تجربة العدم عند سيوران/ د. شادي كسحو

للعدم انتاجية بلا حد.. هل يمكن أن نستطرد قليلا حول هذا التعبير الجميل والغريب؟ أن نتحدث قليلا حول إنتاجية العدم؟ هل باستطاعة مفهوم العدم أن يقدم حلا بالفعل؟ أن يمنح أفقا ما؟ ……
في الحقيقة، أنا لا أدري لماذا يجب الدفاع عن العدمية دائما؟ أو لماذا تجد العدمية نفسها دائما في موقف شبهة؟ كذلك، فأنا لا أعرف كيف تسرب إلى الأذهان أن العدمية هي شيء مستهتر وقبيح وهدام؟ في كل مرة يذكر فيها اسم سيوران أو نيتشه أو شوبنهور تعتلي الجباه الكثير من علامات الاستفهام وكأننا نتحدث عن شياطين. أي حمق هذا وأي بلادة وأي غباء. يكتب سيوران في إحدى شذراته: “العدم لا يحمل تلك الدلالة الكارثية التي ننسبها إليه. إنه جزء من تجربة التماس مع النور أو هو إذا شئنا حالة أبدية من الغياب النوراني والفراغ المشع.. إنه الوجود وقد انتصر على كل صفاته، أو لنقل إنه لا وجود فائق الإيجابية، سخي بسعادة لا مادة لها ولا قوام ولا نقطة ارتكاز في أي عالم من العوالم”. هل أجازف بالقول: إن ثمة وراء هذا النص ثورة عارمة تعد بتحرير الفلسفة من كل أمراضها ووساوسها الارتباطية بالوجود؟ إن سيوران وعبر هذا النص القصير، لا يمارس الاستياء الخالص كما يظن العجوز سلوتردايك، ولا يمارس التصوف الفاشل، ولا يمارس العرفان والغنوص الفاقع، بل يجرّ الفلسفة والفكر إلى موئلها الحقيقي. إنه يحولها، ويحولنا معها، من غطرسة ميتافيزيقا الذات، إلى رحابات البعيد والغريب والمخيف والخارجي والمقصي والمظلم. إنه بكلمات أخرى: يصنع شرخا في تاريخ الفلسفة، وينفتح على كل تلك الموائل اللا مرئية الشاسعة التي تمت تصفيتها عبر سنوات طويلة من الأنسنة والتذويت والتوجيد والتعقيل. هل ثمة أشباح ثرثارة داخل العدم؟ هل ثمة وفرات غير مرئية؟ هل ثمة أصوات مبحوحة غير مسموعة؟
هذه هي الأسئلة التي تؤرق سيوران بالتحديد ولا شيء غيرها. يتساءل الفيلسوف الأمريكي غراهام هارمان في أحد حواراته: لماذا يجب أن تشكل الروح أو العقل أو الذات أو الإنسان نصف الميتافيزيقيا؟ ربما كان سيوران أحد أولئك القلة من الفلاسفة الذين أرادوا أن يتموضعوا داخل ذاك النصف السري والمجهول من تاريخ الميتافيزيقا. إنه لا يجبرنا فقط على مواجهة افتراضاتنا المسبقة حول العدم، ولكنه يهيئنا للاستماع ويسمح للعدم “بالتحدث” أيضا. إنه يتحدى معتقداتنا بالتفوق الزائف لسؤال الوجود ويجبرنا على الاعتراف بالوفرة غير المعروفة للعدم. مثلما يتطلب الاستيقاظ انقطاعا كاملا عن النوم، يتطلب الفكر انقطاعا كاملا عن الذات. ما أن يتسمر الفكر متقوقعا حول ذاته، معتبرا الإنسان والوجود والحياة هي الشكل النهائي للتفكير حتى يتحول إلى مجرد زخارف وكليشيهات بلا قيمة. لقد تأخرنا كثيرا في إدراك حجمنا الحقيقي في العالم. نريد في كل مرة، أن نفهم الحياة بردها إلى المعنى، وأن نفهم العالم برده إلى التعالي، وأن نفهم العدم برده إلى الوجود، وأن نفهم الكائن برده إلى الذات. نحن مزمنون في غطرستنا الذاتية. مزمنون في تعلقنا بالداخل.  ولكن ماذا لو كان العدم السيوراني هو قوة؟ إمكان فلسفي فريد يقودنا رأسا نحو شساعات ورحابات جديدة وغير معهودة؟  يذكرنا الفيلسوف الأمريكي راي براسييه أن للفكر اهتمامات لا تتوافق مع اهتمامات الأحياء. إن العدم عند سيوران، لو كنت أفهم راي براسييه بشكل صحيح ، يتجاوز مجرد الإثبات والنفي، أو مجرد التفاؤل والتشاؤم، أو مجرد التقدم والتراجع. ثمة داخل العدم السيوراني ما يتجاوز العدم ذاته. إنه لو صح التعبير فرصة انطولوجية هائلة وليس مجرد مأزق وجودي لشبه فيلسوف كما يحلو للبعض أن يطلقوا عليه. من يقرأ سيوران يجب أن يتحسس تلك الرغبة الفلسفية العارمة بتحرير الفكر من الذاتية. بجعله شكلا من أشكال القدوم من الخارج، وليس شكلا من أشكال التفكير من الداخل. ثمة فرق شاسع بين أن أفكر من الداخل، أو أن أفكر من الخارج. في الحالة الأولى أنا من أفكر في الأشياء، أما في الحالة الثانية فالأشياء هي من تفكر بي ومن خلالي.  ومعنى هذا، أنه في الحالة الأولى على الطريقة النيتشوية مثلا، تظل الذات، ويظل الإنسان، وتظل الحياة مصدرا لكل تقييم، أما في الحالة الثانية يكون العدم نفسه “الخارجي المطلق” مصدر التقييم النهائي الوحيد. ينتمي سيوران إلى التنوير الظلامي لأنه يفكر من خارج الذات. هذه نقطة يجب العودة إليها مرارا. إن سيوران لا يفكر في العدم “الخارجي المطلق” من أجل إعادة تجربة الخارج إلى منطقة داخلية كما فعل فوكو ودولوز مثلا، بل يقوم بتحرير الخارج وتهيئته لكي يكون بمثابة نقطة انطلاق جديدة.
يريد سيوران أن يُظهر قوة الخارجي المحض، ولا يريد أن يظهر قوة المعرفة مثل دولوز أو دريدا أو فوكو. إن أي تفكير أساسي عند سيوران يجب أن يجد نفسه في عالم من الخارج. بدلا من الانتقال النيتشوي الساذج من العدم كانحطاط نحو داخلية ذاتية سوبرمانية، يتم إزاحة الفكر عند سيوران نحو حد خارجي بلا توقف. تلك هي عظمة سيوران وفرادته برأيي. فكر موجه دائما إلى خارج نفسه. ورغبة مستميتة لإطفاء وإخماد كل شيء في الفراغ. في حوار جميل مع ليو جيليت يؤكد سيوران: “أن العدم  ليس سلبي أبدا. فهو يعني أنه عن طريق تصفية كل شيء و التحرر من كل الصلات نكون حقا مفصولين ونعلو على كل شيء. لقد إنتصرنا على العالم ولاشيء هناك الآن”. انظر كيف ينظر سيوران إلى العدم. إن العدم السيوراني ليس تناقضا، بل آلة محو. ليس مصالحة، بل انفصال وتجاوز. ليس ذهنا غارقا في سوداوية مزمنة، بل تآكل لا نهاية له للداخل. لقد انتصرنا على العالم ولاشيء هناك.  لقد صار العدم عند سيوران بمثابة انتصار، لأنه يمثل اللحظة المطلقة لانطفاء الذات وظهور الخارج الخالص. الخارج العاري من كل حضور. إن العدم عند سيوران ليس سوى فجوة. ثقب أسود. سر فارغ. خارج مطلق لا يسبق الداخل فحسب، بل ويقوم بتفريغ كل داخلية أيضا. أستطيع أن أقول الآن: إن العدم السيوراني هو شكل من أشكال العبور إلى الخارج، وشكل من أشكال السفر النومينالي حيث تفقد الذات ويفقد الوجود ويفقد الداخل ويفقد كل شيء  نفسه في حدوده القصوى. في خارجيته المحضة. ذلك هو المعنى الجديد لتجربة العدم عند سيوران إنه الخارج المُعرى من كل داخل ولذلك فهو ليس تجربة سلبية، بل سعادة نموذجية بدون أي ديالكتيك. بدون ديالكتيك؟.  نعم، إن تجربة العدم عند سيوران ما بعد ديالكتيكية. إن سيوران أكثر ذكاء وأكثر رهافة من أن يجعل من لعبة العدم مجرد لعبة ديالكتيكية بين الداخل والخارج. لقد وقع جل الفلاسفة في هذا الفخ. منذ كانط ومرورا بهيغل ونيتشه وهيدغر وانتهاء بكل من فوكو ودريدا ودولوز لم يستطع أحد من الفلاسفة التنبؤ بالخارجي العظيم. بتلك الوفرة الخالصة من العالم بدوننا. ينبع استثناء سيوران من هذه النقطة بالذات. على النقيض من فلسفة كانط التي لم تتعدى كونها مثالية مقنعة، وعلى النقيض من فلسفة هيغل بما هي الشكال الأقصى لتجربة الذاتية، وعلى النقيض من نيتشه الذي لم يستطع الهروب من سحر الحياة، وعلى النقيض من هيدغر الذي ورغم كل عدته الفينومينولوجية بقي متسمرا بالقرب من الكينونة، وعلى الرغم من أن فوكو حاول كثيرا أن يهرب إلى الخارج دون أن ينجح لأسباب تتعلق بعدته الفلسفية البسيطة، وعلى الرغم من محاولات دريدا الممتعة في الحديث مع قطة خارجية، وعلى الرغم من فصامي دولوز الذي كان من المفروض أن يتنزه في الخارج، لكن كل هؤلاء الفلاسفة لم يستطيعوا بلوغ الخارجي العظيم. لم يستطيعوا بلوغه لأنهم لم يستطيعوا التحرر من القفص اللغوي الذي كان يسود نهايات القرن الماضي. يجب أن يتم تذويب كل شيء في الذات، أو في اللغة، أو في الخطاب. مشكلة هؤلاء الفلاسفة، هي أن جميع تفسيراتهم للعالم كانت بالضرورة حسابات لكيفية التفكير أو معرفة العالم. بعبارة أخرى، لا يمكن أن يُعرف الخارج بنفسه “في حد ذاته” لأنه دائمًا ما يُفكر فيه أو ما يُدركه الوعي أو تتمثله الذات. حتى عند دولوز ودريدا بوصفهما الأكثر تحرارا فإن الفكر لا يبتعد عن نفسه كثيرا، ما تعرفه هو دائمًا ما تعرفه الآن. بخصوص سيوران فإن تجربة العدم لديه ليست تجربة ديالكتيكية ولا يجري رفعها أو تذويبها في أي مجال ذاتي أو خطابي مهما كان شكله. مازلت أستغرب إلى الآن كيف استطاع هذا الروماني البسيط أن يتعامل مع العدم بهذه الطريقة. لا يتعلق الأمر بالفلسفة الشرقية التي كان سيوران من أشد المعجبين بها، فسيوران لم يتحدث يوما عن الانطفاء في الخارج، بل عن الوجود في الخارج. شتان بين شرقي يريد الانطفاء في العدم، وبين عدمي كسيوران يريد الاندلاع من العدم. يجب الإلحاح دوما على هذه النقطة، فسيوران يتعامل مع العدم ككائن مستقل عن الذات والعقل والوجود والخطاب استقلالا تاما. في الواقع إن مايدعونا إليه سيوران هو جاذبية العدم النقية. براءته الخالصة. خلوه المشع. شذرة..
ثمة علاقة جديدة تماما تنفجر تحت قلم هذا الهرطوق اللعين، علاقة من النوع الثالث حيث لا يبدو فيها العدم ديالكتيكيا على الإطلاق. لا ينبغي التفكير أبدا بالعدم السيوراني على أنه الخارج المباشر للداخل، بل بوصفه الخارج المطلق الذي بات يعمل كآخرية مفتوحة بلا حد ولا توقف. إن عدم سيوران ببساطة، ليس نقيض الوجود، ولا طباقه ولا استمراره، أي أنه لايعمل وفق تفكير ثنوي مبتذل، إنه بكلمات أخرى، ليس نفيا للوجود، بل كائن لا يمكن دمجه بسهولة في لعبة الديالكتيك. هي ذي لعبة العدم العظيمة عند سيوران أن ننصت بفرح لما يقع خارجنا إطلاقا. أن نتراجع عن كل ما هو داخلي. إنه يعني الانضمام إلى الخارج. وأن نكون في الخارج. وأن ننصت ونصغي ونتعلم من الخارج. وأن نفقد إمكانية الخروج من الخارج إلى الأبد. أليست هذه ثورة في الفلسفة؟ أن يتحول العدم إلى تعرية نشيطة من الخارج المحض. إن المطلوب سيورانيا ليس ضربا تافها من اللاوجود، ولا شكلا مبتذلا من التفكيك. إن المطلوب هو تلك الرجّة العنيفة التي تقذفنا خارجا. إن المطلوب بكلمات دقيقة، هو تلك اللحظات التي يقوم فيها الخارج بتفريغ الداخلية من كل امتلاء بشكل يحرمها ويجردها من هويتها إلى الأبد. هكذا يعمل العدم عند سيوران كما لو أنه “جارنا اللا مرئي”. المكان الذي تتآكل عنده الداخلية ويسحب منها حق التراجع إلى مخبأها المتمثل في الأنا، فإذا بها قفز في المجهول ورقص على الحواف واستمتاع مفتوح بما لا يسمع إلا بالهمهمة، ولا يكتب إلا بالتمتمة، ولا يقال إلا قريبا من الهاوية.
 
مقتطف من حوار