فقه العبادة عند الصوفية/ حسن مظفر الرزو

قراءة في فقه العبادة لدى السادة الصوفية

حسن مظفر الرزو

..
يكمن ثراء شريعتنا الإسلامية في قدرتها على استيعاب جل متغيرات النفس الإنسانية، وقدرتها على إشباع متطلبات الذات البشرية على طريق تحقيق عبوديتها لله. ويشخص العلم الشرعي بوصفه وسيلة من وسائل فهم الخطاب الإلهي وترجمته الى فعل نتقرب به الى الله .
ويختلف مقدار العلم الذي يفتقر إليه الصوفي للوصول الى مراتب القرب من خالقه، ويغذي السير في طريق مجاهدة النفس ومكابدة آثار آفاتها.
وقد عمد العارفون الى تقسيم العلم الى محورين:
المحور الأول : علم نحتاج إليه مثل احتياجنا الى القوت. وينبغي أن يحسن الصوفي في التعامل مع هذا العلم، فلا يسرف في الأخذ منه بقدر يزيد عن حاجته في التقرب الى الله والارتقاء بأحواله، ومعالجة آفات نفسه الأمارة. ودليلنا على ذلك عدم تكلف الصحابة الكرامباستيعاب جميع مفردات العلوم الشرعية بحضرة رسول الله. ولم نقف على حديث يأمر به رسولنا الكريم صحابته بمثل هذا الأمر، بل كانت دعوته لكل منهم بحسب مقامه في دائرة التعبد لله والتقرّب منه. من اجل هذا قيل: ما وجب عليك عمله، وجب عليك العلم به. بمعنى آخر نقرأ القرآن لكي نفتح أمامنا باباً لعمل نعمل به، ونتناول مسألة فقهية أو عقدية لكي نتجاوز عقبة يضعها الواقع اليومي قبالتنا.
المحور الثاني : علم لا نستغني عنه طرفة عين نفتقر إليه افتقارنا الى ضروريات دوام الحياة واستمرارها. ومفردات هذا العلم لا يمكن للمرء أن يحيط بها، ولا يوجد ثمة حد يقف المرء عنده ما دامت مفرداتها تستوعب أنفاس العبد مع خالقه في جميع الأوقات والأمكنة. فلكل موطن متعلق بالله وعمل تفتقر إليه الحواس، وتوجه للسر لكي يديم التوجه الى خالق الأكوان بحسب ما يتطلبه الحال أو المقام.
ولما كانت العبادة تخلقاً وتحقّقاً بما تطلبه عبودية المرء لخالقه، فإن سريانها يشمل القلب، واللسان، والجوارح جميعاً. وتنقسم العبادة بحسب مراتبها الى مرتبتين، عبادة ذات صلة بالعلم الذي نحتاج إليه. وبها نظفر بالثواب أو ندرأ عن أنفسنا العقاب ومعيارها أدلة الفقه، وتستمد مادتها من الكتاب والسنة الشريفة. وعبادة انصهرت مادتها في نفوس المؤمنين، لأن متعلّقها العلم بذات الله وصفاته، وأفعاله، وأسمائه، وتنزيهه عمّا لا يليق به. ولا يتحقّق هذا العلم إلا بدوام النظر الى آلاء الله وتجليات أسماؤه وصفاته على الكون بحسب قبولها .
ولكي نمارس الفقه بذوق صوفي سليم تشخص أمامنا مجموعة من المسائل التي ينبغي أن نوليها اهتمامنا وعنايتنا:
المسألة الأولى : العبادة توقيفية تؤخذ كما أتت عن الشارع، بهيئاتها، ورسومها، دون تأويل، أو حاجة للتنقير عن علل كامنة فيها. من اجل هذا قال العلماء: الأصل في العبادات بالنسبة للمكلف التعبّد، دون الالتفات الى المعاني.
المسألة الثانية : أن العبادة تتأرجح بين مرتبة الكمال بحفظها، أو النقصان بتفريط، أو غلو . وتكون المحافظة عليها بإقامة حدودها الظاهرة والباطنة باقتفاء آثار الهدي النبوي. أما التفريط فينشأ عن غفلة وتضييع، أو جهل بالسنة. من جهة أخرى فإن الغالي جاهل بما أريد منه، فيعتقد حصول القربة في الزيادة التي تنشأ عن وسوسة الشيطان وتلاعبه بابن آدم .
قال العارف أبو علي الثقفي: لكل شيء حد وكمال. فمن صحب الأشياء على حدودها فقد افلح وانجح، ومن قصّر عن حدودها فقد ضيّع حقّها، ومن تجاوز حدّها فقد أوشك على إهلاك نفسه .
المسألة الثالثة : إن دوام العمل (على قلّته) يورث القلب نوراً، ويعمّق أواصر القرب من اللهوهو خير من كثرة العمل دون اتصال. لأن الانقطاع عن العمل يورث القلب قطيعة بصلته مع خالقه. من أجل هذا حرص السادة الصوفية على إلزام أنفسهم بأوراد في الأوقات، وأمروا بالمحافظة عليها، ومنعوا من التسويف بفعلها .
المسألة الرابعة : يحرص الصوفي على الخروج من الخلاف في عباداته، حتى ولو كان فيما يفعله خلافاً عن مذهبه الفقهي لأن الفرار من الخلاف الى الإجماع يعد سمة على كمال الورع وإسبال لباس التقوى .
المسألة الخامسة : يستوي إظهار العمل وإخفاؤه عند تحقق الإخلاص . ومتى لم يظهر لك حقيقة الإخلاص في العبادة يبقى إظهار الفريضة واجباً لأن في إظهارها إثبات لشعار الإسلام، بينما يكون إخفاء النوافل هو الأولى، لأن جلّ نوافل العبادات تقع في دائرة الأعمال الباطنة .
المسألة السادسة : لما كانت العبادة إقامة ما طلب شرعاً من الأعمال ظاهرة وباطنة، فإن أفضل العبادة تكون بالعمل على مرضاة اللهفي كل وقت بما هو مقتضى ذلك الوقت ووظيفته. ولا يتحقق كمال العبادة إلا بإيثار مرضاة الله تعالى في ذلك الوقت والحال كما أراده منّا، والتوجّه بكليتنا نحو التلبس بواجب الوقت بدلاً من البحث عن غير ما يتسع له مقام الوقت والحال. من اجل هذا كان قصر الصلاة في السفر خير من إتمامها، ولم يكن الوضوء بأولى من التيمم في محله .
المسألة السابعة : إن الشرع جاء بالتعبد لقولهوَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإنسَ إلا لِيَعْبُدُونِ(56) سورة الذاريات. لذا فكل طلب الشارع منصبّ على ما يثبت كونه وسيلة الى التعبّد به لله. أما إن ظهر فيه اعتبار لجهة أخرى فبالتبع دون الأصل الذي تسري عليه هذه القاعدة. من اجل هذا ينصح السالك أن يقيم على فعل العبادة، وأن لا يعد الأحوال والمقامات مرتبة يمكن نوالها بوصفها ثمرة لفعله، لأن الأحوال معان ترد على القلب من غير تعمّد، ولا اجتلاب ولا اكتساب . ولأن نزول الحال على القلوب، ونيل المقامات بوصفها مكاسب مستقلة بذاتها عن العبادة المحضة ما لم تتم عملية التزكية فتعصف آنذاك آثار القبض والبسط بالنفس وتسري بروقها في القلب، وتسطع أنوارها التي تورث الروح حلاوة وقرباً .
قلت: ولا يمكن أن يمارس فقه الصوفية دون التبّس بآدابها، والتحقق بأخلاق شيوخها. فمن ذاق عرف، وفاز بفضيلة التطهر بماء الغيب، وأما من حرم فليس له سوى الصعيد لكي يتطهر من أدران الذات وشوائبها .
توضأ بماء الغيب إن كنت ذا سرّ وإلا فتيمّم بالصعيد أو الصخر؟