حوار الكاتبة د.كلارا سروجي شجراوي/ علياء سروجي

 

 

كلارا العينان الطفوليتان المختبئتان وراء عينين منزلتين من وقار السماء، و  الابتسامة المختصرة لشكل الحزن حين يتصالح مع فرحه، لا تستطيع أن تفهم تلك المرأة ماذا تريد وماذا لا تريد ليس لأنك مهتم أو غير مهتم ولكن لأنها امرأة يتوقف عندها كل عابر مرغما يتأمل تلك الطفلة التي لا تكبر، من خلفها  الصمت الذي يعزفه كونشرتو من الأطفال، هناك في الجنة.
أنهت كلارا دراستها الثانويّة في مدرسة راهبات الناصرة وهي من مواليد حيفا. درست في قسم اللغة العربيّة وآدابها و قسم الفلسفة، نالت المرتبة الأوّلى في القسمين بدرجة امتياز  وحصلت على درجة الدكتوراة  عن أطروحتها: “نظريّة الاستقبال في الرّواية العربيّة: دراسة تطبيقيّة في ثلاثيتَي نجيب محفوظ وأحلام مستغانمي”. شاركت في عدّة مؤتمرات أكاديميّة وندوات أدبيّة. راجعَتْ عدّة كتب ومقالات بهدف المصادقة على نشرها. صدر لها مجموعات قصصية آخرها ميلانخوليا الوجود.

“قصص بحجم راحة اليد” عنوان كتاب قصص قصيرة لكاتب ياباني ياسوناري كواباتا إلى أيّ مدى مسموح للكاتب أن يتأثّر دون أن يفقد شخصيته المطلوبة في العمل؟
في الحقيقة فضّلتُ التسمية اليابانيّة التي ابتدعها الكاتب الياباني كواباتا، الحائز على جائزة نوبل للآداب عام 1968، على غيرها مثل “وَمَضات” او “قصص خاطِفَة مُفاجِئة”. أطلقتُ على مجموعتي القصصيّة الأولى: “طواف – قصص قصيرة بحجم راحة اليد” لأنّها توحي باختلاف حجم اليد بحسب الجنس والعمر. فقصصي تتناول شخوصا من أجيال مختلفة وحالات إنسانيّة لرجال ونساء وأطفال. المشترك بيني وبين كاواباتا هو قصر القصص، الاقتصاد في الكلمات والتكثيف، إلى جانب أنّ القصص، التي تبدو ظاهريّا بسيطة، لها دلالتها الخفيّة لِمَن يتمعّن بقراءتها. لكنّ عالم كاواباتا مختلف عن عالمي، لأنّ كلّ واحد ينتمي إلى بيئة جغرافيّة وحضاريّة وسياسيّة مختلفة. كقارئة للأدب العربي وللأدب العالمي، لا أستطيع أن أقول بأنّني قد تأثّرتُ بهذا الكاتب أو ذاك. فعمليّة الكتابة الإبداعيّة معقّدَة فيها اندفاع وملاحقة لصور ومشاهد وأفكار قد لا تكون كلّها على مستوى الوعي. كذلك، فإنّ الكاتب/ة يجب أن ينسى عند كتابته كلّ ما قرأ ليُبدع على طريقته، بأسلوبه الخاصّ وبنبرةِ صوتٍ خاصّة به قد تُكتَشَف لاحقًا بعد إتمام عمليّة الكتابة. أتكلّم عن حالة ممكنة من الدهشة قد تصيب المُبدع/ة عند مراجعة نصوصه فيتساءل بينه وبين نفسه: لماذا كتب بهذا الأسلوب؟ ولماذا اختار هذه المفردات بالذات؟ ما الذي دفعه للكتابة عن هذه الحالات الإنسانيّة دونَ غيرها؟ لماذا اختار أمكنة خياليّة بدل أن يختار فضاء مكانيّا واقعيّا؟ وغير ذلك من الأسئلة. من هنا، أنا لا أفقد شخصيّتي في الكتابة، بل أصل إليها وأغور بها لأكتشفها في علاقتها بالأشياء والحوادث والشخوص. أنا جزء من مجتمع كبير له ثقافته، فيه أعيش وأتنفّس من خلاله. لذلك، لا أعتبر قصصي ذاتيّة،حتّى عندما أستخدم ضمير المتكلّم ويكون الاستخدام شكلا من أشكال المراوغة. ففي الأساس تأتي قصصي لتفضح المستور والواقع الموجود والتاريخ المسكوت عنه، كما تعبّر عن حُلُم بالتغيير نحو الأفضل.

لديكِ بحثٌ مقارن بين ثلاثيّة نجيب محفوظ وثلاثيّة أحلام مستغانمي. برأيك هل تمثّل أحلام الرّواية العربيّة، ولنقل النسائية في الرواية، كما يمثلها نجيب محفوظ؟ ظاهرة أحلام مستغانمي هل أنتِ مع تلك الظاهرة أم لا وما أسباب تلك الظاهرة برأيك؟ 

سؤالك مركّب ويحتاج إلى إجابة طويلة. لقد تعاملتُ مع ثلاثيّتَي محفوظ ومستغانمي على أساس أنّهما تمثِّلان ظاهرة فنيّة لافتة للنظر وتحتاج إلى دراسة متعمّقة، أي أنّ الاختيار غير مبنيّ على أساس التفضيل، فالثلاثيّتان تصلحان لتطبيق “نظرية الاستقبال” (Reception Theory) عليهما. لقد لاقت الثلاثيّتان إقبال الجمهور ونالتا شهرة واسعة (ولو اختلفت نوعيّة الشّهرة)، انعكست في حركة المبيعات وحتى التصوير والتوزيع غير القانوني للروايات. من ناحية ثانية، تنتمي الثلاثيّتان إلى زمَكانَيْن مختلفين. ثلاثيّة نجيب محفوظ من مصر من سنوات الخمسين، بينما ثلاثيّة أحلام مستغانمي من الجزائر من سنوات التسعين. بالتالي تصلحان لفحص تأثير الظروف الاجتماعيّة والسّياسيّة في تشكيل ذائقة الجمهور وفي تشكيل معايير جديدة للرواية العربيّة. على سبيل المثال، يمكن أن نقول إنّ ثلاثيّة نجيب محفوظ، في زمنها، قد مثلَت جنسًا أدبيّا جديدا (رواية الأجيال كما سمّاها نجيب محفوظ) يسير بحسب المذهب الواقعيّ وأسلوبه. وقد نجح الكاتب في مخاطبة الشّعب من مختلف طبقاته ودرجات ثقافته، بروح ثوريّة تناسب مطامح الشّعب المصري في التحرّر وتقرير مصير وطنه. بالنّسبة لثلاثيّة أحلام مستغانمي نتساءل: هل بالفعل هيّأت سنوات التسعين قبول أعمال أدبيّة تكتبها امرأة؟ وإن كان الأمر كذلك، هل حدّدَتْ هذه السنوات أُطرَ الأدب النسويّ ومضامينه وميّزاته، فكان كلّ خرق للمعايير الخاصة بالأدب النسوي يثير الشّك في هويّة المؤلف؟ (كما حدثَ مع أحلام مستغانمي). ألا يُمكن أن نعتبر هذه الشّكوك من العوامل التي ساعدت في رواج روايات مستغانمي؟ الاختلافات كبيرة وجوهريّة بين الثلاثيّتين. على سبيل المثال، لا الحصر، نجد عند نجيب محفوظ أنّ المركز هو المجتمع (المكان أو الحارة). والأفراد يمثِّلون شرائح هذا المجتمع بكلّ ما فيه من تناقضات وصراعات. أمّا عند أحلام مستغانمي فنجد أنّ الفرد، برغباته وأفكاره وتطلّعاته، هو المركز، والمجتمع أو الظّرف التاريخيّ هو في الخلفيّة (على الرغم من تأثير هذه الخلفيّة على نفسيّة الشخصيّة وسلوكها لكنها تبدو كظلّ يرافق هذه الشخصيّة). ونلاحظ عند نجيب محفوظ ما سمّاه باختين (Bakhtin) “تعدُّد الأصوات”. بينما تسير أحلام مستغانمي على خطى الصّوت الواحد، وكأنّ كلّ جزء من ثلاثيّتها عبارة عن مونولوج لذلك الفرد الذي تختاره المؤلِّفة لتمثيل الدّور الرّئيس، حتّى أنّ الآخرين يبدون كانعكاسات لأفكار الممثِّل الرئيس ومشاعره. أضيف بأنّ ثلاثيّة نجيب محفوظ باتت تنتمي في معاييرنا اليوم إلى المذهب الواقعي الكلاسيكي، بينما يمكن اعتبار ثلاثيّة أحلام مستغانمي تابعة للرواية الحداثيّة التجريبيّة، ممّا يدلّ على تغيُّر في طبيعة “قراءتنا” أو “ذائقتنا” لهذين العملين الأدبيّين.بالنسبة للبند الثاني من سؤالك هذا، دون شكّ استطاعت أحلام مستغانمي بثقافتها الواسعة وذكائها اللامع ولغتها الجميلة الشاعريّة أن ترسِّخ وجودها على أرض الرّواية كصوت متميّز. لكن، لا يجب ان ننسى أنّ نجيب محفوظ، الكاتب التجريبي على مدى اتّساع سنوات إبداعه، هو مُبدع الرّواية العربيّة الحديثة بحقّ، والذي استطاع أن ينال جائزة نوبل للأدب عام 1988 كيّ يكون هذا العام نقطة تحوُّل هامّة في الأدب العربي الحديث عامّة، فقد فتح الأبواب للجمهور الغربي كي يطّلع ويلاحق ما يُكتَب في العالم العربي من أعمال أدبيّة بعد إهمال لها لسنوات طويلة. عندما ينجح عملٌ أدبيّ ما جماهيريّا وبشكل لافت يتحوّل إلى ظاهرة يتمّ تقليدها أو محاكاتها. كثيرون من الأدباء والأديبات الذين يكتبون في أيّامنا قد تأثّروا بأسلوب أحلام مستغانمي وباتوا يعتبرونه نموذجًا أعلى يجب الإقتداء به كي ينجحوا هم أيضا، وبالتّالي لا تجدين ما يميّزهم أو يميّزهنّ. هكذا يتحوّل ما كان تجديدًا في فترة تاريخيّة معيّنة إلى نموذج أدبيّ، أي يتحوّل عمليّا إلى قالِب يجب كسر نمطيّته وإلّا وصلنا إلى حالة من الجمود. نجيب محفوظ بعبقريّته الفذّة كان واعيًا لهذا الأمر، لذلك تجدين أعماله الأدبيّة قد تنوّعت وتغيّرت وجرّب أساليب مختلفة. حتّى في ثلاثيّته اختلف أسلوبه في كلّ جزء. لقد شكّلت أعمال نجيب محفوظ الأدبيّة بالنسبة لكتّاب مصر في ستينيّات القرن الماضي تحدّيًا كبيرًا لهم. لكنّ البعض منهم استطاع أن يكوِّن له أسلوبه الخاصّ ونَبرته المميَّزة و”تمرّده” الخاصّ بعيدًا عن التقليد والمحاكاة، كما فعل إدوار الخرّاط وصنع الله إبراهيم وجمال الغيطاني.

أطروحتك في الدكتوراه عن الرّواية هل يُمكن أن نعتبرها إعدادا لعالم الرّواية الذي ستدخلينه؟ و هل الدخول لعالم الرواية يحتاج الى إِعداد كبير ومتأنٍّ كما فعلتِ في تأنيكِ الى هذا الوقت؟

في الحقيقة أنا لم أخطِّط مسبقًا لما سأفعله. بل أتبع في الكتابة الإبداعيّة ما أشعر بأنّني أحتاج أن أقوم به. قد يكون ذلك شكلا من أشكال التعويض النفسيّ، فالكتابة الأكاديميّة تحتاج إلى فِكر محايد وموضوعيّ، وجهدًا ودراسة مستفيضة، قبل أن تُتمّي كتابة مقال في موضوع مُحدَّد. أجد نفسي عندما أكتب قصّة بأنّني “أفضفض” وأكتب ما أحبّ بدون قيود، وكذلك تأتي الكتابة عندي كأسلوب في التحدّي. أقصد بكلامي هذا أنّ كثيرًا ممّا يُكتَب اليومَ باتَ أقرب إلى الهلوسات بدون مضمون فكريّ أو رسالة أو فكرة تفيد القرّاء. أجد أنّنا في عصر كثُرَت فيه الكتاباتُ، لكنّ جودتها تدنّت، أو أنّ  الغموض والانغلاق الشدّيدين قد أخذا بالقارئ إلى حالة من السأم والنفور أو شعور بالعجز لأنّه لا يفهم المكتوب، والذي يأتي عند البعض “مع كَمْشةِ أخطاء نحويّة”، في الرّوايات على الأخصّ. هذا الوضع لا يُطاق ويبيّن أزمة حقيقيّة. من وجهة نظري، كلّ سطر يُكتب في العمل الأدبيّ يجب أن يحمل دلالة ووظيفة؛ حتى الجنون والهذيان لهما دور في النصّ الأدبي، وبالتالي لا يمكن قبول اللغة المفكَّكة الملتوية، على أساس أنّها تعكس حالةَ هذيانٍ أو جنون، والتي مهما أعملَ القارئ ملّكّته الإدراكيّة يجد نفسه عاجزًا إزاءها، لأنّها باختصار هي من الأصل بدون معنى، حتّى لو تميّزت بمفردات جميلة “لامعة”. بطبيعة الحال كلامي هذا قد يُغضب البعض! بالنسبة لسؤالك عن كتابةِ رواية فإنّني فعلا في مرحلة متقدّمة من كتابتها، ولن أتكلّم عنها الآن. وأقول لكِ إنّ الكتابة الإبداعيّة ليست من باب الهواية أو التسلية فهي مسؤوليّة كبيرة. لذلك، فإنّ ثقافة الإنسان السّابقة للكتابة ضروريّة جدّا وواجِبَة عليه. ولكنّ الموهبة أيضا لها حصّتها ومكانتها. العمل الأدبيّ يحتاج إلى العقل والخيال معًا، وتناغمهما سويّا يخلقان عملا مميَّزًا، وذلك كي يعرف الكاتب/ة في أيّ مرحلة عليه أن يرفع من نسبة الفِكر ومتى عليه أن يُضاعف من جرعة الخيال والحلم.

مَن المسؤول عن التدهور الأخلاقي في عصرنا والذي يتجلّى في الحروب والفقر؟ هل الأدب تراجَعَ عن دوره أم أنّ السّياسة قضت على فكرة المدينة الفاضلة التي سعى إليها الأدب منذ طفولته? هل تتعارض مهمة الأديب مع السّياسيّ في وقتنا؟ وهل تفضّلين العملَ على المصالحة بين الأدب والسّياسة؟

المسؤول الأوّل والأخير عن الشرور هو الإنسان بأطماعه وعدوانيّته الغريزيّة وحبّه للسيطرة والغَلَبة. قد يكون هذا الإنسان فردًا أو مجموعة من الأفراد يتعاونون معًا على فرض الرّعب والتجويع والإرهاب والحرب.. يفرضون منظومتهم الفكريّة الظلاميّة على اعتبار أنّها الحقيقة المطلقة. هكذا هي الحياة؛ يتصارع فيها باستمرار الخير مع الشرّ. فكرة “المدينة الفاضلة” كانت دومًا يوتوبيا أو حلما إنسانيّا غير متاح. إنّه حلم الفلاسفة والأدباء أمثال الفارابي ونجيب محفوظ في بعض رواياته. لكنّهم دومًا عرفوا بأنّهم يطمحون إلى مجتمع فاضل وعادل ومتنوِّر يصعب تحقيقه في مواجهة كلّ الأنظمة القائمة على الفصل والتقسيم والعنصريّة والعِرقيّة وإقصاء الضعيف لمصلحة القويّ. الأدب لم يتخلّ عن وظيفته (أستثني طبعا الكتابات التي هي بوق للسلطة)، ولكنّه صوت الضّعيف المقهور أمام صوت القوي المنتصِر! لقد لجأ الأدباءُ عبرَ التّاريخ إلى أسلوب الرّمز والأليغوريا هربًا من أن يتمّ إقحامهم بأمور سياسيّة تؤدّي بهم إلى التهلكة. لكن، كما تعلمين، أغلبهم لم ينجح، بل نُسِبَت لهم تُهمٌ لا تخطر على بال للتخلّص منهم. أنا لا أدعو إلى “صُلحة” بين الأدب والسّياسة، بل إلى “تصالُح” الإنسان مع ضميره وعدم ارتكابه لجُرم “التعميم” في أيّ مجال!

أجد لديكِ خيطا يربط الأدب بالتعليم وبالدّين الذي هو مُعلِّم أيضا. إذن، لنقل أنتِ تتنقّلين بين خطوات لمسار حياتي اخترتيه متقصِّدة. هل دراستك في مدرسة الرّاهبات قد أثّرت في اختيارك للدراسة الأدبيّة؟
كلّ شيء يمرّ به الإنسان في حياته لا بدّ أن يؤثِّر عليه بدرجات متفاوتة. بالنسبة للربط بين الدّين والتعليم وظهورهما في بعض قصصي مثل “ياردينا” (من مجموعة طواف)، وَ”تخيّلات طفل” (من مجموعة ميلانخوليا الوجود)، ومن ثمّ موضوع اختلاف الدين كعامل يمكن أن يَفصلَ بين مُحبَّين كما في قصّة “حنين / نوستالجيا” (من مجموعة ميلانخوليا الوجود) – كلّ ذلك يأتي من واقع حقيقيّ. أنا أتقصّد تناول هذا الموضوع لأهميّته، ولأنّ “الدّين” (أو “المِلّة” بحسب لغة أبي نصر الفارابي)، الذي يتّبعه شعبٌ ما، يُشَكِّل عقليّتهم وطريقة تعاملهم مع بعضهم البعض داخلَ المجتمع الواحد، كما يحدّد نظام الحُكم والتعليم. لذلك، يأتي النقد من خلال القصص كوسيلةِ تنبيه إلى ضرورة تغيير أسلوب تدريس الدّين في المدارس، وكذلك إلى واجِب الانفتاح على الآخَر المختلف والتعامل مع بعضنا البعض على أساس إنسانيّ وأخلاقيّ لا على أساس دينيّ.

فكرة “الجحيم الأرضي” هل هي فكرة حقيقيّة علينا تعليمها للآخر أم افتراضيّة؟ وبين الحقيقة والافتراض أين يجب أن يقف الكاتب؟
يبدو أنّك تشيرين بسؤالك هذا إلى قصّة “حرب الكواكب” (من مجموعة طواف). بدايةُ القصّة فيها إضاءة إضافيّة لسؤالك السّابق عن الدّين. كما أنّ سيرورة القصّة تُبيِّن الجحيم الرّوحي والوجودي الذي يعيشه البشر على وجه الأرض ممّا يجعل الكائنات الفضائيّة التي تُرسَل إلى الأرض تحزن وتبكي بطريقتها الخاصّة. أقتبس بداية القصّة فقط:
“التقى كوكب جوبيتير بكوكب الزّهرة، فالاثنان يجمعهما هدف واحد وهو منح الخير والجمال والحبّ لمواطني كوكبيهما. إلاّ أنّ لقاءهما في ذلك اليوم كان استثنائيّا فقد قرّرا إرسال مواطنين من كوكب مركوري، لتميُّزهم بطلاقة اللسان والقدرة على التّواصل مع الآخرين بدبلوماسيّة فذّة، إلى كوكب الأرض. كان الهدف معرفة أيّ دين هو الأفضل كي يسمحوا بممارسته على كوكبيهما، وبطبيعة الحال يمكن لمواطني مركوري أيضا الانضمام إليهما إن شاءوا.”
للأسف تُبيِّن القصّة أنّ فكرة “الجحيم الأرضي” ليست افتراضيّة ولا هي خياليّة بل هي الواقع الحقيقي. وفي زماننا نحن نعيش ونُعايِن هذا الجحيم اكثر من أيّ زمانٍ آخر. فقد حوّلت “الانتفاضات الشعبيّة” الكثيرَ من البلاد العربيّة إلى أرض خراب بدلَ تحقيق حلمها بالوطن المنشود، وذلك بعد أن استغلّت حركات مُتطرّفة الأوضاع كي تثبِّتَ وجودها وتفرض منظومتها الفكريّة ولأجل أن “تحصل” بدورها على نصيبها من الغنائم. فكانت النتيجة تحقُّق “الجحيم الأرضي”. ومَن بقي من الناس فهو يعيش حياة جحيميّة بكلّ ما في هذه الكلمة من إثارة للرعب والوجع والألم. مِن واجب الكاتب أن يعبّر عن هذه المواضيع بأسلوبه الخاصّ.

ما الدور الذي لعبته دراستك الفلسفيّة في فهمك لملامح الشخصيّة والحياة كباحثة ومتخصّصة؟
بطبيعة الحال دراستي للفلسفة، وكذلك اهتمامي الذاتي بعِلم النفس، جعلاني أميل إلى التركيز على وصف مشاعر الشخصيّة في أزمتها الخاصّة. ولذلك تجدين في كثير من القصص استخدامًا لتقنية “الحلم” وتوظيفها في رسم ملامح معاناة الشخصيّة وسبر أغوارها. كذلك فإنّ دراسة الفلسفة تساعد في فهم مسائل حياتيّة ووجوديّة بشكل أفضل والتعبير عنها بأسلوب خاصّ. على سبيل المثال، أناقش في قصّة “جلسة أرواح” (من مجموعة ميلانخوليا الوجود) نظرة الرّجل المتعالية للمرأة (على أساس أنّه الأفضل والأكثر ذكاء) من خلال تخيُّل جلسة في مكان وهميّ لأرواح فلاسفة أمثال هيغل وكانط وابن رشد، والمرأة الوحيدة بينهم هي سيمون دو بوفوار التي تستشيط غضبا من كلام هيغل وكانط عن المرأة وتندهش لموقف ابن رشد الإيجابيّ من المرأة والمدافِع عنها. ليست الأفكار الواردة في القصّة من نسج الخيال، بل هي نتيجة دراسة لموقف هؤلاء الفلاسفة من المرأة، لكنّني عرضتُ هذه الأفكار بأسلوب فكاهيّ.

أين تجدين الرّواية العربيّة بين الرّوايات العالميّة، هل هي متقدّمة أم متأخِّرة أم كحال المرأة العربيّة تحاول مجهدة أن تظهر بمظهر عصريّ لائق؟
أعجبني تشبيهك للرواية العربيّة بالمرأة، فهو ساخر وصائب نوعًا ما. لا يُمكن أن ننكر وجود أقلام عظيمة في الرّواية العربيّة الحديثة. الأسماء التي سأذكرها هي مجرّد عيِّنة بسيطة، وقد تبيِّن ذوقي الخاصّ في الرّواية دون أن يعني ذلك أن روائيّين آخرين ليسوا مهمّين أو لا يعجبونني. أحبّ أن أقرأ، على سبيل المثال لا الحصر، لنجيب محفوظ وجبرا إبراهيم جبرا وحليم بركات والطيّب صالح وحنان الشيخ ونوال السعداوي وليلى العثمان وآخرين وأخريات. أمّا بالنسبة لسؤال “التقدّم والتأخّر” فلا يجب أن ننسى أنّ عُمرَ الرّواية العربيّة الحديثة، كجنس أدبيّ مستقلّ، صغيرٌ مقارنة بعُمر الرّواية في العالم الغربي. نحن لا نزال في مراحل التعلُّم! لكن، هناك خصوصيّة جميلة تابعة للمحليّة تُميِّز الرّوايات العربيّة وتعطيها بالتالي نكهتها الخاصّة ومكانتها المتميّزَة. لكنّنا بحاجة إلى اهتمام أفضل بترجمة أدبنا إلى لغات العالم، فما هو متوفِّر حاليّا ليس كافيًا.

لماذا الأدب ولماذا القصة والرّواية في حياة كلارا؟ ماذا تريد كلارا من ذلك وما الهدف أو الرّسالة؟
أشعر بأنّ دراسة الفلسفة والأدب معًا يساعدان على خلق حالة من التوازن النفسيّ والانسجام بين العقل والعاطفة، بين علم المنطق والخيال، بين الأفكار المجرَّدة والمُدرَكات الحسيّة، ولذلك أعشق هذين المجالَين. أمّا كتابة القصّة القصيرة والقصيرة جدّا وحاليّا الرّواية، فالأمر نابع من حاجتي إلى التعبير الحُرّ الذي يهدم أحيانا وينتقد أحيانا أخرى بهدف البناء والتغيير نحو الأفضل. أفعل ذلك بأساليب مختلفة عندما أصف، مثلا، مكانًا ينعم فيه الناس بالعدل والحريّة والمساواة وعدم التحيُّز، أو أحكي عن أمنية صعبة بالرّجوع في الزمن إلى الوراء بهدف إعادة كتابة التاريخ من جديد وغير ذلك. من هنا، تجدين الفانتازيا في قصصي كشكل من أشكال مواجهة الواقع وانتقاده وتحدّيه.