قبل أن أعرف الموت_ قصص قصيرة/ يوسف دبوان

في طفولتي لم أكن أعرف المدينة، ولم أسافر إليها.. وعندما قرر أبي أن يأخذني معه، غفوتُ بتلك الليلة على نافذة الفرحة، انتظر بزوغَ الشمس، لنسافر..، استيقظتُ مع أبي وذهبنَا، إلى سائق القرية، لكن سائُق القرية لم يستيقظ، مات! أتذكرُ جيدًا.. ولا زال صراخ ابنته الذي كان يثقب جدران البيت، عالقا في حنجرتي.. ضحكات أطفاله الصغار، العالقين فوق تلك السيارة المُشبكة بالحديد الملون، التي كنت أحلم بالسفر بها.. لا زلتُ أتذكر .. قبل أن أعرف الموت، كيف جلستُ مع أبنائه عند رأس أبيهم؟، أنتظره كي يستيقظ ونسافر .. كبرتُ أنا. وسافرت، وأطفال السائق مازالوا عالقين على شبكِ حديد السيارة، الذي تآكل تحت صدأ الغياب، رغم أن أصابعَهم كانت تلمعهُ كل يوم وهم ينتظرون أباهم الذي سيسافر بهم..
***
بائعة العطر، تقف أمام المتجر، تكتب اسم العطر فوق أوراقٍ صغيرة، وتبخ عليه بعض البخات، توزعه على المارة، مررتُ -صدفةً- وأعطتني ورقة؛ لأشتم رائحته، مع أنني لا أفهم به كثيرًا، ولا أشتريهِ من أسواقٍ راقية.. وبعد مسافةٍ طويلة، لمحتُ في تلك الورقة اسمكِ مكتوب عليه، و اندهشتُ كثيرًا، وكأنّ بائعة العطر، تعرفنا، أو تقصدني، وعدتُ أسال عنه لأشتريه.. كان باهظ الثمن، وليس من عاداتي، أن أشتري عطرًا ثمينا، افرغت كل ما بحوزة أجيابي، ولم تكفي، ورهنت ساعة أخي التي كنت أرتديها، كل هذا فقط لأشتم اسمكِ ليلاً نهارا..
***
كان أبي مصابًا بالسكر.. يخبئ الحلوى في جيبهِ، خشيةً من الهبوط المفاجئ، وكان يفعل ذلك عند خروجهِ من البيت، وكنتُ أنا أغافلهُ وآخذها منه. لم أكن ادرك كم يعني لأبي وجودها في جيبهِ. اليوم ينصحُني الطبيب أن أضعُ القليل من الحلوى في جيبي خشيةً من المرض الذي ورثتهُ عنه.. سامحني يا أبي لأني أخذتُ كل الحلوى من جيب معطفك، ولم أُبقي لك واحدة..
***
يوسف دبوان/ كاتب قصص قصيرة