الورقة البيضاء/ عماد فؤاد

 

 

 

ليس لديَّ الرّغبة في التوقّف عن الكتابة الليلة

أشعر أنَّني صافٍ

وعالٍ

ونقيّ

وأبيض

وأنّني خفيف، كأنّني أطفو فوق حلم أراه يتخلَّق تحت عينيَّ دون أن يراني

الوجع المفاجئ الذي أصاب عنقي حين حاولت رفع رأسي الآن، جعلني أرجع سريعاً من حالة الطّفو تلك إلى مقعدي الذي أجلس عليه وأنا أخطُّ هذه السّطور

فكّرت في أنّ الكتابة وأنا في هذه الحال فكرة غبيّة، لكنّني أودُّ أن أكتب، أريد أن أقبض على كلّ هذه الأشياء التي تمرّ دفعة واحدة في عقلي، وهي تمرق سريعاً قبل أن تختفي، ورغم هذه السّرعة التي تمرق بها، إلا أنّني أشعر كأنّي عرفتها جيداً، تأمّلتها طويلاً، كأنّي أعيد مرور لقطة سريعة بتقنية الصّورة البطيئة لأتأمّل التّفاصيل بدقّة أكبر، تتداعي الوجوه والجمل وحركات الشّفاه وتلويحات الأيدي وإشارات الأصابع كلّها دفعة واحدة أمام عيني الآن

فأتنهّد

وأشدّ نفساً عميقاً من الدّخان الأزرق

لأتبعه بجرعة بيرة مُرَّة.

السّاعة الآن الحادية عشرة والنّصف مساءً، في مدينة معتمة في الليل، رمادية في النّهار

ومطر غزير في الخارج، أنظر إلى علبتي المعدنيّة لأعدّ سجائري الملفوفة المتبقيّة فأطمئن، أمدُّ يدي إلى الثّلاجة وألتقط علبة بيرة، أتحسَّس برودتها المثلّجة بين كفيَّ طويلاً

قبل أن أفتحها

وأصبُّها في كوبي الفارغ.

* * *

الورقة البيضاء في رقدتها مستسلمة أمام قلم مشهر..

تشبيه جنسي صارخ ومبتذل، لو سمعتني إحدى المتشدّدات في حركات الفيمينيزم المريضة الآن لأكلتني أكلاً، لكنَّها الحقيقة، يدي ممسكة بالقلم أمام ورقة دفتري البيضاء دون أن تقدم على خطّ حرف واحد، أدخّن وأشرب البيرة وأنصت لموسيقى هادئة تأتيني من نافذة جاري، وتضطرب بداخلي موجات متتالية من المشاعر والأحاسيس والانفعالات، دون أن أستطيع أن أكتب شيئاً

بدأت أرسم

أنقش

أشخبط

وأجرح الورقة بخطوط ثقيلة تمزِّق الورق الرقيق في مرورها البطيء المضغوط عليه، أنتشي لهذا الصّوت المميّز لتمزّق الورقة، يفرحني لأنّني بعد كلّ هذا الفشل في كتابة شيء، استطعت أن أفعل شيئاً يغيّر من شكل الصّفحة البيضاء.

 أهدأ، وأعود إلى رسم طيور تحلِّق في البعيد وأشجار باسقة وعيون، فكرت في أنّ حياتي كانت ستتغيّر لو أنّني استجبت لأحلام مراهقتي في أن أترك للنّاس أثراً قبل أن أموت، أثراً لا تعوقه اختلاف اللغات، ومن ثمّ لا يشتبه على أحد، لم يكن أمامي سوى الموسيقى أو الرسم، واكتشفت أنّني في داخلي أصنع موسيقاي الخاصّة، تلك التي لن أستطيع أبداً أن أخطّها على نوتة ما، لأنّني أسمعها وأنصت لها، لكنّني لن أستطيع أن أترجمها في علامات يفهمها الآخرون، واكتشفت أنّ الرّسم لن ينقل ما أراه في مخيّلتي وهذياناتي من صور عديدة، لن أنجح أبداً في نقلها بين حدود إطار ما، ما دفعني إلى أن أستسلم لفكرة أن أعيش هكذا، أبخل بما في داخلي على العالم

لأنّه لن يفهمني

وأنا

لن أفهمه.

* * *