ترانيم الحب الإلهي / منير عتيبة

ما أعذبُ بيت شعر قالته العرب؟
وما أجملُ بيت شعر قالته العرب؟
وما أرقُّ بيت شعر؟
كانت هذه الأسئلة وأمثالها ترِد بكثرة في مجالس الخلفاء والشعراء والعلماء والنحويين وغيرهم.. وكان كلٌ يختار البيت أو الأبيات التي يراها أعذبَ أو أجملَ أو أرقَّ ما قيل في العربية من شعر.. وتطوَّر هذا الأمر حتى وجدنا مختارات الشاعر الكبير أبي تمّام فيما عُرف باسم “ديوان الحماسة”.. لكن الشاعر فاروق شوشة لا يكتفي باختيار عشوائي لما يناسب ذوقه للإجابة على هذه الأسئلة.. فهو في كتابه “أحلى 20 قصيدة في الحب الإلهى” (مكتبة الأسرة/ القاهرة/ 1997) يختار موضوعًا محددًا هو الحب الإلهي.. ثم ينتقي أحلى عشرين قصيدة في رأيه لتمثِّل هذا الموضوع خير تمثيل متوخيًا أن يكون الاختيار شاملاً لرقعة زمانية ومكانية كبيرة.. لذلك فيمكن أن توجد عشرات القصائد الأخرى الجميلة التي تمثِّل هذا الموضوع، والتي لا تقلّ جمالاً وأهمية عما اختاره فاروق شوشة في كتابه.. وهو نفسه لا ينكر ذلك..
في المقدمة الممتعة الطويلة للكتاب (87 صفحة من 224) يؤصِّل فاروق شوشة لفكرة الحب الإلهي، ويتتبَّعها من جذورها متناولاً مراحل تطوّرها وأعلام من تكلّموا فيها..
فقد وردت فكرة الحب الإلهي في القرآن الكريم في آيات كثيرة منها:
* فَسَوْفَ يَأْتِي اللّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللّهِ وَلاَ يَخَافُونَ لَوْمَةَ لآئِمٍ ذَلِكَ فَضْلُ اللّهِ يُؤْتِيهِ مَن يَشَاء وَاللّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ (المائدة آية 54).
*قُلْ إِن كُنتُمْ تُحِبُّونَ اللّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ (آل عمران آية31) .
* وَالَّذِينَ آمَنُواْ أَشَدُّ حُبًّا لِّلّهِ (البقرة آية 165).
كما وردت نفس الفكرة في أحاديث عديدة وردت عن النبي ، منها قوله: “من أحب الله فليحبَّني، ومن أحبني فليحب أصحابي، ومن أحب أصحابي فليحب القرآن، ومن أحب القرآن فليحب المساجد”. وعَنْ أَبِي الدَّرْدَاءِ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ (كَانَ مِنْ دُعَاءِ دَاوُدَ يَقُولُ: اللَّهُمَّ إِنِّي أَسْأَلُكَ حُبَّكَ وَحُبَّ مَنْ يُحِبُّكَ وَالْعَمَلَ الَّذِي يُبَلِّغُنِي حُبَّكَ اللَّهُمَّ اجْعَلْ حُبَّكَ أَحَبَّ إِلَيَّ مِنْ نَفْسِي وَأَهْلِي وَمِنَ الْمَاءِ الْبَارِدِ) (رواه الترمذي- 3412)، وما ورد في الكتاب والسنة كان الأساس الذى بنى عليه كبار الصوفية فكرتهم عن الحب الإلهي..
وكانت رابعة العدوية أول من أجلى هذه الفكرة في القرن الثاني الهجري.. وتطوَّرت الفكرة بعد رابعة العدوية على أيدي الكثيرين أمثال ابن الفارض وابن عربي وأبي يزيد البسطامي وسهل بن عبد الله التستري وأبي عبد الله القرشي والشبلي وابن عطاء الله السكندري والحارث المحاسبي والجنيد وعبد الله بن المبارك ويحيى بن معاذ وأبي الحسن الشاذلي وغيرهم..
وقد تبلور الحب الإلهي من خلال هؤلاء الأعلام، “فهو ليس تعلقًا بالأجساد وصورة المادة، بل هو حب للمعاني العقلية والكاملة، وتعلُّق بالمثل، وهيام بمصدر الكمال والجمال، ومن هنا فالحب عند الصوفية طريقة إلى الزهد في متع الدنيا جميعًا، وحرب على النفس، وسبيل إلى العزوف عن مغرياتها… وشرط الوصول إلى الحق عن طريق الحب أن يكون المحب جميل الروح، وأن يهتمّ بمخلوق جميل الروح، ولو لم يكن جميل الجسم، لأن جمال الروح هو الذي يفتح أمام المحب الطريق للتأمُّل والفكر اللذين هما السبيل للوصول إلى الغاية من الحب عند الصوفية، فجمال الخلق يمكن أن يتَّخذ سبيلاً لمعرفة الحق، والحب هو الطريق لمعرفة الحقيقة”.
ولا يصل المحب إلى درجة الحب مرة واحدة، فهناك أحوال ومقامات لا بدَّ أن يمرَّ بها، وقد أوضحها أبو الحسن الشاذلي بأنها تبدأ برياضة النفس والسيطرة عليها، ثم القدرة على التحكُّم في شهوات القلب، ثم إذا استطاع المحب سياسة روحه، وتمَّت له المعرفة هبَّت عليه أنوار اليقين شيئًا فشيئًا إلى تمام نهاياته.. يقول الشاذلي: “وهذه طريقة العامة، وأما طريق سلوكه فتضمحل العقول في أقل القليل من شرحها”.
ويرى فاروق شوشة أن موضوع الحب الإلهي عند الصوفية يصدر عن مبدأين يحكمان الأمر كله؛ أولهما: “أن العقل الإنساني وحده غير كافٍ في الهداية إلى الله ، فليس فيه غناء في هداية الإنسان إلى الإيمان الحق، ومن هنا فهم جميعًا يلجأون إلى القلب واستشعار الحب الإلهى طلبًا لنور الهداية والإشراق العلوي، وهي السبيل المألوفة للنجاة عندهم، فالعقل -في رأيهم- لا يستطيع حل كثير من المسائل”، أما المبدأ الثاني: “فهو أن العاطفة لا العقل هي السبيل إلى الوصول إلى الله”، وفي هذا يقول الغزالي: “كان ذلك أول حال رسول الله حين تبتَّل، حين أقبل إلى غار حراء، حين كان يخلو فيه بربه ويتعبَّد، حتى قالت العرب: إن محمدًا عشق ربه”.
ويؤكِّد فاروق شوشة أن قصائد من اختارهم ومن هم فى طبقتهم تدلّ على “تجارب حياتية صادقة لدى هؤلاء المتصوفة الحقيقيين الذين لم يكونوا فى طريقهم أو مذهبهم بأدعياء.. ولقد كان الصدق دعامة الأدب الصوفي في عصوره الأصيلة قبل أن يدركه التقليد على أيدي فقراء الموهبة وفاقدي التجربة”..
ومع ملاحظة أن الأدب الصوفي في معظمه هو أدب الهروب من الحياة، والانسحاب من الواقع الظالم المتخلِّف ماديًا ووجدانيًا، لأنه أدب يدعو إلى الانخلاع عن الدنيا، والالتجاء إلى رب الدنيا، إلا أن الحبَّ عند الصوفية كان “يتَّسع مجاله لحب الإنسان وخدمته والرثاء له وهدايته دون بغض لأحد أو انتقام من أحد”.
ويبدو أن انشغال الشاعر فاروق شوشة باستجلاء فكرة الحب الإلهي التي هي محور كتابه ومختاراته جعله لا يهتمّ كثيرًا بتتبع الجوانب الفنية للقصيدة الصوفية.. لكنه في عالم “أحلى 20 قصيدة حب” يسبح ونحن معه في طول مكان وزمان العالم الإسلامي.. بداية من الإمام الشافعي المولود بغزة والمتوفَّى بمصر سنة 204هـ حتى محمود حسن إسماعيل في القرن العشرين مرورًا بأبي حمزة الخراساني، والبرعي، والشهرزوري، وابن الفارض، وابن عربي، والصرصري، والسهروردي، وأحمد البدوي، وإبراهيم الدسوقي، وأبي العباس المرسي، وابن عطاء الله السكندري، وابن أرقم النميري الأندلسي، وابن الجيّاب الأندلسي، واليافعي، ومصطفى البكري، وأحمد الحلواني، والشيخ علي عقل..
وأنت مع هذه القصائد وهؤلاء الناس تتاح لك سويعات تنخلع فيها من الزمن الرديء وتنقشع عنك همومه الغليظة.. فآه لو أمكنك التمسُّك بتلك السويعات لتصبح أيامًا وشهورًا وسنوات.. أو تصبح العمر كله؛ وتقضيه في رحاب المحبوب الأعظم
مختارات من أحلى 20 قصيدة في الحب الإلهي
الإمام الشافعي:
تعاظمني ذنبي فلما قرنْته بعفوك ربي كان عفوك أعظما
وما زلتَ ذا عفوٍ عن الذنب، لم تزلْ تجود وتعفو منّةً وتكرما
الإمام عبد الرحيم البرعي:
إلهي أقلْني عثرتي، وتولَّني بعفوٍ فإن النائبات لها عُنفُ
خلعت عذاري ثم جئتك عامدًا بعذري فإن لم تعفُ عني فمن يعفو
الإمام جمال الدين الصرصري:
وأنتِ لا تجزعي يا نفسُ من بِدعٍ مضلة وضياءُ الله هاديكِ
أجاركِ اللهُ لولا درعُ سُنتهِ لكان سهمُ الهوى الفتّاك يُرديكِ
شهاب الدين عمر السهروردي:
سمحوا بأنفسهم وما بخلوا بها لما دروا أن السماحَ رباحُ
ودعاهمو داعي الحقائق دعوةً فغدوا بها مستأنسين وراحوا
ركبوا على سفن الوفا ودموعهم بحرٌ وشدّة شوقهم ملاَّحُ
أحمد البدوي:
إلهي ثوب جسمي دنَّستْهُ ذنوبٌ حِملُها أبداً ثقيلُ
إلهي جُد بعفوك لي فإنى على الأبواب منكسر ذليلُ
إبراهيم الدسوقي:
شهدتُ وشاهدْنا وطابت نفوسنا وقد لذَّ لي ذُلِّي إليه وخشيتي
أحنُّ على ذلٍّ وأهوى على هدى وأسري على علمٍ لأنوار طلْعةِ
أبو العباس المرسي:
والنفسُ بين نزولٍ في عوالمها كآدمٍ وله حواءُ في قّرنِ
والروح بين ترقٍّ في معارجها وهي الموافقُ للتعريفِ والمننِ
ابن الجيّاب الأندلسي:
محبته شرطُ القبولِ، فمن خلتْ صحيفتُه منها، فقد زاغَ واشتطَّا
به الحقُّ وضّاحٌ، به الإفك زاهقٌ به الفوزُ مرجوٌّ، به الذنبُ قد حُطَّا
الشيخ علي عقل:
وهل غير ذات الله للنفس مطلب حرامٌ سوى الرحمن يدخلُ في نفسي
وما اتخذت روحي سوى الله غايةً فتمَّ الهدى للروح والقلب والحسِّ
طاهر أبو فاشا:
عرفتُ الهوى، مذْ عرفتُ هواكا وأغلقتُ قلبيَ عمَّن سواكا
وقمتُ أناجيكَ يا منْ ترى خفايا القلوبِ ولسنا نراكا.