لا غبطة تفوق غبطتي : مارك ستراند | ترجمة : أحمد م. الأحمد

 

 

من ضفة ثالثة

– خرائط سوداء

لا جمهرة الحصى،

ولا هتاف الريح،

ستجعلك تُدرك

أنك وصلت،

ولا البحر الذي لا يمجّد

إلا بالرحيل،

لا الجبال

ولا المدن المحتضرة.

لا شيء سينبئك

أين تكون.

كلُّ وهلةٍ مكانٌ

لم تكن أبداً فيه.

يمكنك أن تسير

وفي ظنّك أنك تسكب

الضوءَ حولك.

لكن أنّى لك أن تعلم؟

الحاضر أبداً قاتم.

خرائطه سوداء،

تنهض من اللاشيء،

تصوِّرُ،

في ارتقائها الوئيدِ

إلى أنفسها،

إبحارَها،

خواءَها،

الضرورةَ العارية،

المتكيّفةَ، لاكتمالها.

آنَ تخرج إلى الوجود

تتبدى في هيئة النَّفَس.

وإذا تأمّلتَ فيها جميعاً

لن تجد،

متأخِّراً، أن ما حسبتَه

يعنيك منها

ليس موجوداً.

لا علامة تَسِمُ بيتَك

على أيٍّ منها،

ولا أصدقاء لك،

ينتظرون ظهورك،

ولا أعداءك

يتسقّطون خطاياك.

وحدك هناك،

ترحّبُ

بما ستكونُه،

والعشب الأسود

يشيلُ السماءَ السوداء.

2- سبع قصائد

إلى أنطونيا

1

على شفا

ليل الجسد

تعلو عشرةُ أقمار.

2

تتذكّرُ النُّدبةُ الجرحَ.

يتذكرُ الجرحُ الألمَ.

ها أنت تتوجعُ من جديد.

3

عندما نسير تحت الشمس

تلوحُ ظلالنا دائماً كمراكبَ محمَّلةٍ بالصمت.

4

يضطجعُ جسدي

وأسمعُ صوتيَ

يضطجع إلى جواري.

5

الصخرةُ مسرَّةٌ

وتنفتحُ

ثم ندلفُ إليها

كما ندلف إلى ذواتنا

كلَّ ليلة.

6

عندما أتحدث إلى النافذة

أقولُ إن الحالَ

على ما هي عليه.

7

لديّ مفتاح

لذلك أفتح البابَ وأدخل.

المكان مظلم وأدخل.

المكان أشدّ ظلمةً وأدخل.

3 – أن نصلَ هذا المآل

فعلنا ما أردناه.

طوّحْنا بالأحلام، بادئَين بالصناعات الثقيلة

لكلينا، ورحّبنا بالأسى

وأسمينا الخرابَ “العادةَ التي لا فكاك منها”.

والآن ها نحن هنا.

العشاء جاهز ولا نستطيع تناوله.

اللحم يستقرّ في صحنه المطليّ بالأبيض.

النبيذ ينتظر.

ثمة مقابل

في أن نصلَ هذا المآل: لا شيء نأملُه، لا شيء نعطيه.

لا قلبَ يحيطنا أو شفاعة تُرتجى،

لا مكان نلوذ به، ولا سبب يُبقينا حيث نحن.

4 – قد وقَعَ ما كنا نخشاه

يتّكئ الأقارب، ينظرون مترقِّبين.

رطّبوا شفاههم بألسنتهم. أستطيع أن أشعر بهم

يحثّوني على الأمر. رفعتُ الرضيع في الهواء.

أكوامٌ من زجاجات محطَّمة التمعت تحت الشمس.

فرقة صغيرة تعزف ألحاناً عسكرية قديمة.

أمي تبدد الوقت بنقر قدمها بالأرض.

أبي يقبّل امرأة لا تكفّ عن التلويح

لأحد آخر. هناك أشجار نخيل.

تبقّعت التلالُ بوهج برتقالي وغيوم

متلاطمة عالية وراءها. “هيّا أيها الصبيّ،”

سمعتُ أحدهم يقول، “هيّا.”

أبقى على تساؤلي إن كانت ستمطر.

تربدُّ السماء. يقصف الرعد.

“اكسر ساقيه،” تقول إحدى عمّاتي.

“الآن أعطه قبلةً.” أفعلُ ما يُملى عليّ.

تنحني الأشجار في الريح المدارية الجافة.

لم يصرخ الطفل، لكني أتذكر تلك الآهة

عندما مددتُ يدي إلى داخله بحثاً عن رئتيه ثم نشرتُهما

للذباب في الهواء. ابتهج الأقارب.

في ذلك الوقت أصابني السأم.

والآن، حين أردُّ على الهاتف، أستشعرُ

شفتيه على السماعة؛ وعندما أنام، ثمة شعرُه وقد التمَّ

حول وجه أليف على الوسادة؛ وأنّى بحثتُ

وجدتُ قدميه. هو ما قد تبقى لي من حياتي.

5- أكلُ الشِّعر

يسيل الحبر من طرفيّ شفتي.

لا غبطة تفوق غبطتي.

إني آكلُ الشِّعر.

موظفةُ المكتبة لا تصدقُ ما تراه.

يملأ الحزن عينيها

وهي تمشي ويداها في جيبيّ فستانها.

اختفتْ القصائد.

الضوء شحيح.

الكلاب على درج القبو في طريقها إلى الأعلى.

تدورُ مُقَلُ أعينها،

تتّقدُ أرجلُها الشقراء كفرشاة.

موظّفةُ المكتبة المسكينةُ تشرع بنقر الأرضِ بقدميها وتبكي.

إنها لا تعي ما يجري.

عندما جثوتُ ولعقتُ يدها،

صرختْ.

أنا رجل قليل الخبرة.

أزمجر في وجهها ثم أنبح.

أمْرَحُ مبتهجاً في الظلام الكُتُبيّ.

6- النهاية

ليس كلُّ رجل يعلم ماذا سيغنّي في النهاية،

إذ يرقب الرصيف والسفينة تبحر مبتعدة، أو ما سيكون عليه الأمر

لحظةَ يستوقفه هدير البحر، بلا حراك، هناك في النهاية،

أو ما الذي سيرتجيه آنَ يوقن أنه لن يرجع إلى حيث كان.

حين يفوتُ أوانُ تشذيب الوردة أو ملاطفة القطة،

حين يشعلُ الغروبُ المرجَ ويكسوه البدرُ ببياض الجليد

حتى لا يبان، ليس كلُّ امرئ يعلم ما البديل الذي سيلقاه.

حين تميل وطأةُ الماضي إلى العدم، والسماءُ

ليست سوى ضوء في الذاكرة، وأن حكايات السَّحَاب الرقيق

والغيم المتكاثف تأتي إلى نهايتها، وكلّ الطيور توقفت عن الطيران،

ليس كلّ امرئ يدري ماذا ينتظره، أو ماذا سيغني

حين تنزلق السفينة التي يبحر عليها في الظلام، هناك عند النهاية.