حضارة بين حضارتين/ يحي محمد

حضارة بين حضارتين

مقارنة معرفية بين الحضارة الإسلامية والحضارتين اليونانية والغربية

يحيى محمد


لعل من المسلمات الاساسية للفكر الحديث اعتباره ان تاريخ البشرية ـ ككل ـ لا يحتضن سوى ثلاث حضارات ثقافية منظرة للعالم، هي الحضارة اليونانية القديمة، والحضارة الإسلامية الوسيطة، والحضارة الغربية الحديثة التي لا زالت ممتدة منذ عصر النهضة إلى يومنا هذا.
وبعبارة اخرى، ان الفكر الحديث لم يشكك في كون هذه الحضارات الثلاث هي وحدها التي قدّر لها ان تتمظهر بمظهر الثقافة المنظمة من التنظير والتفكير بعيداً ـ نسبياً ـ عن الرؤى السحرية والاسطورية. فعلى الرغم من ظهور حضارات كثيرة ظلت حية فترات طويلة من الزمن قبل ان تتلاشى وتصبح اثراً بعد عين، على الرغم من ذلك فليس هناك ما يؤكد انها مارست مهام التنظيم المنظم في علومها ومعارفها. اذ لا نجد سوى ظنون تثار ضد اصالة العلم اليوناني بارجاعه إلى صيغة مستلبة في الاصل من حضارة الشرق القديمة، كالقول الذي ينقله الفارابي في «تحصيل السعادة» من ان للفسلفة وجوداً عند الكلدانيين في العراق ومن ثم في مصر قبل انتقالها إلى اليونان. أو مزاعم وآمال قد علّقها القدماء لصالح اثبات اصالة التنظير لدى بلاد فارس في بعض العلوم، مثل المنطق والفلسفة وما على شاكلتهما، كالذي يخبرنا عنه ابن سينا في مقدمة كتابه «منطق المشرقيين»، وكذلك شيخ الاشراق السهروردي الذي يرجع فلسفة الاشراق إلى ما قبل اليونان في بلاد فارس.
ومع ان حضارات العالم الثلاث لم تتزامن مع بعضها، اذ الحضارة الإسلامية جاءت بعد افول الحضارة اليونانية، كما ان الحضارة الغربية اخذت تنمو باطراد وقت تراجع الحضارة الإسلامية وتقهقهرها، فالملاحظ ان هناك خطاً زمنياً وراء البزوغ والافول يدعو الباحث إلى ان يتساءل عن علاقة هذه الحضارات ببعضها: فهل كانت تبحث عن اشكالية مشتركة، ام لكل منها اشكاليتها الخاصة؟ ثم: هل كانت تعبر عن علاقة خطيّة واحدة ذات حلقات متصلة بحيث يستضيء بعضها بنور البعض الآخر، ام انها تمتاز بقواطع معرفية تامة؟ أو كونها تشكل هجيناً مخضرماً من الامتزاج والتدخل في الثقافة التي كانت تحملها، إلى الدرجة التي تغيب عنها الاصالة المطلقة باستثناء الحضارة الاصل؟ وبعد ذلك: هل ان هذه الحضارات كانت تعبر عن طموح موحد وهدف مشترك، ام انها تضاربت في الميول والغايات؟
هذه التساؤلات المتلازمة ضمن «اشكالية الحضارة» قد تنقلب إلى تساؤلات موظفة للبحث عن شؤون حضارتنا «الغائبة». ذلك انها كانت بين حضارتين، فهي حضارة «ما قبل» و«ما بعد»، مما يعني ان السؤال الذي قد يجول في الاذهان هو عما إذا كان لحضارتنا شيء من التأثر والتأثير على الحضارتين الاخريتين، فهل هي عبارة عن انجرار ثقافي لحضارة «ما قبل»، في الوقت الذي كانت لها دورها في ضمان خط التواصل الحضاري، بمنح اكسير الحياة وتحويله إلى حضارة «ما بعد»؟
ربما يذكرنا هذا التساؤل بلحظة التزامن بين ظاهرتي التراجع والتقدم للحضارتين الإسلامية والغربية، مما قد يبعث في الاذهان تصور بأن الحضارة الاولى لم يكن لها ان تتراجع لولا ما اعطت من ذاتها مقوماتها للحضارة الاخرى، فأصيبت من جراء ذلك بالنحول والعجز، وان الاخرى لم يشأ لها ان تتقوم بذاتها لولا انها قد امتصت مصادر القوة والقدرة من الاولى.
وقد ينقلب السؤال الآنف الذكر إلى طرح معاكس، فيمكن ان نتساءل عما إذا كانت حضارتنا تحمل خصائص متميزة بالاصالة، تجنبها الوقوع في التداخل الثقافي مع الحضارتين الاخريتين، كدائرة مغلقة وسط هاتين الدائرتين؟
لكي نستوضح طبيعة التواصل الثقافي والعلاقة بين حضارات العالم الثلاث، ودور حضارتنا وسطها، لابد ان نتعرف اولاً عن طبيعة الاشكالية التي استقطبت تفكير كل منها.
ويبدو انّه لا توجد صعوبة في تحديد نوع الاشكالية التي استغرقت تفكير الحضارة الغربية، فمن المعلوم ان هذه الحضارة تتصف اساساً بالعلم والتصنيع والتنظيم، سواء التنظيم الاجتماعي أو السياسي أو الاقتصادي أو الاداري أو العلمي الخ.. فهي بالتالي حضارة علم وصناعة وتنظيم.
اما نوع الاشكالية التي استنفدت جهد التفكير داخل الحضارة اليونانية فهي الفلسفة والغنوص، بما تعبر عن تأملات الوجود ومراتبه الحتمية استناداً إلى بعض المبادىء الاساسية وبعيداً عن التجربة والتحقيق العلمي، وبالتالي فهي حضارة ميتافيزيق أو ما وراء الطبيعة. فمع ان وظيفة هذه الحضارة كانت من اجل توضيح حقائق الوجود بما في ذلك الكشف عن علاقات الطبيعة، خاصة لدى طبيعيات ارسطو، الا نها ليست حضارة علم وفيزيقا بالمعنى المألوف لهذ الكلمة. ذلك انها لا تبحث عن علاقات الطبيعة كـ«موضوع في ذاته» أو من خلاله، بل على العكس انها تحدد هذه العلاقات من الخارج بطريقة التعالي التراندستالي على ضوء المبادىء المسلم بها سلفاً. فهي تعتبر نظام الطبيعة يخضع ولا يختلف عن نظام العقل، فما يقرره العقل هو نفسه ما يطابق نظام الطبيعة والعالم اجمع. بل ان معنى العقل الذي حدده ارسطو انما يعني النظام الكلي للعالم، وهو نفس الحديد الذي سار عليه فلاسفة الإسلام والذي يستبطن القول بوحدة الوجود كلازم من لوازم مبدأ «السنخية» أو التشابه بين مراتب الوجود، الذي لم يفارق العقل اليوناني بما يعبر عن طريقة في التفكير، كما لم يفارق سائر امتدادات هذا العقل لدى كل من فلاسفة العهد الهيليني والاسلامي، اذ كان مبدأ السنخية يقف وراء صور التفكير التي حددت نماذج العقلية اليونانية منذ اول الفلاسفة طاليس وحتى ارسطو، وظل يتحكم في طريقة الانتاج الفلسفي، سراً وعلانية، حتى تكشفت استاره مع فلاسفة العهد الهيليني والاسلامي، مثلما هو الحال مع نومينيوس وافلوطين وفورفوريوس والاسماعيلية والفارابي وابن سينا والغزالي وابن باجه وابن رشد وابن الطفيل ومحي الدين بن العربي وصد المتألهين وغيرهم.
اما اشكالية الحضارة الإسلامية فهي ليست معبئة بحمولة فيزيقية كما هو الحال مع حضارة «ما بعد»، ولا بحمولة ميتافيزيقية كما مع حضارة «ما قبل»، بل ان حمولتها كانت تمثل العلاقة بنى الفيزيق والميتافيزيق، بين عالم الشهادة وعالم الغيب، بين الإنسان وخالقه. فاذا كانت الاشكالية الحضارية لدى اليونان ذات طبيعة وجودية حتمية مصدرها السنخية، وكانت الاشكالية الحضارية لدى الغرب تتردد بين الحتمية ونفيها ضمن الوجود الطبيعي دون ان تتعداه، فان اشكالية الحضارة الإسلامية ليست من هذا النمط أو ذاك، اذ هي لا طبيعية ولا وجودية عامة، بل هي معيارية تسود فيها قيم الدين والعبادة والفقه والكلام والتكليف، وبالتالي فانها حضارة دين وفقه وكلام ولغة واخلاق الخ..
كل ذلك يتمحور باتجاه «نظرية التكليف» التي تربط بين الغيب والشهادة بعلاقة الامر والنهي والوجوب والحرمة والحلال والحرام والمستحب والمكروه والحسن والقبيح.
هكذا فان الحضارة الإسلامية هي «حضارة تكليف»، ذلك ان اغلب العلوم التي استغرقتها هذه الحضارة انما تتعلق بنظرية التكليف، سواء على نحو ما هو «موضوع في ذاته»، حين يكون موضوع العلم هو التكليف ذاته، أو على نحو ما هو «موضوع لاجل ذاته»، عندما لا يكون موضوع العلم هو التكليف، بل غرضه، كما في اللغة والكلام.
فنصوص الشريعة دالة من حيث الاساس على التكليف، بل هي عين التكليف ذاته. اما سائر العلوم التي قننت للشريعة كالفقه واللغة والكلام وغيرها، فكلها كانت تتمركز باتجاه تلك النظرية. فدائرة البحوث الفقهية هي عينها دائرة علم التكليف، والفقه هو من اعظم العلوم قد شهد تضخماً هائلاً من البحث والتقنين خلال القرون الاولى وامتص من الطاقات الفكرية ما يكفي ان نعرف انّه منذ حوالي منتصف القرن الاول إلى اوائل القرن الرابع الهجري قد ظهر ما لا يقل عن تسعة عشر مدرسة فقهية(1)، كل ذلك من اجل تحديد دوائر التكليف طولاً وعرضاً.
كما ان اللغة قد لعبت دوراً هاماً وعظيماً، ليس فقط في حدود ما هو «موضوع لاجل ذاته» بما تمده من مقدمات من اجل تحديد فهم موارد الامر والنهي من التكليف، بل كذلك انها كانت في مرحلة التقنين تعبر احياناً عن علم ام هو «موضوع في ذاته» من ابعاد الفقه والتكليف، فهي الدين بعينه كما سبق لابي عمر بن العلاء ان عبر عنها بالقول: «علم العربية هو الدين بعينه»(2)، وكم يذكر البعض عن الجرمي الفقيه بانه منذ ثلاثين سنة كان يفتي الناس في مسائل الفقه من كتاب سيبويه في النحو(3).
وعلم الكلام هو الآخر قد دخل دخولاً مباشراً في تحديد التكليف بما هو «موضوع في ذاته»، اذ هناك مباحث عامة عن التكليف وشروطه وعلاقته بالعدل الالهي وحرية ارادة الإنسان كما ان مقدمات كتب هذا العلم قد الفت ان تشرع بالبحث عن وجوب العلم، وعما يجب على الإنسان ان يعرفه اولاً، وعن تحديد عقيدة الفرقة الناجية وسط فرق الضلال. فاصبح التكليف مقدمة للكلام، بل اصبح الكلام تكليفاً، اذ بنظر اصحابه ان قضاياه الاساسية تعتبر من التكاليف التي يجب على المسلم بحثها كي يحدد عقيدته سلفاً. واكثر من ذلك ان مبدأ «بطلان الدليل يؤذن ببطلان المدلول» الذي اذاعه الباقلاني خلال القرن الرابع الهجري قد زاد من حمولة التكليف، حيث شملت قضاياه حتى الادلة المحررة، اذ خرجت من كونها في دائرة ما هو «موضوع لاجل ذاته» لتدخل دائرة ما هو «موضوع في ذاته» من التكليف، الشيء الذي يعني ان الكلام قد اصبح «شريعة»، والاجتهاد «نصاً».
كان ذلك ممّا له دلالة على البحث الكلامي بما هو «موضوع في ذاته» من التكليف. اما البحث الكلامي بما هو «موضوع لاجل ذاته» من التكليف فانه يستغرق ما تبقى من مواد علم الكلام، ويتوارى في كثير من الاحيان وراء الادلة المحررة، بما في ذلك ادلة اثبات اصول العقائد كالتوحيد والعدل، فهي مع تضاربها بحسب الميول المذهبية لكنها تهدف سلفاً نحو التنزيه والتقديس، طاردة عنها شبهة التدنيس ومخالفة الشريعة، وذلك لاجل ضمان «صحة الاعتقاد» في الوقت الذي لا يخلو لسانها من التعريض بكل من يخالف «الاعتقاد الحق»، بالتكفير والتضليل، مما له دلالة على «التكليف» بوصفه معياراً يتوارى خلف لغة «الكلام» وعلمه.
يضاف إلى ان نشأة علم الكلام
ومجادلات «الصخب» التي ظهرت في اوساطه، لم تتجاوز ـ هي الاخرى ـ حدود ذلك المعيار. فالاعتزال نشأ على يد (واصل بن عطاء) بعد اعلان رأيه حول «منزلة الفاسق»(4)، بل ان اغلب اصول المعتزلة الخمسة لها دلالة معيارية على التكليف. كما ان الاشاعرة هي الاخرى لم تنفصل عن المعتزلة وتستقل عنها الا بعد الاحساس بما ضيعته من «واجب التكليف»، وذلك بعد المناقشات التي دارت بين الاشعري واستاذه الجبائي حول قضايا لها علاقة صميمية بنظرية التكليف كقضية الصلاح والاصلح.
على ان نظرية التكليف لم تكن مجرد اشكالية قد طغت على غيرها من الاشكاليات الاخرى داخل الحضارة الإسلامية بل الاهم من ذلك هو انها قد شكلت فعلاً البنية الاساسية في جهاز التفكير للعقل الاسلامي، الشيء الذي يعني انّه إذا كان لسائر الاشكاليات الاخرى قابلية للانقطاع والاندثار، فان هذه الاشكالية لا يمكنها ان تنقطع الا باندثار العقل الاسلامي السائد، وهو ما يفسر لنا ظاهرة امتداد هذا العقل وديمومته إلى يومنا هذا، وان كان عيبه هو انّه اتخذ طريق الاستصحاب والتكرار، لا فقط مع الموضوعات التي كان يتناولها، بل حتى مع طريقة اداء دوره في التوليد، فهو يتعالى عن الواقع ويتحرك ضمن «فضاء» يتخذ منه سلوكاً للنزول، معبراً في هذا المعبر من الحركة عن «حق الله» فيما يحدده المكلّف من واجبات على المكلّف.
ان ما يميز هذا العقل عن «الآخر» اليوناني والغربي، هو انّه وان كان يتفق مع العقل اليوناني في تحديد طريقة السير بين الفيزيق والميتافيزيق، وذلك بطريقة التنزل من فضاء التجريد إلى الواقع، خلافاً للعقل الغربي الذي يتخذ مسيراً معاكساً في الاتجاه، فرغم ذلك فان هناك تعارضاً مستقطبا لدى طبيعة قراءة هذا العقل بالقياس إلى «الآخر»، فاذا كانت طبيعة القراءة لدى العقل اليوناني هي «وجودية حتمية»، ولدى العقل الغربي «طبيعية» لا تلتزم في الغالب بالحتمية المتشددة، بل وتتنكر لها احياناً، كما يظهر مما لدى اصحاب جامعة فيينا واصحاب نظرية الكوانتم وغيرهم.. فان قراءة العقل الاسلامي ليست من طبيعة ذلك «الآخر»، فهي قراءة «معيارية» لا تتناسب مع حتمية عقل «ما قبل»، ولا مع موضوع عقل «ما بعد»، وبالتالي فانها ليست حتمية ولا طبيعية. بل ان ذلك التمايز بين العقول الثلاثة قد طبع اثره حتى على نفس مفهوم «العقل». اذ اصبح تعريف «العقل» محدداً لطبيعة القراءة العقلية ـ اي طريقة الانتاج المعرفي ـ لدى كل من الحضارات الثلاث. فلدى حضارة اليونان يقصد بالعقل بانه النظام الكلي للعالم. ولدى حضارة الغرب، فعلى ما صوره البعض بانه عبارة عن قواعد مستخلصة من موضوع ما(5). اما لدى الحضارة الإسلامية فهو في الدرجة الرئيسية عبارة عن قواعد للسلوك والاخلاق، كما يستخلص ذلك من المعاجم اللغوية وغيرها. فهذه التعاريف تستبطن التمايزات في طبيعة الاشكالية والقراءة لكل من حضارة عقول العالم الخالدة. فالتعريف اليوناني يضمر خاصية التطابق بين العقل والعالم اجمع، طبقاً لاعتبارات السنخية من التشابه بين مراتب الوجود ككل، الشيء الذي يعني ان العقل له بنية مطلقة قادرة على تحديد علاقات الطبيعة سلفاً ودون حاجة للتجريب والتحقيق.
اما التعريف الغربي فانه لا يضمر تلك الخاصية من التطابق بين العقل والطبيعة، بل الشيء الذي يستبطنه هو ضرورة الاتصال بينهما كي يمكن استخلاص قواعد الاول من الآخر. وطبقاً لهذا التعريف فان العقل لا يفرض نفسه على الطبيعة كما هو الحال مع العقل اليوناني، بل على العكس انّه يخضع لها لا كمجرد تابع فحسب، وانما كذلك
كمتظلل بالنسبية التي يحملها الموضوع الخارجي، اذ تصبح بنيته نسبية هي الاخرى ما دام انّه يخضع باستمرار لاعتبارات التجربة والتحقيق التي يثيرها الموضوع الخارجي ذاته.
في حين ان «العقل» في التعريف الاسلامي الآنف الذكر ليس فيه اثر وجودي، ولا له علاقة بالطبيعة، فبنيته معيارية محددة سلفاً على نحو «الاطلاق» الامر الذي يجعلها تناسب اشكالية التكليف، اذ لا تكليف من غير معيار.
هكذا ان القراءة المعيارية للعقل الاسلامي تجعل من الحضار الإسلامية تختلف جذراً عن حضارة «ما قبل» وحضارة ما بعد». فهي حضارة فريدة اصيلة ليس لها نظير من قبل ولا من بعد. ذلك ان اعتبار العقل الاسلامي ذا بنية معيارية تبعاً للاشكالية التي استغرقته حتى كاد ان يستنفد فيها كل طاقته ونشاطه الذهني، لهو جدير بمنح المبرر الكافي للقول بان حضارتنا هي حضارة معيارية، وبالتحديد انها حضارة تكليف قبل ان تكون اي شيء آخر.
ولا شك ان الاختلاف في نمط الاشكالية بين الحضارات الثلاث يعكس اختلاف الطموح الذي تهدف إليه كل منها. فطموح الحضارة الغربية هو «الهيمنة» بجميع ابعادها الطبيعية والاجتماعية، وما ظاهرة الاستعمار سواء كان احتلالاً أو انتداباً أو وصاية أو حماية أو غير ذلك، الا صور متعددة تعبر عن ذلك الطموح. وكذلك ظاهرة الغزو الثقافي هي الاخرى تدخل في نفس الاطار من الهيمنة والتي يحتمل لها ان تأخذ ابعاداً خطيرة في المستقبل من خلال سهولة وسرعة تداول المفاهيم والاعلام والثقافة الغربية نتيجة التقدم العلمي التكنولوجي والتقني.
اما طموح الحضارة اليونانية فهو «الكمال المعرفي» تبعاً لبلوغ العقل المفارق والاتحاد بعال الغيب وتحقيق السعادة القصوى. وفعلاً ان التطور العقلي الذي شهدته اليونان له دلالة على هذا الطموح ذي البنية «الفردية» وسط مجتمع العوام.
في حين ان طموح الحضارة الإسلامية فهو «الطاعة لحق الله»، باعتبارها حضارة تكليف يهمها بالدرجة الاساسية ان يكون الإنسان في طاعة الله وعبادته تبعاً لـ«نص الخطاب» الذي صنعت منه اشكاليتها الخاصة.
موقع الفلسفة والتصوف وعلوم الطبيعة في الحضارة الاسلامية
ان اعتبار الحضارة الإسلامية «معيارية» من حيث الاساس ربما يدفع بالبعض متحمساً للاعتراض والقول: اين ذهبت الفلسفة والتصوف والعلوم الطبيعية داخل الحضارة الإسلامية؟ وبعبارة اخرى: لماذا كانت حضارتنا هي حضارة تكليف دون الفلسفة والتصوف، وكذلك العلوم الطبيعية التي عرفتها هذه الحضارة والتي اصبح من المسلم بأن لها اثراً كبيراً في تكوين حضارة الغرب وقيامها؟
اما عن الفلسفة والتصوف فليس فقط انهما اقل حجماً واهتماماً بالقياس مع علوم نظرية التكليف من الفقه والكلام وغيرهما من علوم الشريعة، بل وكذلك انهما ما قُدر ان يُكتب لهما النجاح الا بالامتزاج بالشريعة والعمل على اساس التوفيق معها، خاصة إذا لاحظنا ظاهرة المرونة الكبيرة التي تمتاز بها نصوص الشريعة في القابلية على التلون بمختلف الالوان، والتي ادركها المستشرقون من امثال جولد تسهير الذي يقول: «كذلك يصدق على القرآن ما قاله في الانجيل العالم اللاهوتي التابع للكنيسة الحديثة (بيتر فيرنفلس): كل امرىء يطلب عقائده في هذا الكتاب المقدس، وكل امرىء يجد فيه على وجه الخصوص ما يطلبه»(6). وكذلك المستشرق (هورتن) استاذ فقه اللغات السامية بجامعة
بون، حيث يقول: «ان روح الإسلام رحبة فسيحة بحيث انها تكاد لا تعرف الحدود، وقد تمثلت كل ما امكنها الحصول عليه من افكار الامم المجاورة، فيما عدا الافكار الملحدة، ثم اضفت عليها طابع تطورها الخاص»(7).
والحقيقة ان مرونة الشريعة لا تتحدد في امكانيات التأويل اللغوي والعقلي فقط، بل حتى في امكانية نفوذ الانظمة الغريبة والتي بعضها يتعارض من حيث الاساس مع جذر بنية العقل الاسلامي واشكاليته الخاصة. فمثلاً ان التصوف النظري حينما دخل وامتزج مع الشريعة وعلومها اصبح ينهج نهج السلف المحدثين ضمن نفس الشروط والاعتبارات في الاخذ بالظاهر وانكار للتأويل، وهو مما له دلالة قوية على قابلية الشريعة للنفوذ، رغم ان اساسيات التصوف ـ وكذا الفلسفة ـ ظلت كما هي من دون تغيير، بل ما حدث هو ان القراءة (الصوفية ـ الفلسفية) اخذت تسلب الطابع المعياري لـ«نص الخطاب» وتحيله إلى طابع وجودي حتمي. فمثلاً ان الطابع المعياري للآية «قل كل يعمل على شاكلته» قد اميت وجيء في قباله بالآخر، حيث لم تفسر الآية بما يتعلق بسلوك الإنسان، بل فسرت ان المقصود منها هو ان كل شيء يخرج على شاكلة الله(8)، اي ان الموجودات تصدر بالضرورة على صورة لها نوع من الشبه باصل الوجود طبقاً لمبدأ السنخية، وعلى شاكلة ما يروى «ان الله خلق آدم على صورته». كذلك الآية الكريمة التي تقول: (فلو شاء لهداكم اجمعين)، اذ حولت هي الاخرى إلى الدلالة الحتمية، حيث فهمت المشيئة بما ينافي حرية الارادة، بناء على اعتبار (الاشاءة) تابعة للعلم، والعلم تابع للمعلوم(9)، فكانت النتيجة ان سلبت قدرته تعالى، وكأن الآية تريد ان تقول: «فلو استطاع لهداكم اجمعين».
كل ذلك كان يجري وسط النظام الوجودي (للفلسفة والتصوف) في سباق تعامله مع نصوص الخطاب، من دون اخلال بالطريقة العامة لنهج المحدثين في التمسك بالظاهر، حيث ان الظاهر هنا اصبح موضع خلاف بين ان يكون ذا دلالة معيارية أو وجودية،. خاصة إذا لم يراع السياق ولا سائر النصوص الاخرى التي يبديها «نص الخطاب» ذاته. بل الاهم من ذلك هو ان «التكليف» ذاته اصبح لا يعبر عن مجرد «امر معياري»، بل صار يمثل قبل ذلك «قانوناً وجودياً» يصدر بالضرورة مثلما تصدر سائر المعلومات والمراتب الوجودية الاخرى.
وحقيقة الامر هو ان النظام الوجودي لم يستطع ان يشكل كياناً معترفاً به الا بعد ان تستر وراء الاشكالية الاساسية للحضارة الإسلامية، فقد اكتسى بذلك قشراً معيارياً بينما ظل لبه مختزناً للطبيعة الوجودية. فموسوعاته المعيارية التي شيدها على ذلك «اللب»، كاحياء علوم الدين والفتوحات المكية، وكذلك التفاسير الصوفية والفلسفية المختلفة، كلها تعبر عن مطارح لتأسيس «المعيار» على «الوجود». فاذا كان هذا النظام وقت تكوينه وازدهاره في الحضارة الام (اليونان) يقرأ لواقع والوجود الخارجي ـ ككل ـ قراءة وجودية حتمية، فانه في الحضارة الإسلامية امتد بعد نفوذه، لا ليقرأ الوجود الخارجي فحسب، بل وليوفق لقراءة اشكاليتها الاساسية ارتكازاً على اشكاليته الخاصة، مستهدفاً بذلك امتصاص «البنية المعيارية» وامتثالها من خلال بناء «المعيار» على «الوجود»، الشيء الذي يعني في نهاية الامر طمس بنية «المعيار»، والقضاء على نوع القراءة التي تنسب إليه.
لكن على الرغم مما ابداه النظام الوجودي من قوّة وقدرة على النفوذ والتأثير على اشكالية الحضارة الإسلامية، فان القراءة المعيارية وبنيتها ظلت طاغية وممتدة إلى يومنا هذا دون ان تزاح أو تتزعزع.
ان التحليل الآنف الذكر يحدد لنا طبيعة العقل الاسلامي وممثليه، كما انّه يربط لنا بين هذه الطبيعة وبين نهاية هذا العقل. فالفكر العربي المعاصر يراهن على حقيقة الفكر الاسلامي ونهايته من خلال تحديد آخر ممثليه، باعتباره يعكس آخر التطور للنتاج العقلي. فالبعض يميل إلى اعتبار الغزالي يمثل لحظة نهاية هذا الفكر وحقيقته، والبعض الآخر اعتبره متمثلاً بابن رشد، وهناك من اعتبر المعتزلة هم الممثلون الحقيقيون، والذي بنهايتهم اسدل الستار على الحركة الفكرية للحضارة الإسلامية.
ان هذه الاعتبارا لا تعكس خطى التقييم بقدر ما تعكس خطى المقياس الذي اسند إليه ويبدو ان عامل الرغبة التي يحملها الباحث العربي لطريقة التفكير هي التي كانت تتستر وراء تلك التقسيمات المضللة، فمن جهة ان التصور العام للفكر العربي المعاصر يعتبر خط الغزالي يتقاطع تماماً مع خط ابن رشد، بدلالة صدور «التهافتين» عنهما، فكان التهافت الاول (تهافت الفلاسفة) ضد الخط الرشدي، بينما جاء التهافت الثاني (تهافت التهافت) ليقاطع الاول ويدحضه. لهذا انقسم الباحثون، فبعضهم راهن على الخط الاول مما آل به إلى ان يطرد من باله الخط الثاني، وكذلك حال ما فعله البعض الآخر. ولم يعد في التصور ان ذلك التناقض الموهوم قد التقى واجتمع لدى شخصية اخرى متأخرة هي شخصية ملا صدر الشيرازي (صدر المتألهين»، فلا كانت لحظة الغزالي هي النهاية، ولا لحظة ابن رشد. بل كذلك ان ما اجتمع لدى الشخصية الثالثة لم يكن معبراً عن جمع النقائض والخطوط المتقاطعة، بل انّه يمثل التقاء جهازين لنظام واحد، وبالتالي فليست الفلسفة في تضاد مع التصوف، فكلاهما قائمان على مبدأ واحد هو «السنخية»، لكن الفرق الجوهري بينهما هو ان السنخية لدى الفلاسفة قائمة على اعتبارات العلة والمعلول، بخلاف ما لدى التصوف الذي يطرد من باله فكرة العلية والتأثير اساساً.
بما كان هذا التصور ـ الذي يحتاج إلى تفصيل وتثبيت ليس محله هنا ـ يغير بعضاً من التصورات المعاصرة، اذ به تتلاشى المزاعم المعبرة عن تصادم خط ابن رشد مع خط الغزالي الذي خلط بين الفلسفة والتصوف، أو بنى التفكير العقلي وبين الالهام الكشفي، كما ستنقلب نهاية الفكر الفلسفي مما هي عند ابن رشد إلى «سلسله» ملا صدر الشيرازي. وإذا كان بعض المستشرقين (هنري كوربان) قد ارّخ للفلسفة الاسلامية متخذاً طريقاً جديدة متجاوزاً بها التاريخ الرسمي الذي يضع نقطة النهاية عند ابن رشد، ومكرساً جهده في الخط الذي ساد بعد تلك اللحظة لدى «الاشراقيين» فان ما نحتاج إليه كذلك انما هو ضرورة تأسيس قراءة جديدة للفكر الفلسفي والصوفي تثبت كونهما يمثلان جهازين مختلفين لنظام واحد، احدهما يقوم على الانتاج العقلي، والآخر يقوم على التلقي القلبي، بل الذي ساد في الغالب هو الجمع بين هاتين العمليتين، إلى الدرجة التي كان «الفيلسوف» ذو الطريقة العقلية متصوفاً غنوصياً (باطنياً)، وكان «المتصوف» ذو الطريقة القلبية فيلسوفاً عقلياً.
ومع كل ما قدمنا، فان النظام الوجودي ككل لم يكن معبراً عن حقيقة الفكر الاسلامي بما هو «موضوع في ذاته أو لاجله» من الاشكالية الاساسية التي استقطبت روح الحضارة الإسلامية واستغرقتها.
ومن جهة اخرى فان (الاعتزال) الذي انتهى، لم يرحل الا بعد ان امتد على اعقابه عقل الامامية الاثنى عشرية، بما شحنه من روح التفكير في روعها، لكنها زادت عليه بحركتها الاجتهادية التي لم تتمحور كما هو «موضوع لاجل ذاته» من التكليف كما هو الحال مع الاعتزال، بل طالت يدها إلى مراكز الكشف عما هو «موضوع في ذاته» من التكليف، وظلت هكذا دون ان تنتهي إلى يومنا هذا.
ولو انطلقنا نحو دراسة الفكر الاسلامي من زاوية المنهج والطريقة في التفكير، بغض النظر عن التمذهب والادلجة، لظهرت لنا نتيجة جديدة تخص تقسيم التمذهب الاسلامي الذي اعتاد الباحثون ان يقسموه إلى خطين متوازيين، احدهما يعبر عنه بـ(الخط السني)، والآخر بـ(الخط الشيعي)، ذلك ان تاريخهما يكشف عن انهما ليسا مجرد طرفين ينضويان تحت نظام واحد هو النظام المعياري في قبال النظام الوجودي، بل ويكشف ايضاً عن ان احدهما يتموضع كامتداد لحركة الآخر. اذ ما ان انتهت المعتزلة وكذلك حركة الاجتهاد (السني) باغلاقها وترسيمها خلال القرن الرابع الهجري، حتى بدأت الحركة الفكرية للامامية بالتفتح، سواء على صعيد الاصول ام الفروع، وذلك بعد مرحلة الخطاب (الشيعي) مباشرة، فشيدت بذلك دورة جديدة للبحث عما هو «موضوع في ذاته ولاجله» من التكليف، واستمرت هكذا ضمن تطورات الاجتهاد الخاصة حتى يومنا هذا.
الامر الذي ننتهي إليه هو ان حقيقة الفكر الاسلامي ونهايته لا تتمثل الا بالنظام المعياري الذي بدأ مع (الخط السني) ثم امتد مع (الخط الشيعي) دون ان يلقى لذاته نهاية رغم ظاهرة التكرار والاستصحاب التي ظلت لاحقة به إلى يومنا هذا.
اما مع علوم الطبيعة فهي وان كانت لم تتعارض مع اساسيات اشكالية نظرية التكليف، ولم ينظر اليها كما كان ينظر للعلم لدى الكنيسة في العصور الوسطى بانه «دسائس شيطانية»(10)، لكنها مع ذلك لم تحظ بالاهتمام الا تحت طاولة النظام الوجودي. فالذي يلفت الانتباه هو ان الفلاسفة كانوا علماء في نفس الوقت، والعلماء ان لم يكونوا فلاسفة فهم على الاقل دائرون في فلكهم، اذ العلوم آنذاك لم تكن مفصولة عن الفلسفة، بل هي (الفلسفة الدنيا) في قبال الربوبيات (الفلسفة العليا) والرياضيات (الفلسفى الوسطى)، فـالفلسفة هي الام المهيمنة على سائر العلوم منذ ظهورها كاشكالية اساسية في حضارة اليونان، وحتى امتدادها داخل الحضارة الإسلامية لكنها في هذه الاخيرة لم تكن مجرد استنتاج وشرح لما كان، بل أنما اتخذت لذاتها مدرجاً خاصاً من التطور والابداع، نتيجة لروح النقد التي حملها أصحابها كميزان لطلب المعرفة الصحيحة. لهذا ظهر الكثير من الكتب العلمية في نقد العلوم الاغريقية، كتلك التي يشير اليها ابن اصيبعة في كتابه «عيون الانباء في طبقات الاطباء»، والتي منها بعض كتب الكندي ومحمد بن زكريا الرازي والطروجي وابن الهيثم الذي له كتاب عنوانه «الشكوك على بطليموس» عبّر فيه عن اصالة النقد والابداع، اذ ذكر فيه: «.. والواجب على الناظر في كتب العلوم إذا كان هدفه معرفة الحقائق ان يجعل نفسه خصماً لكل ما ينظر فيه». كما ظهر ما لا يستهان به من علوم، كعلم البيئة والرياضيات والكيمياء والجغرافيا والهندسة والميكانيكا والطب وغيرها. ويكفي ان نعرف قيمة ذلك بما كتبه الفيلسوف الكندي لوحده من علوم مختلفة، فالقائمة التي ذكرها ابن أبي اصيبعة في طبقاته تشمل عشرات العناوين لمختلف العلوم والصنعات، هي بحق جديرة بالدهشة والاعجاب.
وقد كان من بين الابداعات العلمية لعلماء العرب والمسلمين هو انهم اكتشفوا الدورة الدموية وقوانين نقل الأجسام والأبرة المغناطيسية، كما واكتشفوا ما يقارب ألف عقار طبي، واخترعوا الساعات الدقاقة والزوالية ووضعوا اصول علم الجبر وحساب المثلثات واسس علم الكيمياء كما وعرفوا الاستقصاء العلمي واتباع الطريقة الاستقرائية بصورة لم يعهد لها مثيل من قبل.
لكن على الرغم من الوفرة العلمية التي شهدتها الحضارة الإسلامية، فانه لم تحدث هناك طفرة معرفية في علوم الطبيعة، وذلك لاسباب عديدة اهمها: وكثرة وشدة التقلبات السياسية التي بعثرت دولة الخلافة إلى دويلات متناثرة، مما كان له بالغ الاثر على شل الحياة العلمية والاقتصادية والاجتماعية، ابتداء من القرن الرابع الهجري، كذلك فان
الاهتمام داخل الحضارة الإسلامية لم يكن نافذاً الا تحت ضوء القراءتين الوجودية والمعيارية، الشيء الذي يعني ان العلم لم يكن الشاغل المهيمن على العقلية الإسلامية آنذاك. فالنظام الوجودي لا يخفي حقيقة انشداده نحو اقصى التجريد العقلي، للاتصال بـ«العقل الفعال» أو الاتحاد معه واستلهام الحقائق مباشرة منه، محتقراً بذلك التجربة والمادة، باعتبار ان اللجوء اليها يمثل تراجعاً عقلياً بعد عملية الاكتمال والنضج، فالعلم الحقيقي هو ذلك الذي يتعلق بعالم الثبات، عالم الآخرة والربوبيات، لا بعالم التغير، عالم الدنيا والحسيات، لهذا فقد اعاب صدر المتألهين على ابن سينا لاشتغاله فترة بالطب مفوتاً عليه فرصة الكشف عن العلوم الحقيقية (الربوبيات).
والحقيقة ما كانت لتلك القراءة ان تفعل اكثر مما فعلت، ذلك ان الضرورة تقتضي لها ان تلفظ العلم بعد عملية الامتصاص التي تنالها منه، فهي لا تحتاج إليه كـ«شيء في ذاته»، بل لأجل بلوغ غيره من العلوم الميتافيزيقية الحقة (الربوبيات)، الشيء الذي يعني انّه ليست هناك حاجة للعلم الطبيعي بعد عملية الاكتمال والنضج التي فيها يصبح العقل ذا درجة من التجريد يتمكن خلالها من الاتصال بـ«العقل المفارق» الذي يعمل كمرآة ترى فيها الدنيا والآخرة معاً، أو الطبيعة وما بعدها.
اما لدى دائرة النظام المعياري، فلا شك انّه اهتم ببعض العلوم، كعلم الحساب الذي شهد تقدماً نتيجة لعلاقته الوثيقة بالارث، اي بنظرية التكليف ذاتها، لكنه بخصوص علوم الطبيعة، فليس هناك ما يدل على انّه قد اولاها اهتماماً، لا كـ«شيء في ذاته»، ولا كـ«شيء من اجل غيره»، ذلك انّه هو الآخر كان يعتبر العلم الحقيقي انما هو ذلك المنحدر عن طريق «نص الخطاب»، وإذا كان هناك شيء ما من التشجيع على علم الطب اعتماداً على الأثر المروي (العلم علمان علم الاديان وعلم الابدان)، فان علم الابدان هو الآخر قد هيمنت عليه القراءة المعيارية بالاندماج اولاً واخيراً بـ«نص الخطاب» دون مما حكمة مع «الواقع»، فكانت المرويات (الطبية) تؤخذ كوصفات علاجية شكلت فيما بعد كتباً من «الخطاب الطبيو، كطب النبي وطب الصادق والرضا.. الخ، وكذلك اخذت الادعية والطلاسم والتعاويذ تلعب دورها في هذا المجال. بل ان التعالي عن «الواقع» بالانشداد الكلي نحو «نص الخطاب» قد خلق حالة من «اللامبالاة» تجاه علوم الطبيعة، واحياناً صورة من الازدراء والاحتقار.
والحقيقة ان عامل «اللامبالاة» المتمثل بغياب عنصر «الاثارة»، سواء على نحو ايجابي كالتشجيع، أو على نحو سلبي كالصراع والنزاع، هو الذي كان وراء غياب النمو العلمي إلى الحد الذي يشكل حضوراً قائماً كـ«كائن في ذاته»، وذلك بخلق نوع من الاشكالية العلمية المستقلة، بعيداً عن هيمنة القراءة الوجودية التي عملت على تقييده وتحجيمه، وكذلك بعيداً عن سلطة القراءة المعيارية التي لم تتحرك نحوه بالتحفيز والاثارة. فلو انّه كان حاضراً بذلك الحضور من الاستقلالية، لكان اثره كبيراً حين يتفاعل مع نظامي الحضارة الإسلامية لا فقط على ما سيلحقه من مسلسل «التطور في ذاته»، بل وقلباً اساسياً لحركة «الآخر» ونموه، سواء كان هذا «الآخر» وجودياً ام معيارياً.
ان غياب «شاغل العلم» واندماجه ضمن طاولة القراءة الوجودية والمعيارية، قد امتد اثره إلى يومنا هذا. فمنذ اصطدامنا بالحضارة الغربية اوائل القرن الماضي والى يومنا هذا والعلم بما هو «عملية تأسيس» ظل غريباً واجنبياً عن حضيرة ارضنا المعرفية.
ومع هذا الغياب للعلم الطبيعي، فان دراستنا الفلسفية من الطبيعي ان تكون محرومة عن ان تنتج خطاباً مؤثراً في اشكالية ذلك العلم. فهي اما انها لا تزال تقمع اي طرح يتناول قضايا العلم الحديث، كما في بعض المؤسسات التي ظلت عالقة بالقراءة الوجودية وتبعياتها من العلم القديم، واما انها ناقلة لما يحصل في الغرب من دون ان يكون لذاتها اي نوع من الخطاب المنتج.
ومن جهة اخرى، يظهر لدينا احياناً طموح لقراءة العلم مجرداً عن اشكاليته الخاصة، وذلك بارجاعه إلى حضيرة «نص الخطاب» تحت هيمنة سلطة العقل المعياري. فالكتابات الإسلامية التي تُرجع بعض النظريات العلمية إلى «نص الخطاب»، وكذلك الدراسات التي ترجع العلوم العصرية إلى اصول اسلامية، كتلك التي تفسر القرآن الكريم على ضوء تلك العلوم موهمة انها تؤسس الاول على الثاني، انما تقوم في الحقيقة بتأسيس «متشابه العلم» على «متشابه النص»، فهي لم تتفهم كلاً منهما ضمن اشكاليته الخاصة، وبالتالي تصبح النتيجة بذلك مجهولة أو فارغة لكونها محصلة لضرب متشابهين معاً. في حين كان من المفروض قبل وضع عينة التفاعل بين النموذجين رسم الحدود لكل منهما على ضوء تحديد طريقة التفكير سلفاً.
هكذا ننتهي إلى ان علومنا الطبيعية لم تشكل، لا ماضياً ولا حاضراً، مرحلة الشاغل والحضور، بل كانت في الماضي تقرأ من خلال اشكالية النظام الوجودي، واحياناً من خلال النظام المعياري، وقد ظلت ولا زالت لم تبلغ مرحلة التأسيس بما هو «كائن في ذاته». في الوقت الذي كانت كتبنا ومجادلاتنا دائرة في سياق علم الخلافيات (الفقه) وعلم التمذهب والايديولوجيات (الكلام)، ولا زالت آثار هذه المعايير قائمة إلى يومنا هذا.

الاتصال والانفصال (المعرفي) بين حضارات العالم
بعد كل ما قدمنا اصبح من السهل ان نعرف فيما إذا كان هناك نوع من الاتصال بين الحضارات الثلاث ام لا؟
فمن الواضح ان اشكالية الحضارة الإسلامية لما كانت مختلفة عن الاشكالية لدى الحضارتين الاخريتين، الشيء الذي يعني ان هناك قطيعة معرفية بالقياس إلى حضارة «ما قبل» وحضارة «ما بعد» ومع ذلك فان هذه القطيعة لا تعتبر كلية ومطلقة، اذ لا ينكر وجود عنصر الامتزاج بما اثرت به الحضارة اليونانية من خلال الفلسفة وامتدادتها من التصوف النظري. ان ذلك يدل على عدم وجود تواصل بين الحضارتين الا من «الباب الخلفي»، اذ ظلت الاسس المعيارية لدى اصحاب علوم «التكليف» لا تتناسب مع الاسس الحتمية لدى اصحاب علوم «الوجود» من الفلاسفة والمتصوفة، مما يعكس بدوره اختلاف العقلين والقراءتين معاً، بما يستحيل التوفيق بينهما الا بخسارة احدهما للآخر، الامر الذي حصل ـ كما اوضحنا من قبل ـ والذي كان نتيجته لا فقط التأثير على علوم التكليف كالنحو والفقه والكلام والتفسير، بل وكذلك ادى إلى ظهور انظمة فكرية تتبنى ذلك الازدواج من التوفيق، من خلال قراءة «نص الخطاب» المعياري بعقل وجودي مختلف، كما هو الحال مع تزاوجات الغزالي وابن العربي والملاصدرا الشيرازي وغيرهم. فهؤلاء لم يكونوا مجرد فلاسفة أو متصوفة، بل هم متشرعة ايضاً، الا ان «عقلهم الوجودي» لم يكن مستمداً من معيار تشريعهم، بل العكس هو الذي جرى، إذا كان تشريعهم مشحوناً للتوظيف لصالح ذلك العقل الوجودي.
وإذا كان النظام الوجودي المنبعث من اليونان قد صادف تربة معيارية في الحضارة الإسلامية اضطرت لان يتفاعل معها ويمتزج بها ضمن عمليات التوفيق والتلفيق، والتي ادت إلى سوق «المعيار» بواسطة «الوجود».. إذا كان هذا ما حصل في حضارة الشرق، فان ما جرى للنظام الوجودي في حضارة الغرب كان مختلفاً تماماً، ذلك ان بين الحضارتين اليونانية والغربية نوعاً من الاتحاد في الاشكالية العامة، يمكن التعبير عنه بـ«الكينونة الخارجية». فعلى الرغم من انهما يختلفان في نوع الاشكالية، اذ اشكالية الاولى ميتافيزيقية عقلية، بنيما الثانية فيزيقية علمية، لكنهما يتحدان عند «الكينونة الخارجية». وعلى اساس هذا الاتحاد بدأت عملية التحام النهضة الغربية بالتراث اليوناني.
لا شك ان هناك بدايتين لعملية الالتحام، الاولى عبارة عن احياء التراث الادبي اليوناني والروماني، التي بدأت منذ القرن الثاني عشر الميلادي، والتي اثرت فيما بعد على القيام ببعض الحركات والاصلاحات الهامة على الصعيد الإنساني، منها الثورة على الكنيسة وقيام حركة الاصلاح الديني. لكن من الواضح ان هذه البداية لا تهمنا باعتبارها تفتقر إلى آصرة (الكينونة) المشتركة بين اليونان والغرب، ذلك ان تشكيل هذه الآصرة بدأت لاول مرة منذ النهضة الحديثة خلال القرنين السادس والسابع عشر الميلادي، وذلك من خلال نقد قراءة العقل اليوناني على صعيد العلم والفلسفة، وقد اقتضى هذا النقد إلى اعادة النظر في عملية قراءة العقل ذاته قبل بناء الموضوع الخارجي عليه، الامر الذي كانت تفتقر إليه ممارسة القراءة الوجودية للعقل اليوناني، ذلك ان هذه القراءة لم تكن في حاجة إلى نقد وتحليل مادامت هناك مطابقة تامة بين الوجود والعقل إلى الحد الذي يمثل الوجود انعكاساً للعقل، وان هذا الاخير يكتشف ذاته من خلال تأمل الاول، فالوجود هو العقل، والعقل هو الوجود.
ان نقد قراءة العقل اليوناني وتغييرها من قبل العقل الغربي ادت إلى احالة «الاشكالية» ونقلها من سماء العقل الميتافيزيقي إلى ارض العلم والفيزيقا، ومع هذه الاحالة والنقد فقد ظلت الآصرة التي تربط بين القراءتين والاشكاليتين هي آصرة «الكينونة الخارجية»، فهي عبارة عن «الوجود العام» لدى العقل اليوناني، لكنها عبارة عن «الطبيعية» لدى العقل الغربي. الشيء الذي يعني ان بين العقلين نوعاً من الاتصال والانفصال، وان عملية النقد كانت ترمي إلى ابراز عناصر الانفصال وسط بساط الاتصال، وان افتراق الفكر الاوروبي بين مذاهب عقلية وتجريبية وتوفيقية لهي ذات دلالة على تلك الحالة من الاتصال والانفصال.
على هذا الاساس فقد ظلت الفلسفة تتابع تقدمها في الحضارة الغربية، في الوقت الذي اخذ العلم يتابع تطوره، فلم يفارق احدهما الآخر، ولا كان احدهما في غنى عن الثاني، بل اكثر من ذلك فان تطور العلم ما استطاع ان يتخلص من جراثيم الفلسفة، فمع ان وجودها فيه اخذ يتناقص كلما شهد تطوراً اكثر، لكنها ظلت عالقة به حتى بعد الاعتراف الصريح باستقلال العلوم عن الفلسفة وذلك منذ حوالي منتصف القرن الماضي والى يومنا هذا. وهناك الكثير من العلماء الذين مارسوا النشاط الفلسفي والمنطقي مع العلم خاصة لدى اعضاء جامعة فيينا من الوضعية المنطقية، كاستاذ الفيزياء موريس شليك، ونظيره فيليب فرانك، وعالم الرياضيات هانزهان، وعالم الاجتماع نيراث، والمؤرخ فيكتور كرافت، فضلاً عن ديكارت وباسكال ولايبتنز ونيوتن وارنست ماسن واينشتاين وغيرهم.
ان وجود الفلسفة إلى جانب العلم ونقد احدهما للآخر كان له انعكاس قوي على اعادة بناء الحضارة اليونانية من جديد. فاذا كانت الفلسفة قائمة على العلم، كفلسفة ديكارت القائمة على الرياضيات وفلسفة كانت القائمة على فيزياء نيوتن ومفاهيمها في الزمان والمكان المطلقين، فان العكس كان يجري ايضاً، اذ على قمة العلماء البارزين الذين شيدوا نظامهم العلمي من خلال الافتراض الميتافيزيقي (الفلسفي) هو نيوتن، فقانون القصور الذاتي وهو من اهم قوانينه للجاذبية، مبني على فكرة «الفضاء المطلق». وقد لوحظ عندما بذلت هناك محاولات لتطهير الفيزياء من كل العناصر الميتافيزيقية اواخر القرن الثامن عشر واوائل القرن التاسع عشر، لوحظ ان فيزياء نيوتن تصبح غير منطقية فيما لو حذفت عنها فكرة «الفضاء المطلق» الميتافيزيقية. والحقيقة ان نيوتن لا يخفي احتماءه بالتفسيرات الميتافيزيقية حين لا يتمكن من ان يفسر الظاهرة العلمية طبقاً لنظامه الخاص، فمثلاً انّه حين لاحظ ان حركات الكواكب والمذنبات في النظام الشمسي منتظمة من دون انحراف بخلاف سائر المذنبات التي تدور خارج هذا النظام في مدارات منحرفة كثيراً عن المركز، فانه قد عزى ذلك إلى الفكرة الميتافيزيقية القائلة بـ«التدبير الالهي» وراء الجمال الذي يتصف به نظامنا الشمسي بكواكبه ومذنباته(11).
كما ان نظرية اينشتاين المتأثر بالفيلسوف الفيزيائي ارنست ماسن، كانت موضع اتهام الناقدين لكونها تحمل عناصر يعتقد انها ميتافيزيقية غير مستمدة من الخبرة مباشرة أو غير مباشرة، من قبيل مبدأ ثبات السرعة ومبدأ النسبية(12).
ان هذا التفاعل بين الفلسفة والعلم، والذي جعل الفلاسفة يهتمون اساساً بقضايا المعرفة والعلم، كما وجعل الكثير من العلماء يهتمون بالفلسفة، قد ادى اخيراً إلى الانجرار وراء الحضارة اليونانية، فقد آل الأمر إلى ان تكون الحضارة الغربية عبارة عن امتداد للحضارة اليونانية.
والسؤال الذي يطرح بهذا الصدد هو بأي معنى يمكن اعتبار هذا الامتداد والتماثل؟
هناك من يعتبر ان المماثلة بين الحضارتين تتمثل في كون العقل الغربي هو كنظيره اليوناني يتبنى الاعتقاد بمطابقة العقل لقوانين الطبيعة، مستشهداً على ذلك بديكارت وغاليلو والعلم المعاصر عن الذرة والفضاء، بل وبما فهمه «العلم المعاصر» عن العقل بانه جملة من القواعد المستخلصة من موضع ما، مما يعني ضمنياً المطابقة بينه وبين قواعد الموضوع(13).
والحقيقة ان هذا التصور يمكن ان يصدق على عصور ما قبل القرن العشرين ابتداء من النهضة فعصر التنوير ثم الحداثة، لكنه لا يصدق ابداً مع عصر هذا القرن. فقد كاد يصبح من المسلم به ان قوانين الطبيعة الاساسية عبارة عن صياغات عقلية مفترضة لا تعبر بالضرورة عن مطابقتها للطبيعة، فعلى الاقل انّه فيما يتعلق بالنظريات ذا التعميم العالي والنظريات التي تتناول الظواهر البعيدة عن مجال الخبرة والتجربة الحاسمة، ان من المستحيل اثباتها على وجه اليقين، فما من نظرية من تلك النظريات الا وتعبر عن بعض الافتراضات التي تعزز بالشواهد والتجارب، لكن دون ان تصل إلى مرحلة الحسم، لهذا فقد تتنافس اكثر من نظرية على تفسير ظاهرة ما، وفي هذه الحالة يميل العلم المعاصر إلى الاخذ بالنظرية التي يتوفر فيها عنصر البساطة والاقتصاد والجمال بشكل اعظم(14)، فضلاً عن التعزيز بالمشاهدات والتجارب. وعليه لا يمكن ان نتصور ان ما عرف عن الذرة وعن الفضاء هو بالضرورة يطابق واقع الامر كلياً، فلا زالت هناك فروض وتقديرات بقدر ما كانت الظاهرة بعيدة اكثر عن مجال الخبرة المباشرة، فضلاً عن ان العلم المعاصر يؤمن بان معرفة الموضوع الخارجي كـ«شيء في ذاته» اصبح من المستحيلات مثلما كان يراه (عما نوئيل كانت)، ذلك ان تأثر الموضوع بوسائل المعرفة المسلطة عليه كالاشعة مثلاً يجعل من المستحيل على العقل البشري ان يطابق ما هو عليه الموضوع الخارجي. اما تعريف العقل ـ الآنف الذكر ـ فانه لا يطابق واقع الافتراضات العقلية البعيدة عن مجال الخبرة المباشرة، ذلك انها ليست مستخلصة من الموضوع الخارجي ذاته.
كما ان هناك من عبر عن التماثل والامتداد بين العلوم اليونانية والعلوم الحديثة، كما لدى الفيلسوف الفيزيائي (فيليب فرانك) الذى لا يرى وجود خط حاسم بين طريقة العلم الارسطية، وبين طريقة العلوم الحديثة، سوى ان هذه الاخيرة تفضل معايير التحقق، بينما تمر الاولى على الاستقراء بصورة فورية لتنتهي إلى انتاج تعميم عالي التجريد. وقد اعتمد (فرانك) في ذلك على (فرانسيس بيكون) الذي يُعزى له الفضل في التحول من الفلسفة الارسطية
إلى العلوم الحديثة. فقد كتب (بيكون) يقول: «هناك طريقتان اثنتان فقط للبحث في الحقيقة واكتشافها. وتبعث الطريقة الاولى من الحواس والخصائص محلقة نحو اكثر البديهيات تعميماً، ومن هذه المبادىء التي استقرت حقيقتها وترسخت يتقدم المرء نحو تمييز واكتشاف البديهيات الوسطى وتلك هي الطريقة المتبعة الآن. وفي الطريقة الثانية تستنبط البديهيات من الحواس والخصائص لترتفع في صعود تريجي لا ينقطع حتى تصل إلى اكثر البديهيات تعميماً. وتلك هي الطريقة الصحيحة، ولكنها لم تجرب بعد».
ويقول ايضاً: تبدأ كل من الطريقتين من الحواس والخصائص لتسكن في اعلى التعميمات، لكن الفرق بينهما لا حدود له، فاحداهما تُلقي نظرة عابرة على التجربة والخصائص، اما الاخرى فهي تعايشها كما يجب. تبدأ الاولى بان تشرع فوراً في وضع تعميمات مجردة وغير مفيدة، اما الاخرى فتتقدم في خطوات تدريجية نحو ما هو اهم وما هو معروف لدينا اكثر من غيره في ترتيب الطبيعة»(15).
ان هذا التصوير وان كان صحيحاً من جهة ما يعتمد عليه العلم الارسطي، لكن ينبغي ان لا نعتبر العلم الارسطي من طريقته القياسية التي تبدأ من المبادىء العالية لتتنزل إلى المبادىء المتوسطة، وما عملية الاستقراء المضمرة الا كواسطة تطبق عليها تلك المبادىء، فمهما كان شكل الطبيعة وعلاقاتها، فان المبادىء العالية تظل على «شكليتها» في اداء دورها من توليد النتائج، فالعملية اشبه ما تكون بـ«عملة ذات وجهين»، كيفما كان وجه الطبيعة لا يضر في كونها تخضع بشكل أو بآخر لمصداقية المبادىء العالية. لذا فان فكرة «الكمال» والبحث عن «المكان الطبيعي» وغير ذلك من الاستنتاجات التي نعتها (بيكون) بانها «تعميمات مجردة غير مفيدة»، كلها ترتكز اساساً إلى المبادىء العليا في الفلسفة الارسطية، وليس إلى الاستقراء ذاته.
يبقى ان نصور محاور التمثيل والامتداد بما آل إليه العلم المعاصر رغم اختلاف طريقة التفكير لدى كل من الحضارتين اليونانية والغربية. فمن جهة ان العلم المعاصر قد آل اخيراً يبتعد عن الميول المادية والميكانيكية في تفسير ظواهر الطبيعة التي كانت تغطي عصر القرن التاسع عشر وتشبع طموحاته الايديولوجية، واخذ يقترب شيئاً فشيئاً إلى اعتبارات متباينة لـ«اللامادية». فقد اضطر العلماء إلى ان يتسلحوا باقتراحات وفرضيات تتحرر من قيود النظر المادي والميكانيكي الذي لم يعد قادراً على حل المشاكل العلمية العميقة، الامر الذي وجّه العلماء وجهة اخرى جديدة تتبنى جملة من المفاهيم القابلة للتوظيف والتشغيل، كمفهوم الطاقة والنسبية والموجة واللاتحدد وغيرها، اذ وضعت اساساً لحل مشكلة الظواهر التي استعصت على التفسير المادي، من قبيل حل مشكلة طفرات الجسيم الذري بين المدارات بواسطة فكرة الموجة، وحل طريقة سيركمات الضوء من خلال المجال الموجي الكهرومغناطيسي، وكذلك حل مشكلة الزمان والمكان بالنسبية التي طرحها اينشتاين، الخ..
بل ان هذا التسليح كانت له نتائج هامة لصالح النزعات (المثالية) التي تسربت وسط اغلب علماء العصر. فقد شعر العلماء انهم في الحقيقة لا يدرسون المادة الخارجية بشكل منفصل عن تدخلات العقل ذاته، اذ اصبح من الواضح انّه لا يوجد حد فاصل بين المشاهد وما يشاهده، أو بين عقل العالم وبين الموضوع الذي يخضع لدراسته، كما يستفاد من نسبية اينشتاين(16). بل هناك من العلماء من يتوغل في (المثالية) إلى درجة يضع فيها المادة كشيء مشتق من العقل،
كما هو الحال مع ماكس بلانك رائد نظرية الكوانتم(17).
ان انتشار الميول (اللامادية) لعلم القرن العشرين لم يغط ساحة الاكاديميين من العلماء، بل اخذ يتسرب إلى الوسط الثقافي، الامر الذي جعل بعض دوائر المعارف تبادر إلى نشر هذه الحقيقة ليحتفظ بها في سجل تاريخ العلم، فدائرة المعارف البريطانية تشير صراحة بالقول: «يميل العلم المعاصر إلى الابتعاد عن مذهبي المادية والميكانيكية والاقتراب من الاعتراف بغير العوامل الميكانيكية في ظواهر الطبيعة، حتى الظواهر الفيزيائية»(18).
ان الاعتبارات المختلفة للاتجاه (اللامادي)، إذا ما اضفنا اليها الاهتمام المعاصر لمحاولة طرق العلوم الروحية والدخول في عالم هو اقرب للغيب منه للشهادة، سيجعلنا ندرك بأن العلم المعاصر آخذ في العودة إلى ما كان يجري من تفاسير ورؤى داخل النظام الوجودي لحضارة الام، التي قامت على اساس العقل ولصالح التجرد الروحي، إلى الدرجة التي كان ذلك النظام يجعل من العوامل (العقلي ـ الروحي) يشغل مكاناً يمثل فيه (داينمو) حركة الكون والوجود بأجمعه. فتفسير الظواهر الطبيعية كان يقوم على الاعتبارات العقلية بتأثير «عالم الامر» على «عالم الكون والفساد»، اي بتأثير عالم ما فوق القمر على عالم ما تحته، كما ان النظر إلى ما يجري في الوجود ككل من اوله إلى آخر، كان يصور هو الآخر بانه يقوم على الادراك الروحي تبعاً لمبدأ السنخية.
ومن الجدير بالذكر ان التفسير الروحي لظواهر الطبيعة لم يشغل ساحة الحضارة اليونانية ورضيعتها الغربية التي اخذت تقترب منه، بل ان الحضارة الإسلامية هي الاخرى كانت لا تغفل مثل هذا التفسير لدى بعض اتجاهاتها، خاصة وان بعضاً من آيات القرآن الكريم تلوّح إلى ذلك العامل إلى ما يكاد ان يكون صريحاً، كما في قوله تعالى (وان من شيء الا يسبح بحمده ولكن لا تفقهون تسبيحهم)، (يومئذ تحدث اخبارها بان ربك اوحى لها)، (انطقنا الله الذي انطق كل شيء).
لهذا فقد وُفق الفلاسفة المسلمون في تفسير مثل هذه الآيات، باعتبارها تتناسب كلياً مع منطوق اعتبارهم الروحي لتشكلات الوجود حسب السنخية(19). اما داخل النظام المعياري فلا ينكر ان بعض الفرق العقلية كالمعتزلة قد اخفقت في تفسيرها لتلك الآيات، اذ رفضت ظاهر «النص» تعويلاً على ظاهر «الحس والمشاهدة»، فكانت عملية التفسير تجري على نحو التأويل.
ولم يكن التفسير الروحي وحده هو الذي اخذ العلم المعاصر يقترب منه، بل الاهم من ذلك هو ان هذا العلم اخذ ينحو نحو وحدة الوجود التي تمثل اهم منطوقات الحضارة اليونانية وامتداداتها، فتارة تجسدت هذه (الوحدة) خلف الرؤية العلمية التي هيمنت على عصرنا هذا، واخرى فانها طفحت على لسان بعض رموز العلم واساطينه من الذين تأثروا بالنظام الوجودي لحضارة الام.
لقد كانت وحدة الوجود في الحضارة اليونانية وامتدادتها مفضوحة صريحة، واحياناً مشاراً اليها في لغة الخطاب، على نحو قيل: «إذا فهمت ورقة واحدة من اوراق الاعشاب فسوف تفهم الكون جميعاً»، وما يقال من ان «كل شيء في اي شيء»، ومن خلال الاعلان عن تشاكل عوامل الوجود وتطابقها، أو من خلال تقسيم الوجود إلى مراتب متفاضلة ضمن النوع الواحد، كتقسيم صدر المتألهين للوجود إلى اربعة مراتب هي الجسم الطبيعي والجسم النفسي
والجسم العقلي والجسم الالهي(20)، كلها منضمة في نوع واحد هو عبارة عن «جسمانية الوجود».
ومع ان النظام الوجودي ما كفّ يعلن تصريحاً وتلميحاً عن تبنيه لوحدة الوجود، الا ان هذه الوحدة داخل الحضارة اليونانية وامتداداتها قبل الحضارة الإسلامية لم تنفرز بشكل واضح ودقيق، اذ ان ذلك قد جرى لاول مرة وسط الحضارة الإسلامية ذاتها، خاصة لدى المتأخرين داخل النظام الوجودي، اذ اعتادوا ان يفصلوا القول في انواع تلك الوحدة حتى بلغت احياناً ستة انواع كما عند النراقي(21)، غالباً ما تعتمد عملية الفرز على «التشبيهات» الواردة في توضيح تلك الوحدة، لكونها قضية قد طبع عليها بانها تفوق مستوى حد العقل وتصوره. ومع ذلك فان التأمل في تلك الانواع يمكن ان يردها إلى نظريتين اساسيتين متمايزتين، احداهما تتبنى السلسلة الرتيبة من العلة والمعلول دون خلط واختلاط، وهي التي تنسب إلى «الفلسفة»، والاخرى لا تتبنى ذلك ولا تجعل للمرتبة الاصل مكانة مختصة بذاتها متعالية عن سائر الرتب التي تدنو منها، والتي تنسب إلى «التصوف»، رغم ان ظاهرة الاختلاط والتزاوج بين الفلاسفة والمتصوفة، وكذلك التشابه والتداني في الطرح لدى كل من المنظومتين الآنفتي الذكر، كل ذلك جعل من الصعب الفرز بشكل مطلق وتام فيما إذا كان رمز الطريقة المزدوجة يتبنى وحدة الوجود «الفلسفية» أو «الصوفية».
كان من الواجب علينا ان نذّكر بتلك الاعتبارات، كي نعرف اي نوع لوحدة الوجود استعادها العلم المعاصر عن الحضارة الام وامتدادها. فالمسلمات العلمية المعاصرة حول تحليل المادة والطاقة ورد كل منهما إلى الآخر، وكذلك ارجاع جميع الاشياء من العناصر والمركبات الكونية إلى جسيمات متماثلة واقعة في «بساط موجي» يفوق التصور العقلي، الامر الذي يجعل من حركاتها وتفاعلاتها تتخذ انساقاً هندسية تمثل اساس التكثر والاختلاف الذي نراه في الوجود الطبيعي.. ان هذه المسلمات لهي ذات دلالة واضحة على وحدة الوجود ـ ولو في اطارها الطبيعي الضيق ـ التي كان القدماء المسلمون يصعب عليهم توضيحها، فشبهوها بتشبيهات عديدة كالشعلة الجوالة، والبحر وامواجه، والنور واختلافه في القوة والضعف، واللوح والمداد، وغير ذلك من التشبيهات الاخرى. لكن اقربها إلى الفهم العلمي هو ذلك الاخير ذو المغزى (الصوفي) من وحدة الوجود.
فالمداد المطبوع على اللوح بأحرف مختلفة تبرز حالة ما كان يسمى بـ«الكثرة في الوحدة، والوحدة في الكثرة». اذ لا وجود في اللوح سوى المداد، ومع ذلك فالتنوع والاختلاف في شكل هذا المداد ـ بالحروف ـ انما يعني وجود التكثر وسط الوحدة، ووجود الوحدة في التكثر. فهذا التصوير الذي صوره اصحاب النظام الوجودي داخل الحضارة الإسلامية يطابق إلى حد كبير ما توصل إليه العلم المعاصر من ان الجسيمات (النهائية) لها وحدة على صعيد المماثلة في قبال كثرتها، وكذلك، بل الاهم منه، هو انها لما كانت اساس ما ينتج عنها من عناصر ومركبات واجسام مختلفة ـ بل ومتضادة ايضاً ـ بطريقة التكدس والتنقل والتذبذب والتهندس والاختفاء والكمون وسط البساط الموجي الذي لا يعني شيئاً دونها، انما هو عبارة عن اعادة احياء تلك المقولة الفلسفية الآنفة الذكر «ألكثرة في الوحدة، والوحدة في الكثرة». فالتكثر والتنوع في مختلف اجزاء الطبيعة ومظاهرها وعلاقاتها مستمد من تلك النقطة الجوهرية لوحدة الجسيمات التي تبرز عنها المظاهر المختلفة وسط لوح التموجات. وعلى الرغم من انها هي الموجودة حقيقة وليس هناك شيء آخر غيرها في عالم الكون، فانها تبدو مختفية تماماً، وما يظهر من عوالم كونية مختلفة، انما هو عبارة عن مظاهر لها تسترها وتخفيها، بل هي عين السراب في محط النظر والتدقيق، اذ حقيقة ما هو موجود هو
«الجسيم» وحده، وما عداه عبارة عن اوهام ناتجة عن نشاطه الموجي، الذي هو بمثابة النشاط الروحي لـ«ارادته الحرة» في الحركة ولطاقته العظيمة التي يحملها، الشيء الذي يماثل قول اصحاب النظام الوجودي في الحضارة الإسلامية من ان «الوجود» لشدة ظهوره كان اكثر الاشياء خفاء، بل هو الظاهر والباطن ولا شيء غيره في لوح الوجود البتة، أو قولهم صراحة ليس في الوجود الا «الله» وما عداه وهم وباطل، أو كما قيل:

كل ما في الكون وهم أو خيال
أو عكوس في المرايا أو ظلال

لذلك كانت النزعات المثالية التي عصف بها القرن العشرون وسط علماء الفيزياء إلى الدرجة التي شكك الكثير منهم بوجود الاشياء أو نفوها، انما يعبر عن اعادة احياء حالة قد سبق ان عاشها رموز النظام الوجودي.
وإذا ما كان التحليل الآنف الذكر للنتاج العلمي يزودنا بدلالة «صوفية» عن وحدة الوجود، فان رمز العلم المعاصر (اينشتاين) لا يخفي اعتقاده بتلك الدلالة متأثراً بالفيلسوف (اسبينوزا) الذي يظن انّه قد تأثر بدوره بمحي الدين بن العربي، مما يعود بنا من جديد إلى احضان النظام المعرفي للحضارة اليونانية داخل الحضارة الإسلامية.
بل يضاف إلى ذلك، ان التأمل في التحليل الفلسفي الذي ضمنه وأقامه بعض رموز العلم ـ كإينشتاين ذاته ـ على حصيلة النتاج العلمي يمكن ان يرشدنا لا فقط إلى معرفة ما كان يكنّه ذلك التحليل من «لفيف» وحدة الوجود، بل ويرشدنا كذلك إلى الطابع اللامادي (العقلي ـ الروحي) الذي تمثل فهى تلك الوحدة، فضلاً عن اعتبارات اخرى قد سبق اليها النظام المعرفي الوجودي داخل الحضارة الإسلامية.
فقد انصب اهتمام اينشتاين حول معرفة البنية الخاصة للموضوع الخارجي،فهو لا يرى هذا (الموضوع) عبارة عن جسم أو ذات لها وجود، بل يعتقد استناداً إلى التحليل العلمي ان اي جسم حقيقته عبارة عن مجموعة حوادث متشابكة هي التي تعطي صفة ما نعبر عنه بـ«الجسم» الذي يتألف منه الكون، وان كل حادثة تحدث مرة واحدة في نقطة مكانية ولحظة زمنية واحدة لا تتكرر، في الوقت الذى لا توجد حادثة وحيدة منعزلة، كما لا توجد حادثة بسيطة، اذ الحادثة من جهة التحليل تعبر عن مركب آخر من الحوادث، وهكذا.. وحيث ان الحوادث تحدث في مجاميع على هيئة نسيج مسلسل يرتبط بعضه بالبعض الآخر، اشبه بالقطعة الموسيقية أو بصورة فلم على شاشة السينما، انما يوهمنا وكأنه شيء واحد ثابت له هويته وديمومته الخاصة.
لاشك ان هذا التصور للحادثة يفوق الادراك الحسي، وذلك لانه لا توجد هناك حادثة بسيطة يمكن ادراكها بشكل منفصل، لهذا اعتبرها اينشتاين عبارة عن امر مجرد أو استدلال من سلسلة طويلة لمقدمات رياضية، فلا توصف الا وصفاً رياضياً مجرداً. وقد استفادت نظرية الكوانتم من هذا التصور للحادثة فطبقته على عالم الذرة، حتى اصبح الالكترون هو الآخر كسائر بقية الحوادث لا يشكل جسيماً له ثباته ووضعه المكاني المحدد، بل هو عبارة عن مجال من موجات هي في حد ذاتها مؤلفة من سلسلة مجموعات من الحوادث. ثم جاء مبدأ (هايزنبرج) في «اللاتحدد أو اللايقين» ليكلل تلك النتائج، اذ جعل من الالكترون يتصرف وكأن له مجالاً من الارادة الحرة نسبياً، بحيث لا يمكن تحديد وضعه المكاني وحركته بدقة مطلقة إذا ما حاولنا عزله عن نظائره من مجاميع الالكترونات الاخرى.
ولم يتوقف الحال من مد نظرية «الحادثة» لاينشتاين، من عالم الكون والطبيعة الجسمية إلى عالم الذرة، بل اعقب ذلك مد آخر فيه خطورة جسيمة على دنيا الطبيعة والمادة، فقد قام فيلسوف العلم المعاصر (برتراند رسل) بسحب بساط «الحادثة» ليغطي به «الاحساس الذهني» مضافاً إلى المادة والطبيعة، فهو يذهب إلى ان المادة الخارجية لما كانت تسبب لنا الاحساس في حواسنا، وحيث ان المادة والاحساس يتألفان معاً من حوادث، فلو انا افرغنا الحادثة من محتواها فسوف لا يعد بامكاننا ان نقطع ونتيقن فيم إذا كانت مادة أو عقل، باعتبارها تناسبهما معاً(22).
ان النتائج التي يمكن ان نستخلصها من تحليل نظرية «الحادثة» ـ ابتداء من اينشتاين ومن بعده نظرية الكوانتم ثم انهاء ببرتراند رسل ـ وعلاقتها بالنظام المعرفي الوجودي للحضارة اليونانية، هي كالآتي:
أولاً: ان البساط الذي سحبه (برتراند رسل) للحادثة إلى ما يغطي عالم الاحساس والعقل، يجعل من التفكير العلمي المعاصر لا ينظر إلى عالمي العقل والمادة نظرة تعددية ثنائية، فهما يعبران عن طبيعتين من سنخ واحد هو الحادثة. كما ان الاعتقاد بأن حقيقة الامر الخارجي ليس هو الجسم أو الهوية، بل مجاميع مسلسلة من الحوادث المتشابكة، وحيث ان الحادثة في نهاية التحليل هي امر مجرد لا تقهل الحس، وإذا ما اضفنا إلى ذلك التصور الموجي للحادثة، وكذلك «السلوك الحر» للجسيم. إذا ما اخذنا بجميع هذه الاعتبارات اصبحت النتيجة تقترب بشكل بيّن من وحدة الوجود الروحية أو العقلية، الامر الذي يعني الوقوع مرة اخرى في حوض النظام المعرفي الوجودي. ذلك ان هذا النظام يؤكد على مثل هذه الوحدة إلى الدرجة التي تصبح فيه الطبيعة عبارة عن صورة عقلية منعكسة عن العقل لا العكس، اذ لما كانت الطبيعة مؤلفة من صورة ومادة، والمادة ليست بشيء لانها ـ عند ذلك النظام ـ عبارة عن قابلية لتشكلات الصور، تصبح حقيقة الامر الخارجي بصورته، والصورة عبارة عن درجة من درجات الادراك لقاعدة اتحاد العاقل بالمعقول والمدرك بالمدرك، الشيء الذى يعن في نهاية المطاف ان الصورة الخارجية للطبيعة انما هي عبارة عن عقل متنزل، حسب ما تقتضيه السنخية.
ثانياً: بحسب التحليل الآنف الذكر تصبح الحادثة عبارة عن اساس ومظهر في آن واحد، فهي اساس جميع المظاهر، لكونها جميعاً مؤلفة من حوادث، لكنها في نفس الوقت عبارة عن مظاهر لحوادث اخرى تؤسسها إلى غير نهاية، اذ كما علمنا ان الالكترون وكل ما هو اقل منه من الجسيمات هو بدوره مركب من حوادث، الشيء الذي يعني ان هذه الجسيمات هي عبارة عن اساس ومظاهر في آن واحد، فهي اساس بناء المظاهر الاشد منها تركيباً، كما انها مظاهر لحوادث ابسط منها بنية، مما يعني ان الاساس والمظهر هما من سنخ واحد، اذ بعضها مشكل من البعض الآخر، كما ان الكثرة فيها تصبح هي الاخرى وهمية، فكلما اشتد تركيب الحوادث كلما زادت وهميتها، وهو يطابق ما سبق ان اكد عليه النظام الوجودي من وهمية الكثرة في عالم الطبيعة والكون.
ثالثاً: لما كان عالم الكون عبارة عن وحدة ممتدة غير متناهية من الحوادث، وكانت الحادثة لا تحدث الا لمرة واحدة في نقطة مكانية ولحظة زمانية، فان بقاء العالم وعدم فنائه وانتهائه انما يعبر عن «البقاء النوعي» مع زوال الافراد، فافراد الحوادث تنتهي وتزول، لكن صيرورة التجدد تجعل من بقاء الحوادث كنوع هو الذي يحافظ على ديمومة العالم واستمراريته. وهذا ما سبق ان اكد عليه النظام المعرفي الوجودي من فناء الافراد وبقاء النوع(23).
رابعاً: ان تجدد الحوادث كما تقتضيه نظرية «الحادثة» يماثل تقريباً ما استقر عليه المتأخرون من النظام المعرفي الوجودي داخل الحضارة الإسلامية، من ان الحركة والتحول لا يجري في عالم الاعراض فحسب، بل حتى في عالم الجواهر ايضاً، فما من شيء في الطبيعة الا وهو في تجدد وتحول من غير انتهاء. وان كانت نظرية المتأخرين كما هو الحال عند صدر المتألهين تضفي ابعاداً اخرى ثرية وخصبة لا تمتلكها نظرية «الحادثة». فبحسب تلك النظرية تجري
هناك حالتان (صعود ونزول) هي التي تديم الاستمرارية والصيرورة نحو الكمال. فالحركة الجوهرية في الطبيعة لا تفني شيئاً الا وتجدد في قباله شيئاً آخر بطريقة تزامن (الخلع واللبس). وما يحصل من فناء في هذه العملية لا يمثل العدم، بل هو عين الكمال والالتحاق من صورة الطبيعة إلى صورة ارقى منها عن طريق الاتحاد حسب مبدأ «السنخية»، اي من عالم (العقل السافل) إلى عالم (العقل العالي)، أو من عالم الشهادة والدنيا إلى عالم الغيب والآخرة. كما ويتزامن مع هذا القوس من الصعود قوس آخر للنزول والخلق، فمع فناء وصعود كل صورة أو «حادثة» من صور وحوادث الطبيعة، تحصل حالق خلق ونزول للصور التي يفيضها العقل من سماء التجريد إلى ارض الطبيعة، وبذلك تتم ظاهرة الديمومة بالصعود والنزول على نحو التجديد والكمال إلى ما لا نهاية له، فالحركة مستمرة، والتحول والفيض سار ازلاً وابداً من دون انقطاع، والحوادث دائبة على الحدوث والفناء، أو الخلق والكمال(24).
خامساً: ان تحديد الشيء الخارجي على اساس الحادثة لا الجسم أو الهوية يماثل ما استقر عليه المتأخرون ـ تقريباً ـ منذ صدر المتألهين، من ان الاصالة للوجود لا الماهية، اذ كان قبل هذا الفيلسوف العارف ـ كما لدى استاذه السيد محمد باقر الداماد أو الشيخ الديواني أو شيخ الاشراق السهروردي ـ ان الاصالة للماهية لا الوجود الذي هو بمعنى الكون أو التحقق أو الثبوت أو الصيرورة أو غير ذلك مما يناسب «الحادثة» في قبال الجسم والذات والهوية.
سادساً: يظل هناك خلاف مستقطب بخصوص «عدم التناهي» في الطبيعة، فعدم تناهي الحوادث لدى «نظرية الحادثة» يكون جارياً فعلاً، وهو لا يطابق عدم تناهي الاجزاء لدى النظام المعرفي الوجودي، اذ يحصل حسب وجهة نظر هذا النظام على سبييل القوة لا الفعل، اي ان عملية التقسيم لو اجريت لما كان يمكن الوصول فيها إلى نهاية محدودة.
هكذا ان حضور اليونان في حضارة الغرب يعبر عن حضور الغرب قديماً وحديثاً، الامر الذي جعل الكتابات الغربية منذ القرن الماضي وحتى يومنا هذا تكرس اهتمامها على وحدة التاريخ واستمراريته مستفيدة في ذلك من فكرة «التقدم»، وحاذفة من خاطرها كل ما لا علاقة له باوروبا وفكرها، فتاريخها الذي تطمح ان تعممه على الإنسانيّة جمعاء هو تاريخ يمتد من اثينا فروما ثم إلى فلورنسا وبعد ذلك إلى اوروبا ابتداء من فرنسا(25). فهي تبدأ بالغرب ثم تعود لتنتهي إليه دون مرور بالحضارة الإسلامية ولو من بابها الخلفي، اذ انها تطمح من وراء ذلك إلى هيمنة العقل الاوروبي على الإنسانيّة جمعاء.
نحن لا ننكر ان ما اثرت به الحضارة الإسلامية على الغرب لا يمت إلى جوهر اشكاليتها، ولا إلى عقلها الاساسي بصلة، فالدور الاساس الذي لعب في بناء الغرب علمياً وفلسفياً كان يعود إلى النظام الوجودي مبا تخلله من مادة معرفية وعناصر علمية. فقد تحول طب الرازي وابن سينا وبصريات وابن الهيثم وفلك البطروجي وفلسفة ابن رشد وابن عربي وغيرها إلى الغرب. بل ان بعض الغربيين يرى ان جميع مجالات العلم والثقافة الغربية كان مصدرها نابعاً من الحضارة الإسلامية عبر الاندلس، بما في ذلك المنهج التجريبي الذى قام عليه العلم الغربي، فعلى ما ذكر (بريفولت) في كتابه «بناء الإنسانية» ان (روجر بيكون) قد درس العربية وعلومها وقام بنقل ذلك المنهج إلى اوروبا من العرب(26).
والذي نخلص إليه مما سبق هو ان الحضارة الإسلامية تمثل دائرة انفصال ضمن دائرتي اتصال، وذلك فيما لو قرأناها بحسب الاشكالية والعقل الذي استغرقها. اما لو قرأناها بكل ما تحمله من «بضاعة»، فلا شك انها ستكون حلقة وصل وامتداد واثراء بين حضارة الام (اليونان) ورضيعتها (الغرب). الشيء الذي يعني ان حضارتنا تمثل حلقة فصل ووصل في آن واحد، فهي فصل من حيث الاشكالية التي هيمنت عليها والعقل الذي استوعبها، لكنها عبارة عن حلقة وصل، ذلك لانها قد منحت مفاتيح الوجود للحضارة الغربية عبر بابها الآخر.
النهضة والتساؤلات المحمومة
نعود الآن بعد ان شارفنا على نهاية البحث إلى طرح تساؤلات تتم ما بدأنا به بحثنا، فقد سبق ان طرحنا تساؤلات عن علاقات حضارات العالم الثلاث، ثم اردفناها بأخرى تخص شؤون حضارتنا «الغائبة». اما ما بقي معنا من تساؤلات فهي «محمومة» تضيق لها صدورنا لما تثيره فينا من «هم وغم»، فلا زال السؤال الشاغل الذي يهيمن في نفوسنا هو: لماذا تخلفت الحضارة الإسلامية وتقهقرت فعاشت مرحلة السبات والغيبوبة لعدة قرون؟ فهل ان ذلك يعود إلى نظامها المعياري باعتبارها حضارة تكليف قد استنفدت طاقة النص والعقل بأكملها، فلم يبق لديها شيء آخر تتفاعل معه سوى ان تؤاكل نفسها بنفسها، كالذي حصل في مؤاكلة العقل للعقل ذاته، والاجتهاد للاجتهاد؟
مما لا شك فيه هو ان حضارتنا الغائبة هي غير حضارة اليونان الممتثلة. فاذا كنا لم نجد «صرخة» تطالب باعادة تأسيس الحضارة اليونانية من جديد، لكونها قد امتثلت بمثلة اخرى في حضارة اخرى هي الحضارة الغربية، أو لانها قد ماتت وانتهت على اقل التقادير، مما يعني ان السكوت المتعمد بالمطالبة بتلك الدعوة يضع الحضارة اليونانية موضع «الشيء المهمل» الذي يفقد مبرر قيامه توظيفاً وتشغيلاً.. فاذا كنا لم نجد مثل تلك الصرخة مع الحضارة اليونانية، فان الامر مع الحضارة الإسلامية يختلف كلياً. فمن جهة ان «الصرخة» للمطالبة باعادتها ليست غائبة ولا ميتة كما هو الحال مع سابقتها. كما انّه جهة اخرى هو ان هذه الحضارة ليست ممتثلة ولا انها فاقدة الروح كجثة هامدة.
فروح الاجتهاد ـ على حدودها الشكلية ـ لا زالت عالقة بأوصالها، كما ان صرخة المطالبة باعادتها لا زالت تتردد منذ الاصطدام بالحضارة الغربية والتوسع الاستعماري اوائل القرن التاسع عشر والى يومنا هذا.
والحقيقة ان ما ظهر خلال تلك الفترة عبارة عن صرختين تنفصلان احياناً وتتحدان اخرى، احداهما تدعو للنهضة القومية، خاصة النهضة العربية، سواء من خلال الالتحام بالتراث الاسلامي أو بالانفصال عنه كما لدى الدعوات العلمانية. اما الاخرى فتدعو للنهضة الإسلامية بغض النظر عن الجانب القومي. وعلى الرغم من طول مدة ما اطلق عليه بـ«النهضة» على الصعيدين العربي والاسلامي، الا انّه لم ينسجم المخاض بين النهوض والنكوص حتى يومنا هذا، رغم مخاض العقود الاخيرة لنهاية القرن العشرين التي شهدت تطورات ليس لها نظير في تاريخنا القديم والحديث.
ان التفكير في النهضة ومدتها يطرح في ذاته تساؤلاً «محموماً» حول ما إذا كان العجز متأصلاً في عروقنا، ام ان هناك عاملاً مغيّباً ينبغي تجهيزه كشرط مقوم للنهضة والوقوف على الاقدام؟
لقد صور لنا القوميون العرب مرارة ما شهدناه خلال هذا القرن من تجربة قومية فاشلة لمشروع النهضة العربية. فالوعي النهضوي الذي بدأ منذ القرن الماضي قد تحول منذ اواخر الخمسينات إلى وعي ثوري، لكنه ما لبث ان نكص وتراجع بعد هزيمة(1967)، حيث خيبة الامل والشعور بالاحباط والفشل، قد اعاد الامر إلى ما كان عليه من قبل، الا وهو الوعي النهضوي الذي لا زال يملأ وجدان الضمير العربي. ومن القوميين العرب من عبر عن هذه الازمة بصورة مشبعة بالعاطفة وحمة الوجدان، كما هو الحال مع الاستاذ شاكر مـصطفى الذي يتساءل في ندوة له: «لماذا تطلب وفاق العرب مع العصر كل هذا الوقت الطويل، ودون جدوى؟» ثم يضيف قائلاً: «هذا السؤال المصيري، النازف كالجرح في ضمير كل عربي ملتزم، إذا كان ما يزال يأخذ يوماً بعد يوم ابعاداً مأساوية متزايدة فلأنه قد مضت على ارتطام هذه الاُمّة بالحضارة الحديثة وبمعطياتها وآلاتها سنون بعيدة بعيدة. كتلة الاقاليم العربية مضت عليها الفترة الزمنية الكافية لتكون في مستوى العصر وتكنولوجيته وفيضه الحضاري. معظمها على الاقل انطلق قبل الصين التي بدأت منذ ربع قرن، بعضها قبل روسيا التي بدأت منذ سبعين سنة. ومع ذلك فهذه الامم وصلت. كلها وصلت، بينما لم يصل اي اقليم عربي طليعي إلى شيء بعد. مأساوية السؤال انما تنبع من احتمالات الاجوبة عليه: فهل وصلت الاُمّة حقاً مرحلة الشيخوخة فهي إلى الاديار والعقم الحضاري؟ أو اضاعت الطريق؟ وانى الطريق؟ ام ثمة من الامراض المعقدة في تكوينها العام، ما يشل المفاصل ان تسير السير الذي يقتضيه ايقاع العصر؟ تلك هي المسألة»(27).
ويأتي منظر قومي آخر هو الاستاذ محي الدين صبحي ليلاحظ انّه منذ القرن الماضي ـ المدعو بعصر النهضة ـ وحتى يومنا هذا ومحاولات النهضة لا زالت تتكرر: «قامت مرة على يد محمد علي.. وفي مرة ثانية بدأت بين الحربين نهضة استهدفت التحديث حصلت خلالها امور كثيرة: كان الغرب في عصر النهضة الصناعية الاولى، عصر البخار، فاجتاز تلك النهضة ودخل عصر الطاقة والكهرباء، ثم الثورة الالكترونية، كما حدثت ثورات اجتماعية كثيرة ايضاً، بدأت بالثورة البلشفية وتلتها الثورة الصينية ومؤخراً الثورة الفيتنامية، ولم يستطع العرب ان ينجزوا اي نوع من انواع الثورتين: العلمية أو الاجتماعية السياسية، ولم يستطيعوا ان يقيموا دولتهم القومية أو ان يقدموا الضمانات القانونية الضرورية لنشوء العمران». واكثر من ذلك ان المسافة بين تخلف العرب وتقدم الغرب اخذت «تزداد ولا تنقص: في القرن التاسع عشر كانت المسافة بسيطة نسبياً بين المجتمع المصري والشامي وبين المجتمعات الغربية الصناعية.. كان العرب إلى حد ما على اطلاع بما يجري في العالم، وكانوا اكثر قدرة على محاكاته، اما الآن فالمسافة تتسع وتنظيم المجتمع يتعقد ومعطيات السياسة العالمية تتشابك، ويضيق على العرب شيئاً فشيئاً بحكم تصارع القوى»(28).
وهناك منظر عربي آخر قد عبّر عن مأساوية الوضع الذي نحن الآن فيه، وعن مخاوف المصير التي تهددنا، فكما يقول الاستاذ غالي شكري في مجلة (دراسات عربية/1980): «ولعلنا نصاب بالهلع إذا تذكرنا ان المسافة الزمنية التي تفصل بين نهاية ازدهار الحضارة العربية الإسلامية الاولى وبداية النهضة الحديثة في القرن الماضي تبلغ حوالي الف سنة، بما يثير تساؤلاً مروعاً هو ما إذا كانا قد دخلنا بالفعل مرحلة انحطاط جديدة ستدوم الف سنة اخرى. ولكن الجواب الاكثر ترويعاً هو انّه إذا كان ممكناً لاسلافنا ان يناموا كأهل الكهف عشرة قرون، فان العصر الجديد يخلو من الكهف ويستحيل فيه النوم الحضاري الطويل، بل هو يضعنا في مفترق طرق حاسم لا رجعة فيه: فاما التقدم واما الانقراض، ولا طريق ثالث أو وسط بينها»(29).
اما الدعوة إلى النهضة الإسلامية فقد اجتازت مرحلتها إلى مرحلة التطبيق والثورة منذ اكثر من عقد، لكن مع ذلك فلا زال المخاض لم يحسم الموقف لصالح النجاح أو الفشل.
ان هذه التجربة الجديدة جاءت على عقب تجربتين فاشلتين مر بهما العالم الاسلامي، احداهما التجربة القومية العربية بعد منتصف القرن العشرين، والاخرى التجربة العلمانية التي مرت بها تركيا بعد انتهاء الخلافة اوائل هذا القرن. الشيء الذي يعني ان هناك المزيد من المخاوف من الوقوع في نفس الفشل الذي لاح كلاً من التجربتين القومية والعلمانية.
واذ لا نكتم الاعلان عن مخاوف الوقوع في الفشل وما يترتب عليه من آثار باهضة، فانا نراهن على ان حل مشكلة كهذه يرتبط اساساً بعلاج طبيعة التفكير الذي هيمن علينا مما له علاقة وثيقة بنمط الاشكالة ى التي تستحوذ على عقولنا. ان التعرف على هذه الطبيعة سيدلنا على ادراك العلة الاساسية وراء الجمود والسكون الذي اجترته حضارتنا طيلة قرون، بل انّه كذلك سيضي لنا الطريق المناسب للتحرر والخلاص.
____________________________________
الهوامش :
1- تجديد التفكير الديني في الإسلام لمحمد اقبال، ص189 ـ 190، ترجمة عباس محمود، الطبعة الثانية، 1968/ لجنة التأليف والترجمة والنشر في القاهرة.
2- تاريخ آداب اللغة العربة ى لجرجي زيدان، ج2، ص17.
3- سلسلة تراجم اعلام الثقافة العربية ونوابغ الفكر الاسلامي/ المجموعة الاولى، ص19.
4- الملل والنحلل للشهرستاني، ص22 ـ 23، عرض وتحريف الدكتور حسين جمعة، الطبعة الاولى، 1990، دار دانية للنشر.
5- لاحظ: تكوين العقل العربي للدكتور محمد عابد الجابري، ص28، ضمن سلسلة نقد العقل العربي(1)/ الطبعة الثالثة، 1988/ مركز دراسات الوحدة العربية.
6- مذاهب التفسير الاسلامي، ص3، لـ(اجنتبي جولدتسهير)، ترجمة د. عبد الحليم النجار/ مكتبة الخانجي بمصر ومكتبة المثنى ببغداد، 1955 ـ 1974.
7- تجديد التفكير الديني في الإسلام، ص189.
8- انظر حول ذلك كلاً من: الاسفار، ج6، ص272، والشواهد الربوبية، ص41 ـ 42، ومفاتيح الغيب، ص87 ـ 88، كما لصدر المتألهين.
9- لاحظ: شرح خصوص الحكم للجندي، ص353 ـ 355.
10- الفلسفة العربية المعاصرة، ص263، مقال د. سهيل فرح/ الطبعة الاولى 1988، مركز دراسات الوحدة العربية.
11- فلسفة العلم ص154، فيليب فرانك/ ترجمة د. علي علي ناصف، الطبعة الاولى /1983 المؤسسة العربية للدراسات والنشر.
12- لاحظ: تكوين العقل العربي، ص28.
13- لاحظ الفصل السابع من المصدر السابق.
14- لاحظ الفصل الاخير من فلسفة العلم.
15- لاحظ: فلسفة العلم، ص364 ـ 366.
16- فلسفة العلم، ص224.
17- من نظريات العلم المعاصر إلى المواقف الفلسفية، ص82 للدكتور محمود فهمي زيدان، 1982، دار النهضة العربية.
18- فلسفة العلم، ص224.
19- لاحظ: الحكمة المتعالية في الاسفار العقلية الاربعة لصدر المتألهين، ج1، ص118 ـ 119، دار احياء التراث العربي/ طبعة ثالثة، 1981.
20- لاحظ: شرح اصول الكافي لصدر المتألهين، كتاب التوحيد، باب النهي عن الجسم والصورة.
21- لاحظ: قرة العيون للنراقي، ص210 ـ 235، تعليق ومقدمة وتصحيح سيد جلال الدين اشتياني/انتشارات دانشكاه فردوس مشهد.
22- لاحظ: مشكلات الفلسفة، ص41 و46 للدكتور ماهر عبد القادر محمد علي. وكذلك: من نظريات العلم المعاصر إلى المواقف الفلسفية، ص61 و79 ـ 80.
23- لاحظ حول ذلك: الحكمة المتعالية في الاسفار العقلية الاربعة، ج2، ص138. وكذلك عرشيه، ص231 لصدر المتألهين / كتابفروشي شهريار اصفهان، 1341 هـ ش.
24- لاحظ: اسرار الآيات لصدر المتألهين، ص63 ـ 64 و159، مقدمة وتصحيح محمد فواجوي، انتشارات انجمن اسلامي حكمة وفلسفة ايران 1402هـ.
25- لاحظ حول ذلك: التراث والحداثة، ص27 و75، وتكوين العقل العربي، ص48.
26- لاحظ: تجديد التفكير الديني في الإسلام، ص149 ـ 150.
27- عن: اشكاليات الفكر العربي المعاصر، ص132 للدكتور محمد عابد الجابري، الطبعة الاولى 1989، مركز دراسات الوحدة العربية.
28- لاحظ: مجلة شؤون عربية. عن الخطاب العربي المعاصر للدكتور محمد عابد الجابري، ص26 ـ 27، الطبعة الثالثة 1988/ دار الطليعة ببيروت.
29- المصدر السابق، ص27