حركية السيمياء في كتابة السيرة الذاتية والمذكرات/ ياسر جابر الجمال

إن مذكرات الشخص هي شهادة منه على جزء من التاريخ بالصواب أو الخطأ، كما أن مذكرات القادة والشخصيات المرموقة ثقافيًّا وفكريًّا هي أهم مصادر كتابة التاريخ الصحيح الذي يمكن الاعتماد عليه في توثيق الأحداث والوقائع التي تمُرُّ بها البلدان، لا سيما إذا كان الشخص ذا تأثير ثقافي وفكري ملموس، وموقف رائد.

الألم والمعاناة أن تنساك أرضُك وأنت مَن قاتل من أجلها طيلة عمره، لا لشيء إلا هكذا الأمر، والأكثر من ذلك أن تتعاقب عليك الأيام والليالي وأنت تزداد يقينًا بذلك.

الجرح الذي لا يمكن أن يندمل وينساه الإنسان هو خيانة رفقاء الدرب، وأصدقاء الطريق، فالطعنات من هذا الجانب تكون غائرةً وسامَّةً، لا يمكن أن تبرأ مدى العمر.

الخلود الحقيقي والبقاء الدائم هو بقاء العلم والمعرفة الحقيقية التي كتبها الإنسان جراء عصارة فكره، وخلاصة تجاربه في الواقع والحياة، وكلَّل ذلك بالمواقف المشرفة التي وقف قلمه في سبيلها طيلة عمره في حله وترحاله.

هذه ملامح تؤكد لنا أن السِّيَر الذاتية الحقيقية هي التي تتسم بالوضوح والصدق والتجرُّد في كثير من النظرات والآراء والتجارب المتصلة بالذات وبالشخصيات، وهي تستحضر صور أصحابها، وما عانوه من صراع داخلي وخارجي، تصويرًا دافقًا بالحيوية والازدياد والنمو، ويكشف عن مدى ما أصابته شخصية أحدهم من تحوُّل وتغيُّر وتطوُّر.

إنه ثمة فارقا جوهريا يحدد المسافة الدقيقة بين مذكرات الشخص وسيرته الذاتية، فمذكرات الشخص تركز على مراحل مهمة ودقيقة في حياة الإنسان، بخلاف السيرة الذاتية التي تعني وتتبع كافة المراحل الزمنية للشخص؛ ولذلك فقد عني كثير من هذه التراجم الذاتية بإثبات عنصري الزمان والمكان والكشف عن أسماء الشخصيات والأماكن وتعزيز الأحداث بإثبات التاريخ وبعض الذرائع والمدونات مع المحافظة على الاسترسال والسرد الأدبي الجالب للمتعة المرادة من العمل الأدبي؛ ممَّا جعل السيرة الذاتية تحظى بعناية كبيرة من قِبَل الأدباء والكُتَّاب، ويقابلها الجمهور بإقبال شديد؛ لأنها أرضت حاجة العرب؛ إذ نقلت لهم الواقع الملموس في صورة قصصية سهلة عذبة، وكانت تقوم – إلى جانب السيرة الغيرية – بهذا الدور الأدبي على مدى أجيال طويلة[1].

وهذا يدفعنا بقوة إلى القول بأن قضية تداخل الأجناس الأدبية قضية قديمة حديثة لم ولن يتوقف فيها الجدال بين مؤيد ومعارض، فمنهم من يرى ضرورة الفصل بين الأجناس الأدبية، ومنهم من يرى ضرورة عدم الفصل بين الأجناس الأدبية، وأن القضايا الأدبية متداخلة متشابكة، ويصعب الفصل بينها[2]؛ حيث إن الجنس الأدبي يُعَدُّ مدخلًا تنظيميًّا للخطابات الأدبية، ومعيارًا تصنيفيًّا للنصوص الإبداعية وَفْق خصائصها، ومؤسسة تنظرية ثابتة تسهر على ضبط النص أو الخطاب، وتحيد مقوماته ومرتكزاته، وتقعيد بنايته الدلالية والفنية والوظيفية من خلال مبدأي الثبات والتغيير[3].

هذا التداخل بين الأجناس الأدبية لا يمكننا الوقوف أمامه، خصوصًا إذا كانت النصوص والكتابات عابرة للحدود، وتتسم بالمرونة والتداخُل، ومن ذلك الكتابات الأدبية التي هي أساس هذا الجانب، فالسيرة الذاتية، ومذكِّرات الأشخاص هما في نهاية الأمر يؤكدان أن حدود الحياة الفردية حكاية مسار تسعى فيه الذات إلى التكيُّف مع واقعها المعيش؛ إذ هي جزء من منظومة مجتمعية تتقاطع فيها حيوات أخرى، وما الإفصاح عن ذلك كتابةً إلا محصلة لما طوته السنون من تجارب متوزِّعة بين ماض طويت صفحاته، وحاضر يعيش المرء لحظاته، ومستقبل يستشرف فيه آماله، هو امتداد زمني لا يخلو من استكناه للنفس وتفكُّر في أحوالها وما آل إليه وجودها، مثل لدى المترجمين لذواتهم بخاصة مادة خامًا لمشاريع كتاباتهم السيرية[4].

كما أن مقولة “التأريخ الشخصي” لأحوال الأنا في كتابة السير الذاتية تعني فيما تعنيه استعراض المحطات الحياتية عبر تعاقبها الزمني، اعتمادًا على الصدق في نقل الأحداث وعلى الأمانة في عرضها، فما تطرحه السيرة الذاتية، وفقًا لهذا المفهوم وانطلاقًا من تنوُّع مادتها النفسية والاجتماعية واللُّغوية، يجعل منها فضاءً نصيًّا منفتحًا على أكثر من قراءة تستهوي الدارس بطبيعة أبنيتها وما فيها من انصهار للتجربتين الحياتية والفنية، فالسيرة الذاتية إذًا وسيلة لكتابة الذات والتعريف بها وبرحلتها الوجودية بين الحياة والموت.

إن منطقة التماس التي تصل السيرة الذاتية بباقي صنوف الكتابات الأخرى، تضع الدارس أمام ضرورة البحث عما يتحكم في النص السيرذاتي من آليات اشتغال داخلية ومرجعيات فاعلة خارجية[5].

ومن ذلك فإن صفوة القول وبيت القصيد، أن السيرة الذاتية وما تحويه من قضايا أدبية وفنية دعت أستاذنا “إحسان عباس” إلى اعتبار ذلك نوعًا من العلوم التي يمكن تعلُّمها وتناولها بالدراسة والتحليل، والبحث في القضايا المتعلقة بها، كما أنها لديها من السمات التي لا تتوفر لغيرها، ومنها:

• أن الإنسان الفرد أبسط كموضوع للدراسة من القبيلة أو المدينة، أو الأُمَّة التي ينتمي إليها.

• أن للأطفال ميلًا طبيعيًّا مفيدًا نحو الشخصيات، فهم يعيشون مع أبطالهم ويقاسمونهم؛ وبذلك تتسع دائرة خبراتهم بصورة لا تكاد تعقل في حالة دراسة الجماعات.

• أن تعرف الشخصيات العظيمة النبيلة في التاريخ يخلق رغبةً في التشبُّه بهم ويبعث على بغض سلوك الشخصيات الشريرة.

• أن من الممكن أن تجعل الأفراد يمثلون الجماعات، بحيث تكون دراسة لخصائص الأفراد وخبراتهم [6].


[1] Some principle of Autobiography, By, William L. Howarth, Page:365-367.

[2] راجع في ذلك: محمد صالح الشنطي: تداخل الأنواع الأدبية في الرواية الأردنيَّة، مؤتمر النقد الدولي الثاني عشر، مج2، ص 423، وكذلك هادي نهر: تكامل العلوم اللغوية وتداخل الأنواع الأدبيَّة، مؤتمر النقد الدولي الثاني عشر، مج2، ص 79.

[3] جميل حمداوي: نظرية الأجناس الأدبية، آليات التجنيس الأدبي في ضوء المقاربة البنيوية والتاريخية، إفريقيا، الشرق، الدار البيضاء، المغرب، 2015م، ص7.

[4] ناصر بركة: أدبية السير الذاتية في العصر الحديث بحث في آليات اشتغال النصوص ومرجعياتها الفاعلة، دكتوراه، كلية الآداب، جامعة باتنة، جامعة الجزائر،2013م، المقدمة أ.

[5] ناصر بركة: أدبية السير الذاتية في العصر الحديث، بحث في آليات اشتغال النصوص ومرجعياتها الفاعلة، دكتوراه، كلية الآداب، جامعة باتنة، جامعة الجزائر، 2013م، المقدمة أ.

[6] إحسان عباس: فن السيرة: ص 83-91.