جدل الصوت والظلال في “حالة مشي” لإبراهيم داود /د. عمر شهريار

 

ربما يبدو “ست محاولات”([1]) عنوانا مخاتلا، ينحرف عن النسق المعهود في عنونة الأعمال الكاملة لأي شاعر، لكن إبراهيم داود آثر أن يضع لأعماله هذه، التي تضم ستة دواوين، هذا العنوان الذي يبدو كدالٍ عائمٍ، يسبح فوق عدد لانهائي من الدلالات، بما يسمح لكل قراءة أن تقترح تأويلا محتملا، لكن هذه المراوغة الدلالية لا تمنع وجود عدد من المرتكزات التي يتكئ عليها العنوان، رغم مراوغته هذه، ربما يكون أولها أن ثمة ما تسعى الذات الشاعرة إلى قنصه والإمساك به، فليس ثمة محاولة في الفراغ، بل دوما ثمة جوهر ما تسعى الذات الشاعرة للوصول إليه والإمساك به وإشباع رغبتها في امتلاكه. وثاني هذه المرتكزات هو التمرين والمجاهدة التي تتلازم مع فعل المحاولة وإلا فقدت المحاولة جوهرها وشرط وجودها. أما ثالث هذه المرتكزات التي يتكئ عليها العنوان فهو الإخفاق وعدم الوصول، وإلا فقدت كل محاولة لاحقة علة وجودها، ومن ثم يتحول إخفاق الذات إلى دافع لتجريب محاولة أخرى، وهكذا في حركة وديمومة لا تنتهي. ويتشكل المرتكز الرابع والأخير في فضاء الهدف المراوغ ذاته، العصي على الإمساك به، إنه ذلك الشبح الذي يتسرب دوما من بين يدي الذات، وقادر دوما على إثارة رغبتها، ثم سرعان ما يتلاشى ويتبدد، كطيف يلعب مع الذات ويراوغها بمهارة، أو كامرأة لعوب تستثير الرغبة ثم تتركها متأججة ولا تطفئها قط.

تسعى هذه القراءة لمعاينة ديوان “حالة مشي”، بوصفه المحاولة الأخيرة والأحدث بين المحاولات الستة، والتي تضمر في داخلها خبرة تراكمية من المحاولات السابقة عليها، بحيث تبدو، في الأخير، الأكثر نضجا بحكم كونها تتلافى ما وقعت فيها الذات من أخطاء في المحاولات السابقة، أو هكذا يفترض المنطق الخارجي.

يحمل عنوان “حالة مشي” زخما دلاليا، إذ يشير مبدئيا إلى السير بمعناه المادي المباشر، والذي يتحقق بالفعل في الديوان، بما يحمله فعل السير من تأمل في الشوارع والطرقات والبيوت، وما يستدعيه أيضا من حالة تأمل الذات والعالم، وربما انفتاح الذاكرة وتأمل الماضي ومحاورته. ففعل المشي هنا ربما لا يكون مقصودا لذاته، بل ما ينطوي عليه هذا الفعل من إدخال الذات في “حالة” خاصة، حالة وجدانية وذهنية، خاصة إذا ارتبط فعل المشي بالليل والعتمة والظلام، حسب ما سنرى لاحقا، وأن يكون أقرب إلى التسكع بلا هدف، سوى الفعل والحالة في ذاتهما. ويترتب على فعل المشي جملة من الأفعال المرتبطة بالحركة والحراك والديناميكية، فضلا عن تغير الزمان والمكان، فالسير لا يكون اختراقا للأمكنة فحسب بل للزمن أيضا، إنه تجوال في الزمان والمكان معًا.

يبدأ الديوان بقصيدة “قبل النوم” التي تبدو بمثابة تقرير شعري عن الذات. إنها بطاقة تعريف تقدم بها الذات نفسها، متكئة على لغة تقريرية مباشرة. لكن أول ما يلفت النظر في هذا التقرير الشعري هو مفتتح القصيدة، حيث يقول:

“أحب البيوت التي لها رائحة

وأكره الشوارع الطويلة”[2]

ربما يبدو للقارئ من الوهلة أن هذا المفتتح يتناقض مع إعلان الذات عن حبها للمشي، لكن الذات هنا تعلن حبها للبيوت التي لها شخصية واضحة، البيوت الدافئة المفعمة بروائح الحياة والبشر، وفي الوقت ذاته تكره الشوارع الطويلة، انحيازا للطرق والشوارع القصيرة، وربما الضيقة، بحثا عن دفء ما، الشوارع القصيرة النائية والخاوية من العابرين، التي لا يرتادها أحد، ربما تعثر على طريقها الخاص، طريقها الذي تكتشفه بذاتها ويكون ملكها الخاص الذي تباهي به، ربما لذلك تحقد الذات على من سبقوها في اكتشاف طرقهم الخاص، طرقهم التي ظلت مرتبطة بهم، يقول في قصيدة عن محمد الماغوط:

“سألعنه ما حييت

لأنه اكتشف طريقا جانبيا

طريقا عريضا..

لا يفضي إلى شيء”[3]

هكذا تبدو العلاقة مرتبكة بين الذات الشاعرة وأسلافها، علاقة يشوبها الإعجاب والانبهار، وفي الوقت نفسه الضغينة واللعنة، لأن السلف اكتشف طريقه الخاص، طريقا جانبيا وعريضا، يمرح فيه وحده دون سواه، طريقا مطلوبا لذاته ولو لم يكن يفضي إلى شيء، فالطريق الخاص هو الغاية في حد ذاته. إن الذات الشاعرة، هنا، تفصح بشكل لا واع عن رغبتها الدفينة في امتلاك طريق يخصها، وربما لن تستطيع العثور على هذا الطريق إلا إذا لعنت الأسلاف وطريقهم الذي اكتشفوه. إنه درب من دروب قتل الأب بحثا عن حياة جديدة وطريقا مغايرا، وصوتا له نبرته الخاصة، فيغدو القتل واللعنة محاولة لإبعاد أشباح الراحلين وظلالهم التي تهيمن على الذات وتكسوها، محاولة طمس وجودها الآني، وجعل الذات محض صورة أو ظلا للماضي. على نحو ينفتح معه النص على تاريخ طويل من العلاقة الملتبسة بين الشاعر وأسلافه، ذلك الالتباس الذي ظل مؤرقا للكثير من الشعراء الذين ظلوا راغبين في الانفلات من أسر أسلافهم وحضورهم الضاغط على الشاعر الجديد، كقول عنترة:

“هل غادر الشعراء من متردم                                       أم هل عرفت الدار بعد توهم”

أو قول أبي العلاء المعري:

“أنا وإن كنت الأخير زمانه                                          لآت بما لم تستطعه الأوائل”

إن سطوة ظلال الشعراء السابقين، واحدة من الهواجس الوجودية لكل شاعر يبحث عن صوته الخاص، وتعبيد طريق لم يسبقه إليه أحد، وصولا إلى ترك أثر يدل عليه، وبصمة متفردة لا تتشابه مع بصمات السابقين عليه.

يتمحور الديوان حول صراع يبدو مركزيا، حيث نرى جدلا قائما طوال الوقت بين محاولة الذات لامتلاك صوتها الخاص وكلامها الجديد الذي يتناسب مع راهنية اللحظة الوجودية التي تحياها، بسياقاتها السياسية والمعرفية، وبين هيمنة ظلال الآخرين الضاغطة على الذات، سواء كان الآخرون من الراحلين أو الذين ما زالوا على قيد الحياة، لكنهم أموات مجازيا ومستلبون دوما، فيظل شبح الآخرين يطل برأسه ليمنع الذات الشاعرة من إنتاج صوتها الخاص وكلامها الجديد، ويظل هذا الصوت غاية بعيدة تحاول الذات أن تعثر عليها، وتهيم بحثا عنه في كل مكان، وتحاول إحداث قطيعة مع كل من يحول دون العثور على هذا الصوت ولو كانوا أصدقاء، يقول:

“أصدقائي الرومانتيكيون

أصبحوا لا يطاقون

يعيدون ويزيدون في الكلام

آراؤهم الجديدة عن الماضي

تثير الشفقة”[4]

يتضام، هنا، الأصدقاء الرومانتيكيون مع الأسلاف الراحلين، حيث وقع هؤلاء الأصدقاء في فخاخ إعادة إنتاج الكلام. إنهم يتعاطون مع الماضي برومانسية، لا بالعنف اللائق بسطوته، فيتحول هؤلاء الأصدقاء إلى مسوخ لا تطيقها الذات، بل وتشعر بالشفقة تجاه آرائهم عن الماضي، هذه الآراء التي تخايل بجدتها، لكنها في الحقيقة محض ثرثرة وإعادة إنتاج للماضي واستدعاء له طوال الوقت، ومن ثم يتحول هؤلاء الأصدقاء إلى صورة ممسوخة من الأسلاف، لا تحبها الذات وتحاول أن تتبرأ منهم، باعتبارهم ظلا جديدا يقف عائقا بين الذات وعثورها على صوتها وكلامها الجديدين.

“كلما اكتشف طريقه إلى العزلة

اصطدم بهم

أولئك الذين يسدون عليه ارتجالاته

كلما شرع في العزف”[5]

هكذا ترى الذات كل من يقف كحجر عثرة أمام ارتجالاتها التي تأتي بلا نموذج، بلا مرجع، تخترق القانون وتنافيه، إنه يصطدم بهم، حيث يفسدون عليه اكتشاف طريقه إلى العزلة، طريقة الخاص الذي يعتزل فيها أصوات الآخرين وظلالهم، كلما شرع في عزف لحنه الخاص، أو بالأحرى نشازه الخاص، الذي يجافي السلم الموسيقي المعهود بالطبع. ونرى هنا جملة من المفردات التي تتجاور جنبا إلى جنب لتشكل نسقا خاصا، حيث تصطف مفردات: طريق، عزلة، ارتجال، عزف. هذه المفردات تشكل المعجم الثقافي والهوياتي للذات الراغبة في الانفلات عن جوقة المجموع، لكنها هذه الجوقة تفسد على الذات محاولاتها دوما عبر مفردتين اثنتين: اصطدم، يسدون. وقد جاءت المفردتان بصيغة الفعل المضارع، حيث الفعل والديمومة، حتى نكاد نسمع صوت الارتطام العظيم، ارتطام الذات التي لا تكف عن الصدام ومحاولات الاختراق بحوائط الجوقة التي لا تتوقف بدورها عن قطع الطريق على الذات، لتتحول الشوارع المفتوحة إلى حارة سد، وتظل الذات تنطح فيه أملا في إحداث ثغرة صغيرة تصلح للنفاذ منها.

يرتبط الصراع مع الظلال دوما بالشتاء والليل والوحدة، حيث تلح الظلال وأصوات الراحلين على الذات الشاعرة، ربما من مدخل الحنين والنوستالجيا، لكن الذات الشاعرة تدرك وطأة الأزمة التي تحياها، فتلح في المقابل في البحث عن صوتها وكلامها المغاير، يقول:

“عندما ينزل الشتاء على الساقين

ويتسلل الليل من الأظافر

ويبح الصوت

وتبوش الخيالات

التي أخلت الشارع

أمشي مع صوته

بحثا عن صديق

في الحانات الأخرى”[6]

هكذا حين يتسلل الليل والشتاء إلى داخل الجسد، ويُبح صوت الذات، ينتهز صوت طِلب (المطرب محمد عبد المطلب) الفرصة حتى يكون مصاحبا للذات، بل ويحل صوت المطرب محل صوت الذات الذي بح من البرودة، ويكون أيضا بديلا عن صوت الناس الذين خلت منهم الشوارع، وكأن صوت المطرب الشعبي أصبح يحتل الفضاء كاملا، فتتحول الأمسيات الشتائية إلى موسم للجدل والصراع المضمر بين الذات وماضيها، هذا الصراع الذي يؤكده في مقطع آخر حين يقول:

“عليه أن ينتظر الليل

في مكان عام

لتقبل عليه الذكريات

وعليه أن ينصت إلى ملامحه

وهي تحبو في اتجاه البساطة

ليكتب شيئا “جديدا” عن الحزن”[7]

هكذا يرتبط مجيء الليل بتدفق الذكريات وإقبالها عليه، في حالة تواز مع الكلاب التي تنبح على الذات في أكثر من موضع في الديوان، وكذا مع العفاريت أيضا، فيصبح الليل مكمن المخاوف التي تؤرق الذات، وفي الوقت ذاته هو الميقات المعلوم للإنصات لصوت الملامح الخاصة، وليس صوت الذكريات والماضي، ميقات للاتجاه – ولو ببطء- ناحية البساطة، وكتابة شيء جديد عن الحزن، كتابة تقاطع شروط الماضي، وتعيش بعيدا عن عباءته، وفق شروط جديدة، شروط لها علاقة بالإنصات لصوت الملامح الخاصة، وليس صوت الذكريات وظلالها.

تتبع الذات استراتيجية مغايرة للنفاذ من سطوة الظلال، لا تعتمد فقط على النفاذ والخلاص الفرديين، بل تسيطر عليها قناعة أخرى، حيث لن تستطيع النفاذ بمفردها إلى طريقها الخاص وصوتها الجديد، وسط قطعان من الأشباح المسكونين بظلال الماضي وسطوته، بعد أن أصبح الماضي متسيدا على الجميع، يؤكد حضوره في كل آن، ويحيط بالذات الشاعرة من كل جانب، فهو موجود أبدا، يقول:

“صور على الحائط

تؤكد أن للتاريخ أظافر

ويوجد زرع في غرف بعينها

ولا توجد رائحة للناس”[8]

هكذا تأملت الذات الشاعرة وجودها بواقعية، ورأت الأسلاف وهيمنتهم المتبدية في كل ركن، حيث الحوائط ممتلئة بصور الراحلين الذين يطلون على الذات، ليؤكدوا أن للتاريخ أظافر وسطوة، كوحش قادر على افتراس كل ما هو حي وهضمه داخل معدته الكبيرة، ويمكنه القضاء على الذات الطامحة في الخروج عليه والتمرد على سطوته، كما افترس من حولها وحولهم إلى غذاء له، فالتاريخ يفرض حضوره، والغياب اختطف الناس، ولم يترك أثرا لرائحتهم كذوات مستقلة، بعد أن تحولوا إلى ظلال للماضي وأمواته، فأصبحت البيوت بلا رائحة، تلك الرائحة التي تحبها الذات، حسب ما أعلنته منذ السطر الشعري الأول في الديوان كما أسلفنا، ومن ثم لجأت الذات الشاعرة إلى استراتيجية مغايرة للتمرد، يقول:

“سآخذ البشرية من يدها

هذا المساء

سآخذها خارج المدينة

لأحكي لها عن رحلتنا الأخيرة

التي فشلنا في اختيار أرجلنا فيها

عن الفراغ الذي سرق الكلام

وهرب

 

سآخذها إلى مقهى صغير

إضاءته قديمة

مقهى يتوسط الناس

وأضع تحت يديها خرائط الظل

قبل أن أمزقها

…..

أريد أن تشاركني حالة المشي

التي تنتابني كلما تقدمت في العمر

الحالة التي أتذكر خلالها.. أشياء

غائمة

وأقرر ألا أتذكرها بعد ذلك

وأتذكرها بعد ذلك”[9]

هكذا ستتبع الذات الشاعرة مسارا جديدا، من خلال الفعل “سآخذ” الذي يتكرر ثلاث مرات في القصيدة، إذ تتقمص الذات الشاعرة شخصية القائد الذي يأخذ جنوده إلى معسكر بعيد، بعيدا عن المدينة التي تسكنها أشباح الماضي، يأخذ البشرية من يدها كأب حان يأخذ أولاده من أيديهم، ويذهب بهم بعيدا ليقص عليهم لهم أزمته وأزمتهم، ليحكي لهم عن ما كان، وقصة الفشل في اختيار الأقدام، وكيف ضلوا عن الطريق في رحلة الاستقلال عن الظلال، الظلال التي هي محض فراغ، لكنها استطاعت أن تسرق منهم الكلام واللغة والصوت، لتتركهم عراة بلا ملامح تميزهم، ولا صوت يخصهم، ولا أقدام تأخذهم إلى البعيد. وبعد أن ينتهي القائد من شرح التحليل النظري للماضي وسر فشله، يضع أمامهم خريطة الظل ومواقعه الحصينة، ليشرح لهم خطة يحققون بها النصر على خصمهم الذي يتربص بهم في كل شارع وبيت، ليسرق ما تبقى من ملامحهم وأصواتهم، وهنا يأتي تمزيق خريطة الظل كرمز لتمزيق الظل ذاته، كي يبث روح النصر في الجنود الذين اعتادوا مذاق الهزيمة.

تسعى الذات الشاعرة إلى أن تشاركها البشرية حالة المشي، وما تعانيه فيها من أزمة وجودية، المشي الذي تسعى من خلالها إلى أن تترك أثرا يدل عليها، ليعرف القادمون أن شخصا ما مر من هنا، خاصة كلما تقدمت هذه الذات في العمر، وشعرت أنها اقتربت من التحول إلى صورة على الحائط وظل جديد ينضاف إلى خارطة الظلال، لكنها تعاني من وطأة الذاكرة التي تثقل كاهلها، وكلما تمردت عليها مقررة ألا تتذكر شيئا، انتصر الماضي وفرض كلمته، مؤكدا أن له القول الفصل وحضورا لا يمكن تجاوزه، فيلقي بكل الذكريات الغائمة على كاهل الذات لتمنع تخففها وتحليقها إلى عوالم جديدة وطازجة.

في أتون هذا الصراع الوجودي لا تجد الذات مرفأ تستريح عليه، ويكون ملاذا لها من التبدد في ظلال الراحلين، سوى في ثلاث حالات، تمثل كلا منها مهربا للخروج من سطوة الماضي، حيث يفقد التاريخ سلطته، وفي الوقت ذاته تمتلك الذات قوة كافية تعينها في العثور على صوتها وكلامها، يقول:

“نلتقي..

لنحرر الكلام من العتمة

سأصافح معك التعاليم

وأقول كلاما جانبيا.. لكِ

عن الألم الذي لازمني في الطريق

وشدني إلى الحفر الجانبية

التي أوصلتني إليك”.[10]

المرأة، في هذا السياق، هي الشاطئ الأول الذي تستريح عليه، ففي لقاء المرأة وبمعيتها تتمكن الذات من خوض معركتها الخاصة، معركة تحرير الكلام من عتمة الظلال الكثيفة التي تضغط عليه وتحتله، فيأتي لقاء الأنثى، بكل ما يصاحبه من نشوة تغيب العاشق عن الوعي، ليكون معينا على خوض المعركة والانتصار فيها. وسنجد أن مفردة الكلام تكررت في هذا المقطع مرتين؛ الأولى مرتبطة بالتحرر والتحرير، والثانية مرتبطة بأن يكون كلاما جانبيا، أنتجته الذات الشاعرة خصيصا ليكون موجها لهذه الأنثى. فالأنثى هي القادرة على استنطاق الذات الشاعرة المهزومة، وتستطيع أن تفك عقدة لسانها، على نحو يحيل إلى قصة النبي موسى وعثرة لسانه، وسيكون هذا الكلام الجانبي عن وعثاء الطريق والألم الذي صادفه في سبيل الوصول إليها.

الشاطئ الثاني الذي تستريح الذات على ضفافه، وتجد كلاما جديدا تستطيع أن تتعامل معه، هو التعامل مع الغرباء، الذين يأتون من خارج النسق الثقافي المغلق، فهم ليسوا أبناء النظام الثقافي واللغوي، ومن ثم تفتقد لغتهم وكلامهم أي سلطة على الذات التي تمتلك في هذه الحالة حريتها، يقول:

“الأغراب لهم طريقة في الكلام

تختلف تماما عن الكلام

يقولون

– إذا أرادوا أن يقولوا –

كلاما

عن طريق آخرين

يملكون لغة طيبة

قوتها في فقرها”[11]

الغرباء، إذن، لغتهم فقيرة بلا سلطة، لغة تفتقد الهيمنة، ولا تلقي بظلالها على الذات وكلامها الذي يجب أن يكون جديدا ولا يشبه أحدا. فالغرباء قادمون من البعيد، من خارج الأنساق اللغوية والثقافية، ومن ثم تأتي لغتهم طيبة، بلا سطوة ولا نفوذ، لغة لا تسعى للتمدد والطغيان على أصوات اللاحقين، فتأتي طيبة ودودة وبلا نفوذ، ولا تستفز الذات الشاعرة، فكلامهم مختلف عن الكلام الذي اعتادته الذات داخل نسقها الثقافي، ذلك المناوئ الطاغي الساعي دوما للهيمنة، لذا لا يستفزها كلام الغرباء، الذي يأتيه أيضا عن طريق وسطاء فيفقد أي أثر لسلطة أو نفوذ، يأتي عاريا وهشا وطيبا، ليخلق علاقة حميمة مع الذات الشاعرة، التي تتلقاه بأريحية من يتلقى ضيفا, وليس من يخدم سيدًا، كما أنهم في الأخير ليسوا أكثر من غرباء عابرين، لا يسعون لاحتلال فضاءات الذات، ولا لطمس ملامحها أو استلاب صوتها ليكون بوقا لأصواتهم.

أما الحالة الأخيرة التي تجد فيها الذات الشاعرة صوتها وملامحها الخاصة، وتتحرر فيها من سطوة الظلال، فهي الحانات، حيث السكر الذي يغيّب الذات الشاعرة وينتزعها من أسر سطوة العقل وسلطان الذاكرة وطغيان التاريخ. ففي الحانات تتحرر الذوات الإنسانية من نفوذ العقل وتنفلت من بين قضبان سجون خارجة إلى فضاءات اللذة، ويقترب الإنسان بشكل لا واعٍ من ذاته، يقول:

“الآخرون الذين هربوا

إلى صورتهم

ليفخر التاريخ بهم

التاريخ الذي لا يعني أحدا

عندما يشتعل الخمر…

ويبحث كل واحد عن صوته

في الدخان”.[12]

هكذا نرى لغة مفعمة بالاستخفاف والسخرية من الآخرين الذين هربوا إلى صورتهم في التاريخ، بل إن ثمة سخرية من التاريخ ذاته، ذلك الذي يفقد كل سطوة له داخل أجواء الحانات، ويقف عاريا من كل نفوذ، بل يتحول إلى موضع سخرية من السكارى، كأنه بلا وجود، فيتجاهلونه ككائن مهمل بلا قيمة حقيقية. هكذا تعري الذات الشاعرة التاريخ وظلاله وتفككهما، خاصة عندما يشتعل الخمر، حيث ينشغل كل واحد بالبحث عن صوته الخاص في الدخان، غير آبه بالتاريخ وظلاله. تتخذ الحانة، في هذا السياق، مكانة رمزية، مستقلة _ربما_ عن رمزية الخمر في الشعر العربي، حيث تفارق الحانات صيغتها التقليدية كفضاء مكاني، وتتحول إلى “حالة” خاصة، بكل أجوائها من خمر ودخان، فالخمر يذهب العقل الواعي ويوقظ اللذة والأنا الدفينة من مكامنها، والدخان يطارد الظلال ويدحرها، أما أصوات السكارى وأصوات زجاجات وكؤوس الخمر فتطغى على أصوات الماضي وتسكتها. إنها حالة مكتملة لتحقق الذات والعثور على صوتها الحميم، ولم تكن الذات لتصل إلى هذه الحالة لولا تحملها عناء ومشقة “حالة مشي” في طرق جانبية.

 

 

 

 

 

 

[1]– إبراهيم داود، ست محاولات، الهيئة المصرية العامة للكتاب، الطبعة الثانية، القاهرة، 2013.

[2]– ست محاولات، ص 407.

[3]– المصدر نفسه، ص 422.

[4]– المصدر نفسه، ص 437.

[5]– المصدر نفسه، ص 441.

[6]– المصدر نفسه، ص 434.

[7]– المصدر نفسه، ص 414.

[8]– المصدر نفسه، ص 445.

[9]– المصدر نفسه، ص 442.

[10]– المصدر نفسه، ص 412.

[11]– المصدر نفسه، ص 435.

[12]– المصدر نفسه، ص 449.