حوار مع د. هويدا صالح/ علياء سروجي

 

لم يتوقف الصعيد المصري يوما عن متابعة حضوره في تشخيص الهوية الثقافية المصرية، وتعتبر هويدا صالح ابنة الصعيد من أبرز الحاضرين في الواجهة النقدية الأدبية العربية والمصرية اليوم.”كانت أيام الدراسة الجامعية تمر من بيننا مثل نحلة مسرعة منشغلة عن زملائها في قراءتها وكتبها وعملها الدراسي الدؤوب”، هذا ما صرح به أحد زملائها المعاصرين لها في ذلك الوقت.حصلت هويدا على درجة الدكتوراه في النقد الأدبي بأطروحة عنوانها «الهامش الاجتماعي في الرواية من منظور منهج سيسيو ثقافي». تكتب في الصحف والمجلات المصرية والعربية، إضافة إلى عملها مدرسا لمادة علم الجمال وفلسفة الفن بجامعة 6 أكتوبر. درَّست في عدة جامعات عربية و شاركت عدة مرات في تحكيم جوائز الشارقة الثقافية وكتارا الدولية وغيرها إضافة إلى جوائز مصرية مهمة. كتبت العديد من الكتب النقدية و أيضا الرواية ومجموعات قصصية.

لماذا تأخر العرب في خصم مشكلة الما بعد حداثة ولا زالوا إلى الآن بين معارض و منفتح على ما جاءت به وما تولد عنها؟ تأخر العرب في حسم هذه الفلسفة لأنهم ما يزالوا أسرى للماضي، أسرى لثقافة لا تقدر العلم ولا الفلسفة كثيرا؛ لذا ليس من المستغرب أنهم ما زالوا يتخبطون في قبول هذه الفلسفات الفكرية. نحن كعرب نستهلك جيدا ما ينتجه العلم ، لكن لا نتمثل التفكير العلمي في حياتنا اليومية، نتحدث في أحدث إصدارات الهواتف المحمولة، نفيد من أحدث إصدارات الأجهزة نتعالج بالأدوية التي ينتجها الآخر من خلال العلم، لكن تمثل التفكير العلمي والتفكير الفلسفي في حياتنا هذا مستحيل. ثقافتنا لا تدعم هذا للأسف. إنها ثقافة ماضاوية، لذا لم يؤمن العرب بالحداثة حتى يقبلوا ما بعد الحداثة.

 

كيف يمكن تجاوز مشكلات الما بعد حداثة وما تلاها لمسايرة التقدم العالمي؟علينا أولا أن نؤمن بالتفكير العلمي، علينا ألا نصف العلمانية بأنها رديف للكفر، علينا أن نتمثل هذه الفلسفات في حياتنا، سواء كانت الحياة الاجتماعية أو السياسية أو الثقافية، تجدين مثقفين كبار يرجعون مشكلاتهم الحياتية إلى الحسد والعين والنظرة الحاسدة، فكيف تتوقعين من بقية الشعوب إذا كانت النخبة نفسها تغرف في الما وراء والميتافزيقا والخرافة؟ علينا أن نحارب الخرافة التي تعشش في لا وعي الشعوب قبل أن نفكر في الما بعد حداثة والما بعد نسوية والما بعد كولونيالية وغيرها من فلسفات فكرية.

هل يمكن الاشتغال على منتجات الحداثة و المحافظة على هويتنا الثقافية في الوقت الذي تدعو فيه الحداثة إلى الذوبان والتلاشي لصالح العولمة المنحازة إلى محو الثقافات الانسانية الخاصة وجعلها ذات وجه واحد؟ ثمة علاقة جدلية وتداخل بين العولمة والحداثة، فالحداثة كانت وما تزال فكرا يراد له أن يكون عولميا، كما تدعو الحد الحداثة إلى العولمة، لذا ثمة علاقة ترابطية تبادلية بينهما، لكن يرى البعض أن تسويق الحداثة فكر يُكرّس للتبعية الفكرية للمركزية الغربية، ومن ثم يرون أنها تهدد الهويةالثقافية، وخاصة أن العولمة نفسها تدعو إلى هوية عالمية شبه موحدة، وتنكر الخصوصيات الثقافية المحلية للشعوب لكن العولمة كظاهرة ليست وليدة اليوم ولا وليدة الحداثة، إنها ظاهرة ضاربة في القدم كما يقولون، أو ليست الفتوحات الإسلامية شكل من أشكال العولمة؟ اعتراضنا على العولمة الراهنة ابنة الحداثة والمرتبطة بها أنها امتداد للفكر الكولونيالي، فخطورتها تكمن أنها وجه من وجوه الإمبريالية الغربية، فهي تروج لأن يظل الغرب، الغرب الذي يشمل أمريكا و أوربا هم المركز، وبقية العالم تظل أطرافا تابعة فكريا وفلسفيا وعسكريا واقتصاديا له. الغريب أن الفلسفة فكر يغذي النزعة الإنسانية والأخلاقية في الإنسان( المدينة الفاضلة) ( عالم المثل) في حين أن العلم الحديث الذي كان منوطا به أن يحل مشاكل الإنسان، ويحارب ما تضعه فيه الطبيعة من كوارث وأمراض بات يستخدم من قبل القوى الإمبريالية الجديدة في التحكم في الشعوب، وأتصور أن ظاهرة كوفيد 19 التي ما تزال ماثلة في الأذهان بكل تحوراتها وفيروساتها كانت مناط نقاش علمي وفكري أنها من صنع تلك القوى، وليس من صنع الطبيعة، فمن قال أنها صنعت في معامل و وهان في الصين، ومن قال أنها من صنع أمريكا وهكذا تم تبادل الاتهامات، ليس على المستوى الشعبوي، بل حتى على مستوى العلماء والمفكرين. المسألة معقدة جدا، ولا ننكر على من يخشى على الهوية والخصوصية الثقافية قلقه ومخاوفه، كما لا ننكر أيضا على من يدعون للعلم والتحديث والحداثة وما بعد الحداثة طموحاتهم النبيلة في الخروج بالشعوب من الماضاوية والإغراق في الما وراء إلى تمثل العلم وقيمه، فالعلم أداة جبارة من أدوات المعرفة،  وقد خطا بالبشرية كلها خطوات واسعة في سبيل التقدم والرقي، ولا يجب أن نرفض معطياته نكاية في الغرب الاستعماري.

هل ستنجح الما بعد حداثة في محو التاريخ البشري ومقابلة المستقبل بعقلية جديدة تقوم على جعل التاريخ البشري شيء من الماضي الذي هو أشبه بالاسطورة التي لن يكون لها مكان في عالم المستقبل؟ إن ما بعد الحداثة كانت ردا فلسفيا على تطرف الحداثة الفكري. لقد أسقطت ما بعد الحداثة مقولات الحداثة الكبرى: فكرة التقدم، الحقائق العلمية اليقينية، الاشتراكية والدين والتاريخ،
لكنها لم تطرح نفسها بديلا واضحا، له قيم محددة المعالم يمكن أن تكون إطارا فلسفيا لتيار فكري جديد يناقض الحداثة كلية ويقضي عليها. ثمة أحداث كبرى في العالم دفعت إلى إعادة ترتيب أوراق هذا العالم على نحو جديد مثل أحداث الحادي عشر من سبتمبر، الطفرة التكنولوجية غير المسبوقة التي أنتجت مواقع التواصل الاجتماعي، الحروب التكنولوجية التي ساعدت على اندلاع ثورات واحتجاجات كبرى في العالم ومن ضمنها منطقتنا العربية، ما بعد
كوفيد 19 عشر، حرب أوكرانيا، وصولا إلى الذكاء الاصطناعي، كل ذلك كشف هشاشة فكر ما بعد الحداثة وأنه غير قادر على أن يقود البشرية إلى طريق واضح المعالم. لقد ناقش فرانسوا ليو تار في كتابه حالة ما بعد الحداثة هذه الحالة الهلامية التي يتخبط فيها العالم وانعكاس ذلك على كل شيء بداية من التحزبات السياسية والاقتصادية والحروب الإلكترونية وصولا إلى تحولات الفنون والآداب والمنتوجات الثقافية. وأتصور أن تلك الحالة السائلة في طريقها للازدياد.

 

هل من الضروري الحفاظ على خصوصيتنا الثقافية أم نحن ننتمي إلى الفكر الثقافي الانساني الواحد وما يجري الآن من أخذ ورد هو مجرد تعقيد مرحلي وسينتهي لتفوز به العولمة وتكنس بتيارها الهادر كل ما نحاول إنقاذه من خصوصيتنا الثقافية. ما رأي النقاد العرب حسب اطلاعك واحتكاكك بهم؟ نعم من الضروري الحفاظ على الخصوصية الثقافية، لكن دون أن تتحول تلك الخصوصية إلى مرض فكري يجعلنا نرفض كل ما يأتينا من العالم. هي معادلة صعبة ودقيقة، أن نحافظ على هويتنا الثقافية، على الخصوصية، وفي نفس الوقت نصبح جزءا من العالم، فلا نتخلف عن ركب البشرية ومسيرتها الفكرية والعلمية . لكن هذا يتطلب من مؤسساتنا جهودا مضاعفة في تقديم خطاب ثقافي عبر التعليم والإعلام والمؤسسات الثقافية، خطاب واعي باللحظة وتحدياتها وبالتراث وما فيه من قيم إنسانية مشتركة لا تجعله قيدا على الحاضر والمستقبل.

 

في حوار سابق لك عام 2022 لصالح مؤسسة العويس الثقافية ربطتي الجوائز الأدبية بالذائقة الشخصية للناقد الذي يحدد بدوره الفائز: “كل من لا يفوز سوف يتشكّى، هذا أمر طبيعي، والجوائز تمنح بناء على ذائقة النقاد في الدورة المشارك فيها، فكل عمل فاز بجائزة لأنه وافق ذائقة نقاد تحكيم هذه الجائزة، وليس معنى ذلك أن الأعمال التي لم تفُز رديئة أو أقل قيمة”. هل على المبدع أن يكون تحت رحمة أهواء النقاد. أليس النقد علم قائم على أسس ونقاط تحسم فوز عمل من آخر؟. رأي في الجوائز قلته فعليا في هذا الحوار السابق ذكره، لأن الجوائز كل عام تثير الكثير من اللغط بين مؤيد ومعارض بشدة. كل عام يتحول الأمر إلى مندبة كبرى على الإبداع وحال الإبداع وما تفعله الجوائز، في تقديري أن الجوائز ليست سيئة، بل هي حوافز معنوية ومادية للمبدعين، لكن شريطة ألا تتحول السمات الجمالية التي فوّزت عملا دون آخر إلى أصنام
يعبدها المبدعون، و يتمثلونها في العام التالي لحاقا بركب الجوائز. بل المبدع هو من يكتب سماته الخاصة والنقاد ينظرون ويقيمون ويصنعون روافد لتلك السمات، النقد يلي الإبداع وليس العكس. نحن نكتب والنقاد يؤصلون لما نكتبه وينظرون له. لا يجب أبدا أن يخضع
المبدع لمعايير أي ناقد أو أي جائزة، بل يكتب باشتراطاته الخاصة ويترك النقاد ينظرون لما قام به من اشتراطات جمالية وفنية. أما الكتابة بمعايير أي جائزة، فهذا عبث، لأن تلك المعاييرتتغير من عام لآخر بتغير النقاد و ذائقاتهم النقدية فهل كل عام نضع موضة إبداعية على الناس أن يسروا عليها العام الذي يليه طمعا في الجائزة؟ إن هذا يصبح عبثا كبيرا يضيع الإبداع والنقد والجوائز مجتمعين.

 

كتاب موت الفلسفة إعداد وترجمة هويدا صالح. مجموعة تعرض أهم الأفكار التي يطرحها فلاسفة معاصرين. موت الفلسفة مصطلح من مفرزات الحداثة وما بعدها بدأ مع ستيفين هوكينغ الذي قصد بموت
الفلسفة تراجع دور الفيلسوف لصالح التقدم العلمي ، بالتزامن مع تيار الما بعد حداثة الذي صرح فيه ليوتار أحد منظري التيار، سقوط السرديات الكبرى. هل الهدم الذي يحدثه التقدم العلمي بكل وسائله لصالح الإنسان. كيف تواجه هويدا صالح هذا التغيير كأستاذة جامعية و احساسها بالمسؤولية العلمية والأدبية أمام طلابها؟ أحاول قدر طاقتي أن أقيم ما أقرأ من فلسفات حول العالم و أتمثلها وأبسطها لطلابي ولقرائي، أتصور أن كل ما يحدث من انذياح للفلسفة وثورات في العلم والتكنولوجيا كله لصالح الإنسان، لا يجب أن نخشى التغيرات الفكرية الكبرى، علينا أن نواجهها، نقرأ فيها، نتعلم منها، نأخذ منها ما يناسب خصوصيتنا الثقافية، لا نقف عند مرحلة من المراحل ونقول كنا أسياد العالم أو كنا كذا، علينا أن نقول أين نقف نحن الآن؟ ما موقفنا من طروحات العالم الفكرية والفلسفية والعلمية والفنية والأدبية؟ كيف نأخذ كل ما هو جديد بشرط ألا تنذاح هويتنا الثقافية ولا نتخلى عنها؟ علينا ألا نخشى العلم أن نقف على أرض صلبة من معرفة جادة وتمسك بالقيم الإنسانية المشتركة مع الآخر. هذا ما أحاول أن أوصله لطلابي وقرائي.

 

كيف ترين مستوى الوعي لمشكلات الما بعد حداثة بين الجيل الجديد في الجامعات العربية؟ الجيل الجديد متجاوز ومتواصل مع العالم بشكل جيد. لا يعاني من تخوفاتنا، أعتقد أن التخوفات لدى
الأساتذة، فهذا الجيل أصبح بفضل الثورة التكنولوجية ووسائل التواصل الاجتماعي، أصبح قادرا على أن يكون جزءا من هذا العالم. المشكلة في الأساتذة الذين لا يستوعبون هذا الجيل بتفكيره السريع والحاد والواضح . سجن الأساتذة أنفسهم في مقولات راديكالية وانطلق التلاميذ يواكبون ما يطرح في العالم من طروحات فكرية وثقافية وغيرها.

 

هل للمناهج الجامعية علاقة بتأخر مواكبة الما بعد حداثة، والاستفادة من معطياتها أو العمل على تعريبها؟ المناهج الجامعية أسيرة للماضي، بل لن أكون متجنية لو قلت أنها حتى لا تستوعب الحداثة فما بالك بما بعد الحداثة وما بعد ما بعد الحداثة، والنسوية وما بعد النسوية وغيرها من طروحات فكرية وفلسفية.

هويدا صالح أحد أبرز الوجوه في الأدب العربي اليوم ما الذي يبهجها وما الذي يحزنها في الواقع الأدبي العربي المعاصر؟. يبهجني أن نتعامل مع الأدب باعتباره أحد جسور القضاء على التخلف والفكر الراديكالي، يبهجني أن تلتفت الأنظمة العربية إلى أهمية الثقافة والتعليم وتضعهما في مقدمة أولوياتها، يبهجني أن تعتني بالمثقف والمعلم فهما قادران على أن ينهضا بوعي المجتمع والأجيال الجديدة. يبهجني أن يكون العلم والتفكير العلمي في مخططات الدولة. يحزنني أن تتجنى الدولة على هذين الرافدين اللذين يشكلان وعي الأمة ولا تمنحهما ما يليق بهما من مخصصات من ميزانياتها، وحتى ما يتم تخصيصه من ميزانيات يتم إهداره على فعاليات شكلية لا تسهم في تنمية أو تطوير أي وعي. يحزنني أن يتخندق النقاد في مقولات جاهزة ويدخلون على النصوص يقيمون بناء عليها دون أن ينصتوا لمقولات النصوص و يستنطقونها. يحزنني أن تتحكم الشللية و التربيطات في الثقافة والمثقف والجوائز. يحزنني أن يكتب النقاد عما يعرفونه فقط و لا يبحثون عن الشباب
في قرى مصر ونجوعها قبل عاصمتها ومركزيتها..