قواعد النقد / عز الدين إسماعيل

 

 

 

معنى هذا أن هناك قواعد محددة، أو على الأقل مفهومات محددة، يلزم الناقد أن يأخذ نفسه بها, وهذا صحيح، ولكن الناقد يطبق هذه القواعد أو يستخدم هذه المفهومات بطريقته الخاصة. وقد امتلأ ميدان النقد الأدبي بالمصطلحات الفنية التي ينبغي أن يكون الناقد عارفًا بمعانيها المحددة قبل أن يستخدمها، فهي أدوات فكرية يتعامل الناس بها وينبغي أن تكون واضحة المدلول في أذهان من يستعملونها ومن يتلقونها على السواء. وكثيرًا ما ينشأ سوء الفهم والتفاهم نتيجة لاختلاف المدلولات التي يستخدم من أجلها اللفظ الواحد عند أفراد مختلفين. ونسوق مثالا على ذلك عبارة “الفن من أجل الفن”، فقد شاع بين الكثيرين أن هذه العبارة تقف بمدلولها في موقف معارض للعبارة الأخرى “الفن من أجل الحياة”, وعندئذ راحوا يبنون أفكارًا ويصدرون أحكامًا على الأدب الذي يتعرضون لنقده أو الحديث عنه. والواقع أنه لا تعارض هناك؛ لأنه إذا كان الفن لا يمكن تصوره، ولا يمكن أن يقوم منفصلا عن الحياة، فإن عبارة “من أجل الفن” تتضمن -ولا تعارض- عبارة “من أجل الحياة”. فكون الشيء قائمًا من أجل ذاته لا يتعارض مطلقًا مع الفوائد التي تجنى من علاقته بالأشياء الأخرى، كالمثل الذي يسوقه “ديشز١ Daiches” من أن الممرضة التي تقول: إنها تحب التمريض “من أجل التمريض” لا يتنافى معه أن يكون للتمريض الذي تقوم به أثره في حياة الآخرين الذين ترعاهم حتى يصحوا.

 

لا بد إذن أن يفرغ الناقد بادئ ذي بدء من الخبرة الدقيقة بمدلولات الاصطلاحات التي دارت في ميدان النقد حتى لا يضل في استخدامها حين يعتمد عليها -وهو بحكم عمله مضطر إلى الاعتماد على الكثير منها- في مهمته النقدية. بل أكثر من ذلك أن الناقد الحق يلزمه بناء فلسفي واضح حتى يستطيع أن يقوم بمهمة الحكم على العمل الأدبي. إن له منهجه الذي يتبعه -كما سبق أن بيّنّا- في دراسة العمل الأدبي، ولكن مرحلة الحكم على قيمة هذا العمل سترتبط في ذهنه بنظريته في الحياة، فبحسب هذه النظرية يكون حكمه على قيمة ذلك العمل الأدبي. وطبيعي أن يتبادر إلى أذهاننا الآن أن الحكم بالقيمة ينصبّ في العمل الأدبي على ما فيه من فكرة، أو لنقل على ما فيه من موقف من الحياة. وهذا صحيح ولكن ليس كل الصحة؛ لأن الحكم على العمل الأدبي لا يستقل بجانب منه ويترك غيره من الجوانب, والحكم الذي لا يدخل في اعتباره العمل الأدبي كله، بكل عناصره وكل جوانبه، حكم ناقص. فحين نحكم بجودة الفكرة في قصة مثلا، وننسى الإطار الفني القصصي الخاص الذي عرضت فيه هذه الفكرة، يكون حكمنا ناقصًا؛ لأننا قبل كل شيء لسنا بصدد الحكم على فكر مجرد. وكذلك حين يقف الناقد ليصدر حكمه على جزئية من القصيدة أو حتى عند ظاهرة عامة فيها، تتجلى في استخدام الشاعر ألفاظًا بذاتها، أو عند لجوئه إلى صورة خاصة من التركيب اللغوي، أو ما أشبه ذلك من المسائل الجزئية التي تدرس تحت اسم البلاغة, حينذاك لا يكون لحكمه هذا قيمة؛ لأنه لم يربط بين كل هذه الأشياء والدور الحيوي الذي قامت به في إبراز موقف الأديب هنا من الحياة ونظرته إليها.

[مراحل العملية النقدية]

 

فلسفة الناقد الخاصة التي يتخذ منها معيارًا لقيمة العمل الأدبي لا بد أن تكون فلسفة عقلية فنية في وقت معًا, إذا صح هذا التعبير, أعني أن يدخل الناقد في اعتباره -حين يصدر حكمه- كيف تحققت فكرة القصة -مثلا- تحققًا فنيًّا، فهو عندئذ لا يحكم على صورة العمل الأدبي مستقلة، أو على مضمونه منفصلًا عن صورته “فهذا الانفصال أصبح مقطوعًا بأنه غير قائم”، بل يحكم على العمل الأدبي في مجمله، ومن حيث هو كلٌّ متماسك. يتبع هذا أن الفكرة العظيمة ليس حتمًا أن تظهر في عمل أدبي عظيم؛ لأن عظمة العمل الأدبي لا تستمد من فكرته المجردة، ولكنها كامنة في مجموعه, وليس معنى هذا -من جهة أخرى- أن الإطار الفني هو الذي يجعل للعمل الأدبي قيمة، فكثير من القصص التي لم يخطئ كاتبوها في اتباع الأصول الفنية techniques لكتابة القصة يمكن أن يحكم عليها بأنها قليلة القيمة أو لا قيمة لها على الإطلاق, ولم يرفع من قيمتها مجرد اتباع تلك الأصول. فإذا كنا استبعدنا أن تكون قيمة العمل الأدبي في فكرته، أو أن تكون في اتباعه الأصول الفنية، فأين إذن تكمن القيمة؟ الجواب عن ذلك ليس جديدًا؛ لأننا سنقول: إن القيمة في العمل الأدبي كله.

 

وهنا تكون أول مرحلة يجتازها الناقد من مراحل عملية النقد هي أن يجيب عن هذا السؤال: هل هذا الذي قرأته أدب أم ليس أدبًا؟ لأنه عند هذه المرحلة يستطيع أن يعفي نفسه من كل المراحل الأخرى حين يقرر أن الشيء الذي قرأه -أو استمع إليه- ليس أدبًا على الإطلاق. فإذا استقر رأيه أن هذا الذي قرأه أدب وليس تاريخًا أو فلسفة أو رياضة، كان عليه أن يحدد أي نوع من الأنواع الأدبية قرأ، رواية أم ملحمة، قصيدة أم قصة قصيرة، مسرحية أم قصة، وهو في تحديد ذلك يأخذ في الحسبان تلك الأصول الفنية المعروفة لكل نوع، التي على أساسها يمكن التفريق بين نوع وآخر. فإذا انتهى إلى أن يقول عن شيء قرأه: إنه أدب وإنه قصيدة غنائية مثلا، كان عليه بعد ذلك أن يقرر ما إذا كان لهذا الأدب أو لهذه القصيدة الغنائية قيمة أو لا قيمة لها. فكونها أدبًا لا يكفي إذن، ولا يعني أن لها قيمة بالضرورة. ألسنا نتساءل دائمًا: ما قيمة هذا العمل الأدبي؟ وقد نجيب بأنه ليس له قيمة أو ليس له قيمة كبيرة. فالقيمة إذن ليست في كون الشيء أدبًا، وإلا عددنا كل ما قيل من أدب قيمًا، وهذا ما لا يمكن أن يوافقنا عليه أحد.

 

إن لكل عمل فني أصولا موضوعية ينبغي الانتباه إليها، فحقيقة العمل الأدبي من حيث الدوافع إليه ومن حيث مكوناته، حقيقة تخضع للبحث العلمي، ويستطيع علماء النفس أن يساعدوا بدراساتهم التحليلية في الكشف عنها وتحديد سماتها ومعالمها، أما القارئ العادي للأدب فلا يقف ليبحث في شيء من هذا, بل يقف ليواجه العمل الأدبي في صورته الكاملة، فيتمثله كيانًا قائمًا بذاته، تنبثق منه عوامل دفع وجذب كثيرة، تمامًا ككل شخصية. وهو يتمثل ذلك عندما يجد نفسه يقترب من هذا العمل الفني حتى يكاد يحتضنه، أو يبتعد عنه حتى يكاد لا يرى منه شيئًا. ثم هو بعد ذلك يترجم هذا القرب وهذا البعد إلى لغة الرضاء وعدم الرضاء. أما الناقد فلا يرضى لنفسه أن يقوم بما يمكن أن يقوم به العالم النفسي من تحليلات، ويجعل من هذه التحليلات غايته, وهو كذلك لا يصنع ما يصنعه القارئ حين يصدر حكمه بناء على ما في العمل الأدبي من عوامل جذبته إليه أو نفرته منه، ولكن الناقد بذلك لا يعادي العالم النفسي ولا القارئ العادي، كل ما في الأمر أنه لا يرضى أن يقف عند الغاية التي ينتهي إليها هذا العالم، وهي في مجملها الكشف عن نفسية الشاعر نفسه، وبخاصة حين تعمل، أو حين تبدع، وهو كذلك لا يحب أن يتخذ من ذاته المعيار الذي يحدد الحكم الأخير على العمل الفني، فالناقد تعنيه معرفة خبايا الشاعر. صحيح أن نفس الشاعر هي نقطة البدء، وصحيح أننا لا نرى الأشياء إلا إذا كانت لنا عيون تبصر، ولكن الذي يعني الناقد في المحل الأول هو تلك الأشياء المرئية لا العيون الرائية، هو تلك الأجواء النفسية لا النفس المستبصرة. وكذلك يهتم الناقد أول الأمر بأن يصدر على العمل الأدبي حكمه، ولكنه يتحرك في طريقه إلى هذا الحكم لا من خلال رغباته الخاصة، وغايته الواضحة “فكثيرًا ما تكون طاقة العمل الفني أكبر من ذات الناقد”، بل من خلال بعض الأصول الموضوعية العامة التي تعمل ذاته بكل رغباتها وغاياتها من خلالها.

 

وما دمت قد وصلت إلى هذا التحديد لضرورة توافر بعض الأصول العامة التي يتحرك الناقد خلالها, فينبغي إذن أن أبادر بتحديد هذه الأصول.

 

ونستطيع أن نستنبط من المقدمات السابقة أن الناقد حين يواجه أي عمل شعري مثلا, فإنه يفترض منذ البداية أن هناك شاعرًا، وهو بطبيعة الحال لا يعني بالشاعر هنا ذلك الشخص القادر على تنغيم الكلمات، وتدوير المعاني في صورة لفظية موسيقية -كما يقول صديقنا الشاعر صلاح عبد الصبور في إحدى قصائده- بل يقصد بالشاعر هنا “الإنسان” أولا وقبل كل شيء. وواضح أنه ليس من السهل تحديد معنى “الإنسان” “في بعض الحالات يختلف معنى الإنسان بين الأفراد كما يختلف مستوى الإنسانية من شخص إلى آخر”، ولكننا جميعًا نعرف -معرفة ما- ما الإنسان. وفي هذا الأصل يكفي أن يتمثل لنا الإنسان بأي أشكاله وفي أي مستوياته، وعندئذ يكون الأصل الذي لا نختلف عليه هو تمثل ذلك الإنسان في العمل الشعري، ثم نختلف في تقدير هذا الإنسان من حيث النوعية والمستوى. واختلافنا هذا لا يلغي مطلقًا أن عنصرًا أساسيًّا في العمل الفني قد تحقق، ألا وهو الإنسان، فالإنسان هو الشاعر وهو الرسام وهو الموسيقي وهو كل مبدع لأي لون من ألوان الفن.

 

ولكننا قلنا: إننا لا نريد الإنسان لذاته، ولا نريد أن نتعرف خبايا نفسه؛ لأنها تهمنا بصفة خاصة، ولكننا نريده لكي “يصنع” شيئًا ويصنعه هو بالذات، نريد نفسه وهي تتحرك بين الأشياء فتكتشف فيها الجوانب الجديدة والعلاقات الجديدة، بل تستكشف حركتها المنظمة المتآلفة، الخافية عن كثير من العيون، وحين تحدث الحركة تقع “الواقعة” لا محالة، فنفس الإنسان في حركتها الدائبة بين الأشياء تقف لتصنع الإطار حول كشفها الذي كشفته، فتبرزه لنا من بين تلك الصور السديمية المختلطة من الحياة. ومرة أخرى قد تختلف حول قيمة هذا الكشف، ولكن هذا الاختلاف لا ينفي الأصل نفسه، وهو أن أي عمل فني لا بد فيه من “الواقعة” التي يبرز لنا من خلالها كشف ذلك الإنسان. ونستطيع هنا -والآن- أن ندرك ما نعنيه عندما نتحدث في بعض الأحيان عما نسميه “التجربة الإنسانية”، فالتجربة الإنسانية -ببساطة- تفاعل بين إنسان وواقعة.

 

ولكن هل يكفي توافر هذين العنصرين أو الأصلين -الإنسان والواقعة- حتى نقنع بأن ما بأيدينا عمل فني؟ من الواضح أن الإنسان -كل إنسان- يمر في اليوم بوقائع عدة تستوقفه فيضع حولها الإطار الذي يحددها، وينظر فيها نظرته الخاصة، ثم يمضي. وعلى هذا النحو تكون تجربة إنسانية قد تحققت، وبهذا المعنى يكون كل إنسان فنانًا. وهو معنى صحيح إلى حد كبير، ولكن يبدو أن إنتاج العمل الفني لا يكفي فيه أن يتفاعل الإنسان مع الأشياء، وأن ينقل إلينا هذه التجربة، فالتجربة الإنسانية العامة تختلف عن التجربة الإنسانية الماثلة في العمل الفني اختلافًا يسيرًا ولكنه خطير. فلا بد في التجربة الفنية من تحديد “الأبعاد”، فلا يكتفي الفنان بكشف العلاقات السطحية الماثلة، بل يضيف إلى ذلك الغوص في الأعماق، والامتداد مع الجذور المتشعبة المتضاربة، والثقافة هي العامل الأول الذي يرتكز عليه الإنسان في تحديد أبعاد كشفه وارتياده. وتحديد الأبعاد هو في الحقيقة تحديد للدلالة التي استكشفها الفنان خلال العلاقات المختلفة بين الأشياء.

 

وقد يوجد الإنسان وتوجد الواقعة وتحدد الأبعاد، ومع ذلك لا يتمثل العمل الفني؛ لأن العمل الفني في ذاته وفي الحقيقة “تعبير” عن كائن جديد هو أكثر الأشياء تحققًا في العمل الفني وإن كنا نؤخر الالتفات إليه. فالقصيدة التي أقرؤها -مثلا- ليست إلا تعبيرًا عن إنسان في موقف ذي أبعاد. وفي التعبير يختار الفنان الصورة التي يعبر بها، فيعبر بالقصيدة أو بالقصة أو بالرسم أو بالموسيقى، ولكنه برغم اختلاف وسائل التعبير يحرص في كل حالة على أن يجمع لك العناصر السابقة “الإنسان والواقعة والأبعاد” متشابكة في إطار واحد معبر. وهو لذلك يتناول هذا الإطار بالتعديل من حيث الشكل ومن حيث التركيب، حتى يكون هو التعبير الأوحد عن كل تلك العناصر، الذي لا ينفصل عنها. وهذا ما نعنيه عادة من عبارة “صدق التعبير”.

…..