حوار مع الشاعر سركون بولص

 

      جاءني الشعر مبكرا كالضربة التي مازلت استرجعها حتى هذا الزمن.
    *

      الحداثة مفهوم غامض وصعب التفسير ويعتمد على موقف الشاعر الشخصي من الثقافة والعالم.
    *

      في قصيدة النثر ليس ثمة ما يقيد الشاعر سوى تجربته الخاصة وديمومة الصوت والايقاع.

  منذ فترة تزيد على عشرين عاما يقيم الشاعر العراقي سركون بولس في مدينة سان فرانسسكو، هذا الشاعر المنحدر من مدينة كركوك حاول مع أقرانه حين وصلوا الى بغداد في الستينات تغيير خارطة الشعر العراقي، وفي إحداث ثورة بأساليبه وتقنياته ضمن مشروع يريد تجاوز ما انتجه جيل الرواد الشعري جيل قصيدة التفعيلة.

ومن بغداد حمل سركون مشروعه الشعري، حيث توقف في بيروت وتعرف على تجربة مجلة شعر اللبنانية وساهم في تحريرها وترجم العديد من النصوص الشعرية من اللغة الانجليزية، خصوصا لشعراء القارة الامريكية، الذين عبروا عن روح جديدة تختلف عن الشعر الانجليزي المكتوب في بريطانيا تنسجم وفضاء القارة الجديدة على حد تعبير اكتافيو باز. ربما هذا الاكتشاف للشعر الامريكي الذي ساهم فيه شعراء عراقيون آخرون مثل جان دمر وفاضل العزاوي دفع سركون للذهاب الى موطن حركة الحداثة الثانية في الشعر الامريكي، فسان فرانسسكو هي المكان الذي أنعش حركة جيل البيكنس ومن هناك برز الشاعر ألن غينيسبرغ ولويس فرلينفتيني وغيري سنا يدر ومايكل ميكلير، إضافة الى بروز جاك كيرواك والكاتب وليم بروغ صاحب رواية «الغذاء العاري» التي أحدثت ضجة كبيرة في الوسط الأمريكي وأصبحت في الستينات انجيل ذلك الجيل.

في سان فرانسسكو تعرف سركون على مصادر الشعر الامريكي، وتعرف على بعض شخصيات جيل البيكنس، وتعرف على شعراء آخرين اختطوا لأنفسهم نزعة جمالية تتسم بالتأمل وبالنزوع الصوفي مثل الشاعر هيروين. وخلال الأعوام التي قضاها في سان فرانسسكو بقي سركون مخلصا للشعر ولترجمة الشعر، وأثناء تلك الإقامة الطويلة التي قرر أن ينهيها بالذهاب الى أوروبا خصوصا الى لندن وباريس طور سركون تقنياته الشعرية، وصارت اللغة لديه أكثر حسية. فهو بالرغم من اقامته الطويلة في الولايات المتحدة لم يتخلص من لهجته البغدادية وبقي نفس القروي ذلك القادم من كركوك.

وكان اللقاء الأول به في مقهى يقع في حي أغلب سكانه من المهاجرين القادمين من أمريكا اللاتينية بسان فرانسسكو. وقال هذا أول لقاء له مع شخص عراقي من سان فرانسسكو له اهتمام بالكتابة. ومن المقهى ذهبنا مع صديق لي صاحب مكتبة عربية في المدينة الى حانة شعبية صاحبها من المكسيك ويتحدث أغلب زبائن الحانة بالاسبانية. وكان سركون قد قرر وقف التدخين، فالجو كان غير ملائم في مكان يدخن فيه الجميع بكثافة وبعد ساعتين غادرنا الحانة وتوجهنا الى مطعم مكسيكي يبيع وجبات مكسيكية بهيئة ساندويش كبير. وقبل ان ألتقي بسر كون في اليوم الثاني اشتريت آلة تسجيل صغيرة، واتفقنا على ايجاد محل هادىء لاجراء الحوار، وبعد جوله طويلة شاركنا فيها طالب دراسات عليا من الكويت في هذه المدينة النائمة بوقاحة على لحف المحيط كما وصفها بقصيدة له، وجدنا مكانا هادئا في حانة شعبية لها ساحة ذات فضاء واسع لم يشاركنا فيها أحد في جلسة استمرت أكثر من ثلاث ساعات وكان هذا الحوار.

* كيف كانت البدايات ولماذا اختار سركون الشعر؟

– أنا أعتقد أن الشعر يختار،وأحيانا دون ارادك وهذا يعني أن الشعر موقع خاص تصل اليه بشروط معينة تدفعك اليها تجربتك الحياتية. وجاءني الشعر مبكرا منذ كنت صغيرا. وكان كالضربة التي مازلت استرجعها حتى في هذا الزمن المتأخر كلما حاولت أن أكتب قصيدة. وفي مفهومي إن الشعر نوع من السحر الذي من الممكن أن يغير حياتك كاملة، كما قصد ذلك ريلكة في قصيدة له عندما قال “عليك الآن أن تغير حياتك “.

* متي تؤرخ لأول قصيدة كتبتها؟

– كانت قصيدة عن صياد أذكر أني كتبتها وأنا في الثانية عشرة من عمري، وأنا لم أنس تلك القصيدة لأن فكرة الصيد هي مفهوم الشاعر الحقيقي. أي أن الشاعر يجلس على البحر أو على الشاطىء كل صباح ويدلي بشصه في الماء لعل هناك سمكة عابرة فالشاعر هو صياد.

* الآن تدرك هذه المعادلة فلماذا اخترت الصياد كمعادل للشاعر؟

– اخترت الصياد دون أي وعي وكنت أصغر من أن اكون واعيا بما أفعل آنذاك، ولكنني أرى الآن أن الشعر بحر والشاعر هو الصياد وهناك شبكة ما. ولنقل أن الشبكة هي القصيدة وعليه

(أي الشاعر) أن يخلق تلك الشبكة وهذا عمل يستغرق طيلة الحياة.

وبعد ذلك..؟

– بعد ذلك، البدايات تستمر ولا اعتقد أن ثمة نهاية للشعر، فالشاعر هو دائما بداية. ويؤكد كاتب ايطالي أجله كثيرا اسمه شيزارا بافيسي يقول انه «ليس لنا سوى أن نبدأ» وفي هذه الحال ليس لنا سوى أن نبدأ وهذا هو قول الشاعر الحقيقي.

* انك من مدينة كركوك وانتقلت من كركوك الى بغداد وفي مجموعتك الثانية “الحياة قرب الاكروبول”  ثمة حضور لمدينة كركوك فكيف تصف لنا تجربة كركوك ؟

– هناك فرق كبير بين كركوك وبغداد. فكركوك مدينة غريبة التركيب من حيث الأجواء الاجتماعية ومن حيث الأقوام التي تسكن فيها، ذلك الخليط العجيب المتكون من العرب والآشوريين والأكراد والأرمن والصابئة ومن الاجناس العتيقة التاريخية التي وجدت نفسها في الشمال، حيث ان المدينة كانت دائما منبعا إنسانيا متنوع اللون والشكل. وهو منبع لا ينتهي لغرابة اللغات المتبادلة بين تلك الأقوام، بينما بغداد هي بغداد وهي شيء آخر ولها طابع يعرفه كل من عاش في تلك المدينة. وكركرك بالنسبة لي هي بداية الكتابة وكانت المنبع والمكان الذي فتحت فيه عيني على مواقف الشعر. وعندما ذهبت الى بغداد كان تركيبي الشعري قد ثبت وتصلب تقريبا حتى ولو كانت بغداد هي المنبر الحقيقي والمكان الأوسع روحا والاكثر امتلاء بالحياة عندما وجدت نفسي فيها.

* ما هي ملامح كركوك في تجربة سركون الشعرية ؟

– لقد كتبت عن كركوك في كل كتبي وفي شكل خاص في كتابي الأخير «الأول والتالي» وفيه قصيدة اسمها نهار في كركوك. وهي قصيدة تعبر بالضبط عن صورة كركوك التي لا زالت تلازمني، وهي قصيدة كتبت في أمريكا بسان فرانسسكو.

* إذا أردنا أن نتعرف على ملامح ذلك الشاعر الشاب سركون بولص في كركوك كيف نتعرف عليه ؟

– طبعا…. هذا الشيء لا يمكن أن أعبر عنه إلا شعريا في قصيدة ولكن سأحاول (يضحك).

* بعد مرحلة كركوك تأتي تجربة بغداد كيف كانت تلك التجربة ؟

– كانت بغداد بالنسبة الي الخروج من الأحلام والسقوط في حلم آخر كبير. فبغداد هي الحلم وكنا نحلم نحن شعراء المدن النائية كمدينة كركوك بتلك الروضة المليئة بالنيون والمليئة بالملذات كما كنا نتخيلها نحن القرويون تقريبا، ذلك لأن الكركوكي بالنسبة للبغدادي في الفترة التي أتحدث عنها وهي فترة الستينات كان نوعا من القروي، وهو يمثل التفكير الريفي بالنسبة للتفكير المديني الذي كان يجسده رجل العاصمة حيث الحانات وحيث الانفتاح من الناحية الاجتماعية في الجنس والنساء والحب. فبغداد أكثر تحررا من مدينة مغلقة اجتماعيا مثل مدينة كركوك، كبقية المدن الأخرى الصغيرة حيث الحب مثلا كان شيئا سريا وخفيا ومازال حتى الآن. وكنا نحلم ببغداد وكأننا إذا وصلنا سنكون قد وصلنا الى واحة كبيرة بالحياة.

* في بغداد وجدت نفسك مع جيل شعري جديد كان يفكر بكتابة جديدة تتجاوز ما أنتجه جيل الرواد الشعري في العراق.

– في تلك الفترة كانت بغداد مليئة بالشعراء وكان جيل الستينات الذي جاء من جميع أطراف العراق ربما كان مدفوعا بنفس الحلم ومتبعا نفس الخطي مكنا. وجد ذلك الجيل نفسه في المقاهي حيث النقاش السياسي والثقافي دائر ليل نهار، وكنت تجد نفسك في معركة سحرية جميلة يشارك فيها العشرات من الشباب وكانوا هم من أدرك إن الثقافة ليست مجرد لعبة ايديولوجية كما كانت مثلا عند الرواد، وانما هي حلم أكبر من ذلك وأكبر من أن تتداول مفاهيم معينة كالثورة والثقافة والشعر، لأن العالم كان كله يلتهب ويفلي بالنسبة لهؤلاء الشباب ويجعلهم يحسون أن طاقتهم جديدة تماما وينبغي أن تكون ثورية ومختلفة بشكل آخر بالنسبة عما سبقهم. ونتيجة لذلك الاحساس وليس التفكير الذي كان يشكل حساسية معينة كان هو الذي ميز شعراء الستينات عن الشعراء الذين سبقوهم وجعل شعرهم وكتاباتهم روضتهم الى عالم أكثر حداثة وانفتاحا.

* في تلك الفترة ظهرت مستويات مختلفة من الكتابة التي تدرج ضمن مفهوم الحداثة.

– الحداثة هي مفهوم غامض وصعب التفسير ويعتمد على موقف الشاعر الشخصي من الثقافة والعالم بشكل عام. أي إن الثقافة تجربة تقف وراء الشاعر والتي تقرر مدى فهم هذا الشاعر أو ذاك وعلى أي مستوى من ما نسميه بالحداثة. وكانت حداثة الرواد تشكيلا جديدا للتفكير الرومانسي الذي هو ثوري أصلا. وكانت متأثرة بتقنيات شعراء الحداثة في أوروبا كإليوت وستويل وعزرا باوند وأودن الذين خلقوا الحداثة الأوروبية ز العشرينات والثلاثينات من هذا القرن، في حين أن الشعراء الذين جاؤوا بعدهم – شعراء الستينات – كانوا يقرأ ون لأجيال أخرى جاءت ما بعد إليوت وباوند وأردن كشعراء البيكنس مكر ألن غينيسبرغ وجاك كيرواك وغيرهم من شعراء الحداثة الثانية في أوروبا وأمريكا. فالتأثيرات التي فعلت فعلها في شعراء الستينات لم يعرف عنها شعراء الريادة الأولى أي شي ء، لأن ثقافتهم توقفت عند حدود الحداثة البدائية الأولى، حداثة إليوت وعزرا باوند.

* هذا يعني حدوث قطيعة مع جيل الرواد؟

– إن جيل الستينات كان جيل القطيعة لأنه تبنى أولا قصيدة النثر، وان قصيدة النثر هي ثورة حقيقية ورفض كامل لأسس معينة استند اليها ويحتمي بها الشعر العربي الكلاسيكي والتي تفرع منها شعر الرواد. فشعر الرواد كسر العمود الشعري وهذا لا يعني أبدا أن الشعر قد تحرر، لأن القيود مازالت كما كانت عند شعراء مكركيتس وووردزروث. فالسياب مثلا كتب بنفس النمط الذي كان يكتب فيه كيتس، فهو أحدث الشعراء على الاطلاق وأعتبره أهم شاعر عربي وقد كتب حسب أنماط موجودة في الشعر الانجليزي وكانت ثقافته انجليزية بحتة واتبع نفس التقنيات والقوانين التي كانت عند شعراء الرومانسية الانجليزية ولم يتبع تقنيات شعر إليوت وعزرا باوند. فهو قد تأثر بإليوت فكريا وتقنيا ولكن ليس بشكل الكتابة الشعرية. وعلي أن اعترف إن المسألة معقدة فإليوت وشعراء الحداثة الأوروبية جاؤوا لكي يثوروا على شعر الرومانسية عند بايرون وكيتس وشيلي وووردزروث وعلى غيرهم من شعراء الرومانسية، وشعراء الرومانسية هؤلاء قد تمكرا في شاعر سبق إليوت وباوند هو توماس هاردي الذي جاء واعتبر في الشعر الانجليزي أكبر وريث حديث للرومانسية، الذي نقاها وشكلها في قوالب أخرى. أما شعراء العراق الذين سميناهم بالرواد فقد جاؤوا ليكتبوا قصيدة كما كتبها هاردي وليس كما يكتبها إليوت أو باوند وأردن وغيرهم من الشعراء الذين جاؤوا وثاروا على هاردي وريث الرومانسية.

* هل يصح مثل هذا الحديث على الجيل الثاني من الرواد مثل سعدي يوسف ؟

– هذا جيل أخر يضم كلا من سعدي يوسف ومحمود البريكان ورشدي العامل وشعراء أخرين وقعوا تاريخيا بين الرواد وبين الستينيين ونطلق عليهم شعراء الخمسينات. فسعدي يوسف مثلا هو شاعر ذكي وواع، وكان في بداياته مدركا بشكل جيد لهذه المسائل. والغريب أنه قد قام بوثبات مذهلة بتقنياته في شعره الباكر، لكن سعدي يوسف مازال يحمل ذلك النفس الرومانتيكي الحديث لأن شخصيته الشعرية لازالت تتراوح بين قطبين، قطب الحداثة المطلقة وقطب الحداثة المقيدة. وف هذا المجال خلق سعدي أنماطا جديدة في الشعر موسومة بطابعه الشخص، لأنك تستطيع أن تتعرف على قصيدة سعدي أينما وجدتها وهو شاعر كبير ولم يخلق قطيعة مع الرواد قطيعة كاملة وانه بحكم عمره وموقعه التاريخي كان مجددا حقيقيا.

إننا عندما نتحدث عن التجديد المطلق الكامل أو عن القصيدة التي تذهب الى نهاية القطيعة ينبغي أن نتحدث عن قصيدة النثر إذا أردنا أن نفهم أين مستقبل الشعر العربي. ونحن حين نقول قصيدة النثر فهذا تعبير خاطيء لأن قصيدة النثر في الشعر الأوروبي هي شيء آخر. وفي الشعر العربي عندما نقول قصيدة النثر نتحدث عن قصيدة مقطعة وهي مجرد تسمية خاطئة، وأنا أسمي هذا الشعر الذي أكتبه بالشعر الحر كما كان يكتبا إليوت وأودن وكما يكتبه شعراء كثيرون في العالم الآن. واذا كنت تسميها قصيدة النثر فأنت تبدي جهلك لأن قصيدة النثر هي التي كان يكتبها بودلير ورامبو ومالارميه وتعرف بـ (prose poem) أي قصيدة غير مقطعة. وأصبحت هذه المسألة معروفة الآن. واعتقد أن النقاد العرب، يصرون على هذه التسميات كي يشككوا في قيمة قصيدة النثر لذا نحن نحتاج الى نقاد مستقبليين يتحررون من هذه العقدة أي عقدة الخوف وان يفهموا بعد دراسة حقيقية للشعر العالمي ماهية قصيدة الشعر الحر. ونأمل أن يأتي جيل جديد من النقاد يتميز بهذا الفهم، بهذا الانفتاح دون خوف وعقد. ويبدو أن الكثير من كتبوا عن قصيدة النثر كتبوا عنها بشكل عدائي، وهناك فهم خاص في أن قصيدة النثر هي قطيعة نهائية وهذا صحيح وهذه القطيعة هي ضد الشعر وهذا أمر غير صحيح.

* في الوطن العربي ظهر جيل بعد تجربة الرواد مثل جيل أدونيس ومحمود درويش وصلاح عبد الصبور وآخرين هل أضاف هذا الجيل الى تجربة الشعر العربي الحديث ؟

– طبعا دون شك….

* أنت تتحدث عن قطيعة عن قصيدة التفعيلة لكن الاتهام الذي يوجه الى جيلكم هو التأثر الكبير بتجربة أدونيس الذي لم يتحرر من قصيدة التفعيلة.

– بالطبع إن جزءا من شعراء ذلك الجيل كانوا شعراء ايديولوجيين الذين وجدوا عند أدونيس ضالتهم المنشودة. وان شعراء الايديولوجيا في الستينات والسبعينات في الشعر العربي هم من تأثر بأدونيس لأنه شاعر ايديولوجي وانا لا أقصد بذلك طعنا بأدونيس وانما أقصد أن ثمة جانبا كبيرا من التفكير الايديولوجي يسير شعر أدونيس.

* هل شكت تجربة أدونيس إضافة الى الشعر العربي الحديث ؟

– دون شك إن أدونيس شكل إضافة وهو شاعر عظيم وأنا لا أحب أي واحد أن يطعن بأدونيس وهو شاعر لا يحتاج الى شهادات ولا يحتاج الى إثبات أي شيء لأن نتاجه يقف هناك شامخا.

* من خلال تجربتك الخاصة كيف تنظر الى أدونيس؟

– أنا من خلال تجربتي أختلف شخصيا ونهائيا عن تجربة أدونيس وأعرف شعر أدونيس واين يتجه واحترم ذلك الاتجاه، لكن مفهومي الحقيقي للشعر هو: إن كل شاعر ينبغي أن يبني عالما كاملا لأن كل شاعر مختلف في تقاسيمه وايقاعاته وفي تجربته التي يجترع منها تلك الايقاعات وتلك التقاسيم وأنا لا أعتقد أن أي شاعر يخرج هكذا ويقلد شاعرا ما، هذا الأمر ليسر له أي معنى.

* في الستينات كتبتم كثيرا ويبدو انكم مارستم نوعا من الاستعجال في الكتابة ومن خلال الاعمال التي نشرها أبرز ممثلي جيلكم هناك نوع من التخلي عن الكتابات التي يبدو عليها الحماس والاستعجال وأنت واحد منهم حيث نشرت كثيرا في مجلة شعر ومواقف ولم نجد الكثير من تلك النصوص في المجموعات الثلاث التي نشرتها من شعرك.

– هذا صحيح وعل أن أتحدث عن تجربتي الشخصية واستطيع أن أحكم عن شعراء آخرين وربما قد تكون لي أراء معينة في هذا المجال وأنا لم أتبع الطرق المعتادة التي يتبعها الشعراء الآخرون لأن حياتي كانت مضطربة بشكل مهول وأنا لم أعش الحياة الجيدة اللطيفة الثابتة التي عاشها أغلب الشعراء بعد التخرج من الجامعات واصدار مجموعات شعرية منظمة والتعامل مع الناشرين.فأنا عشت الشعر وفي رأيي إن الشاعر المبدع هو أن يعيش ذلك الشعر الذي يريد أن يكتبه. فالشاعر بالنسبة لي هو متناحر مع تجربته الحياتية حقا، وتجد الكثير من القصائد إن لم يكن تسعون بالمئة منها لا تعتمد على تجارب حياتية حقيقية رغم أن هذا ليس شرطا ولا يهم القارىء في النهاية. غير اني أجد أن الشعر بالنسبة الي حاجة عظيمة ومخيفة وسحرا أحتاجه لذلك فإن الشعر لا يعني أي شيء عندما يكون مجرد نتاج وملء صفحتي كتاب لذلك لدى ثلاثة كتب فقط، ولدي قصائد منشورة هنا وهناك وفي مجلة أدونيس “مواقف” لدي قصائد منشورة من الممكن أن تكون أكثر من كتاب ولكني لم أجمعها على الاطلاق ولا تلك القصائد التي نشرتها في مجلة شعر والتي تتجاوز الخمسين قصيدة. فأنا لست شاعرا نظاميا، أنا شاعر من نوع آخر.

* في المجموعة الأولى “الوصول الى مدينة أين ” يحمى القاريء أن القصائد منتقدة من فترات معينة وليس ثمة تاريخ للقصائد فهل كنت متعمدا في هذا الاختيار؟

– إن قصائد “الوصول الى مدينة أين ” هي قصائد متفجرة وهي قصائد الحيرة بدءا من العنوان وإذا فتحت الكتاب وقرأت الكلمة الأولى وهي «وصلت» وقرأت الكلمة الأخيرة في الكتاب “ذهبت ” تجد في الكتاب أن فكرة الوصول الى مدينة أين محتجزة بين هاتين الكلمتين. ففي البداية تصل ولكنك في النهاية تذهب ولم تصل الى أي مكان لأن ليس هناك أي مكان والمسألة هذه تلتقي مع قول القديس أوغسطين أنه “ليس هناك مكان نحاول أن نذهب ونجيء اليه ولكن ليس ثمة مكان ” التي كانت حاضرة في مجموعة الوصول الى مدينة أين.

* هل تنطبق هذه المقولة على اختيار كل القصائد في المجموعة ؟

– انا أختار القصائد لتشكل كتابا وليست مجموعة قصائد،وأنا أكتب كتابا له بداية ونهاية وتجد هذا في الكتاب الثاني “الحياة قرب الأكروبول” فالكتاب الثالث “الأول والتالي” يبدأ من الطفولة وينتهي في نيويورك وهو يضم سبعة أجزاء وهذا ينطبق على كتاب “الحياة قرب الاكروبول”  فكل البلدان التي عشت فيها والمدن التي تعرفت عليها والنساء التي شكت تجربتي تقولب نفسها كي تتخذ هذه الأشكال وفي النهاية تصب في نوع نهائي هو الكتابة.

* في نصوص «الوصول الى مدينة اين » تقنيات في الكتابة تكاد أن تتشابه.. كيف تصف تلك التقنيات ؟

-هذا الكتاب حاولت أن أجمع فيه جوهر الأصوات المتعددة التي كنت أكتب فيها منذ بدء الستينات بكتاب جاء في الثمانينات أي بعد نشر الكثير من القصائد في المجلات العربية غير أني لم أجمع منها سوى النزر اليسير وركزت بدل ذلك على ما أسميه بالقصائد التفجيرية، لأني أردت أن يكون الكتاب الأول مركزا على النثر بصورة كاملة دون أي تشبث بقصائد الوزن التقليدية كما كانت تكتب من قبل الرواد وان تكون قطيعة مطلقة من حيث الصوت ومن حيث الايقاع النثري الخالص مع الشعر السائد. وأنا حين أنظر الى كل ذلك من خلال هذه المسافة الزمنية أجد أن الجنون العاطفي والايقاعي الذي يصل أحيانا الى حد اللاوعي والاستغراق به في هذه القصائد هو دليل على ما كنت أعانيه عندما جئت الى الولايات المتحدة من بيروت وهو دليل على حيرتي إزاء هذا العالم الشاسع الوحشي الذي وجدت نفسي فيه وكيف يمكن لي أن أعبر عما كنت أعيشه وباي سبل. كانت هناك ضرورة قصوى أن أجد أشكالا أخرى لتقمص التجربة الامريكية كامتداد لتجربتي في الستينات في كل من بغداد وبيروت وهكذا جاء كتاب “الوصول الى مدينة اين” وهو يعبر عن اللامكان الذي كنت أقف فيه آنذاك.

* في المجموعة الأولى نلاحظ أن القصيدة تتكون من مقاطع قصيرة حيث تعتمد التقطيع، في حين نلاحظ في المجموعة الثانية “الحياة قرب الأكروبول ” ان القصيدة تتكون من جمل طويلة وأحيانا تكون مقطعا كاملا فكيف وصلت الى مثل هذه التقنية ؟

– هذا سؤال رائع، بالطبع هناك قصيدة الضربة، منها مثلا قصيدة الجلاد في الكتاب الأول التي تتكون من ثلاثة أسطر وهي عن الطاغية الذي مازال شبحه يلاحقنا حتى الآن وهذه قصيدة كاملة

وهناك قصائد أخرى من هذا النوع في الكتاب، إنها القصيدة الشرسة والصوت الذي يواجه الموضوع مباشرة ويطلق سهمه نحو الهدف. ويضاف الى ذلك القصائد العنيفة أي تجربة قصائد النثر التي يمكن لها أن تدخل اللاوعي بشكل عاصف حيث تدوخ اللغة العربية وتبدو أجنبية. واللغة من الممكن ان تغرب بهذه الطريقة. وفي الشعر الحديث إذا درسنا صناعة الحداثة نجد أن تغريب اللغة هو أول الأفعال لفصلها وقطعها عما سبقها بحيث تقف وحدها بلباس أجنبي لتبدو لغة أخرى، ومن هنا تبدأ هذه الصناعة. لذا فإن لغة كتاب “الوصول الى مدينة أين”  هي اللغة التي غربت نفسها قصدا لأن الهدف في كل الكتاب هو أن تقف على حدة من جميع ما هو سائد وهذا هو فعل الثورية الحقيقي العنيف الذي ربما فاق الحدود في رأيي. بينما في الكتاب الثاني وجدت نفسي أكثر هدوءا وأتعمق في التجربة الحياتية حيث إن الصوت شكل نوعا من الجملة المطولة التي لا تقف عند حد في حين كانت الجملة بالكتاب الأول عنيفة وشرسة. بينما أصبحت في “الحياة قرب الأكروبول” أكثر امتدادا لتنال مدى أبعد.

* هل جاء اختيار الجملة الطويلة ضمن خطة واعية أم أملتها التجربة الخاصة ؟

– دون أي شك جاءت ضمن اختيارات واعية جدا وأنا واع جدا لعملية كتابة القصيدة، ففي الكتاب الثالث «الأول والتالي » تخلصت من أشياء كثيرة كانت موجودة في الكتابين الأولين، وجرت فيه – أي الكتاب الثالث – عملية تركيز مكثفة حيث أن الوعي يبرز أكثر في كل كلمة. لذلك جاءت القصائد أقصر والديمومة تنال القصيدة بأكملها. ففي القصائد الأخيرة نجد ديمومة الصوت التي بدأت في الكتاب الأول بشكل عنيف كما قلت ومن ثم تطورت وهدأت ونضجت أكثر في الكتاب الثاني حيث تنفرش على الساحة الأصوات والايقاعات وتعطيك خلفية كاملة ومطلقة وبتفاصيل حقيقية تعتمد مرجعيا على التجربة الحياتية مثل الحياة في اليونان والتي استمرت – تلك التجربة الاغريقية – في الكتاب الثالث وثمة قسم كامل لقصائد اليونان في “الأول والتالي” متطورة تقنيا الى حد أن تتخذ القصيدة مشاهد العالم الحقيقي والتعابير والأشكال والايقاعات التي يستنبطها الشاعر من ذلك العالم.

* من أين تستمد الايقاع ؟ وأنت تؤكد أن التفعيلة تجعل من القصيدة ذات تركيب أفقي وذات شكل هندسي من الممكن أن تتصوره قبل كتابة القصيدة، فأين تجربة محمود درويش الذي حاول أن يطوع التفعيلة ويمنح القصيدة أفقا مفتوحا من حيث الايقاع ؟

– إن البحور العربية تفرض على الشاعر العربي – أي قبل أن يكتب قصيدة – أن يمشي عبر الصفحة بشكل معين ودون حرية مطلقة، أي أن الشاعر مهما برع في السيطرة والسيادة على الوزن هناك دائما الايقاع الهندسي الذي تفرضه شكلية البحر المختار لكتابة القصيدة. واذا قررنا أن نكتب على إيقاع بحر الكامل مثلا لوجدنا أنفسنا مجبرين على اختيار كلمات معينة ومطولة تتوافق مع متفاعلن ومستفعلن. أي أن مجزوءات هذين الشكلين اللذين يؤلفان بحر الكامل سيفرضان علينا دائما طوال القصيدة أن نتقيد بالكلمات التي تنبني أو تنصب في هذين الصوتين، فـ(متفاعلن) يقابلها (متفجر) لذلك ستكون كل قصيدة تكتب على بحر الكامل ستكون على الاطلاق مؤلفة من كلمات يكون الجزء الأساسي منها مشددا حيث لا تكون ثلاثية أو رباعية وانما من كلمات خماسية وسداسية وأكثر.

* يعتبر بحر الكامل من البحور التي تمتاز بالتعقيد فهو يجمع بين بحر الوجز والسريع والمتدارك، وثمة عدد قليل من شعراء التفعيلة الذين لجأوا الى استخدامه مثل أدونيس ومحمود درويش.

– إذا كان الأمر يتعلق بشاعر سيد على وزنه وسيد على قصيدته قد يكون مختلفا، فشعراء مثل أدونيس ومحمود درويش هؤلاء يعرفون كيف يمسكون بالتيار وكيف يسيطرون على الدفق. وأنا أتكلم عن أشياء مسبقة عن السيادة ومطلقة بالنسبة لأي شاعر يكتب بالوزن، أي ما أسميه بالقصيدة الأفقية إذ يكون من الصعب كسر السطوح التعبيرية والايقاعية فيها وأحيانا يكون صعبا بشكل استحالي، وعندما يتعلق الأمر بالنثر وأنا أتحدث عن سيد نثره وسيد الايقاعات وهذا لا ينطبق على جميع الشعراء وانما ينطبق على قلة حيث يمكنك ان تخلق في النثر إيقاعات حقيقية وحرة تضرب في مجالات لا يمكن للقصيدة الموزونة أن تطرقها.

* كيف يمكن تحديد هذه الايقاعات ؟ وما هي إيقاعات القصيدة التي تكتبها؟

– عندما نتحدث عن الايقاع الموزون والايقاع النثري فإننا نتحدث عن شيئين مختلفين،ذلك لأن الأذن العربية لفرط تعاملها مع الوزن قد صارت مخدرة وتعترف بإيقاعات خاصة معينة تنتج نوعا من الطرب وهي الايقاعات التي تحتويها البحور العربية. لذا يبدو أن الأذن العربية تحتاج الى وقت طويل كي تتعود على ايقاعات النثر، وقصيدة النثر لا تعتمد على الايقاع فحسب بل هي تعتمد على أشياء كثيرة فالإيقاع هو عنصر واحد. وهو في قصائد معينة يتبع دائما الثيمة والموضوع والشكل والأشكال الشعرية الأخرى التي لا تمتلكها قصيدة الوزن بكل بساطة لذا فإن التعقيد في هذا النوع من الشعر – شعر النثر – هو من أول الشروط الشعرية التي يتبعها الشاعر.

* نلاحظ أن تجربة جيل البيكنس الامريكي استفادت من إيقاعات معينة مثل الجاز حتى عندما نقرأ نثر جاك كورياك نجد إيقاعات الجاز حاضرة في نثره.

– دون أي شك هناك إيقاعات الجاز والبلوز والايقاعات التي استقاها والت ويتمن من التوراة، إضافة الى الايقاعات التي استوحاها واستنبطها ألن غينيسبرغ من ويتمن نفسه ومن الشعر العبراني. واستنبط جاك كيرواك ايقاعات من موسيقى البلوز ومن ما يسمى بالبيب بوب في الجاز وايقاع الهايكو الياباني فهي تقنيات واشكال ساهمت في الخلق الشعري الحديث ما بعد إليوت والتي شكلت ما يسمى بما بعد الحداثة كحركة.

* إذا أردنا أن نتحدث عن قصيدة النثر العربية فهل تمكنت من خلق إيقاعات موسيقية أخرى غير مصادر الموسيقى العربية التقليدية المتمثلة ببحور الخليل ؟

-إن قصيدة النثر العربية الحاضرة هي قصيدة مغامرة انطلقت من عدم الاقتناع بايقاعات القصيدة التقليدية وايقاعاتها مستمدة من شكل القصيدة ومن التجربة الموجودة فيها. لذلك فإن الايقاعات غير ثابتة وغير ممكن أن تكون مقننة في قصيدة النثر، فكل قصيدة لها إيقاعها الخاص يضاف الى ذلك أن كل قصيدة لشاعر معين تمتلك إيقاعه الشخص الذي يدل عليه وهذا الشيء الذي لا يمكن لقصيدة الوزن أن تفعله على الاطلاق. بينما في قصيدة النثر ليس ثمة ما يقيد الشاعر سوى تجربته الخاصة وديمومة الصوت الذي تشتمل عليه القصيدة والتفاصيل الأخرى التي ليس لها أية نهاية والتي تنضاف الى مسألة الايقاع. فالإيقاع ليسر منفصلا في هذه الحالة عن التراكيب الأخرى في قصيدة النثر.

* لنعد مرة ثانية الى تجربتك في الكتابة، في كتابك الأول «الوصول الى مدينة أين» نجد أنه يعتمد على الصورة حيث يبدو كل سطر صورة، في حين نلاحظ أنك تحاول أن تتخلص من الصورة في كتابك الثاني «الحياة قرب الأكروبول» وتلجأ الى السرد.

– هذا صحيح ففي الكتاب الأول كان اعتمادي على الصورة بشكل مبالغ فيه، ذلك لآني كنت منذهلا بالصورة في ذلك الوقت، وبصورة مبسطة أكثر كانت الصورة المكثفة بالنسبة لي آنذاك هي جواز المرور الى عالم اللاوعي وكنت مندهشا وأفكر صوريا الى أن تجاوزت هذا الموضوع ووجدت نفسي في الكتاب الثاني اتخلص من الصورة قدر الامكان، وأبسطها حيث أن الصورة تخدم شيئا آخر هو الحالة أو المشهد الشعري الداخلي الذي ينظر اليه كمرجع للخارج أي في الحياة المدرة والمتدفقة. فالصورة كانت في الكتابب الأول سوريالية وحاولت أن أتخلص من آثار التصوير المباشر في الكتاب الثاني والثالث.

* في الكتاب الأول تلجأ كثيرا الى أدوات وحروف التشبيه هل كان هذا لضرورة فنية ؟

– لقصيدة النثر تقنيات وأساليب تعتمد كثيرا على المقابلة وعلى تقابل الأشياء وتصادمها، لذلك فالصدام بين الأشياء والصور هو الذي يخلق الوديان الكلامية في الكتاب الأول.

* في «الأول والتالي » يبدو أنك تحررت كثيرا من أدوات التشبيه.

– أنا في الكتاب الثالث أكاد لا أشبه الا بطريقة غير مباشرة. وهذا يعني أن عملية التشبيه تطورت الى حد أنها نفت نفسها فصار التقديم أو التجسيد هو الذي يحظى باهتمامي وهناك قصيدة في “الأول والتالي” تتكون من اكثر من عشرين مقطعا عنوانها «تجاسيم» وهذه الكلمة اخترعتها وتفهم بمعنى “التجسيد” للحالات، فصار التجسيد بدلا من التقابل الصوري واللجوء الى أدوات التشبيه.

* مفردة «العالم» نكاد نجدها تقريبا في كل نصوصك الشعرية فلماذا هذا الاصرار على هذه المفردة ؟

– منذ وقت طويل وعند بداية مسيرتي تأثرت بفكرة جاء بها فيلسوف ألماني اسمه ليبيتن وهي فكرة عن المونولودجيا أي أن العالم يتكون من وحدات شكلية سماها بالمونادات فكر شيء هو موناد، فالقنينة هي موناد والعين موناد والكأس موناد وكذلك الشعر والقمر والمصباح والنجوم. وهذه الفكرة تطورت الآن في الوقت الحاضر بالفيزياء الحديثة خصوصا في فيزياء اللايقين عند هاينزبورغ حيث أن هذا العالم لا قيمة ولا معنى له على الاطلاق، لم يكن هناك من يسمونه بالرقيب اي المشاهد الذي يقف في مكان ما من الكون ويقول هذا الشيء المعلق في الفضاء اسمه نجمة وذاك اسمه قمر وهذه هي مجرد اسماء ووحدات أو مونادات بالكون وهذه ببساطة فكرة الفيزياء الحديثة وأنا مؤمن بها ومنذ شبابي سيطرت على هذه الفكرة. وأغلب القصائد التي كتبتها مليئة بالعشرات وربما بالمئات من الوحدات الموجودة واقعيا في العالم التي تتركب مع بعضها البعض لتكون عالما كاملا مستقلا بحيث أن هذه الوحدات والمونادات تتصادم مع بعضها في حقل ميدان من الطاقة حيث تكون القصيدة في النهاية ميدانا حيا من الطاقة الفيزيائية وهذه الطاقة تقرر شكل القصيدة.

* في المجموعات الأول نواك مشغولا بالفكرة كثيرا وربما هذا ما يفسرا للجوء الى الصورة في حين نشاهد في المجموعتين الثانية والثالثة ميلا نحو الحسية واستفادة من فنون الكتابة الأخرى كالرواية والمقالة.

– ان قصيدة النثر هي التي تستغل وتغرف من كل الروافد ومن كل الانهار ومن طرائق الكتابة المقالية وتغرف من الكتابة الدينية ومن النص الصوفي ومن العلم ومن السينما والباليه والرقص وربما هذا الذي يشكل ايقاع قصيدة النثر. فالشاعر عندما يكتب يكتب بكل حواسه وبكل سعرفته ولا يكتب مثل الشاعر التقليدي الذي يحاول ان يطربنا ويهزنا أو يحاول أن يقنعنا بفكرة سياسية أو أيديولوجية، فالشاعر الآن الذي يقف في مركز الكون وفي مركز التجربة الحياتية حينما يكتب تكون السياسة والايديولوجية والموسيقى وكل الفنون مصبوبة في نظرة ورؤيا وفي موقف حسي وهدفه في النهاية ان يدخلك في هذا الحقل من الطاقة الحية وفي هذه العاطفة المطلقة كما قال عزرا باوند انه “لا شيء غير العاطفة “. والعاطفة هنا بمعنى (Passion) الوجد الوجودي والكوني فالشاعر هو كائن يحترق كي تبرز هذه الطاقة ولكي يكون وقودا لهذه العاطفة ولهذا الوجد. وانا لا أجد أي شيء يمكنه أن يقنعني بأن قصيدة النثر مجرد شكليات أو مجرد تقنيات أو ضرورة تاريخية كما يتحدث عنها النقاد أو كتقليد سخيف لقصيدة الغرب. فهذه القصيدة هي الضرورة وكان الشاعر العربي يتطور نحوها على الاطلاق منذ القرآن الكريم. وتكاد أن تكون كل الكتب الدينية مكتوبة بالنثر وهي الكتب التي مازالت تهز البشر.

* في كتاب ” الأول والتالي ” ثمة استفادة من الشعر العربي القديم وحضور لشخصية النابغة الذبياني وللشاعر عمرو ابن أبي ربيعة، فهل تطمح في خلق علائق جديدة مع شخصيات من الشعر العربي القديم ؟

– أحيانا أجد نفسي أفكر بشروط زمانية معينة وتعطيني حسا ثابتا لتواريخ معينة، وأحيانا ارتبط مع التاريخ والتراث بشكل اعتباطي وليس شرطيا أبدا. وهكذا يحدث أن أجد نفسي أتحدث وأعيش جوا خاصا يربطني بشاعر معين قرأته في فترة ما وبقي جزء من شعره يغذيني في الحاضر. إن بضعة أبيات للنابغة الذبياني قد بقيت في ذهني وهي تتحدث عن الكواكب وعن السهر والأرق في عهد الملك النعمان بن المنذر عندما كان النابهة شاعر البلاط بالحيرة. وجدت نفسي ذات ليلة في سان فرانسسكو أرفا في ليلة مليئة بالنجوم، وكنت قريبا من البحر ومن الحس التاريخي وبصورة غير واعية أحسست بارتباطي بهذا الشاعر.

وحدث ان اكتشفت أن الأزمنة كلها متداخلة، وان الذبياني الذي عبر عن هذه الحالة موجود في كل الأزمنة، ومن بينها الزمان الذي أعيش، والذي ولدت فيه قصيدة ” كواكب الذبياني” وبشكل واع ربطت الذبياني بمدينة سان فرانسسكو وبليلة معينة من أوا خر القرن العشرين وبليلة لا أعرف بأي تاريخ كتب عنها الشاعر الذبياني.

وأما بالنسبة للشاعر عمرو بن أبي ربيعة الذي أعده من أعظم شعراء الغزل في العالم وهو من أندر الشعراء الذين استعملوا السرد الزماني لخلق جو معين فيه حركة وطاقة، وينوع من التلاعب والضحك وجدت نفسي أشكو له عن حالتي مع الحب والغزل والمرأة حيث كتبت له مرثية. والمرثية هنا فيها من اللعب لأنها ليست بمرثية على الاطلاق، لأنني أرثي لما أقول للموضوع الذي هو جرأة المرأة الحديثة التي تجرك للسرير بحيث تقطع امكانية الغزل كما كان الأمر في حياة وزمن عمرو بن أبي ربيعة. وأسمي هذه العلاقة مع التراث أحيانا بالعلاقة الشرطية وأحيانا بالعكسية والتي تتميز في بعض الأوقات باللعب وعدم الجدية، وبالترابط الحي الانساني وليس بتجربة الكتابة فقط.

*هل تفكر بإعادة مثل هذا اللعب مع شاعر عربي قديم آخر؟

 – لدي الآن قصيدة عنوانها ” الى امرىء القيس في طريقه الى الجحيم ” وهي قصيدة أجري فيها حوارا مع امرىء القيس، وبالطبع في أمريكا وفي حالة معينة كانت تشبا حالة امرىء القيس عندما كان يهرب من المنذر بن ماء السماء الذي قتل أبده وحدث أن ذلك الزرد المسموم المشهور قد أهدي من قبل ملك الروم آنذاك الى امرىء القيس الذي كان سبب موته. جعلتني هذه القصة وقراءة معلقته ذات ليلة أحس به حيا ضمن إطار تجاوز الأزمنة وتداخلها، وأتحاور معه ليس كشخص وانما من خلال كوة الظل الشعري الذي نسميه امرأ القيس الشاعر. وعليك أن لا تنسى أن الشعراء حتى لو عاشوا في نهاية القرن العشرين فهم مسكونون بالأجداد والأشباح والأطياف الشعرية والتاريخية وهذا الأمر يردنا الى المونادات أو الوحدات الوجودية.

* قيل عنك أنك كنت تقطع نهر دجلة سباحة من أجل اللقاء مع الكاتب الراحل جبرا ابراهيم جبرا.

– «يضحك» ان جبرا كان بالنسبة لي ولشباب آخرين أبا حقيقيا. وكنت أسبح وأعبر جسر الجمهورية كل يومين أو ثلاثة من الاسبوع، كان بالنسبة لنا أيضا مصدر رزق حيث كان ينشر لي ولرهط من الشعراء المفلسين من بينهم جان دمو الذين كانوا يتوافدون يوميا على مكتب جبرا ابراهيم جبرا في مجلة،” العاملون بالنفط “.

وكان جبرا أبا روحيا بالنسبة لي وكنت أتحدث معه لأنه كان واحدا من العقول النيرة التي استطيع أن أتحدث معها عن اكتشافاتي في الأدب العالمي التي كنت أقرأه بنهم وكنت مذهولا بالأدب الغربي. وكان جبرا ابراهيم جبرا الكاتب والمترجم والشاعر شخصية فذة، كأنه واحد من شخصيات النهضة الأوروبية العظيمة كدافنشي، التي لها إحاطة بالعلم والأدب والفن والتيارات الفكرية الأخرى، إنه ليس شاعرا أو كاتبا فقط وانما هو بالنسبة لي كان شخصية عالمية. وانا عرفته عندما اكتشفت انه يحرر مجلة «العاملون بالنفط» وكنت آنذاك في كركوك وعرفت أن المجلة تدفع مكافأة مالية كانت متواضعة غير أنها بالنسبة لي آنذاك غير متواضعة، فالدنانير الثلاثة أو الخمسة التي تدفعها كانت كافية لليلتين أو ثلاث في حانة مع عشرة شعراء مفلسين.

* هل ساهمت تلك العلاقة مع جبرا في ترسيخ عملية الترجمة لديك ؟

– كان جبرا بالنسبة لي المثال العظيم وهو الذي قام بترجمة شكسبير وآخرين وكنت معجبا بترجماته لشكسبير فهو كان مثالا للمترجم الحق. وأقول لك قصة أنه عندما تركت بغداد للذهاب الى بيروت والتقيت بجبرا ابراهيم جبرا في مكتبه ببغداد في كرادة مريم أعطاني مخطوطة الملك لير مطبوعة على الآلة الكاتبة كي أوصلها الى يوسف الخال ببيروت لغرض نشرها في دار النهار. وكان جبرا لا يعرف وأقول هذا للمرة الأولى بأنني كنت ماشيا عبر الصحراء على الأقدام وكان يعتقد بأني ذاهب كأي مسافر بالطائرة أو بالسيارة الى بيروت، ولم يدر بخاطره هذا الأمر حتى وفاته. ولم أقل له بأني حملت مخطوطة الملك لير معي في حقيبتي عبر الصحراء وفي أحقر الفنادق بحلب وحمص ودمشق وعبر الحدود السورية اللبنانية ومع مهربين مغامرين حتى وصلت بيروت وسلمت مخطوطة الملك لير الى يوسف الخال ونشرتها دار النهار.

* انت تقول انك تكاد تمارس الترجمة يوميا وترجمت العديد من النصوص، ما هو اثر الترجمة على نصك الشعري؟

– التأثير كان كبيرا جدا. والترجمة فن قائم بذاته وأنا عندما اترجم – خصوصا الشعر – أقوم بكتابة النص من جديد باللغة العربية محاولا أن أجد الصوت الكافل كما ينبغي أن يكون بالعربية لذلك الشاعر المترجم. وهذا امتحان قاس جدا، والترجمة اليومية المستمرة هي نوع من التمرين بالنسبة لي. وهذا التمرين هو ممارسة اللغة لكي أجد البدائل في العربية لأقصى وأدق التعابير في اللغة الانجليزية. والتحدي هو أن تجد في اللغة العربية التعابير الدقيقة والتراكيب المعقدة التي تجدها أحيانا عند كبار الشعراء. فمثلا أحيانا أقوم بترجمة أبيات من جحيم دانتي لأني أحب أن أترجم لنفسي المقاطع الصعبة لأمتحن اللغة العربية وأتساءل هل يمكن لهذه اللغة أن تعبر عن هذا الشيء أو ذاك كما أجده باللغة الانجليزية لأحد أعظم شعراء اللغة الايطالية. ويقود هذا التمرين أحيانا الى تجاوز نفسك واللغة لاختراع نوع جديد من التراكيب الشعرية وكل هذا طبعا يؤثر في النهاية علي كشاعر عندما أكتب.

* الشاعر الامريكي ميروين مهووس بالترجمة، وقد تلقي نصيحة من الشاعر عذرا باوند في بداياته الشعرية الذي حثه على الترجمة، واكتشف الشاعر ميروين أن لغته قبل القيام بالترجمة كان فقيرة وخالية من الدلالات، فهل توفر لديك نفس الاكتشاف بعد ممارسة الترجمة ؟

– عندما ترجم عزرا باوند للشعر الصيني أحدث ثورة كبيرة في اللغة الانجليزية على الاطلاق وما زالت أصداؤها تتردد حتى الآن، وفي كتابه ” Cathay ” الذي ترجم فيه لأربع عشرة قصيدة صينية معروفة،عن الحرب وظهر في عام 1915 حين كانت الحرب العالمية الأولى جارية أثر في الشعر الانجليزي بعمق، لأنه قدم التراكيب أو ” Ideographs ” الصينية، أي وحدات الفكر والتعبير بها في اللغة الصينية. وعندما وجد لها باوند البديل باللغة الانجليزية أحدث ثورة ومن هذه الثورة خرج شعراء مثل غيري سنايدر، الذي لولا تأثره بالشعر الصيني والياباني لما كتب كما يكتب الان وغيره من الشعراء من بينهم ميروين الذي هو مترجم عظيم، وعاش طوال حياته من الترجمة، وقدم العديد من شعراء الأسبانية والفرنسية والبروفانسية الى قراء اللغة الانجليزية. فالترجمة هي نوع من التلقيح، وهي نوع من الجسور التي تمتد عبر اللغات، وتجعل جميع اللغات والكتابات في النهاية تتشارك وتتداخل وتتلاحم لتخلق شيئا جديدا.

* هل تنصح الشعراء الشباب بالترجمة ؟

– أنا أنصح كل شاعر أن يعرف لغة أخرى بشكل جيد وممتاز اذا أمكن وأن يحاول الترجمة حتى لو كان ذلك من أجل لذته الخاصة كتمرين.
 
 ..

المصدر : مجلة نزوى
حاوره: صلاح عواد ( كاتب يعيش في نيويورك)