِلَةِ، وَهيَ أصْوَاتٌ مُتوَاصِلةٌ مَعًا في نَفْسِ الآنِ، بلا تَوَقُّفٍ».

منْ حوارٍ معه أجْرَاه: حسن خِضر، نُشِرَ بمجلَّةِ :(الشِّعْرِ)، العدد:127، خريف2007، ص :55 .

(39) شريف رزق – إشْرَاقَات رِفْعَت سَلاَّم: مَجْرى البِنَاء وَهَنْدَسَة النَّصِّ مَكْتُوبًا – مجلَّة: (الثَّقافة الجديدة) – العدد:55 – أبريل 1993- ص: 53.

(40) رفعت سلاَّم – إشْرَاقَات – د. ن – القاهرة – يناير1987- ص: 13 .

(41) أمجد ريَّان – تُغنِّي للتَّباعُدِ، لي، أصْعَدُ، والبراعِمُ حِيطَانِي … – مجلَّة: (إضَاءة) – العدد الثَّاني عشر، فبراير 1985 – ص: 49.

(42) وليد منير – المُغامرةُ الجماليَّةُ في شِعْرِ السَّبعينيَّاتِ – مجلَّة : (كِتابات) – العدد الثَّامن -1984 – ص: 39.

(43) محمَّد آدم – مَتَاهة الجَسَد – الطَّبعة الثَّانية – مركز الحَضَارة العَربيَّة – 2004 – ص: 8 .

(44) السَّابق – ص: 73.