قصيدة النثر .. الموسيقى والجمالية الشعرية / أشرف الجمال

 

..

  إن حصر الشعر في الجانب الموسيقى وفي الأوزان والتفعيلات لهو فهم ضيق لمفهوم الشعرية .. وهو محاولة لشكلنة ماهية الشعر وجوهره والخروج به عن حقيقته تلك التي أدركها القدماء بوعي شديد .. فعلى سبيل المثال وَصَف كفار قريش القرآن الكريم الذي لا يمكن إدراجه تحت أوزان وتفعيلات الموسيقى العروضية بأنه شعر، وذلك يوميء بفهمهم الثاقب لجوهر الشعرية إذ أدركوا أن الشعرية طاقة كامنة وجوّانية تمثل أيقونة الماهية النصوصية وحقيقتها لا شكلها .. وهو ما تفصح عنه بطريقة خاصة لإنتاج الدلالة وتمثل العالم وهندسة المعنى واستدعاء مراسم التخيل والتعبير عن العالم بالرموز والصور .. وتحطيم بنية التركيبات الكلاسيكية للغة والخروج عن نمطية السرد التعبيرية .. وتفجير معجمية مضافة إلى متن المعجمية الأساسية للخروج عن المألوف والنمطي اللفظي والشعوري .. وتخطي مواضعات اللغة بطريقة خاصة تمثل روح قصيدة النثر التي توظف تقنية الكتابة بشكل مغاير عن بقية الأشكال التعبيرية الأخرى .. إن الشعر محاولة هدم وبناء.. إعدام وخلق لقيمة الشكل وباطن المضمون وطريقة الأداء الفني واستلهام الفكرة والإفصاح عنها في نصوصية كتابية مشحونة بخيال قوي وفاعل في مناجاة وعي وروح المتلقي .. وإنه من الفقر والضيق حصر مفهوم الموسيقى في السماع الأذني والإيقاع الملموس .. فثمة موسيقى فكرية وروحية تكتنها طاقة التخيل وهندسة العبارة في القصيدة النثرية وتحتاج لذائقة أكثر عمقا لدى المتلقي .. لأنها تتخطى المفاهيم الشكلانية والمباشرة لموسيقى الشعر الموزون .. وها هو عبد القاهر الجرجاني من كبار البلاغيين القدامى والنقاد الأفذاذ يورد واقعة الأعرابي الذي سئل : لمَ تحب حبيبتك ؟ فأجاب : لأنني أرى القمر على جدار بيتها أحلى منه على جدران الناس .. ويستخلص عبد القاهر من هذا الموقف : أن الشعر يمكن أن يوجد دون أوزان .. وها هو حسان بن ثابت الشاعر المخضرم يسأل ولده : ما الذي يبكيك ؟ فقال الابن : لسعني طائر كأنه ملتف في بردى حبرة . فقال حسان : لقد قلتَ الشعر ورب الكعبة .

ليس هناك تناقض يضفر بنية القصيدة النثرية باعتبارها شعرا .. لأن الفن الحقيقي هو ما يوظف التقنية بشكل ثوري يمنحها رحابة وأفقا ممتدا للقراءة والتأويل .. والقصيدة النثرية هي وليدة المد الثقافي والإنساني المعقد في الفلسفة والعلوم والتتابع التاريخي وإنتاج النظريات التي تشكل وعي الإنسان بذاته .. وسقوط الفلسفات الإثنينية التي تفصل بين الشكل والمضمون والمادي والمثالي والعرض والجوهر .. ثمة تداخل بين أشكال الكتابة واستدعاء وظائفها .. فلم يعد النظر إلى الملمح الخارجي هو المحرك لإنتاج القيمة .. إن البذرة الكامنة في باطن الأرض هي ما تشكل الشجرة .. والطاقة الشعرية التي تكتنها قصيدة النثر هي ما يشكل وعينا بشعريتها لا إيقاعها الظاهر .. وقصيدة النثر هي بوابة الشعر للخروج من حجريته وتكلسه وتمثل الآني والحاضر والمعيش .. والخروج من أكفان الرؤى الماضوية المعلبة والجاهزة .. هي رهان الوعي في جدليته مع العالم .. ومحاورة الذات مع الموضوع وفق لغة ذكية وأدوات تخاطب غير مباشرة تناسب تعقيدات العالم والأفكار وطرائق تمثل الوجود .. وإنتاج فعل القراءة والتأويل إشارة لا تصريحا لكي لا يموت النص وتتحجر جماليته في مظهرية كتابية لا تعبر عن حقيقة الفن من قريب أو من بعيد . لا تحاول قصيدة النثر أن تجر نفسها لفخ الغنائية الساذجة .. أو الخطابية الموجهة .. أو التقريرية المتعالية .. وإنما هي تطمح وتتطلع إلى رؤية معرفية هي بمثابة فلسفة للعالم وتصور عن دينامية الوجود وفعل الحياة وموقف الإنسان من الطبيعة والله وذاته والآخر الذي يشاركه ديمومة الحراك الوجودي عاطفيا وإنسانيا ..

ما يميز قصيدة النثر حقيقة هو قدرتها على الاستيعاب والتحليل والتفصيل والجدل وتوظيف المعرفي والتاريخي والديني والعلمي داخل إطارها توظيفا شعريا بعيدا عن ممارسات الكتابة العلمية أو السرد الروائي أو منطقية التعبير المقالي .. إنها تؤسس لها منطقية جمالية وشعورية خاصة تحتضن قيما معرفية وفلسفية عميقة .. لكنها تفصح عنها بخصوصية شعرية ممنهجة على مستوى الديالوج الجمالي مع الوعي والذائقة ولكنها مرنة وثورية وغير قابلة لهيكلة الدلالة وترسيمها بشكل حاسم يقبض عن المعنى كما يحدث في الخطاب العلمي أو الفلسفي .. ومن هنا كان استدعاء الأساطير والميثولوجيا والمحاورات الفلسفية والغنائيات الفرعونية والترانيم والحوار والومضة والقص والحدث التاريخي والمشهدية الوصفية وامتداد الزمكان الشعري .. كل ذلك كان بمثابة احتواء للقيمة وإعلاء لرتبة الدلالة الشعرية ووظيفتها باعتبارها طريقة في رؤية العالم والإسهام في صياغة الوجود لا مجرد مشاعر رخوة للتغني الرومانسي .

وتراهن قصيدة النثر على تقنية تخصها بشكل رئيس وهي تقنية المراوغة .. فقدرة النص على الإحالة والترميز والإشارة والتلميح وتفجير طاقات اللغة بحيث تصدم وعي المتلقي بمواضعاتها المعجمية الجديدة التي تؤسس لها قصيدة النثر للتعبير عن رؤى غير كلاسية وغير موروثة ولا هي إعادة إنتاج لتصور السابقين عن الوجود وما ورائه .. وعن الإنسان وإشكاليات التعايش .. هو ما يحقق الصدمة الجمالية أو ما يسمى بالدهشة .. فقصيدة النثر تحاول أن تضيف لقارئها عبر رؤية جديدة ومعالجة فنية ثورية تضيف لرصيد القاريء الجمالي .. وتعمل وفق تقنية المراوغة التي تتخطى الموروث والمتوقع لذائقة المتلقي إنها تعمد إلى المفاجيء واللامتوقع عبر المغالطة التعبيرية أو التضليل المقصود للتمويه على الطرق المباشرة الكامنة في استعداد القاريء للتلقي .. بحيث تفجؤه وتحرضه على إعمال فكره وإعادة المراجعة لوسائل وعيه في استلهام القيمة وتذوق الجمال .. وتلعب اللغة دورا كبيرا في تحقيق ذلك .. وكذلك الصورة والرمز والمفارقات والقفز على رتابة تموضع الدلالة وهندستها بشكل دينامي لا استاتيكي ثابت .. يخالف عامدا ما ينتظره المتلقي تعبيرا وسردا .. شكلا ومضمونا .. صورة وفكرة .. فكل ثورية رؤوية تقتضي بالضرورة وسائل ثائرة ولا نمطية للإفصاح عنها . مع ثراء قصيدة النثر ورحابتها وقدرتها على التماس والتداخل واستدعاء تقنيات أدبية من فنون أخرى كالقصة القصيرة والخواطر والمراسلات مثلا إلا أن ذلك لا يمس جغرافيتها الجمالية التي تحدد ملامحها الخاصة وتشكل إطارها البنائي .. فالعولمة كقيمة لا تعني غياب تفاصيل النص والتخلي عن تمسكه بهويته التي تمنحه خصوصية عن بقية الأشكال الأخرى .. فالإطار مفهوم أدبي يمكن أن يكون وعاء للتقنية .. وقد يوظف القاص تقنية شعرية داخل إطاره القصصي وهذا لا يعني أن قصته شعر .. وقد يوظف الشاعر تقنية قصصية داخل إطار شعري وهذا لا يعني أن قصيدته قصة .. إن تبادل التقنيات وتوظيفها هو قيمة جمالية مشروعة ومطلوبة لتغذية المعنى وإثراء الدلالة وتحقيق غنى الطرح الجمالي النصوصي بغير تناحر أو تذويب لملامح الإطار .. فإن حدث هذا التناحر والتماهي الذي تغيب معه خصوصية الشكل الأدبي فإن ذلك يعني ضعف المبدع أمام تقنيته .. وهو وإن كان عيبا في المبدع فإنه لا يعني أنه عيب في الإطار .. فالشاعر المحترف هو من يوظف التقنية الأدبية على تنوع منابعها دون أن تتفلت منه أعمدة إطاره التي تشكل جسد النص وروحه .

تكتن قصيدة النثر في باطنها بنية شعرية قوية تضع المتلقي بقوة الفعل تحت تأثير الشعرية الطاغية بحيث يكون السؤال ( هل هذا شعر أم نثر ) ساذجا وغير مقبول على مستوى الوعي بالفن وتذوقه .. منها طريقتها في تمثل العالم .. تدشين الخيال كوسيلة لرؤية الأشياء وخلقها تصوريا بشكل مغاير عن القصة والمقال .. تخطي عرفية اللغة وتركيباتها المنطقية قاعديا ونحويا .. توظيف المفردات جماليا في علاقات جدلية سياقية تتعالى على رتابة التوظيف الاستاتيكي لطرائق الصياغة . التعبير بالصورة والرمز وهندسة ذلك بشكل جمالي يؤسس معادلا موضوعيا للموسيقى .. بحيث يحدث موسيقى فكرية وروحية تستمد إيقاعها من سياقية الحالة الشعرية وتتابع أثرها المنسجم على الشعور والباطن الوجداني ..  وتوثب الوعي وفق تتابعية تجليات الفكرة وانسيابها في الإفصاح عن الدلالة .. لقد حرصت قصيدة النثر باعتبار النظر إلى هويتها على تفعيل المحتوى الكامن والمحرك لما هو ظاهر على السطح .. والتزمت بآلية تحطيم القيود التقعيدية في محاولة الماضي العروضي لفقهنة الشعر وعلمنته ووقوفه عند المؤطر الذي لا يمكن الخروج عنه  .. ومحاولة تقديس الشكل للحفاظ على القيمة والتذرع بجغرافية تصنيفها .. وهو الأمر الذي حدث مع الفقه كموروث ثقافي دافع عن تكلسه بالتلويح بتهمة ( البدعة ) .. والأمر نفسه حدث مع البلاغة التي احتضرت على يد يعقوب السكاكي في محاولة لطمس هوية الفن المتحررة والخلاقة والطموح إلى التجديد والإبداع .. وذلك بتحويلها إلى علم وقوانين راديكالية منحوتة لا تقوى على التمثل المستمر والتشكل التناوبي المتجدد  والفرار من قضبان الشكل الأحادي الذي يصيب الفن بالجمود والتحجر .. ما أصاب الدين من جمود وعدم استجابة للآني والمتحرك هو ثبوتيته على يد الفقهاء .. وهو ما حدث للشعر على يد الخليل الذي حاول أن يقعّد ما لا يُقعّد فتأبّت عليه روح الشعر فكبحها بما يسمى بالزحافات والعلل العروضية وهي إشارة لانتفاض الشعر وتمرده ضد محاولات تقعيده .. حتى بات النظر للموشحات ولمحاولات أبي العتاهية للفكاك من الثبوتية العروضية هرطقة وبدعة وكفر على مستوى الإبداع .. وهي التهمة ذاتها التي واجهت شعراء قصيدة التفعيلة من خصومهم الخليليين .. ودافعوا عن أنفسهم بأنهم مجددون .. ومن عجيب ومما يثير الدهشة أن هؤلاء التفعيليين – وهم أنفسهم من واجهوا تهمة الهرطقة – شعريا هم من يوجه الآن التهمة ذاتها لشعراء قصيدة النثر !وكأن التجديد حكر عليهم .. أو لا ينبغي أن يكون إلا وفقا لقواعدهم المقدسة .. وبالطبع : الفن لا يعرف التقديس .. ولا ثبوتية العلم وقدرته على الحسم نظريا وتجريبيا .

لا تعول قصيدة النثر باعتبارها إبداعا شعريا في إنتاج دلالتها الجمالية على الشاعر وحده .. وإنما هي تنظر للمتلقي على أنه شريك أصيل في فعل الإبداع .. لأنها تراهن على القاسم الإنساني المشترك بين المبدع والمتلقي .. لذا فهي تتطلع لوجود قاريء يمتلك من المؤهلات المعرفية والجمالية ما يمكّنه من استلهام القيمة وإنتاجها .. سواء كانت  هذه القيمة معرفية أم جمالية .. ومن هنا لا يمكن لقاريء تكلست ذائقته الشعرية عند الشكل الشعر التقليدي أو توقّف وعيه عند حدود البلاغة الكلاسيكية أن يحسن قراءة قصيدة النثر أو يتعاطى جمالياتها على الوجه الأمثل .. ويمكن القول إن الدرس الأدبي الخاص بقصيدة النثر ينبغي أن يتجاوز عرفيته النمطية لإيصال المعنى والجمالية لذائقة المتلقي .. فيمكن أن نبدأ بالرؤية لأنها بمثابة الإطار المحرض للتقنية على انتقاء أدواتها .. والفاعل في خيارات الشاعر لطرائق بناء العبارة ورسم الصورة واختيار المفردات التي تخدم رؤيته وتمنحها التوهج .. فاللغة هي مجموعة الرموز التي تشكل المعنى وتحدد فضاء الرؤية .. ولكنها في الوقت ذاته ابنة شرعية لقصدية الشاعر البنائية النابعة من تصوراته عن ذاته والعالم وما وراء الطبيعة .. هي وليدة طريقته في التفكير والتمثل وطبيعة تصوراته عن الوجود والحياة .. إنها بمثابة إشارة سيميائية كامنة وفق قوانين العقل لاختزال الوجود في صورة رمزية يكتنها الوعي .. فاللغة الشعرية هي وليدة وعي الذات ( الإنسان ) بالموضوع ( العالم ) .. فالبدء بمعالجة الرؤية التي تمثل فلسفة الشاعر تزامنا مع استبطان اللغة هو أنسب طريقة في تصوري لاستكناه خصوصية النص الأدبي والوقوف على أدواته المنتجة لقيمة الجمال .