تجليات البلاغة الجديدة في تحليل السرد المعاصر/ د. أماني فؤاد

 

 

  من الثابت في الواقع الجمالي والنقدي أن هناك تحولات طرأت على بلاغة الخطاب الإبداعي الغربي والعربي، كما تحولت الدراسات البلاغية أيضا من الكلاسيكية التعليمية التي ” وظيفتها تلقين الكاتب أو الخطيب فنون الكلام الجميل لكي يكون كلامه ساميا ويصبح آيةً في الفصاحة ” ([1]) إلى تكييف جديد في رؤية الدراسات البلاغية، وتقنيات دراسية مختلفة تواكب المستجدات الإبداعية والفكرية، حدث هذا التطور نتيجة لتحول في الأنساق المعرفية لعدد من العلوم الإنسانية، ونتيجة لتطور طرأ في موضوعاتها ومناهج البحث فيها، والانطلاق من أسس نظرية تميل بهذه المباحث أن تنحو تجاه العلوم من خلال الضبط المنهجي، والتطورات العلمية، وتراكم اكتشافاتها، والتقاء العلوم وتفاعلها، ثم انتقال اكتشافاتها للمساهمة في تطوير العلوم الإنسانية الأخرى أو ما يطلق عليه علوم الروح ، فمنذ منتصف القرن العشرين مع مباحث اللغة التي أسس لها “دي سوسير” وتضافرت بعد إسهامات الأسلوبيين والشكليين الروس، وما صاحب هذا من تطور نظريات علم النفس وعلم الجمال وتنوع مصادر شعرية النص، ثم التراكم الخصب للمادة الإبداعية في العصر الحديث ظهر ما سمي بالبلاغة الجديدة ([2]) .

كان أول ظهور للمصطلح في ” مقال في البرهان: البلاغة الجديدة” للمفكر “بيرلمان” عام 1958 م وكانت الدراسة تنبثق من المنطق القضائي والتشريعي وتدرس الأشكال البلاغية كأدوات أسلوبية ووسائل للإقناع والبرهان، كما كانت هذه الدراسات حافزا لتأسيس مدرسة بروكسل التي انصبت دراساتها للغة على المحور التواصلي ([3]).

 واستنادا على المحور الوصفي يترسخ مفهوم البلاغة الجديدة في 1965م من خلال دراسات البنيوية النقدية التي اعتمدت على تجنيب الطابع التاريخي في الدراسة وتحليل الظواهر في جملة علاقاتها وأبنيتها المتراكبة، وانتظامها في نسق ديناميكي، حالة ثباتها في لحظة محددة، بغرض الكشف عن مستوياتها والثابت والمتغير منها.

   بلاغة السرد الجديدة مع هذه التطورات اكتسبت طبيعة كلية شاملة في الدراسات، تتجه إلى كلية السرد، فلم يعد هناك اجتزاء وتقسيم لما يسمى علم البيان والبديع والمعاني، أو وقوف عند حدود الاستعارة والتشبيه المفرد والسجع والجناس والدلالة المجتزئة. البلاغة الجديدة لا تحاول التحليل بشكل مبتسر جزئي لا ينطلق من منظور شامل، فهو يتجه لما يشبه المنهج التقني في تناول النص، دون الاعتماد على معايير مسبقة ودائمة، بل انفتاح على معطيات التطور العلمي والإنساني، وتجدد فنون الإبداع الأدبي، مما يخلق خطابا نقديا رصينا يمتلك أنساقا جمالية وإنسانية متجددة، ولقد أسهم في هذه الدراسات البنيوية جيرار جينيت وجان كوهين وتودوروف وبارت ([4]) .

وللبلاغة الجديدة قدرة مواكبة كل ما يستحدث من أساليب إبداعية في السرد، لخصيصة جوهرية من خصائصها وهي انفتاحها لتوصيف كل جديد وبعدها عن المعيارية والوضعية.

   تلا الدراسات البنيوية المنهج الوظيفي الذي يتجه إلى تحليل الخطاب في تجاوز للاتجاه البنيوي حيث يعتمد على السيميولوجيا والتداولية، ويبرز السياقات التي في ضوئها ولد وتكيّف الخطاب الأدبي على هذا النحو الذي أنتجه المبدع، ويمثله تودوروف بعد تحوله الأخير عن البنيوية ([5]) .

“وبقدر ما يتولد في هذا الخطاب الإبداعي من أنساق جمالية وإنسانية جديدة وما تسفر عنه علوم الإنسان من معرفة بعالمه الداخلي والخارجي فإن الخطاب البلاغي لا مناص له من أن يسبح فوقها ويقتنص أشكالها” ([6]).

تعتمد البلاغة الجديدة على فروع اللسانيات: الشعرية والسيميائية والتداولية والأسلوبية حيث تهتم الأخيرة بوصف الأسلوب: بنية ودلالة ومقصداً، الأسلوب بمختلف تجلياته الصوتية والمقطعية والدلالية والتركيبية وتحديد مميزاته الفردية([7]).

  وتتجه هذه الدراسة لرصد وتحليل ظواهر لغوية جديدة، وتماثلها مع السياق الثقافي العام الذي أوجدها “حيث ثمة وظيفة أخرى مرتبطة باللغة تسمى الوظيفة الوصفية أو الوظيفة الميتالغوية القائمة على الشرح والوصف والتفسير والتأويل وتهدف هذه الوظيفة إلى تفكيك الشفرة اللغوية بعد تسنينها من قبل المرسل ” ([8]).

الهوامش

([1]) انظر: من البلاغة الكلاسيكية إلى البلاغة الجديدة، 5.

([2]) انظر: بلاغة الخطاب، 95: 133.

([3]) انظر: بلاغة الخطاب، 9: 96.

([4]) حيث يصدر رولان بارت ” بلاغة الصورة” وفيها يقول: ” ينبغي إعادة التفكير في البلاغة الكلاسيكية بمفاهيم بنيوية “، ويصدر جان كوهين بعد سنتين من هذا النداء كتابه المشهور ” البلاغة القديمة في اللسانيات البنيوية الجديدة” ترجمه إلى العربية محمد الوالي ومحمد العمري وصدر بالدار البيضاء سنة 1986 ، ثم يصدر جيرار جينيت مقاله عن اختزال البلاغة القديمة.

([5]) انظر: من البلاغة الكلاسيكية إلى البلاغة الجديدة ،8- 13.

([6]) بلاغة الخطاب :9.

([7]) انظر: من البلاغة الكلاسيكية إلى البلاغة الجديدة، 13.

([8]) من البلاغة الكلاسيكية إلى البلاغة الجديدة ،11.