ملامح الفكر المقاصدي في الخطاب الصوفي/ د. ادريس بووانو

 

 

 

مقدمة:
انفرد خواص أهل السنة المراعون أنفاسهم مع الله، والحافظون قلوبهم عن طريق الغفلة باسم التصوف، واشتهر هذا الاسم لهؤلاء الأكابر قبل المائتين من الهجرة. ومن بعدهم ظهر رجال أفذاذ وأعلام كبار أطلق عليهم أهل التصوف تركوا لنا تراثاً ضخماً، عمل فيه الدارسون من قبل -وحتى اليوم- نظرهم، وفحصوا كثيراً من جوانبه. وقد عرف، تراث التصوف الإسلامي مسارات ومناحي عقب نشوئه وتطوره، فظهرت التآليف فيه والتصنيفات من لدن معاصرين له ومن لدن غيرهم. وعبر مسيرته الطويلة عرض التصوف الإسلامي عموماً هنات وسقطات، وخيمت في سمائه سحب ملبدة بالغيوم بسبب ما وقع به من انحرافات وانعطافات حادت به عن طريقه السليم، فوقع هو وأهله فريسة فهم مشوه وقراءات مبتسرة وتقليد سطحي، فساد اتباع أعمى لأعلامه، وران تشوه لكثير من مفاهيمه ومصطلحاته، فكان لذلك كله أثره البالغ على قصدية الفكر الصوفي وهدفه الذي شيد لأجله. وقامت جماعة من العلماء والفقهاء في شتى الأمصار والأقطار، ناقدة ومنتقدة، فكان منها المغالي، والمقتصد، والمبالغ، وكان منها العالم المتبصر، والجاهل المستكثر.
في ظل هذه العتمة المظلمة قيض الله لهذا الخطاب نفراً من أهل الحق تسلحوا برؤية أصيلة، وبفكر صوفي ثاقب رصين، جمعوا بين الفقه في الدين، ورسوخ قدم في فهم التصوف، وانخراط موفق موزون في التجربة الصوفية. وكان مقصدهم وغايتهم هو إزالة أستار العتمة المظلمة التي خيمت على هذا الخطاب، وتجلية السحب الملبدة التي أرخت بظلالها على طريق السالكين الأتقياء من أهل هذا االطريق وأصحابه، وتصحيح طريق دربه. ومن هؤلاء الأعلام الكبار، الشيخ أحمد زروق، فهو علم من أعلام طائفة المتصوفة، صاحب فكر صوفي متين وراسخ، كان له السبق في إيضاح عتمة درب التصوف أمام سالكيه.
شعر الشيخ أحمد زروق وهو الفقيه والمتصوف الذي جمع بين علمي الشريعة والطريقة أن ما علق بالتصوف من نعوت وشوائب، وأن ما ناله من نقد وهجوم إنما بسبب ما ألصق به، وما أضيف إليه من أمور خارجة عن دائرته، ولمس عن قرب -خلال مقامه وترحاله وزيارته لبعض المنتسبين للتصوف غير العالمين به، وما سمع عن بعضهم الآخر- أن ثمة انحرافاً وانصرافاً حادثاً في طريق التصوف، فأخذ على عاتقه مهمة التصحيح والتقويم لهذا الطريق مزيلاً جل ما علق به بفكر صوفي كسته رؤية مقاصدية واضحة المعالم والمسالك.
سعى الشيخ أحمد زروق سعياً حثيثاً نحو تصويب طريق التصوف، ولم يكن مسعاه هذا خلواً من بعض الصعوبات والعقبات، كما لم يكن بمنأى أن تصوب ضده وحوله سهام خصوم وأعداء رغبوا عن طريق التصحيح الذي حمل لواءه، فأذاعوا وأشاعوا ما شاءوا من الأقوال، لكنها ما نالت من صموده وعزيمته القوية في إنارة طريق السالكين.
فقد كان يدفع السيئة بالحسنة، ويرد على مخالفيه بأسلوب نقدي بناء مشبع بقدر كبير من الاحترام والتقدير، وهو بهذا كان يضع ليس فحسب لمريديه بل لكل سالك طريق التصوف معالم هذا الطريق واضحة جلية، منبها في الآن ذاته لكل ما علق علوقاً شديداً بهذا الطريق من شوائب وكادورات. وقد ساعده على هذا كله تسلحه بفكر مقاصدي تجلت ملامحه في كثير من مصنفاته وكتبه، وسنعمد بقدر الامكان على تبيان وبيان هذه الملامح خاصة في كتابيه: قواعد التصوف، وشرحه لحكم ابن عطاء الله السكندري.
أولاً: “لمحة عن عصر أحمد زروق”.
إذا سرنا متتبعين لأحول البيئة المغربية في النصف الثاني من القرن التاسع الهجري فاننا نجد الشيخ أحمد زروق من بين الشخصيات التي شهدت فترة انتقالية تميزت بالاضطراب الاجتماعي، ويتعلق الأمر بفترة اضمحلال دولة بني مرين واستتباب الامر للوطاسيين، فحينما تولى السلطان عبد الحق بن أبي سعيد -آخر ملوك بني مرين- الحكم بدأت الصراعات على أشدها، وتدهورت الاوضاع الداخلية والخارجية، وعقب ذلك بدأ النفوذ الوطاسي يتعاظم مشكلاً في البداية مظهر الوصاية على العرش ليتحول فيما بعد إلى نفوذ مباشر.
وهكذا شملت الفترة الانتقالية تولي ثلاثة وزراء وطاسيين مناصب داخل الدولة المرينية، وهم أبو زكرياء المقتول عام 852ﻫ وعلي بن يوسف المتوفى سنة 863ﻫ، ويحيى بن زكرياالذي انهارت في عهده معالم الدولة المرينية. وأمام هذا النفوذ المتزايد سيسعى السلطان عبد الحق إلى استئصال شأفة الوطاسيين من خلال مطاردتهم في أرجاء مملكته، إلا أن استعانته بغيرهم وبخاصة باليهود في ادارة شؤون حكومته قد جلب عليه غضب أهل فاس بزعامة خطيب القرويين عبد العزيز الوريغلي، حيث خلعوا عنهم طاعة المرينييين، ونصبوا أبا عبد الله الحفيد نقيب الشرفاء الأدارسة سلطانا عليهم، وفتكوا بيهود فاس.
وبينما كان عائداً إلى فاس بعد أن بلغه خبر الثورة، اعتقل هو ووزيره هارون، فما كان من معتقليه إلا أن قتلوه في شهر رمضان سنة 869ﻫ.
بدأت بعد هذا الحادث “مظاهر الازمة تشتد بين بني وطاس وبني مرين ثم السعديين فيما بعد، وزحف الصليب على ثغور الأندلس وسواحل المغرب في حركة استعمارية استغلت حالة الاقتتال والفتنة الداخلية. وكان المغرب خلال هذه الفترة -نظراً لموقعه الهام- محط طمع الحركة الاستعمارية خاصة سواحل البحر الأبيض المتوسط.
يذكر كثير من المؤرخين أن بني مرين لم يصلوا إلى حكم الدولة المغربية على أكتاف الفكرة الدينية كما حصل مع الشرفاء الأدارسة والموحدين. والموحدون، بقدر ما اعتمدوا على النـزعة القبلية التي غذوها بقوة عددهم وشدة عدتهم. واستغلوا وضعية المغرب التي اهتزت أيما اهتزاز بعد هزيمة الموحدين في معركة العقاب المشهورة، وكذا انتشار وباء الطاعون الفتاك الذي أزهق أرواح العديد من المغاربة خلال تلك الفترة وعلى رأسهم جند الدولة الموحدية.
لم يكن في وسع بنو مرين ابان هذه الظروف إلا أن أطلقوا العنان والحرية للناس للتعبير واعتناق ما رغبوا في اعتناقه من المذاهب والأفكار. وكانت الفرصة مناسبة لعودة المذهب المالكي حيث استعاد عافيته كما كانت على عهد المرابطين.
وقد ساهم الوضع الجديد في (عودة الفقهاء إلى بحث الفروع ووضع المطولات والمختصرات على نطاق واسع، كرد فعل اتجاه الكبت المذهبي الذي لقوه من سياسة حكام الدولة الموحدية).
“عرفت الحياة العلمية خلال الفترة المرينية نشاطاً دؤوباً”
حيث ألفت كثير من كتب النحو، وكتبت المختصرات والشروح، كما قام أناس خلال هذه الفترة برحلات ما يزال متنها مفخر تراثنا العربي القديم، ومحط اهتمام الدارسين والباحثين. كما وسع الفقهاء أفقهم الفكري، وساد النقد وعم مجالس العلم، وانتشرت المدارس وكثرت الخزانات العلمية الموقوفة على الجوامع والمدارس ولا سيما خزانة القرويين، وضمنت الدولة معاش الأساتذة وهيأت الايواء للطلاب، كل ذلك جعل دولة بنو مرين تحمل لقب دولة العلم والحضارة والعمران.
لا محال أن هناك عوامل ساهمت في كل ما ذكر عن ازدياد نشاط الحياة العلمية ابان حكم بني مرين وما عرفته من رقي وتوسع كبيرين، ومن أهم تلك العوامل أن بعض سلاطين وأمراء بني مرين خلال تلك الفترة كانوا على قدر من الفكر والثقافة، حيث كانو يعقدون المجالس العلمية ويحضرونها، كما كانوا يساهمون بآرائهم فيما كان يدور فيها من المذاكرة والمناقشة والمناظرة. وقد عرف عن أولائك السلاطين تقديرهم لرجال الفكر ورفعهم لمكانتهم، فهذا أبو يوسف -كما يذكر علامة المغرب سيدي محمد المنوني يرحمه الله- “عاهل الدولة، كان من عادته بعد صلاة الصبح أن تقرأ بين يديه -إلى وقت الضحى- كتب السير والقصص وفتوح الشام، فيستمع إليها، ويناقش الحاضرين في مشكلاتها. وفي ليالي رمضان يسمر مع العلماء ليذاكرهم في فنون العلم إلى ثلث الليل الأخير…”
وجاء عن “ابنه أبي مالك عبد الواحد أنه كان محباً للأدب والتاريخ ذاكراً للكثير من ذلك، مقرباً للعلماء والفقهاء، عارفاً بأنساب بني مرين وسائر قبائل زناتة، ذاكراً لأيامهم وحروبهم، يجالس أهل العلم والفقه والأدب ويناظرهم.”
ولم يتدخل بنو مرين في توجيه الفكر المغربي توجيهاً معاكساً، وانما تركوا لمن يهمهم الأمر حرية الاختيار، وكان لهذا الموقف أثره في نهضة الفقه المالكي خلال هذه الفترة.
كما حرصوا على تمتين الوحدة الإسلامية مع الشرق العربي، حيث تضاعف الاتصال عن طريق السفارات وبواسطة ركاب الحجاج…”
ثمة عامل آخر لا تخفى أهميته وهو العامل الأندلسي. فقد جاء استباب الأمر للمرينيين قريباً من سقوط القواعد الأندلسة، فانتقلت مجموعات كبيرة من أعلامها وعلمائها إلى بلاد المغرب الأقصى، وساهمت بدورها في تنشيط الحياة الثقافية والعلمية في حواضر المغرب الكبرى كفاس ومكناس ومراكش.
في كنف هذه البيئة العلمية طفح العصر بعلماء أفذاذ أحصى كثيراً منهم سيدي عبد الله كنون رحمة الله عليه في كتابه النبوغ، ومن الأسماء التي ذكر: العلامة بن عبد الحق الزرويلي الشهير بأبي الحسن الصغير ق سنة 719ﻫ، والعلامة أحمد بن محمد بن عثمان المعروف بابن البناء المراكشي المتوفى سنة 721ﻫ، والولي العالم أبي العباس أحمد بن عمر بن عاشر، والشيخ القوري وشيخنا أحمد زروق رحمةالله عليهم جميعاً.
وقد اكتست الحياة الدينية في عهد بني مرين مظاهر جديدة بسبب اتساع نشاط الحركة الصوفية من جهة ودخول العناصر اليهودية في الميدان السياسي، إلى جانب الاحتكاك بالمسيحيين المتوافدين على المغرب في صورة غزاه أو تجار من جهة أخرى. وقد لوحظ أن الحركة الصوفية قد اتسع نطاقها خصوصاً على جهة الشمال حيث كان لزعمائها دور في التوجيه الروحي لسكان هذه الناحية التي تسلط عليها التدخل الأجنبي، فأقبل الشعب المغربي في آخر هذا العصر على تربية روحية نظراً لما حل به من أزمات وعواصف هزت كيانه وألحقت به ضرراً كبيراً. وكان أهل التصوف في مستوى الأحداث حيث انبثوا بكل قواهم وإمكاناتهم في محيط المجتمع محاولين التخفيف عنه من الشدة التي حلت به، مطمئنينه بالرضا بما أنزل الله، وبالرجوع والإنابة إليه.
لم تكتس الحركة الصوفية في عهد بني مرين صيغة التمرد المسلح على الدولة أو التكتل أوتحريض المجتمع ضدها، بل كانت في الواقع ثورة سلمية مبطنة على الوضع الديني والاجتماعي والسياسي الذي صار إليه الشعب والدولة و”ظلت هذه الثورة مكبوتة لتنطلق في صراع مسلح ضد التدخل الأجنبي منذ أيام الدولة ثم تشتد ابتداء من عهد الوطاسيين.”
أما بالنسبة لرجالاتها فيمكن تقسيمهم إلى قسمين رئيسين:
– القسم الأول: انقطع لعبادة الله، وتجرد عن الخوض في شؤون الدنيا، ومن أفراده رجال زهدوا لمجرد الزهد ولم يؤسسوا طريقة معينة وأشهرهم الإمام ابن عاشر والباقي منهم تزعم حركة صوفية وكون لنفسه طريقة كالإمام الجزولي.
– أما القسم الثاني فهو الذي كون نواة لحركة الجهاد ضد النصارى التي سيتسع مداها في عهد الوطاسيين وقد جمع الإمام الجزولي بين مزايا الفريقين إذ أسس أشهر مدرسة صوفية بالمغرب، و قاد حركة الجهاد ضد النصارى في الشمال.
لم يكن ثمة دور للزوايا في عهد المرينيين بوجه عام مثل ما كان عليه الأمر في عهد الوطاسيين. فقد كان قصد أبي يوسف -كما تذكر كتب التاريخ- من بنائها هو أن يجعلها بمثابة دور لاستقبال الغرباء والوافدين من الخارج من كبار رجال الدولة وأعيانها. وهو غرض أبعد ما يكون عن الهدف أو الغرض الصوفي الذي اتجهت إليه فيما بعد. والظاهر أنها مالت لهذا الاتجاه بعدما أصبحت قبلة لرجال التصوف الذين كانوا ينقطعون فيها للعبادة، ثم تطورت لتصبح قبلة لأتباع ومريدي رجال التصوف.
وإلى جانب هذه الزوايا كان ما يسمى بالربط، وكانت عبارة عن محتشدات للجهاد ونشر الإسلام بين ربوع المغرب؛ بيد أنها ضعف شأنها أيام المرينيين، وبدأت تترك مكانها للزوايا التي انقطع أغلبها للجهاد الروحي.
وعموماً إذا أردنا أن نقوم بعملية التحقيب للطرق الصوفية في المغرب فإننا نجدها ترجع إلى أصول محلية، فقد كانت جميعها تنبع مما خط لها أول مؤسس لطريقة صوفية وهو الإمام الشاذلي الذي استقى بدوره أصول طريقته عن الإمام عبد السلام بن مشيش كما يذكر الدكتور إبراهيم حركات.
ثانياً: أحمد زروق: حياته ومؤلفاته ومنهجه
هو أبو الفضل شهاب الدين أبو العباس أحمد بن محمد بن عيسى البرنسي الفاسي المعروف بزروق. ولد سنة 846ﻫ/1442م.
اشتهر أحمد زروق بلقب زروق من جده ذي العينين الزرقاويين كما تحكي بعض المصادر. وحين ولد سماه أبوه محمد إلا أنه سرعان ما عرف باسم أبيه أحمد حين توفي الأب. كما توفيت أمه بعد ولادته بثلاثة أيام وهكذا سيكبر الطفل يتيم الوالدين، لكن جدته الفقيهة أم البنين سوف ترعاه وتعوضه حنان ورعاية والديه.
وكان بيت الجدة محيطاً صالحاً أتاح للطفل الإلمام بالمبادئ الأولية للعلوم الإسلامية المتداولة إذ “كانت الجدة فقيهة ومتضلعة في العلوم الشرعية.” قضى زروق في كنفها عشر سنوات، حفظ خلالها القرآن الكريم، وتعرف على المصنفات التمهيدية التي لا غنى للمبتدئ عنها، وبعد ذلك انقطع للصناعة فتعلم الخرازة واشتغل بها إلى أن بلغ سن السادسة عشر حيث عاد بعد ذلك إلى طلب العلم.
شب أحمد زروق وترعرع في مدينة فاس حيث كانت موئل العلماء خاصة في العصر المريني وبفضل هذا صار أحمد زروق يتردد على شيوخ العلم والتصوف، ويحضر كثيراً من مجالس هؤلاء وأولئك، ويعمل عقله كثيراً فيما يسمعه. وتجمع المصادر أنه كان يتمتع بذاكرة قوية ساعدته على استيعاب كثير مما كان يتلقاه من المعارف. وكان دائم التفكير والتأمل؛ الأمر الذي هيأ له أن يسمو إلى درجة العلماء الجهابذة الذين طفح بهم العصر المريني، والذين كان يتشوف إلى بلوغ درجتهم ومكانتهم.
سافر أحمد زروق إلى الديار المشرقية، وأبت عليه طبيعته العلمية أن يمر بكل مراحل رحلته مروراً عادياً إذ لا بد أن تكون له اتصالات مع المراكز العلمية سواء بالجزائر وتونس، ويؤيد هذا تلقيه دروساً على علماء بتونس ومنهم عبد الرحمن المجدولي، وعلماء بالجزائر ومنهم أحمد بن محمد بن زكري وعن آخرين بليبيا.
وكان في رحلته إلى المشرق متسلحاً بعين ترصد ما عليه المنتسبون إلى التصوف من انحراف مبعثه تنصيب شيوخ جاهلين بتعاليم الإسلام على رأس مجموعة من الطرق تأوي إليها حشود من المريدين يرون في شيخهم القدوة المثلى والأسوة العليا التي يستمدون منها سلوكهم.
وبعد سفر طويل يصل أحمد زروق إلى القاهرة ليتصل بعلمائها ومتصوفيها، ويقع اختياره على شيخه الحضرمي الذي أعجب به فقربه إليه، كما أضحى مستشاراً له في كل كبيرة وصغيرة من أموره “ثم أسلكه في طريقته، وصار أحد أتباعه المخلصين.” وبمصر سيأخذ عن شيوخ آخرين قبل أن يكمل رحلته إلى الحجاز فيحج بمكة ثم يعرج على المدينة فيجاور بها. وبعد هذه الرحلة إلى المشرق التي لم تتجاوز السنتين -كما تذكر التراجم- عاد أحمد زروق إلى المغرب، وفي طريق عودته سيقيم ببجاية ليغادرها متوجها إلى مسقط رأسه مدينة فاس التي غاب عنها حوالي سبع سنين.
وقد سبقت عودته الجسدية سمعته العلمية التي اكتسبها من رحلته هذه وتلقيه العلم والتصوف على شيوخ المشرق، وسرعان ما انغمر أحمد زروق في الحياة الصوفية والعلمية بمدينته فاس، حيث حرص أن يعيش بها حياة هادئة دون أن يمنعه ذلك من الإنكار على قومه ما هم عليه من السلوكات التي كان فيها خروج عن تعاليم الإسلام الحنيف. وقد لقي جراء ذلك مقاطعة اجتماعية تعرض لها من لدن أبناء بلده ومدينته، إذ تنكرت له وأنكرته “فانسحب من المجتمع -كما يذكر علي فهمي خشيم- بعد أن قوبل بما قوبل به وما واجهه من صعوبة وسوء فهم.” وعقب ذلك فكر في القيام برحلة أخرى، وتذكر كثير من المصادر أن تفكيره وهمه للقيام بهذه الرحلة جاء نتيجة المقاطعة الاجتماعية السالفة الذكر.
مهما تعددت أسباب مغادرة أحمد زروق لبلدته متوجها إلى مصر في رحلة ثانية، ومهما اختلفت التأويلات والتفسيرات لهذا الخروج المستعجل إلا أن كثيراً من المصادر تجمع على أن مقام أحمد زروق بين أظهر كثير من علماء فاس ومتصوفيها كان غير مرغوب فيه، نظراً لما أظهره من منافسة لهم، ونظراً للرؤية الإصلاحية الجديدة التي حملها وهي الرؤية التي خالفت مخالفة صريحة ما درج عليه منافسوه.
من جانب آخر يمكن القول بأن الرحلة الثانية لأحمد زروق للديار المشرقية ولمصر بصفة خاصة قد اختلفت اختلافاً كلياً عن الرحلة الأولى، إذ هذه المرة علم بقدومه علماء مصر فخصوه باستقبال كبير، وأفسحوا له مجالس التدريس بالأزهر الشريف التي كان يحضرها ما يقارب ستة آلاف شخص، كما أسندوا له فتوى وإمامة المالكية بالمشرق. وعلى العموم فقد كانت لزروق صولة عند أمراء المصريين وقبول عند الخاص والعام من أهل هذه الديار عكس ما كان له في ديار فاس.
طبعاً لم تكن هذه الرحلة هي الأخيرة في رحلات أحمد زروق بل استتبعتها رحلاته إلى الحج ومناطق أخرى قبل أن يستقر به المقام بضواحي طرابلس الليبية ويختار منطقة مصراتة مقراً له، باعتبارها كانت تشكل أقرب نقطة من المسجد الذي كان يلقي فيه دروسه على مريديه وأتباعه. ولم يغادرها سوى مرتين: الأولى إلى الجزائر وربما ليرعى بعض شؤونه وشؤون أسرته، والثانية لتأدية فريضة الحج للمرة الثالثة.
وفي اليوم الثامن عشر من شهر صفر سنة 899ﻫ لقي ربه في خلوته وعمره أربع وخمسون عاماً، تاركاً وراءه تراثاً ضخماً ما يزال شاهداً على عظمة هذا الرجل وعلو كعبه، وسعة فكره.
وقبل أن نعرج على هذا التراث لا بأس أن نطل إطلالة قصيرة على الشيوخ الذين تتلمذ على أيديهم أحمد زروق سواء بالمغرب أو بالمشرق.
وقد جاء أحمد زروق في عصر ازدهار الحياة العلمية والفكرية بالمغرب الأقصى، ووجد بمدينة هي من أعرق مدن المغرب في الجانب العلمي إذ بها كانت تقع أكبر جامعة من جوامع عالمنا الإسلامي، وهي جامعة القرويين، واستناداً لهذه الظروف والحيثيات أتيحت لأحمد زروق ولأمثاله أن يتتلمذوا على علماء وفقهاء، ويأخذوا الدروس والعبر على متصوفة كانت لهم الوجاهة والمكانة في تلك الفترة، وحازوا درجة سامقة وعالية في العلم والمعرفة.
كثر شيوخ أحمد زروق بالدرجة التي صعب معها ضبطهم واحصاؤهم جميعاً، ومهما يكن فإننا سنركز على أبرزهم سواء بالمغرب أو بالمشرق.
فأما بالمغرب فأولهم نجد جدته الفقيهة أم البنين التي تعلم منها مبادئ العلوم وقواعد السلوك نظرياً وعلمياً. وفي مرحلة التعليم الأولي سيستمر أحمد زروق في أخذ العلم على فقهاء أسرته وفيهم نجد خاله أحمد بن محمد القشتالي. وبعد انقطاعه عن حرفة الخرازة وعودته للتحصيل العلمي سيقصد مشاهير علماء فاس فأخذ عن العلامة السطي وعبد الله الفخار الفقه من خلال كتابه “الرسالة لابن أبي زيد القيرواني التونسي”، ثم اتصل بالقوري ثم بالزرهوني وبالمجاصي، وعن هؤلاء الثلاثة أخذ أحمد زروق القرآن الكريم وعلومه بقراءة نافع. وعن شيخه القوري بصفة خاصة أخذ علوماً كثيرة وعلى رأسها علم التصوف من خلال كتاب”التنوير في إسقاط التدبير” لابن عطاء الله السكندري، كما أخذ عنه التوحيد والحديث من كتابي صحيح البخاري وجامع الترمذي، ويعتبر القوري بالنسبة لأحمد زروق -كما يذكر الأستاذ عبد الله نجمي” أقرب أساتذته ومشايخه إلى نفسه، وأبعدهم أثراً في روحه وفكره، واتصاله به علامة على حسن طالعه، وقد قدر القوري مواهبه العالية، فتولاه بالحدب والرعاية، وقربه إليه، وفتح باب بيته في وجهه، واتخذه زروق المثال الذي ظل يدعو إليه، فهو الجامع بين العلم والعمل، وبين الفقه والتصوف. ولا شك أن القوري هو الذي وجه ثقافة زروق الصوفية، وأوصل حبله بالتقاليد الفكرية الأصيلة في تاريخ التصوف المغربي…” ومن شيوخه الشيخ ابن عباد الذي مثل “القدوة التي تأسى بها زروق في سيرته، وهرع على سننه في حركته الإصلاحية، ولا بدع في ذلك فهو أشهر صلحاء المغرب خلال القرن 8/14، وهو تخرج مثله من مدارس فاس المرينية، وتحول من الفقه إلى التصوف، وآمن بالوحدة بين الشريعة والحقيقة، وهو أول شراح حكم ابن عطاء الله السكندري.
ومن شيوخه أيضاً الشيخ عبد الرحمن المجدولي الذي درس عليه أمهات مصادر التصوف كالرسالة القدسية وعقائد الطوسي. وأخذ أيضاً عن شيوخ آخرين منهم ابن زكري أحمد بن محمد المغراوي والإمام السنوسي وغيرهم.
أما بالمشرق فقد أخذ أحمد زروق عن العلامة السنهوري والحافظ السخاوي والعلامة الدميري واللغوي الضليع الجوهري واحمد بن عقبة الحضرمي وهو من أبرز الذين تأثر بهم أحمد زروق، أخذ عنه كثيراً علم التصوف، وقد وافق هذا الميل هوى في نفس زروق وشغف بأستاذه شغفاً كبيراً وارتبط به، وردد اسمه في أقواله ومحاضراته وكنانيشه. ونجد من شيوخه أيضاً شهاب الدين الأفشيطي والحافظ الديلمي وغيرهم كثير ممن كان لهم تأثير مباشر أو غير مباشر عليه.
يذكر المترجمون لأحمد زروق قائمة طويلة لمجموع تآليفه وكتبه منها:
– رسالته في الرد على أهل البدع، والنصح الأنفع والجنة للمعتصم من البدع بالسنة، وعدة المريد الصادق من أسباب المقت في بيان طريق القصد وذكر حوادث الوقت، والحوادث والبدع، وقواعد التصوف، وشرح حكم ابن عطاء الله.
والمتأمل لكتب أحمد زروق هذه يدرك جلياً المكانة العلمية التي تبوأها الرجل بين أقرانه، كما يدرك من جانب آخر حجم الثروة المعرفية التي جمعها من شيوخه الكثر مكنته من تكوين رصيده العلمي الخاص به والذي ساهم به في تأليف قائمة التآليف التي تجاوزت المائة تأليف، تراوحت ما ببن كتب السيرة وكتب العقيدة والتوحيد ومؤلفات في التصوف وشروح على كتب، ومؤلفات فقهية ورسائل، إضافة إلى قصائد ومقطعات.
ويبقى من أعظم تصانيفه كتابه “قواعد التصوف” الذي اعتبرمن لدن كثير من الباحثين والدارسين للتصوف المغربي حدثاً ثقافياً كبيراً خلال فترة 882ﻫ/1478م. وقد سمي كتابه القواعد هذا بتسميات كثيرة، وهو: يعد بحق شهادة ميلاد الحركة الاصلاحية الزروقية، وأحد آثار المحتسب الجليلة، بل أفضل تصانيفه الصوفية على الإطلاق. وهو تأليف نفيس ضمنه زروق عصارة ثقافته الغنية، وزبدة تجربته الروحية، وخلاصة آرائه الاصلاحية، وبسط فيه برنامج مدرسة صوفية.” تجاوز تأثيرها العصر الذي ظهرت فيه إلى غيره من العصور التي أعقبته.
يكاد المتفحص لهذا المصنف -الذي سيشكل محور دراستنا إلى جانب كتابه شرح حكم ابن عطاء الله، شرحه السابع عشر- وغيرهما من التصانيف أن يلحظ بما لا يدع مجالاً للشك أن صاحبها كان موسوعة علمية فريدة جمعت عدة علوم ومعارف، كما كان له منهج واضح في كل مجال. وقد غلبت عليه سمتان:
فأما السمة الأولى فهي سمة التبسيط، تبسيط التعاليم التي كان يتجه بها نحو أتباعه مستقاة ومنتقاة من الشريعة الإسلامية.
وأما السمة الثانية فهي سمة التيسير، تيسير مفهومات التصوف على وجه التعميم. ورغم هاتين السمتين اللتين طبعتا منهجه في الكتابة فقد كانت مؤلفاته إلى حد ما بعيدة عن العامة. “وكان مع علمه الغزير وفهمه الواعي لروح التصوف ورسالته الحقيقية، يجعلان من مؤلفاته شيئاً بعيداً لا يمكن للعامة أن تدركه رغم محاولته تبسيط تعاليمه هو، وتيسير مفهومات التصوف. ولم يكن لطريقة متنورة كالزروقية -في تلك الأيام المعتمة من تاريخ الحضارة الإسلامية- أن تستمر بنقائها وصفاء جوهرها، وهي ربما كانت طريقة الخاصة من الناس، أما عامتهم فلهم طرق أخرى تتفق مع ميولهم وأهوائهم ومستوى إدراكهم العقلي والروحي على حد سواء.”
ثالثاً: حول الطريقة الزروقية: الأسس النظرية للطريقة الزروقية
إذا أردنا أن نستكمل صورة عن الطريقة الزروقية، ونحدد الإطار الذي وجدت فيه فلا بد أن نلقي نظرة على مبادئها، وقد لخصها الشيخ السنوسي صاحب كتاب “المنهل الروي الرائق” وذكرها في نص طويل جاء فيه: (أصول طريقتنا خمسة أشياء: تقوى الله في السر والعلانية، واتباع السنة في الأقوال والأفعال، والإعراض عن الخلق في الإقبال والادبار، والرضا عن الله في القليل والكثير، والرجوع إليه في السراء والضراء). ولا يكتفي بهذه الجمل العامة بل عمد زروق لتفصيل ذلك قائلاً: وتحقيق السنة بالتحفظ وحسن الخلق، وتحقيق الإعراض عن الخلق بالصبر والتوكل، وتحقيق الرضا عن الله بالقناعة والتفويض، وتحقيق الرجوع إلى الله بالحمد والشكر واللجوء إليه في السراء والضراء.
ويذكر زروق أن أصول ذلك كله خمسة وهي: الهمة، وحفظ الحرمة، وحسن الخدمة، ونفوذ العزمة، وتعظيم النعمة، فمن علت همته ارتفعت مرتبته، ومن حفظ حرمة الله حفظ الله حرمته، ومن حسنت خدمته وجبت كرامته، ومن نفذت عزمته دامت هدايته، ومن عظمت النعمة في عينه شكرها، ومن شكرها استوجب المزيد من النعم.
وفي جانب المعاملة ذكر أن أصولها خمسة: طلب العلم للقيام بالأمر، وصحبة المشايخ الذين أقامهم الحق والإخوان للتبرك، وترك الرخص والتأويلات للتحفظ، وضبط الأوقات بالأوراد للحضور، واتهام النفس في كل شيء للخروج من الهوى والسلامة من العطب والغلط.
ويفصل أحمد زروق في آفات الأصل الأول للمعاملة وهو طلب العلم والمحبة قائلاً: “فطلب العلم آفته صحبة الأحداث سناً وعقلاً أو ديناً مما لا يرجع لأصل ولا قاعدة، ومن آفات المحبة الاغترار والفضول، وآفة ترك الرخص والتأويلات الشفقة على النفس، وآفة ضبط الأوقات اتساع النظر في العمل بالفضائل، وآفة اتهام النفس الأنس بحسن أحوالها واستقامتها.”
“… والنفس في حاجة إلى ما تتداوى به وأصول ذلك خمسة أشياء وهي: تخفيف المعدة بقلة الطعام، واللجأ إلى الله مما يعرض عنه عروضه، والفرار مما يخشى وقوع الأمر المتوقع منه، ودوام الاستغفار مع الصلاة على النبيبخلوة وانجماع، وصحبة من يدل على الله أو على أمر الله- وهو معدوم. وكثير من فقراء عصر أحمد زروق قد ابتلوا بخمسة أشياء ذكرها قائلاً: وقد رأيت فقراء هذا الوقت قد ابتلوا بخمسة أشياء: إيثار الجهل على العلم، والاغترار بكل ناعق، والتهاون في الأمور، والتعزز بالطريق، واستعجال الفتح دون شرطه. فابتلوا بخمسة أشياء وهي: إيثار البدعة على السنة، واتباع أهل الباطل دون أهل الحق، والعمل بالهوى في كل أمر أو جل الأمور، وطلب الترهات دون الحقائق وظهور الدعوى دون صدق. فظفروا لذلك بخمسة أشياء: الوسوسة في العبادات، والاسترسال مع العادات والاجتماع في عموم الأوقات واستمالة الوجوه بحسب الإمكان والاغترار في ذلك بوقائع القوم وذكر أحوالهم. ولو تحققوا لعرفوا أن الأسباب رخصة الضعفاء فلا يسترسل معها، وأن السماع رخصة العلوي أو الكامل، وأن الوسوسة بدعة أصلها جهل بالسنة وخبال في العقل، وأن التوبة إدبار من الخلق إقبال على الحق، وأن صحبة الأحداث ظلمة وعار في الدنيا والآخرة، وقبول رفاقهم أعظم وأعظم.
وقد قال سيدي أبو مدين: الحدث من لم يوافقك على طريقك وإن كان ابن سبعين سنة. وهو الذي لا يثبت على حال ويقبل كل ما يلقى إليه فيولغ فيه- وأكثر ما تجد هذا في أبناء الطريق، وهم الطوائف وطلبة المجالس، فاحذرهم بغاية جهدك.
وكل ما ادعى حالاً مع الله ثم ظهرت منه إحدى خمس فهو كذاب أو مسلوب: ارسال الجوارح في معصية الله، والتصنع بطاعة الله، والطمع في خلق الله، والوقيعة في أهل الله، وعدم احترام مسلم.
وشروط الشيخ الذي يلقي إليه المريد نفسه علم صحيح، وذوق صريح، وهمة عالية، وحالة مرضية، وبصيرة نافذة.
ومن كانت به خمس لا تصح مشيخته: الجهل بالدين، وإسقاط حرمة المسلمين، والتدخل فيما لا يعني، واتباع الهوى في كل شيء، وسوء الخلق من غير مبالاة.
وأدب المريد مع الشيخ والإخوان خمسة: اتباع الأمر وإن ظهر خلافه، واجتناب النهي، وحفظ حرمته حاضراً وغائباً حياً وميتاً، والقيام بحقوقه بحسب الإمكان بلا تقصير، وعزل عقله وعلمه ورئاسته إذ قلماً ينجح فاعل ذلك.
ويستعين على ذلك بالإنصاف والنصيحة -وهي معاملة الإخوان- وإن لم يجد شيخاً مرشداً، وإن وجده ناقصاً عن شروطه الخمسة اعتمد فيها على محمل فيه وعومل بالأخوة في الباقي…”
هذه هي الأصول التي أسس عليها أحمد زروق طريقته، وهي التي كانت تلزم كل مريد وسالك لطريق التصوف، أسس في غاية الدقة والوضوح والبيان شكلت خطوات أولية في طريق الالتحاق بالطريقة، واستيعابها لازم لكل مريد قبل قبول عضويته في الطريقة.
ويمكن تقسيم مواضيع الفكر الصوفي لدى أحمد زروق إلى أصناف ثلاثة:
الصنف الأول: يتعلق بأفكاره حول دقائق التصوف وعمومياته.
الصنف الثاني: ويتعلق بنقده الصوفي والاجتماعي.
الصنف الثالث: ويتعلق بأفكاره الصوفية الفقهية.
وبقدر من الإيجاز سنحاول أن نشير لأهم ما تطرق له أحمد زروق في كل صنف من أصناف فكره.
تناول أحمد زروق جوانب عديدة في هذا الصنف الأول من فكره نذكر منها: حديثه عن تصنيف شيوخ التصوف إلى شيخ تعليم تؤخذ عنه المعرفة بطريق الكتاب، وشيخ تربية يقتدى به في الصحبة، وشيخ ترقية يكتفى عنه اللقاء والتبرك. لكن الترقية لا بد فيها من شيخ. والتربية والتقويم لابد فيهما من شيخ لمن ليس لبيباً أو لمن هو بليد. وللمحاسبي كلام نفيس في هذا الباب علق عليه بكلام بليغ محقق كتابه “رسالة المسترشدين” يمكن الرجوع إليها لمزيد من الإيضاح والتفصيل.
وأشار أحمد زروق في هذا الصنف من فكره إلى أن التصوف لا يختص بفقر ولا غنى، إذا كان صاحبه يريد به وجه الله. واستدل على ذلك بأهل الصفة الذين كانوا فقراء، ثم أصبح بينهم الغني والأمير والمتسبب، لأنهم صبروا عند فقد النعمة وشكروا عند وجدها. واللهيقول:وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ لَئِن شَكَرْتُمْ لأَزِيدَنَّكُمْ(إبراهيم: 7)، وقوله:وَلَئِن صَبَرْتُمْ لَهُوَ خَيْرٌ لِّلصَّابِرينَ(النحل: 126) وفي هذا الباب يحبذ أحمد زروق التوسط في العبادة لأن ذلك أرفق بالنفس وأبقى وأدوم. وأن كل تشدد في العبادة أو تراخ عنها منهي عنه، وهذا يسير مع المنهج القرآني الاعتدالي الوسطي الذي أمر به ودعا إليه رسوله الكريم في ثنايا كثير من الأحاديث.
ويفسر أحمد زروق الرياضة -في التصوف- بأنها تمرين لإثبات حسن الأخلاق ودفع سيئها. وللتعرف على أصولها وممارستها اقترح الرجوع إلى مؤلفات رجال ذكر أسماءهم.
ولم يغفل أحمد زروق في هذا الصنف من فكره شطراً هاماً وهو شطر الأخلاق والآداب، التي يتعين على الفقير والمريد والسالك الأخذ بها وتجنب ما تنصحه بمجانبته. وعند زروق أن الخلق هو هيئة راسخة في النفس تنشأ عنها الأمور بسهولة، إما حسنة أو قبيحة. ويمتح فكر أحمد زروق الصوفي الأصيل من مشكاة الهدي النبوي القرآني الذي غرس كثيراً من القيم والآداب حتى مع المخالف والمسيئ لك، فأمر المسلم بالعفو والصفح والدفع، وعلى هذا الهدي سار أحمد زروق في تعامله مع خصومه، والمخالفين له معضداً ذلك بقاعدة أساسية وهي أن “دفع الشر بمثله مثير لما هو أعظم منه عند ذوي النفوس الضعيفة. ومن ثم وجب الدفع بالتي هي أحسن لمن يقبل بالإحسان استناداً لقوله:ولا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلا السَّيِّئَةُ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ(فصلت: 34)، ومن لا قبل له بالاحسان فمقابلته بالإعراض عنه طبقاً للآيةخُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ(الأعراف: 199).
ويتعلق الصنف الثاني بنقده الصوفي والاجتماعي وعالج أحمد زروق في هذا التصنيف من فكره جملة من الانحرافات والانزلاقات والاختلالات التي كان يعرفها عصره، وبيّن أصلها حتى لدى أهل التصوف، ودون ذلك في مذكرات ورسائل. ومما عالجه في هذا الاطار أوضاع المتفقرة والزوايا، حيث وقف على كثير من الانحرافات في مبادئها وسلوكها. وصوب سهمه نحو الفكر الصوفي الباطني حيث توجه بسهام النقد لهؤلاء الذين لم يرق فهمهم له إلى مقولات رواده كابن عربي وابن سبعين فحرفوا فيها وانحرفوا.
كما ندد بهؤلاء المنحرفين وبغيرهم من أولئك المدعين برؤية الخضر وحاملي شعارات التفقر رياء، وآخرين منهم ممن كانوا يرددون كثيراً من الخيالات والدعاوى الشيطانية. وبصورة عامة سلط أحمد زروق جام نقده على كل الذين اتخذوا من التصوف والتفقر وسيلة لغير غاية نزيهة، وكذا الذين جهلوا حقائق التصوف وبواطنه، فضلوا وأضلوا خلقاً ونفراً من عباد الله.
أما الصنف الثالث من الفكر الصوفي عند أحمد زروق فقد عرض فيه كثيراً من القضايا والمسائل، من ذلك مسألة السماع، فقد أشار إلى شروطه الثلاثة من خلو المعارض الشرعي كاجتماع من لا ترضى حاله، وكون المسموع مما يقع به تنبيه أو إرشاد أو استراحة من الجهد، وخلو السماع من الآلة.
ومن القضايا التي عرض لها قضية تغيير المنكر في عصره حيث لم ير من بد في أن اقتصار المرء على الإنكار على عياله وخاصته بقدر ما يقتضيه العرف حتى لا يثير ذلك غضب المسؤولين. ورأيه في هذه القضية لا يخلو من شدة تأثره بنوائب حدثت في وقته، وكان لها أثرها الواضح عليه. كما أثار في موطن آخر مسائل، منها ما يتعلق بعامة الناس ومنها ما تتعلق بخاصتهم، وكلها مسائل معللة بآراء فقهية سديدة.
وهكذا فإن أهم أسس طريقة أحمد زروق هي اعتماده مطلقاً على الكتاب والسنة، و اعتدال رأيه في الدين والدنيا، واحترامه فكر الآخر في مجال التصوف، مع ابتعاده عن الغلو وأصحابه، وممارسته التصوف والمريدية أو الإرادة في جو نظيف خال من الابتزاز والتشويه، وصلاته على الرسول ضرورة في الأذكار، لأن الأذكار تثير حرارة الطبع، والصلاة على الرسول تذهب وهج الطباع.
رابعاً: مقاصد الشريعة فيا الخطاب الصوفي
كلمة المقاصد جمع مقصد وهو مشتق من فعل قصد، والقصد في اللغة له معان متعددة نقتصر فيها على أربعة: الاستقامة والاعتدال، والكسر والقسر، والاكتناز والامتلاء ، والنية، والأمّ والتوجه نحو الشيء.
وجاء في لسان العرب أن أصل ” ق ص د” ومواقعها في كلام العرب: الاعتزام والتوجه والنهود والنهوض نحو الشيء على اعتدال كان ذلك أو جور، هذا أصله في الحقيقة، وان كان يخص في بعض المواضيع بقصد الاستقامة دون الميل.”
ومقاصد الشارع هي المعاني والغايات والآثار والنتائج التي يتعلق بها الخطاب الشرعي والتكليف الشرعي، ويريد من المكلفين السعي والوصول إليه. ويمكن النظر إلى المقاصد باعتبارين: الأول باعتبار نسبتها إلى الشارع، والثاني باعتبار نسبتها إلى المكلف، لأن مقاصد الشارع لا يمكن أن تحقق إلا عبر مقاصد المكلف بشرط أن تكون الثانية موافقة للأولى.
وعلى مستوى آخر يمكن النظر إلى مقاصد الشارع من جهات:
– أولاها من جهة عموميتها وخصوصيتها فنجدها ثلاثة مستويات: المستوى الأول، ويتعلق بالمقاصد العامة، وهي المقاصد التي تمت مراعاتها، وثبت إرادة تحقيقها على صعيد الشريعة كلها، أو في الغالب الأعم من أحكامها؛ والمستوى الثاني، المقاصد الخاصة: وهي المقاصد التي روعيت في مجال معين، او في مجالات من الشريعة، والمستوى الثالث، المقاصد الجزئية وهي مقاصد كل حكم على حدته من أحكام الشريعة من إيجاب أو ندب أو تحريم أو كراهة…
– وثانيها من جهة قوتها وأثرها ودرجة توقف الحياة عليها ونجد أن هناك ثلاث درجات -كما يؤكد أكثر الأصوليين- وهي: درجة المقاصد الضرورية، ودرجة المقاصد الحاجية، ودرجة المقاصد التحسينية،.
– وثالثها من جهاتها المادية والمعنوية والدنوية والاخروية، وفيها أيضاً كلام طويل.
ويشير الدكتور أحمد الريسوني تحت عنوان “مقاصد إجمالية ومقاصد تفصيلية” إلى تقسيم آخر للمقاصد فيذكر “إن للشريعة مقاصدها من حيث الجملة، حيث نقول: إن الشريعة برمتها وفي أصلها وأساسها أنزلت لغاية كذا، ولمقاصد كذا وكذا. وأن اللهوضع شرائعه، أو أنزل كتبه أو أرسل رسله من أجل كذا ولمقصد كذا… ففي هذه الحالة نكون متحدثين عن المقاصد الإجمالية… ثم داخل هذه المقاصد العامة، وفي ثنايا الأحكام التفصيلية للشريعة يمكننا البحث والتحدث عن مقاصد كل حكم من الأحكام… كما أن المقاصد العامة الكلية من جهة، والمقاصد الجزئية التفصيلية من جهة ثانية لا تمنع من وجود مقاصد وسيطة لا هي بالعامة الشاملة ولا هي بالجزئية المحصورة في حكم واحد أو بضعة أحكام في مسألة واحدة.” ويتابع شرحه لأنواع من هذه المقاصد بذكر بعض الامثلة من ذلك قوله: “وإذا وجدنا النبييحث مريد الزواج أن ينظر إلى من يريد الزواج بها ويصرح بحكمة ذلك ومقصوده، وهو أن يبني الزواج على ميل ورغبة، فإن هذا يعد مقصداً جزئياً يتعلق بحكم النظر إلى المخطوبة، ويخدم العلاقة بين الزوج وزوجته، وكذا لو قلنا: إن مقصود الأذان هو إعلام أهل البلدة بدخول وقت الصلاة ودعوتهم إليها، وأن مقصود الإقامة هو دعوة الحاضرين للصلاة للقيام إليها والدخول فيها، فهذه وأمثالها مقاصد جزئية لأحكام جزئية. وبين هذه وتلك نستطيع أن نبحث ونتحدث عن المقاصد الخاصة بالمجالات والابواب التشريعية، بناء على ما لها من خصوصيات، فنتحدث عن مقاصد الشريعة في العبادات، في المعاملات المالية، في العلاقات الاجتماعية، في العادات، في المناقصات، وفي المناحات…” وفي هذا الباب أيضاً أمكننا أن نتحدث عن مقاصد الشريعة في التصوف، وفيه نلقى كثيراً من أهله متأثرين بهذا العلم، وعاكسين كثيراً من مبادئه فيما تعرض عليهم من عوارض هذا الطريق، ومن هؤلاء شيخنا أحمد زروق.
والشريعة في اللغة من شرع المنـزل: صار على طريق نافذ. وشرع الشيء: رفعه جداً وأعلاه وأظهره، قال:إِذْ تَأْتِيهِمْ حِيتَانُهُمْ يَوْمَ سَبْتِهِمْ شُرَّعاً (الأعراف: 163) أي شوارع ظاهرة على الماء كثيرة، وقال الليث: “حيتان شرع، رافعة رؤوسها.” وهذا يعني أنها تكون شرعاً أي سهلة المنال والاصطياد. وشرَعَ الدينَ سنَّه وبيَّنه. وشرع الطريق: مده ومهده، قال:ت:::شرَعَ لَكُم مِّنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحًا وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ(الشورى:13) مهد الشارع لهذا الدين بكونه امتدادا لما جاء به الأنبياء السابقون حتى يكون أسهل قبولاً على النفوس، قال:مِّلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمينَ مِن قَبْلُ(الحج: 78).
والشارع: الطريق الأعظم وهو الطريق الممدد الواسع، ومعنى ذلك أنه يسع كل المارين عليه ويكون أسهل وأيسر في العبور. والشريعة: الظاهر المستقيم من المذاهب، قال ثُمَّ جَعَلْنَاكَ عَلَى شَرِيعَةٍ مِّنَ لاَمْرِ فَاتَّبِعْهَا وَلا تَتَّبِعْ أَهْوَاء الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ(الجاثية: 18) فالشريعة أقوم الأديان لأنها جمعت بين المشترك بينها -الأصول- وجاءت أيسر وأبين في أحكام الفروع.
وقيل “الشريعة: مورد الإبل التي لا يحتاج معها إلى نزع بالدلو ولا سقي فيها على الحقيقة المصدوقة روى وتطهر.”
وفي الاصطلاح تفيد الشريعة معنى الصراط المستقيم الذي دعا الله عباده أن يسلكوه وأن ينهجوه، ولقد هدى الله عباده للصراط المستقيم بالفطرة، وهي جملة الاستعدادات التي أودعها الله في عباده ثم ببيان الدلالة. قال اللهوَمَا كَانَ اللّهُ لِيُضِلَّ قَوْمًا بَعْدَ إِذْ هَدَاهُمْ حَتَّى يُبَيِّنَ لَهُم مَّا يَتَّقُونَ(التوبة: 115) ويخبرنا عن حال من لا ينتفع بشريعته فيقول وَإِنَّكَ لَتَدْعُوهُمْ إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ* وَإِنَّ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ عَنِ الصِّرَاطِ لَنَاكِبُونَ(المؤمنون: 73-74).
واصطلح على الشريعة بالملة لأنها طريق ينصهر فيه كل الخلق رغم اختلاف طبائهم وعاداتهم ليتوحد مسارهم ويرتقي بهم نحو درجات الكمال.
وترجع محاولة التوحيد بين الشريعة والطريقة في أساسها إلى الصراع التاريخي الذي ثار بين الفقهاء والمتصوفة، نتيجة لسوء الفهم بين الفريقين، وقد اعتاد الفقهاء في أغلبهم على الصاق تهمة افساد عقيدة المسلمين بالصوفية بإدخالهم في العقيدة كثيراً من الأفكار والطقوس المجانبة لروح الإسلام أخذوها من الثقافات الاخرى. وقد ارتكز الصوفية في دفاعهم عن أنفسهم ومنطلقاتهم على القول بوجود حياة باطنية لم يكن للفقهاء أن يفهموها” وللأستاذ عبد المجيد الصغير كلام نفيس في هذا الباب ضمه كتابه “إشكالية اصلاح الفكر الصوفي في القرنين 18/19″، أحمد بن عجيبة ومحمد الحراق.
ولأحمد زروق موقفه التوفيقي المعروف الذي وضح من خلاله الغاية المشتركة لكل من التصوف والفقه، فالأول يهدف إلى اصلاح القلب عن طريق معرفة الله المعرفة الصادقة، والثاني يتوخى اصلاح العمل عن طريق المعرفة بالأحكام الشرعية. والعلمان معاً موصلان إلى الله وبينهما تكامل.
ويتعرض أحمد زروق لهذا الأمر في كثير من مؤلفاته من ذلك نجد قوله في كتابه عدة المريد: “أعلم أن الفقه والتصوف أخوان في الدلالة على أحكام الله، إذ حقيقة التصوف ترجع لصدق التوجه إلى اللهثم الفقه والأصول شرط فيه والمشروط لا يصح دون شرطه، والشرط أن يكون بما يرضاه الحق فلا تصوف إلا بفقه إذ لا تعلم أحكام الله الظاهرة إلا منه ولا فقه بلا تصوف، إذ لا حقيقة للعلم إلا بالعمل ولا عمل إلا بصدق وتوجه، ولا هما إلا بالإيمان إذ لا يصحان دونه فهو بمنـزلة الروح وهما بمنـزلة الجسد، لا ظهور له إلا فيهما ولا كمال لهما إلا به وهو مقام الإحسان.” ويؤكد أحمد زروق بأن الفقه أعم من التصوف باعتبار الموضوع لأن التصوف يبحث علاقة الفرد بربه، أماالفقه فإنه يتناول صلة المخلوق بالخالق في ميدان العبادات، وعلاقة المخلوق بجنسه في المعاملات. ونظراً لاتساع الفقه ومجاله فقد صح للفقيه أن ينكر على المتصوف سلوكه بينما لا يصح أن ينكر على الفقيه بحكم أن مجاله أخص وميدانه أضيق، وعنده أن الفقيه الذي يتحول إلى صوفي خير من الصوفي الذي يتعلم الفقه يقول: “حكم الفقه عام في العموم، لأن مقصده إقامة رسم الدين، ورفع مناره وإظهار كلمته، وحكم التصوف خاص في الخصوص، لأنه معاملة بين العبد وربه من غير زائد على ذلك، فمن ثم صح إنكار الفقيه على الصوفي، ولا يصح إنكار الصوفي على الفقيه، ولزم الرجوع من التصوف إلى الفقه، والاكتفاء به دونه، ولم يكف التصوف عن الفقه بل لا يصح دونه، ولا يجوز الرجوع منه إليه إلا به، وإن كان أعلى منه مرتبة، فهو أسلم وأعم منه مصلحة. ولذلك قيل كن فقيهاً صوفياً، ولا تكن صوفياً فقيهاً، وصوفي الفقهاء أكمل من فقيه الصوفية وأسلم، لأن صوفي الفقهاء قد تحقق بالتصوف حالاً وعملاً وذوقاً، بخلاف فقيه الصوفية، فإنه المتمكن من عمله وحاله، ولا يتم له ذلك إلا بفقه صحيح وذوق صريح، ولا يصح له أحدهما دون الآخر، كالطب الذي لا يكفى علمه عن التجربة ولا العكس. فافهم.
ويقارن زروق بين المعرفة الفقهية والمعرفة الصوفية، فيوكد أنه لا أحد يهب المعرفة الصوفية بل طالبها وسالكها لابد له من أن يجتهد في تحصيلها في مظانها، فكما يلتمس الفقه عند الفقهاء، ويطلب من مصنفاتهم، فكذلك الموارد فلا يمكن أن يأخذ عنها المعرفة الصوفية في رأي أحمد زروق إلا من أحد طرق ثلاثة: العمل بما علم الإنسان قدر الاستطاعة، والالتجاء إلى الله في الفتح على قدر الهمة، وإطلاق النظر في المعاني حال الرجوع لأصل السنة ليجري الفهم، وينتفي الخطأ ويتيسر الفتح.
وقد دعم هذه الآراء بمقالة الجنيد: “ما أخذنا التصوف عن القيل والقال والمراء والجدال، وإنما أخذناه عن الجوع والسهر وملازمة الأعمال”، وقال أبو سليمان الداراني: “إذا اعتقدت النفوس ترك الآثام جالت في الملكوت، ورجعت إلى صاحبها بطرائق الحكمة من غير أن يؤدي إليها علماً.” فالمعرفة الصوفية تشبه إلى حد كبير المعرفة الفلسفية التي لا تعتمد على المحفوظات بقدر ما تركز على إحالة الفكر في الظواهر المراد دراستها، هذا ما يمكن استخلاصه من الوسائل الثلاث التي وضعها أحمد زروق أساساً لتحصيل المعرفة الصوفية. أما المعرفة الفقهية فإنها لا تأتي عن طريق التعلم والأخذ عن الأساتذة وحملة العلم كما قد يحصل مع المعرفة الصوفية إذ تتاتى بوجود شيخ أو مربي، بهذا تختلف هذه عن تلك من حيث المصدر. يقول أحمد زروق في هذا الإطار: “لا علم إلا بتعلم عن الشارع أو من ناب منابه فيما أتى به إذ قال: إنما العلم بالتعلم والحلم بالتحلم، ومن طلب الخير يؤته، ومن يتق الشر يوقه.”
إن مقاصد الشريعة في التصوف الإسلامي هي جملة الغايات التي يتغياها المتصوف من تصوفه، ودائرتها قائمة على تهذيب أخلاق المريد، وتزكية نفسه، تزكية ترفعه عن التعلق بالعالم الدنيوي إلى ما هو أصل الكون كله. تزكية تسمو به إلى أعلى درجة من درجات القربى من الله، وهذه أجل غايات المتصوف، يقول أحمد زروق: “… وسمت الهمم بقوم فأحبوا أن يحققوا هذا -المنتهى- شهادة كما حققوها إيماناً واعتقاداً، لقد أرادوا أن يحققوا -أشهد أن لا إله إلا الله- أرادوا أن يحققوها في صورة صادقة، يحققوها واقعاً كما حققوها إيماناً، لقد أرادوا أن يشهدوا شهادة صادقة فأخذوا في الطريق إليها. لقد أخذوا يجتازون منازل الأرواح، مدارج السالكين… منازل الطائرين، معارج القدس، لقد ساروا في المقامات مبتدئين بالتوبة الخالصة النصوح، تتفجر في قلوبهم أنوار الأحوال متدرجة بهم من مقام إلى مقام، ومن منـزلة سامية إلى منـزلة أسمى، ومن مقام شريف إلى مقام أشرف، حتى أصبحوا بقلوبهم وبأرواحهم في رحاب الحبيب، مع الحبيب…”
ومقاصد الطريقة كما يؤكدها ويحث عليها أهل التصوف معناها ومبناها وأساسها تخلية الإنسان قبل تحليته، تخلية نفسه وتنقيتها ثم وصلها بخالقها وبارئها مباشرة بلا واسطة.
خامساً: أحمد زروق والفكر المقاصدي
حين يدلف الباحث في مجال مقاصد الشريعة باحة عالم من علماء الأمة أو فقيه من فقهائها بحثاً عن عناية هذا أو ذلك بمجال مقاصد الشريعة أو مجال حضور الفكر المقاصدي في خطابه، فدائماً ما يشار إلى إسهامات هذا أو ذاك في مؤلفين أو ثلاثة لها ارتباط وثيق بمجال أصول الفقه أو بمجال قريب منه.
ولعل السبب يعود فيما يبدو لعاملين اثنين، أولهما ما درج عليه الأصوليون من حيث كانوا يلحقون مقاصد الشريعة والفكر المقاصدي بمباحث أصول الفقه، فكان من البديهي أن يلجأ الباحثون في مجال مقاصد الشريعة لكتب هذا العالم أو الفقيه في ذلك المجال دون سواه. ثانيهما أن عطاءات ذلك العالم أو الفقيه في المجالين المذكورين تكون أكثر ظهوراً وبروزاً في مصنفاته تلك، ومن هنا فهي تستقطب اهتمام الباحثين دون غيرها.
وهذا الأمر لا يمكن تطبيقه عند دراسة مقاصد الشريعة أو حضور الفكر المقاصدي في الخطاب الصوفي عند شيخنا أحمد زروق، فالاعتناء بمؤلف واحد من مؤلفاته كما هو الحال عند فقيه أو عالم لا يسعف على إيجاد المبتغى، بل الحال يقتضي البحث والتنقيب في مجموع مؤلفاته وتصانيفه حتى يتحقق الظفر برؤية متكاملة عن عناية واهتمام شيخنا بهذا المجال.
وإن لم يسعفني الوقت للرجوع لجميع كتبه لاستنباط تلك الرؤية كاملة، فقد عمدت لبعضها فتصفحتها، ودققت النظر في أعطافها ومطاويها وأحنائها، فألفيت اهتماماً معتبراً من الشيخ أحمد زروق بمجال مقاصد الشريعة وحضور ملفتاً لفكر مقاصدي. وقبل أن أعرض لكل ذلك لا بأس أن أدلي ببعض الملاحظات وهي ثلاث:
الملاحظة الأولى: أن الكثير من الاشارات المتعلقة بمقاصد الشريعة أو بالفكر المقاصدي مما أشار إليها شيخنا أحمد زروق نجدها مثبوتة في كتب الأصوليين، ولو أنك طفقت تقرؤها عند أصولي كالإمام الشاطبي لوجدت بينه وبين شيخنا شبه قوي. وهذا إن دل عن شيء فإنما يدل على إحاطة ودراية شيخنا أحمد زروق بعلم الشريعة وتمكنه من كثير من العلوم المحيطة بها ومن أهمها علم أصول الفقه. ومما زاده تمكناً أيضاً كونه كان يتوفر على “حساسية مرهفة، وتذوق لكلام القوم يشهد به تنـزيله للنصوص وتعقبه لما فيه من مآخذ وطرحه للحشو واهتباله بالجواهر دون الأعراض فضلاً عن وزنه للخواطر بميزان الشرع وأخذه بالحيطة في مجال القول والعمل. وإنما أعانه على ذلك تمكنه من العلوم العقلية والنقلية، وسلوكه للطريق سلوك الحذر اليقظ الذي أخذ الأهبة لكل طارئ، واستعد لكل ما يفاجئ، فلم يكن وصوله للحقيقة عن ظن وتخمين بل عن طريق المعرفة واليقين.”
والملاحظة الثانية: أن أحمد زروق لم يضع نظرية في مقاصد الشريعة بما تحمله كلمة نظرية من معنى، ولكن إذا تصفحنا كثيراً من تآليفه وتصانيفه وبخاصة المؤلفين الذين اعتمدناهما -قواعد التصوف وكتاب شرح حكم ابن عطاء الله- ناظرين إليهما نظرة عميقة فلا يبقى لدينا أدنى شك أن شيخنا قد بث أطراف هذه النظرية في ثنايا وحنايا هذه الكتب.
أما الملاحظة الثالثة: فهي أن أحمد زروق شكلت مصادر الشريعة لديه وعلى رأسها الكتاب والسنة أهم مصدر كان يستقي فكره منها، ويخال المتتبع لفكره وكأنه أمام فقيه وليس أمام متصوف، يعزز كثيراً من آرائه وأحكامه بشواهد عدة من كتاب الله وسنة نبيه وشواهد من أقوال الصحابة.
ويسعفنا في الوصول لأطراف من فكره المقاصدي أن نعمد لإشارات هامة ما فتئ أحمد زروق يؤكدها في أكثر من موضع، ويمكن أن نجملها في ثلاثة أمور، وهي:
إفراده الحديث عن العبادة والعبودية، وبيانه لأحكام الشريعة، وبيانه لمقاصد المكلف.
1- إفراده الحديث عن العبادة والعبودية:
فبيانه ما ذكره أحمد زروق في القاعدة رقم 90 إذ يقول في العبادة “العبادة: إقامة ما طلب شرعاً من الأعمال الخارجة عن العبادة، أو الداخلة سواء كان رخصة أو عزيمة، إذ أمر الله فيهما واحد…”
وفي معناها يذكر أحمد زروق أن أولى ما نرجع به إلى الله ما جاءنا عن الله والذي هو طالبه منك وهو: التخلي عن كل شيء إلا عنه، والتحلي بما يرضيه عنك، ويردك إليه، والدوام على ذلك حتى تلقاه بلا فترة ولا تقصير. ويعبر عن ذلك بإحدى عبارات ثلاث:
– الطاعة والغنى به عنها، والصدق في العبودية، والقيام بحقوق الربوبية…”
ويدلف الحديث عن الصدق في العبودية :فيقول من المؤلف نفسه: “والصدق في العبودية بالتزام أحكامها في كل ورد وصدر هو عين القيام بحقوق الربوبية، ومداره في أمور ثلاث: التشمير للحقوق، والإعراض عن كل مخلوق، والاستسلام تحت جريان المقادير والأحكام.
وقد يعبر عنه بامتثال أمره والاستسلام لقهره، أو يعبر عنه بالطاعة والغناء به عنها، فكل صحيح واضح مليح والله أعلم…”
ويعرض أحمد زروق لأمر العبودية في موضع آخر أثناء حديثه عن إجابة الله لعباده فيقول:
” إنما جعل الإجابة فيما اختارهعيناً ووقتاً لوجوه ثلاثة:
– أحدها رفقاً بعبده وعناية، لأنه كريم، رحيم عليم، والكريم إذا سأله من يعز عليه أعطاه أفضل ما علمه له، والعبد جاهل بالصلاح والأصلح، فقد يحب الشيء وهو شر له، ويكره الشيء وهو خير له.
– الثاني: لأن ذلك أبقى لأحكام العبودية في نظر العبد وأقوى في ظهور سطوة العبودية، إذ لو كانت الإجابة بالدعاء على وفق المراد، حتماً لكان نفس دعائه تحكماً على الله، وذلك باطل، فافهم.
– الثالث: لأن الدعاء عبودية سرها إظهار الفاقة، ولو كانت الإجابة بعين المراد حتماً لما صحت فاقة في عين الطلب، فبطل سر التكليف به، ومعنى الاضطرار المطلوب فيه، فافهم.
2- بيانه لأحكام الشريعة:
لم يغفل أحمد زروق أن بعض العبادات التي شرعها الله لعباده أحكام كثير منها تتأرجح بين التعليل والتعبد ومن أهم العبادات الصلاة، ففي أكثر من مكان يجري ذكرها، فمثلاً يذكرها في شرح حكمة عطائية فيقول: لتكون همتك إقامة الصلاة، لا وجود الصلاة، قلت لأن ذلك هو المقصود منك، إذ لو كان المقصود الوجود ما كان حجر ولا غيره، وإقامة الصلاة: القيام بحقوقها، وحدودها الشرطية والكمالية، بقدر الطاقة، فإن ذلك يختلف باختلاف الناس، فما كل مصل مقيم، قلت: ولا كل مقيم مقيم، ولا كل عامل مستقيم، قال القاضي أبو بكر العربيفي قول عمر: “من حفظها وحافظ عليها” ولقد رأيت من يحافظ عليها آلاف لا أحصيها، فأما من يحفظها بالخشوع والإقبال فما أعد منهم خمسة…”
وفي هذا الباب أشار أحمد زروق إلى وسطية الشريعة، وأثبت أن جميع المكلفين يدخلون تحت قانونها، وجميع عباد الله لا بد أن يحرصوا على هذه الوسطية، ويبتعدوا عن التشدد لأنه مما تنهى عنه شريعة الإسلام السمحة وتقر بدله منهج التوسط والاعتدال، يقول أحمد زروق في هذاالصدد: “التشديد في العبادة منهيٌ عنه، كالتراخي عنها. والتوسط: أخذ بالطرفين، فهو أحسن الأمور كما جاء: خير الأمور أوسطهاوَالَّذِينَ إِذَا أَنفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا(الفرقان: 67) قال: (أما أنا فأقوم وأنام، وأصوم وأفطر…) وكذلك رد عبد الله بن عمر للوسط بصيام الدهر وقيام نصف الليل، وختم القرآن في سبع إلى غير ذلك، فلزم التوسط في كل مكتسب، لأنه أرفق بالنفس، وأبقى للعبادة.
3-بيانه مقاصد المكلف
فكما يؤكد علماء مقاصد الشريعة فمقاصد الشارع لا تتم ولا تتحقق إلا بتصحيح مقاصد المكلف، ولقد كانت عناية أحمد زروق بهذا الامر من وجهين: اعتبار النية في الأعمال، وإخلاص النية لله.
وهذان العنصران هما من صميم الموضوع -كما يذكر الدكتور أحمد الريسوني- (تكلم عنه علماء التوحيد، وعلماء التربية، أو التخلق، وعلماء الفقه تحت باب النية، واعتنوا به العناية اللازمة، حتى قال ابن أبي جمرة الأندلسي المالكي: وددت لو كان من الفقهاء من ليس له شغل إلا أن يعلم الناس مقاصدهم في أعمالهم، ويقعد إلى التدريس في أعمال النيات ليس إلا، فإنه ما يأتي على كثير من الناس إلا من تضييع ذلك. ولا شك أن الشاطبي قد استفاد مما كتبه العلماء في هذا الموضوع نفسه) وكذلك شيخنا أحمد زروق فقد أشار إلى ذلك من وجهين، كما ذكر آنفاً
1- اعتبار النية في الأعمال
مما جاء عنه بالنسبة لاعتبار النية في الأعمال قوله في توطئة لحكمة من حكم عطاء الله: “ثم كمال الأعمال إنما هو بالإخلاص، وهو قلبي، وذلك يقتضي عدم المبالاة بها إذا عدمت لأجله، وهو ما أشار إليه المؤلف -ابن عطاء الله- إذ قال: الأعمال صور قائمة وأرواحها وجود سر الإخلاص فيها. قلت: ولا عبرة بصورة لا روح فيها، كما أنه لا قيام لروح دون صورتها. ويحتمل قوله “سر الإخلاص” أن يكون من إضافة الشيء إلى نفسه، فالمراد السر الذي هو الإخلاص، ويحتمل أن يكون ما هو أخص منه وهو الصدق المعبر عنه بالتبري من الحول والقوة، وكلاهما مطلوب: الإخلاص لنفي الرياء، والصدق لنفي العجب، وكلاهما لا كمال للعمل به فلذلك قال بعض المشايخ: صحح عملك بالإخلاص، وصحح إخلاصك بالتبري من الحول والقوة.”
ووجه إخلاص النية للهمتعلق بسابقه بل متعلقان ببعضهما البعض ولا انفكاك لأحدهما عن الآخر. ويتعرض أحمد زروق لهذا الوجه أي إخلاص النية لله في أماكن مختلفة من كتبه، من ذلك إشارته لها أثناء شرحه لحكمة عطائية “ربما فتح لك باب الطاعة وما فتح لك باب القبول”، وباب القبول ثلاثة أمور: الأول التقوى، فكل عمل لا تقوى معه تعب لا فائدة له، إلا ما يرجى من أنس النفس به ليسهل عليها عند تلبس التقوى. والثاني وهو الإخلاص، إذ لا يقبل إلا ما أريد به وجهه لحديث قدسي عن رسول الله: أنا أغنى الشركاء عن الشرك ومن عمل عملاً أشرك فيه معي غيري تركته وشريكه… والثالث إتقانه بالسنة واتباع الحق، إذ لا يقبل الله عمل عامل إلا بالصدق واتباع الحق.
ولا يفوت أحمد زروق أن يذكر أنواع الإخلاص رواية عن بعض شيوخه، يقول: “قال الشيخ أبو طالب المكي والإخلاص عند المخلصين: إخراج الخلق من معاملة الحق، وأول الخلق النفس. والإخلاص عند المحبين: أن لا يعمل عملاً لأجل النفس، وإلا دخل عليه مطالعة عوض أو ميل إلى حفظ نفس. والإخلاص عند الموحدين: خروج الخلق من معاملة الحق من النظر إليهم في الأفعال وعدم السكون إليهم والاستراحة بهم في الأحوال.”
وهناك أسباب موصلة للإخلاص يذكرها أحمد زروق تتمة لبيانه لمعنى الإخلاص، فيقول:
“ثم إن الموصل للإخلاص، وتحقيق الخمول إنما هو العلم الوافي عن الفكر الصافي، ومقدمته إنما هي العزلة ثم الخلوة فلذلك اتبعها به فقال: ما ينفع القلب شيء مثل عزلة يدخل بها ميدان فكرة. قلت لأنه بالعزلة يسلم من الأغيار، وبالفكرة يستجلي الأنوار، وكل عزلة لا تصحبها فكرة فإلى المحق مآلها، والفكرة لا تصح بدون العزلة، فالعزلة منـزلة الفكرة، وفي بيته يؤتى الحكم، ثم العزلة بالإنفراد بالحال حقيقة، وبالإنفراد بالشخص مجاز والله أعلم.”
وما توفر الإخلاص في عمل من أعمال المرء فلا يضر إخفاء هذا العمل أو إظهاره، يقول أحمد زروق: “إظهار العمل وإخفاؤه، عند تحقق الإخلاص، مستو، وقبل وجود تحققه، مقر لرؤية الخلق. وقد جاء طلبه شرعاً، من غير اشعار بشيء من وجوه الإخلاص، ولا الرياء.”

خاتمة:
ليست مقاصد الشريعة كما يقول أهل المقاصد “مجرد حصيلة معرفية تشبع نهمنا في فهم الشريعة وأهدافها ومراميها، وتشحن رصيدنا المعرفي بثروة من الحكم والمقاصد العامة والخاصة، الكلية والجزئية للشريعة الإسلامية، بل هي إلى هذا كله تنشئ نمطاً في الفهم والتصورللأمور، وتعطي منهجاً في النظر والتفكير”، وهو هذا الذي نجد جزءاً كبيراً منه عند أحمد زروق مبنياً ومؤسساً على مبادئ وقواعد مقاصدية منهجية سنجلي بعضها. من هذه القواعد:
من هذه القواعد قاعدة جلب المصلحة ودرء المفسدة وهي قاعدة أصولية عظيمة يبدأ الفقهاء الحديث عنها بتعريفهم للمصلحة والمفسدة، فمسمى المصلحة والمفسدة عند جميع العلماء المسلمين مصالح الدنيا ومصالح الآخرة: يشمل “ومن البداهة أن المصلحة الآخرة أو مصالح الآخرة هي كل ما يجلب رضوان الله ونعيمه أو يزيد في درجتهما، وأن مفاسد الآخرة هي كل ما يجلب سخط الله وعذابه أو يزيد في درجتهما أو لنقل على الأصح: مصلحة الآخرة هي رضوان الله ونعيمه، ومفسدتها هي سخط الله وعذابه، وإنما اعتبر ما يجلبهما مصلحة ومفسدة من باب اعطاء الوسائل حكم المقاصد، وإعطاء الأسباب حكم مسبباتها.”
وفي كتب أصول الفقه شرح مستفيض عن ما يقصد بالمصلحة وما يقصد بالمضرة، لكن ما يهمنا في هذا المستوى هو حديثهم عن القاعدة الأصولية: درء المفسدة أولى من جلب المصلحة.
ويؤسس الشيخ أحمد زروق على هذه القاعدة قولاً بليغاً فيقول: “قد يباح الممنوع، لتوقع ما هو أعظم منه، كالكذب في الجهاد لتفريق كلمة الكفار، والإصلاح بين الناس للخير، وفي ستر مال مسلم أو عرضه ولو نفسه إذا سئل عن معصية عملها، أو مال أريد غصبه منه، أو من غيره؛ لأن مفسدة الصدق أعظم من ذلك، وللزوجة والولد خوف نفورهما، وبالجملة فيسوغ لدفع مفسدة أعظم لا لجلب مصلحة. وكذلك الغيبة في التحذير وإلاستفتاء ونحوه مما ذكره الأئمة.”
ومن قواعد الفكر المقاصدي الضرورة تقدر بقدرها وعند المالكية أن الضرورة هي الخوف على النفس من الهلاك علماً أو ظناً، أو هي خوف الموت، ولا يشترط أن يصبر حتى يشرف على الموت إنما يكفي حصول الخوف من الهلاك ولو ظناً، وهناك تعاريف أخرى استفاض في تبيانها الفقهاء، كما أشاروا بغير قليل من الكلام لحالات الضرورة وضوابطها، وأنواعها… وقد نبه الشيخ أحمد زروق في كتاب القواعد إلى تقييد الضرورة إذ قال في القاعدة رقم 134: “ما أبيح للضرورة قيد بقدرها، أو روعي فيه شرطه، صحة وكمالاً ومن ذلك السماع والضرورة الداعية له ثلاثة، الأول: تحريك القلب، ليعلم ما فيه بمثيره، وقد يكتفى عن هذا بمطالعة وجوب الترغيب والترهيب، ومفاوضة أخ أو شيخ، والثاني: الرفق بالبدن بإرجاعه للإحساس- حتى لا يهلك بما يرد عليه من قوى الواردات، والثالث: التنازل للمريدين حتى تتفرغ قلوبهم لقبول الحق في قالب الباطل إذ ليس لهم قدرة على قبول الحق من وجهه بلا واسطة…”
ولا يتسع هذا البحث الموجز إلى تفصيل القول في سائر قواعد الفكر المقاصدي عند الشيخ أحمد زروق وإذ نكتفي في هذا المقام بما أشير إليه، نوكذ أن موضوع مقاصد الشريعة والفكر المقاصدي على وجه التحديد في الخطاب الصوفي يستحق أن يبحث فيه نفر من الباحثين لعلهم يظفرون بشيء مما هو مستكن في أنحائه ومجالاته ومصادره.
ونخلص في ختام البحث إلى أن الشيخ أحمد زروق قد أصل لمفهوم المقاصد في الخطاب الصوفي. وأن كتابه “قواعد التصوف” هو أول تأسيس لما يمكن أن نصطلح عليه بالقاعدة الصوفية على غرار القاعدة الفقهية، وأن بصمات الفكر المقاصدي بادية في متن مؤلفات شيخنا أحمد زروق بل كانت موجهة لكثير من تأملاته، لجملة من القضايا وإلاشكالات التي زخر بها الخطاب الصوفي.
كما نخلص إلى أن أحمد زروق بفكره المقاصدي قد أحدث منعطفاً معرفياً وفكرياً في التصوف الإسلامي خلال المرحلة التي عاشها وما بعدها، وأن تأثير الفكر المقاصدي الذي تميز به الخطاب الصوفي عند أحمد زروق قد قطع مع جملة من الإنحرافات والشوائب التي بصمت مرحلة من عمر التصوف الإسلامي.

المصدر: مجلة اسلاميةالمعرفة
العدد: 036 > بحوث و دراسات.