منهج البحث عن الحقيقة عند الغزالي وديكارت/ أحمد أشقر

 

لم تقترن أعمال مفكرين اثنين علي مر العصور مثلما اقترنت أعمال كل من أبي حامد الغزالي ورينيه ديكارت. بالرغم من اختلاف المنابت العرقية والجغرافية، والانتماءات الفكرية وحياتهما الواحد عن الآخر بفارق خمسة قرون، إلا أنهما يبقيان زوجين مهمين ومثيرين لا يزالا يؤثران علي الفكر الإنساني.
لقد عاش الغزالي في القرن الحادي عشر (توفي في العام 1059). وعاش ديكارت في القرن السابع عشر (1596 ـ 1650). عاش الأول في بلاد المسلمين، في فترة انحطاط وضعف، وصل أوجها الاحتلال الصليبي لجزء من بلادهم. وعاش الثاني في فرنسا/أوروبا المسيحية، في عصر الإصلاح الديني/ البروتستانتية وخروج البرجوازيات الناشئة من أسواقها المحلية إلي أفريقيا وآسيا للبحث عن أسواق جديدة (الاستعمار) وعصر النهضة الفكرية والعلمية. اشتغل الأول، الغزالي، في علم الكلام. واشتغل الثاني، ديكارت، في العلوم الإنسانية والاجتماعية والطبيعية والدقيقة. أفضي الأول صوفيا ومؤسسا لتيار في هذا المذهب وأبا للأصوليات الإسلامية المعاصرة. وأفضي الثاني فيلسوفا فاتحا في عصر النهضة الفلسفي، حتي ليقال ان الفلسفة الحديثة بدأت مع ديكارت.
سيحاول هذا البحث التعرف والتعريف بالمنهج، الخطوات التي اتبعها كل واحد منهما من أجل الوصول إلي الحقيقة. وأوجه الشبه والاختلاف التي توصل إليها الاثنان. توصل الأول إلي اليقين الإلهي الذي يغلق الباب أمام التفكير الحرّ الذي لا تشوبه أية شائبة من شوائب الشك. وتوصل الثاني إلي يقين الأنا المفكر الذي الباب الرئيس للفلسفة، والشكّ الذي لا يعلو عليه يقين آخر.
كثيرة هي المصادر والمراجع التي تتحدث عن علاقة فكر الاثنين. وجلّها عربي وإسلامي، إذ يعتقد قطاع واسع من هؤلاء، أن ديكارت تأثر، بل نقل، عن الغزالي. وهذا البحث لن يبحث في هذا الجانب ـ إن كان موجودا أصلا ـ بل سيعتمد علي المصادر الأولية المتعلقة بمسألة البحث فقط.
عصر الغزالي
إذا أردنا أن نفهم فكر الغزالي، قدر المستطاع، لا بد لنا من فهم العصر والبيئة التي عاش فيهما. فقد وصف الغزالي عصره بالقول: غ…ف لقد عم الداء، ومرض الأطباء، وأشرف الخلق علي الهلاك غ…ف (الغزالي، 1993: 60). ويحلل عارف تامر هذا العصر قائلا: غ…ف لم يخرج عن كونه نسخة طبق الأصل عن العصر الذي سبقه، أو بلغة أصح هو امتداد للقرن الثالث الهجري بالنسبة للعلوم والآداب … وغير خاف أن هذا العصر شهد بروز دعوات دينية عديدة، وقيام مدارس وأنظمة فكرية لم تلبث أن نزلت الساحة لخوض المعركة الكبري، وفي يد كل واحد من أعضائها منهاج مقرر ومدروس ويهدف إلي الوصول لمرتبة التفوق والسبق في استقطاب الطلاب والدعاة الذين ستكون مهمتهم في ما يعد استقطاب الوزراء والأمراء والحكام (تامر، 1987 : 63). إذن: يتضح مما سبق أن الفكر في عصر الغزالي كان تقليدا للعصر الذي سبقه، ومضطربا لأنه غير قادر عن الإجابة علي المسائل والتساؤلات المجتمعية والفردية. من هنا يمكننا أن نفهم مدي عمق الأزمة التي عاشتها الأمة الإسلامية والتي تجلت بوقوع جزء من وطنها تحت الاحتلال الصليبي. إلا أن ما يهمنا هو، انعكاس أزمة الأمة عليه هو.
لذا نراه متنقلا من منطقة إلي أخري باحثا تارة، ومفكرا تارة أخري، ومعلما أحايين أخري، ومعتكفا بعض الوقت عساه يتوصل إلي الجواب الشافي الذي فيه مخرج له ولأمته. لقد وصف عبد الرحمن بدوي لوحة حياته بالتفصيل (بدوي، 1984: 80 ـ 82). لذا نراه بانيا منهجا متماسكا للبحث عن أهم القضايا التي تواجه المفكرين عادة، ألا وهو البحث عن الحقيقة، لأن الحقيقة وحدها قادرة علي مساعدته علي الخروج من أزمته، وهي وحدها القادرة علي إخراج الأمة من أزمتها ـ كما يعتقد. فمنهج البحث عن الحقيقة هو من أجل تنقية العقل والنفس والروح الإنسانية من أجل إعادتها لفطرتها التي خلقها غاللهف ـ كما يعتقد. فبني منهجا خاصا به مكونا من خمس مراحل، أوصلته إلي الحقيقة التي يريدها.
الأولي: الشك المنهجي
أول ما يسترعي انتباهنا في حياة الغزالي هو السعي الحثيث لبلوغ الحقيقة الخاصة به. فقد قال: ولم أزل في عنفوان شبابي، منذ راهقت البلوغ قبل بلوغ العشرين إلي الآن وقد أناف السن علي الخمسين أقتحم لجّة هذا البحر العميق، أتوغل وأخوض غمرته خوض الجسور، لا خوض الجبان الحذور، وأتوغل في كل مظلمة، وأتهجم علي كل مشكلة، وأتقحم كل ورطة، أتفحص عن كل عقيدة فرقة، واستكشف أسرار مذهب كل طائفة، لاميّز بين محق ومبطل، ومتسنن ومبتدع لا أغادر باطنيا إلا وأحب أن أطلع علي بطانته، ولا ظاهريا الا أريد أن أعلم حاصل ظهارته، ولا فلسفيا إلا وأقصد الوقوف علي كنه فلسفته، ولا متكلما إلا وأجتهد في الإطلاع علي غاية كلامه ومجادلته، ولا صوفيا إلا وأحرص علي العثور علي سرّ صوفيته، ولا متعبدا إلا وأترصد ما يرجع أليه حاصل عبادته، ولا زنديقا معطلا إلا وأتجسس وراءه للتنبه لأسباب جرأته في تعطيله وزندقته (الغزالي، 1993 : 18). يعرض الغزالي سلسلة من المعارف والشكوك بما هو سائد في عصره. فالشك عنده هو المرحلة الأساسية في بناء نهج البحث عن الحقيقة عنده. فالشك عند اليونانيين من ينظر بإمعان، من يتفحص باهتمام (بدوي، 1984 : 16). وأما راجح الكردي فيصف الشكّ قائلا: فالشك هنا إذن منهج وطريقة، إنه حركة تنظيم يخلّص النفس من أعباء أفكاره لا تأنس إليها ولا ترتاح لها ليقيم علي أنقاضها أفكارا ترتاح لها وتأنس إليها وهو أحيانا حركة فحص وعلاج يتبين ما في الرأي من ضعف ليصلحه وما في الفكرة من نقص ليكملها.
لقد اعتقد الغزالي أن الأفكار والآراء والتعاليم السائدة في عصره، هي المسؤولة عن الأزمة التي يعيشها المجتمع والأمة. وأنها غير قادرة علي تقديم اقتراحات لحل هذه الأزمة، لأنها تقليد لأفكار منظومة فكرية قديمة وغير ملائمة لمتطلبات عصره، فبدأ ببناء منهجه متخذا من الشك، الذي هو عدم قبول القائم، والفحص والتحري الدائمين، في منظومة عصره المعرفية (القاعدة الأساس). لأن الشك هو الطريق الأمثل من أجل بدء البحث عن منظومة جديدة من شأنها أن توصل إلي منظومة أو منهج جديد، الحقيقة التي بإمكانها تخطّي المنظومة الحالية، وقادرة علي أيجاد حلول للأزمة الحالية، التي تميزت بالتفكك المجتمعي والعداوات بين المسلمين من أتباع الفرق والطوائف المختلفة. لأن الشكوك هي الموصلة إلي الحق فمن لم يشك لم ينظر لم يبصر (النور الإلهي) ومن لم يبصر بقي في العمي والضلال (الغزالي، 1979: 175). إذن فالشك هو البصر، وعندما نبصر نري الأمور بصورة واضحة ومختلفة، أي أن الحقيقة موجودة وما علينا إلا البحث عنها ـ بحسب الغزالي طبعا. لقد شكّ ورفض أيضا آراء الذين عاصروه من الفلاسفة الذين حاولوا التوفيق بين الدين والفلسفة والمتصوفة.
الثانية: التحرر من التقليد
كانت شكوك الغزالي في منظومة عصره عبارة عن بحث ودراسة بما هو موجود وقائم من أجل، ليس فقط فهم هذه المنظومة وفحص أهليتها لحل مشاكل الواقع المأزوم، بل الخروج بمنظومة معرفية قادرة علي الإجابة الحقيقية علي الأسئلة والتساؤلات التي تطرحها كافة القضايا العالقة. لذا أدرك بأن الواجب عليه عدم تقليد المنظومة الفكرية الموجودة والتي سبقته. يقول في هذا الصدد: وقد كان التعطش إلي إدراك حقائق الأمور دأبي وديدني من أول أمري وريعان عمري، غريزة وفطرة من الله وضعتا في جبلّتي، لا اختياري وحيلتي حتي انحلت عقدة التقليد وانكسرت علّي العقائد الموروثة عن عهد شره الصبا، إذ رأيت صبيان النصاري لا يكون لهم نشوء إلا علي التنصر، وصبيان اليهود لا نشوء لهم إلا علي التهود، وصبيان المسلمين لا نشوء لهم إلا علي الإسلام. وسمعت الحديث المروي عن رسول الله صلّي الله عليه وسلم يقول: كل مولود يولد علي الفطرة فأبواه يهودانه وينصرانه ويمجسانه فتحرك باطني إلي حقيقة الفطرة الأصلية وحقيقة الحقائق العارضة بتقليد الوالدين والأستاذين، والتمييز بين هذه التقليدات، وأوائلها تلقينات، وفي تمييز الحق منها عن الباطل اختلافات، فقلت في نفسي: إنما مطلوبي العلم بحقائق الأمور، فلا بد من طلب حقيقة العلم ماهي، فظهر لي أن العلم اليقيني هو الذي يكشف فيه المعلوم انكشافا لا يبقي معه ريب، ولا يقارنه إمكان الغلط والوهم، ولا يتسع القلب لتقدير ذلك، بل الأمان من الخطأ ينبغي أن يكون مقارنا لليقين مقارنة لو تحدي بإظهار بطلانهغ…ف (الغزالي، 1993: 18 ـ 19).
إذا، ميّز الغزالي بين التقليد (التنصير والتهويد) ولم يذكر الإسلام في هذا الباب، لأنه يري في الإسلام دين الفطرة. وما مسعي الغزالي إلا العودة بالإنسان إلي فطرته. فالتقليد، إذن، ضد الفطرة.
يري فكتور سعيد باسيل أن الغزالي قد حارب التقليد لسببين اثنين: السبب الأول، هو: أن التقليد خلق التعصب للمذاهب ودفع معتنقيها إلي تكفير بعضهم فإذا المقلد الذي اعتمد في ايمانه علي التقليد لا علي النظر يكفر من يخالف في مذهبه ومعتقده، فهو يري أنه هو وحده علي حقّ وأن الآخرين أصحاب المذاهب الأخري علي خطأ وضلالغ…ف (باسيل، بدون تأريخ: 130). والسبب الثاني، هو إن التقليد يحول دون الفهم والعلم. أي دون فهم علوم الدين الذي وقف الغزالي حياته علي بعثها وإحيائها . (هناك: 132)
بكلمات أخري: التقليد يضعف المجتمع والأمة ويشغلهما في قضايا ليست ذات أهمية ويحد من تطورهما، ويمنعهما من إعادة إنتاج كيانهما، الأمر الذي يبقيهما خارج الصيرورة التاريخية، وغير قادرين علي مواجهة التحديات في القضايا والميادين المختلفة.
الثالثة: القواعد المنهجية
لقد وضع الغزالي نوعين من القواعد المنهجية في بناء منهجه، البحث عن الحقيقة.
الأول: القواعد النظرية، وتقسم إلي خمس:
الأولي: البداهة واليقين. يقول في هذا الصدد: العلم اليقيني هو الذي يكشف فيه المعلوم انكشافا لا يبقي معه ريب يتسع معه القلب لتقدير ذلك، بل الأمان من الخطأ ينبغي أن يكون مقارنا لليقين مقارنة لو تحدي بإظهار بطلانه مثلا من يقلب الحجر ذهبا والعصا ثعبانا، لم يورث ذلك شكا وإنكارا، فإني إذا علمت أن العشرة أكثر من الثلاثة، فلو قال لي قائل: لا، لم أشك بسببه في معرفتي، ولم يحصل لي منه إلا التعجب من كيفية قدرته عليه، فأما اشك فيما علمته فلا. ثم علمت أن كل ما لا أعلمه علي وجه ولا أتيقنه هذا النوع من اليقين فهو علم لا ثقة به ولا أمان معه، وكل علم لا أمان معه فليس بعلم يقيني (الغزالي، 1993: 18 ـ 19).
الثانية: المراجعة. وتدعو هذه القاعدة بضرورة مراجعة كافة جوانب القضية التي يبحث فيها أو يناقشها الفرد، كي يكون علي يقين من صواب الرأي الذي توصل إليه أو الموقف الذي اتخذه. نري أن هذه القاعدة فيها دمج لمبدأي الشك واليقين، فالشك يستدعي المراجعة الدائمة، واليقين يستدعي هو الآخر المراجعة من أجل الوصول إليه.
الثالثة: التأني وعدم التسرع.
هذه القاعدة ملزمة لكل باحث أيا كانت عقيدته. والتأني يعطي الوقت والفرص والإمكانات لكل باحث أن يراجع ويشكّ في كل خطوة خطاها أو فكرة توصّل إليها أثناء البحث والدراسة.
الرابعة: عدم التناقض. فيما يدعو الغزالي إلي معرفة سبب وقوع التناقض. يقول في هذا الصدد: فالتناقض في البراهين الجامعة للشروط التي ذكرناها لا محال. فإن رأيتها متناقضة فاعلم أن أحدها أو كلاهما لم يتحقق فيه الشروط المذكورة فتفقد مظان الغلط والمثارات غ…ف (الغزالي، 1993 : 224). أي هناك مُعطي خاطئ أو (وغير مكتمل أو) وطريقة خاطئة أو غير مكتملة هي الأخري.
الخامسة: الثقة. فيها يدعو الغزالي الباحث/ الدارس/ الإنسان العادي أن يثق كل الثقة قي الموقف الذي يتخذه كي يستطيع الدفاع عنه. والثقة تعبير عن قدرته الفرد علي استيعاب وتملك الأدوات والمهارات المعرفية ودقة المعلومات والمعطيات التي استعملها ويستعملها.
الرابعة: الوسائل
يذكر الغزالي أن وسائل الإدراك لديه هي ثلاث: الحواس، والعقل والقلب. وقد اختبرها هو بنفسه وأخبرنا بها في سيرته الذاتية الفكرية، المنقذ من الضلال . (الغزالي، 1993: 21 ـ 23) ولكل وسيلة من هذه الوسائل حدودها ودورها الذي لا تتجاوزه.
الحواس:
يعتبر الحواس ثابتة، ويشرح لنا وظيفة كل حاسة بالقول: إن القوة الخيالية المودعة في مقدم الدماغ تجري من العقل مجري صاحب بريده إذ تجتمع أخبار المحسوسات عندها وتجري القوة الحافظة التي مسكنها مؤخر الدماغ مجري الخازن لهذا البريد ويجري الحواس الخمس مجري حواسيسه، فيوكل كل واحد منها بأخبار صقع من الأصقاع. فيوكل العين بعالم الألوان. والسمع بعالم الأصوات والشم بعالم الروائح. وكذلك سائرها فإنها أصحاب أخبار يلتقطونها من هذه العوالم، ويؤدّونها إلي القوة الخيالية التي هي صاحب كل بريد (الغزالي، ب.ت: ج3 ص9).
العقل: لقد كان بحثه في العقل كأحدي الوسائل في بناء منهجه، البحث عن الحقيقة، نقاشا بين فرق إسلامية شتي، أهمها المعتزلة ـ الذين يعتمدون اعتمادا كليا علي العقل، والصوفية ـ التي تعطل دور العقل. فاتخذ موقفا وسطيا (الغزالي، 1993 : 8).
القلب: يعتبر القلب الوسيلة التي يلتقط فيها الإنسان المسلم هدي الله. وأثناء حديثه عن القلب يقتبس من القرآن ، فمن يرد الله أن يهديه يشرح صدره للإسلام . وحديثا للنبي محمد : قول نور يقذفه الله تعالي في القلب ، (الغزالي، 1993 : 23).
كما نلاحظ: يعتبر الغزالي الحواس والعقل والقلب وسيلة متكاملة لا تنفصم عري الواحدة عن الأخري، بل تكمل الواحدة الأخري. عمليا هذا هو الموقف الوسطي بين المعتزلة العقلانيين وغيرهم من المتصوفة الحسّيين، الذين يعتبرون الإحساس والقلب مصدر المعرفة.
الخامسة: التأمل
يستحوذ التـأمل مكانة خاصة ومركزية في منهج تفكير وحياة الغزالي. فهو الذي قضّي في الخلوات والتأمل عشر سنين، يقول: غ…ف فدمت علي ذلك مقدار عشر سنين، وانكشف لي في أثناء هذه الخلوات أمور لا يمكن إحصاؤها واستقصاؤها (الغزالي، 1993 : 50). والـتأمل هو وسيلة لاستقبال الهدي الإلهي، ويقتبس (أيضا) قولا للنبي محمد: إن لربكم في أيام دهركم نفحات ألا فتعرّضوا لها (الغزالي، 1993 : 51).
يري الباحث، السيد عقيل بن علي المهدي، أن تأمل الغزالي يقسم إلي قسمين؛ التأمل الفلسفي الذي هو البحث عن الحقيقة الإلهية، والتأمل الصوفي الذي ينقي النفس ويطهرها (المهدي، 1996 : 134 ـ 135). إلا أنني أعتقد بأن تقسيما كهذا ليس دقيقا بما فيه الكفاية. فالتأمل، من أجل أن يقذف نوره في قلبه، كما أكد الغزالي بنفسه (الغزالي، 1993 : 23). والـتأمل، لا علاقة له بالفلسفة إلا إذا كان تأملا- بحثا عقلانيا.
الوصول للصوفية
لم يكن منهج الغزالي منهجا نظريا فقط. فقد اعتمده من أجل الخروج من الأزمة التي عصفت به أثناء حياته والتي يحدثنا عنها في المنقذ من الضلال. وكان أمل الغزالي أن يتبع هذا المنهج جميع أفراد (المجتمع والأمة) الإسلامية للخروج من الأزمة التي عصفت بها. ينتهي الغزالي في مسيرته الفكرية إلي الصوفية. ويصفها بالقول: علم وعمل وأن حاصل عملهم قطع عقبات النفس والتنزه عن أخلاقها المذمومة وصفاتها الخبيثة حتي يتوصل بها إلي تخلية القلب غير الله تعالي وتحليته بذكر الله (الغزالي، 1993 : 47). فقد أقبل الغزالي علي الصوفية لأنها تقتضي بتطهير النفس من شواغل الحياة والإقبال علي الله، لأن هذا وكما يقول: لا يتم إلا بالإعراض عن الجاه والمال والهرب من الشواغل والعلائق ثم لاحظت أحوالي فإذا أنا منغمس في العلائق وقد أحدقت بي الجوانب ولاحظت أعمالي أحسنها التدريس والتعليم فإذا أنا مقبل علي علوم غير مهمة ولا نافعة في طريق الآخرة ثم تفكرت في نيتي في التدريس فإذا هي غير خالصة لوجه الله بل باعثها ومحركها طلب الجاه وانتشار الصيت فتيقنت أني علي شفا جرف هار وأني قد أشرفت علي النار إن لم أشتغل بتلافي الأحوال فلم أزل أتفكر فيه مدة وأنا بعد علي مقام الاختيار وأصمم العزم علي الخروج من بغداد ومفارقة تلك الأحوال يوما وأحل العزم يوما وأقدم فيه رجلا وأؤخر عنه الأخري غ…ف (الغزالي، 1993 : 48). وكما نعلم فقد استمر الغزالي علي هذا الحال عشر سنين، كما يخبرنا في المنقذ من الضلال، حتي ينتهي به المطاف قائلا: أني علمت يقينا أن الصوفية هم السابقون لطريق الله خاصة. وأن سيرهم أحسن السير، وطريقهم أصوب الطرق، وأخلاقهم أزكي الأخلاق، بل لو جمع عقل العقلاء، وحكمة الحكماء، وعلم الواقفين علي أسرار الشرع من العلماء، ليغيروا شيئا من سيرهم وأخلاقهم ويبدلوه بما هو خير منه، لم يجدوا إليه سبيلا، فإن جميع حركاتهم وسكناهم في ظاهرهم وباطنهم، مقتبسة من نور مشكاة النبوة، وليس وراء نور النبوة علي وجه الأرض نور يستضاء به (الغزالي، 1993 : 50).
وصوفية الغزالي ليست كصوفية الاتحاديين والحلوليين. وهي عنده ليست سوي إعادة النفس البشرية إلي فطرتها ، الإسلام، كما يفهمه هو. وهي ـ أي صوفية الغزالي ـ محاولة العودة في الصوفية إلي دائرة الشرع، كما يعبر عنه في موسوعته الكبيرة إحياء علوم الدين .
منهج البحث عن الحقيقة
عند ديكارت: الأنا المفكر
عصر ديكارت
إذا أردنا أن نفهم فكر وفلسفة رنيه ديكارت لا بد لنا من فهم جوهر أحوال العصر الذي فيه. فديكارت المولود في نهاية القرن السادس عشر، في العام 1596، والذي عاش حتي منتصف القرن السابع عشر، توفي في العام 1650، عاش في فترة مفصلية من تاريخ وطنه فرنسا (وأوروبا بشكل عام). في هذه الفترة كانت فرنسا تستعد لمغادرة المنظومة المعرفية وأخلاق القرون الوسطي، وبرجوازيتها الصاعدة تبحث عن أسواق جديدة خارج سوقها المحلي الفرنسي والأوروبي، في أفريقيا ومناطق أخري في العالم. فقد تجلت هذه الفترة عن ثورة ضد الكنيسة الكاثوليكية بقيادة المصلح الديني، مارتن لوثر، الذي يعتبر مؤسس المذهب البروتستانتي، مقدما بذلك خطوة جديدة جريئة وهامة للفكر الفلسفي أيضا. فقد اتسمت هذه الفترة بالشكوك- كما يري برنارد وليامز المتخصص في الفلسفة الديكارتية- الشك في مقدرة المنظومة المعرفية السائدة الإجابة عن المسائل والمشكلات العالقة، والشك بمقدرة العقيدة الكاثوليكية الوصول إلي الحقيقة (الدينية) (ويليامز؛ 1997: 96 ـ 97). في هذه الأحوال والأجواء اشتغل ديكارت في البحث والتفكير والتأليف. فقد تطرقت أبحاثه، ليس للفلسفة فقط، بل تعداها إلي الرياضيات والهندسة والفيزياء. إلا أن إبداعاته الأهم تبقي في إطار الفلسفة، حتي ليقال ان الفلسفة الحديثة بدأت مع ديكارت (ويليامز؛ 1997 : 95).
لقد بني ديكارت منهجا خاصا به مكونا من خمس مراحل، ويعتبر تأسيسا فاصلا بين منهجي الفلسفة في القرون الوسطي وبعدها. ويستند منهجه علي الأنا المفكر الـ Cogeto الموجود دون أدني شك، والشك واجب في كل الأمور التي هي خارج العقل المفكر، حتي في وجود غاللهف.
الأولي: الشك المنهجي
يعتبر ديكارت الشك القاعدة الأساسية في البحث عن الحقيقة: إذا أردنا أن نبحث عن الحقيقة، من الواجب أن نشك قدر الإمكان في كل شيء ـ ويوضح ذلك مضيفا: لأننا كنا صغارا قبل أن نبلغ، ولأننا أحسنا وأسأنا الحكم علي الأمور أحيانا وفق الأمور التي انكشفت لحواسنا (عندما لم نكن بعد قد استعملنا كامل حكمتنا)، تمنعنا الكثير من الأحكام، التي أطلقناها علي عجلة من أمرنا الوصول إلي معرفة الحقيقة: هذه الأحكام تحذرنا عادة … إذا لم نتخذ علي عاتقنا مرة واحدة في الحياة القرار بالشك بكل الأمور، التي فيها جزء بسيط جدا من عدم اليقين (ديكارت؛ 1979 : 29). ويضيف في مؤلفه الهام، مقالة في المنهج، قائلا: ولما فكرت خاصة فيما يمكن أن يجعل الشيء عرضة للشك ويحملنا علي الوقوع في الخطأ، نزعت من عقلي جميع الأخطاء التي أمكنها التسرب إليه قبل. وما كنت في ذلك مقلدا الريبيين الذين لا يشكون إلا للشك ويتظاهرون دائما بالتردد لأن غرضي كان كله علي عكس ذلك لا يرمي إلا إلي الظفر باليقين والي الإعراض عن الأرض المتحركة والرمل في سبيل العثور علي الصخر والصلصال (ديكارت؛ 1977: 34 ـ 35).
يميز وليامز ثلاث مراحل من الشك عند ديكارت؛ الأولي: أبعد عنه كافة الأمور التي العقل السليم لا يشك بها، وهي الحقائق الثابتة. الثانية: شكّ بصحة الأمور التي يراها في أحلامه وعندما يستيقظ يتضح أن ما رآه وهم، والثالثة وهي الأرقي في هذه المراحل: شك بوجود شيطان يحاول إغواءه باستمرار، والسؤال هو هل هناك ضمان من أن الشيطان سيتمكن من إغوائه؟ وبالطبع الجواب هو: النفي (ويليامز؛ 1997: 100 ـ 101).
إن ما يريد ديكارت قوله هنا الأمور الآتية:
1 ـ البحث عن الحقيقة يتطلب من المرء أن يضع جميع الأمور موضع الشك.
2 ـ قد تكون الأمور التي نشك بها غير صحيحة.
1 ـ وأن الشك موقف أخلاقي، يمنعنا من التسرع في أحكامنا من إطلاق الأحكام جزافا خاصة التي تتعلق بالآخرين.
4 ـ أن هناك قوي (خارجة عن إرادتنا) تعرقل وصولنا إلي الحقيقة.
الثانية: التحرر من القيود
إن الذي يعتبر الشك أساسا لقاعدة منهجية حتما سيرفض تقليد الذين سبقوه. لأن الشك والتقليد نقيضان. وهذا ما فعله صاحب منهج الشك في الفلسفة الحديثة، فيقول: عندما سمحت لي السن بالتحرر من ربقة معلمي، هجرت كل الهجر دراسة الأدب وعزمت أن لا أطلب من العلم إلا ما يمكن وجوده في نفسي أو في كتاب العالم الكبير (ديكارت؛ 1977 : 12). فالتحرر من القيود كان سبيله من أجل تمييز الحقيقة والكذب كي يري بوضوح الأعمال التي يتوجب ممارستها كي يخطو في حياته خطوات ثابتة، لأن أعمال الآخرين غير قادرة علي غرس الثقة والأمان في نفسه. وبهذا تحرر رويدا رويدا من كثير من الأخطاء التي من شأنها أن تظلل علي النور الطبيعي الذي فينا وتقلل من قيمة العقل (هناك: 13).
يمكن القول بان ما يريد ديكارت فعله هو، تنقية النفس والعقل من الرواسب التي لا يمكن الثقة بها، كي يبدأ التفكير في عمله دون التزامات لما هو سابق، وكي تكون الأحكام التي تصدر عن التفكير صادرة عنه هو.
الثالثة: القواعد المنهجية
في هذه الخطوة، يستمر ما بدأه في الخطوتين السابقتين، الشك والتحرر من التقليد. هذا معناه: أنه يرفض المنطق الذي اعتمده سابقوه كمنهج موصل للحقيقة، ويرفض (أيضا) منطقي الجبر والهندسة السائدين. لذا بذل جهده لبناء منهج جديد خال من هذه العيوب (ديكارت؛ 1979 : 22). من المعروف أن ديكارت هو صاحب نظرية في الرياضيات.
لقد دأب علي وضع عدد قليل من القواعد، لأن كثرة القواعد، مثل قوانين الدولة، من شأنها أن تهيئ سُبُل الرذيلة، فالدولة عندما تكون قوانينها قليلة، كون أفضل (هناك: 22). لذا وضع عددا قليلا من القواعد، أربع فقط:
الأولي: عدم القبول علي الإطلاق بأن أمرا ما حقيقي إلا بعدما يثبت ذلك بوضوح أنه كذلك. هذا معناه الامتناع عن التسرع في الحكم والآراء المسبقة، وأن لا يضع في أحكامه شيئا ما يتمثل لروحه في وضوح وتميّز لا يكون لديه معها أي موضع شك (هناك: 22 ـ 23).
الثانية: أن يقسم كل معضلة من المعضلات إلي وحدات صغيرة، كي يكون بإمكانه الإحاطة بكافة تفصيلاتها والتعاطي معها وحلها علي أحسن وجه (هناك: 23).
الثالثة: ترتيب الأمور والصعود بها من البسيط إلي الأكثر تركيبا، والتي يسبق بعضها بعضا (هناك: 23).
الرابعة: مراجعة كافة الأمور والتفصيلات، كي يتأكد أنه لم يغفل شيئا (هناك: 23). ويلخص هذه الخطوة بقوله: هي من الرسوخ بحيث لا تزعزعها فروض الريبيين مهما يكن فيها من شطط، حكمت بأنني أستطيع مطمئنا أن أتخذها مبدأ أول للفلسفة التي كنت أفتش عنها (هناك: 39).
الرابعة: تحديد الوسائل
لقد اعتبر ديكارت العقل المستقيم المفكر وسيلة لبلوغ الحقيقة. لذا نراه يقول بأن العقل هو أعدل الأشياء توزعا بين الناس. وأن الاختلافات في مواقف الناس نابعة من تسيير الناس لأفكارهم بطرق مختلفة (هناك: 3 ـ 4). وفي كتابه التـأملات يوضح لنا بأن التفكير يشمل الأحاسيس والحواس والألم بقوله: من أنا؟ أنا شيء مفكر. ما هو الشيء المفكر الذي يفكر؟ يقول: إنه شيء يشك، ويفهم، ويتصور، ويقرر، وينفي ويريد أو لا يريد ويتخيّل أيضا ويحسّ. ولا شك هذا ليس بالأمر القليل، وكل هذه الأمور تنتسب إلي طبيعتي.غ…ف الأمور التي أتخيلها ليست حقيقية، بالرغم من أن القوة المتخيلة تتوقف من أن تكون بصورة محسوسة، وهي جزء من التفكير الذي بي. وفي النهاية، أنا هو الذي يحسّ، أي الذي يعرف ويقبل الأمور كأنها بواسطة وسائل الحواس، فحقا أنا أري الضوء، وأسمع الضوضاء وأشعر بالحرارة (ديكارت؛ 1985: 50 ـ51). ويطالب بأن يكون استعمالها سليما، كي تجنب الباحث الوقوع بالخطأ (ديكارت؛ 1979: 100 ـ 101).
وإذا ما أردنا توضيح ما قصده ديكارت فإننا نقول: انه يعتبر الوسائل التي يستعملها في منهجه، هي العقل السليم المفكر الذي يشمل الحواس أيضا، وتشكل ـ هذه الحواس ـ إذا ما استعملها الفرد، ضمانة لتجنب الأخطاء.
الخامسة: التأمل
عاش ديكارت حياته متنقلا في جميع أرجاء أوروبا ممارسا عمله الأساسي، التفكير والكتابة، وحياة الجندية بالرغم أنه لم يشترك بأية معركة (أمين، 1969: 33 ـ 54).
لقد أجمع جميع الباحثون الذين بحثوا حياته وفلسفته علي انه كان يحب العزلة والتأمل لذا هاجر من فرنسا إلي هولندا التماسا للهدوء والراحة… وعاش فيها عشرين عاما ألّف فيها أهم مؤلفاته إلي أن توفي (أمين،1969 : 22 ـ 23). وعاش (أيضا) دون زواج، وأنجب ابنة دون زواج رسمي.
لقد اعتمد التأمل والعزلة أثناء التفكير والكتابة. فيقول: لا يمكن تخيّل متعة التأمل بكل الأمور، التي تتكشف أمامنا، للإشباع الروحي الذي تعطينا إياه معرفة كل الأشياء التي نجدها بواسطة الفلسفة (ديكارت؛ 1979 : 100). بكلمات أخري: التـأمل لدي ديكارت هو الخلوة التي يبتغيها الباحث وأي إنسان مفكر للتركيز، وهي لا تخلو من الصراع مع الشيطان ، الذي يدفعه دفعا ويحثه علي التفكير.
الأنا المفكر
لقد اعتمد ديكارت الشك مبدأ أساسيا في فلسفته. الشك بكل ما هو موجود، ومحيط وما قد ينكشف إلا الأنا المفكر . فالأنا المفكر موجود عنده دون شكّ ، فيقول: لكن من يدري لعل هناك شيئا مختلفا عن تلك الأشياء التي حسبتها غير يقينية، شيئا لا يمكن أبدا الشك فيه؟ ألا وهو إله أو قوة أخري تضع في عقلي هذه الأفكار؟ لكن ليس بضروري، فلربما كنت قادرا علي إنتاجها بنفسي. وأنا أنا علي الأقل، ألست شيئا؟ لكنني قد سبق لي وأنكرت أن لي حسّا أو جسما. بيد أني مع ذلك أتردد، إذ ما الذي ينجم عن هذا؟ هل أنا أعتمد علي جسمي وحواسي إلي درجة أنني لا يمكن أن أكون شيئا بدونهما؟ لكنني أقنعت نفسي بأنه لا يوجد شيء حقيقي في العالم، وأنه لا توجد سماء ولا أرض ولا عقول ولا أجسام. ألم أقتنع بأنني لست شيئا؟ هيهات، هيهات قد كنت شيئا من غير شك، ما دمت قد اقتنعت أو فكرت فقط في شيء ما. لكن لا يوجد خدّاع لا أدري من هو، خدّاع قوي جدا وماكر جدا يستخدم كل ما أوتي من حيلة ابتغاء خداعي دائما. لا شك إذن في أنني، موجود ما دام يخدعني. فليخدعني إذن ما طاب له خداعي، فإنه لن يستطيع أن يجعل أنني لست بشيء طالما له خداعي ، فإنه لن يستطيع أن يجعل أنني لست بشيء. وهكذا بعد أن فكرت في الأمر جيدا وفحصت بعناية عن كل الأمور، يجب عليّ، أن أستنتج وأتيقن أن هذه القضية: أنا كائن، أنا موجود وهي قضية صحيحة في كل مرة أنطق بها أو أتصورها في عقلي (ديكارت؛ 1985: 28 ـ 29). وفي النهاية قرر أن الأنا المفكر موجود فوق كل الأمور التي تحتمل الشك، حتي غاللهف عنده يمكن الشك بوجوده، بالرغم من انه أثبت وجوده في سياق آخر. فيقول: من المزايا العظيمة الفائقة التي كلما تأملت فيها بعناية أكثر اعتبرت نفسي أقل قدرة علي إنتاج هذه الفكرة بنفسي من نفسي وحدها. فلا بد إذن من أن أستنتج استنتاجا ضروريا أن الله موجود، لأنه علي الرغم من فكرة الجوهر موجودة في نفسي من نفسي فإن كوني جوهرا لا يجعلني متناهيا، لأني أنا كائن متناه، لو لم تكن هذه الفكرة (فكرة جوهر متناه) قد أودعها في نفسي جوهر لامتناه حقا (ديكارت؛ 1985 :63 -64).
إذن، فالشك بوجود الله عنده نابع من أمرين
الأول: من ذلك الشيطان الذي يدخل فيه الشك بكل شيء.
الثاني: لأن الأنا المفكر عنده متناه، إذن لا يمكن لهذا المتناهي إدراك ما هو غير متناه غاللهف، فعليه يجب الشكّ بوجوده دوما، كي يجدد وجوده دائما.
وإذا أتينا علي تلخيص استنتاج ديكارت فأننا نقول: لقد توصل إلي الحقيقة الثابتة أن الأنا المفكرة هي فوق كل شك، أنا أفكر، أنا موجود (ديكارت؛ 1979 : 39). و أنا أكون، أنا أوجد (ديكارت؛ 1985 : 42).
بكلمات أخري: لقد انطلق ديكارت في منهج الشك من وجود الأنا المفكر دون أدني شك، في نهج البحث عن الحقيقة بادئا ومركزا علي الشك، رافضا لمنطق الذين سبقوه، واضعا قواعد علمية صارمة، ومعتمدا العقل والحواس كي يبرهن أنه يثق بوجود الأنا المفكر دون أدني شك، أكثر من ثقته بوجود غاللهف، الذي برهن علي وجوده، لأنه يشك بوجود كل شيء وأن الله اللامتناهي، ليس بإمكان الأنا المتناهي إدراكه.
الخاتمة
لقد استعمل كل من أبي حامد الغزالي ورينيه وديكارت نفس الخطوات في بناء منهجي الشك لكل واحد منهما. إلا أن المنطلقات والجوهر لدي كل واحد منهما كانت مختلفة، بل متناقضة، منذ البداية، لذا جاءت نتائج كل منهما مختلفة للغاية.
انطلق الغزالي من إيمانه المطلق بوجود الله، فجاءت جميع خطواته نابعة من هذا الإيمان. فشك الغزالي كان بكل ما هو موجود من أجل الوصول إلي الحقيقة، ضرورة الشركة مع الله. التي هي لا اتحاد ولا حلول . إنها إيمان عميق يؤدي بالفرد أن يغرق في ذاتيته وينسحب من الحياة العامة، كما فعل هو. من المعروف عنه أنه لم يكتب كلمة واحدة ضد الغزو الصليبي، وهو الذي كتب 400 قرطاس . لذا أفضي صوفيا موازنا بين العقل، الذي يمكن وصفه بالعقل اللاهوتي، والحواس والقلب كمصادر للمعرفة، التي تقوده إلي هذا الحال. فالحقيقة اليقينية هي وجود وقدرة الله دون أدني شك، لذا البحث خارج هذا الإطار يعتبر كفرا أو بدَعا كما عرض ذلك في تهافت الفلاسفة . ويمكن القول ان الغزالي أصبح، ويريد من أتباعه أن يصبحوا مسيرين بامتياز، ولا حيّز يذكر للـ مخيّر . بكلمات أخري: التفكير العقلي الفلسفي ممنوع.
أما ديكارت فقد انطلق من إيمانه العميق بـ الأنا المفكر . لذا جاءت جميع خطواته، من الشك إلي الحقيقة، تأكيدا لهذا الأنا المفكر . فقد شك ديكارت بكل ما هو موجود خارج الأنا المفكر حتي غاللهف، لأن الأنا المفكر متناه ـ وغاللهف غير متناه، لذا لا يمكن لهذا المتناهي أن يدرك بصورة يقينية غالله اللامتناهف. آمن بوجود غاللهف ـ فقد برهن وجوده، إلا أن شيطان الشك يدعه ويحرضه ويعلمه الشك حتي بوجوده غاللهف. ولأن الأنا المتناهي ـ الأنا المفكر ـ غير قادر علي إدراك غاللامتناه ـ اللهف. أي أن منهج ديكارت فلسفي محض، والفلسفة هي علم طرح الأسئلة والإجابات غير يقينية.
بكلمات أخري: لقد خطا كل من الغزالي وديكارت نفس الخطوات، إلا أنهما وصلا إلي نتائج مختلفة؛ الغزالي إلي حقيقة وجود الله، كلّي القدرة، وغير المشكوك فيه، وعليه يجب السلوك والتفكير وفق المنطق الإيماني ـ الديني، اللاهوتي . وديكارت إلي حقيقة الأنا المفكر غير المشكوك فيه، وعليه وجب التفكير والسلوك بموجب منطق الفلسفة الذي يتعارض منطقه ودوافعه ونتائجه مع المنطق الإيماني ـ الديني، اللاهوتي .
….
المصدر: موقع القدس العربي