بلاغة السرد/ د. جميل حمداوي

 

 

بلاغة السرد أو الصورة البلاغية الموسعة

 

توطئة:

تحتل الصورة البلاغية مكانة هامة في الدراسات الأدبية والنقدية واللغوية؛ لأن الصورة هي جوهر الأدب، وبؤرته الفنية والجمالية. كما أن الأدب فن تصويري يسخر الصورة للتبليغ والتوصيل من جهة، والتأثير على المتلقي سلبا أو إيجابا من جهة أخرى. لكن الأدب ليس هو الفن الوحيد الذي يستثمر الصورة في التعبير والتشكيل والبناء، بل تشاركه في ذلك مجموعة من الأجناس الأدبية والفنية، كالرواية، والقصة القصيرة، والقصة القصيرة جدا، والقصة الشذرية، والمسرح، والسينما، والتشكيل… ويعني هذا أن الصورة لم تعد حكرا على الأدب فحسب، بل لها نطاق رحب وواسع. ولم تعد تحتكم فقط إلى مقاييس البلاغة التقليدية، سواء أكانت عربية أم غربية، بل تطورت هذه الصورة البلاغية، وتوسعت مفاهيمها، وتنوعت آلياتها الفنية والجمالية، وتعددت معاييرها الإنتاجية والجمالية والوصفية. ولم يتحقق ذلك إلا مع تطور العلوم والمعارف، بما فيها الفلسفة، وعلم الجمال، والبلاغة، واللسانيات، والسيميوطيقا، والشعرية، والمنطق، والتداوليات… والآتي، أن الصورة أصبحت قاسما مشتركا بين هذه الحقول المعرفية والعلمية؛ إذ كل تخصص يدرس الصورة في ضوء رؤية معينة، يفرضها منطق التخصص المعرفي، وتستوجبه آلياته المنهجية والتحليلية في الفهم والتوصيف والتفسير.

إذاً، ما مفهوم الصورة؟ وما آلياتها الإجرائية؟ وما أنواع الصورة؟ وما وظائفها القريبة والبعيدة؟ وما المقصود بمعيار الصورة السردية أو الصورة الروائية؟ هذا ما سوف نتبينه في موضوعنا هذا.

 

مفهوم الصورة بصفة عامة:

عرفت الصورة البلاغية أو الأدبية أو الفنية أو الشعرية دلالات متعددة عبر التطور التاريخي، فقد كان الفيلسوف اليوناني أرسطو يعتبر الصورة استعارة قائمة على التماثل والتشابه بين الطرفين المشبه والمشبه به، بل كان يسمي التشبيه والاستعارة صورة ” إن التشبيه هو استعارة ما، إلا أنه يختلف عنها قليلا. وفي الحقيقة عندما يقول هوميروس عن أشيل: إنه ينطلق كالأسد، فهذا تشبيه، ولكنه عندما يقول: ينطلق الأسد، فهذه استعارة، ولما كان كلاهما يشتركان في معنى الشجاعة، فلقد أراد الشاعر عن طريق الاستعارة أن يسمي أشيل أسدا. [1]

وبهذا، تكون الصورة البلاغية أو الخطابية قائمة على التشبيه والاستعارة، وتشترك الصورتان معا في عنصر المشابهة والتماثل. وبعد أن كانت الصورة مرتبطة بمولد الحس والعقل والخيال، انتقلت مع السرياليين لترتبط باللاوعي والمتخيل اللاشعوري. إلا أنها ارتبطت، في القرن العشرين، بتيارات اللسانيات والتداوليات والسيميائيات والشعرية الإنشائية. كما اقترنت بالمكون البصري والأيقوني مع السيميائيات المرئية والبلاغة الرقمية.

وتأسيسا على ماسبق، حصرت الدراسات البلاغية والأدبية والشعرية الصورة الفنية في علاقة المشابهة القائمة على التشبيه والاستعارة، دون الارتكاز على علاقة المجاورة (المجاز المرسل والكناية) التي تهيمن على النثر الأدبي والسردي بشكل لافت للانتباه. ومن ثم، فقد ثار جان مولينو (Molino) وجوئيل تامين (Tamine) في كتابهما (مدخل إلى التحليل اللساني للشعر) على المجاز المرسل؛ لأنه ليس صورة بلاغية فعلية لبساطتها من ناحية، وسهولة استخلاصها وتحديدها من قبل المتلقي من ناحية أخرى. وبالتالي، فالصورة الحقيقية هي صورة المشابهة. وفي هذا الصدد، يقول الدارسان: ” وفي الحالتين، فإن الانزياح الذي يقوم عليه المجاز المرسل يتم تجاوزه واختزاله بسهولة، إذ إن العلاقة التي تجمع بين الطرفين… طبيعية ومباشرة. إن هذه المجازات تقوم على علاقات جاهزة سلفا، وهي لا تتطلب مجهودا، لا من الشاعر لكي يبدعها، ولا من المتلقي لأجل تأويلها…

إن التشبيهات والاستعارات والرموز. أي: كل ما كان في التراث الكلاسيكي الجديد مجرد محسنات تنفلت من بين يدي البلاغة لكي تصبح صورة، إن وعي الشعراء يوافق تفكير النقاد. فمن يذكر، اليوم، المجاز المرسل عندما يدور الكلام على الشعر؟”[2].

وعليه، تعرف الصورة غالبا بأنها انزياح عن المعيار، أو خروج متعمد عن القواعد المعتادة، أو تحويل الألفة إلى غرابة، كما يرى ذلك جون كوهن (John Cohen) في كتابه (بنية اللغة الشعرية)[3]. ويعني هذا أن الصورة هي تحويل لما هو مألوف ومستعمل من الكلام إلى لغة مجازية واستعارية وبلاغية خارقة لما هو عادي. ومن ثم، فالصورة هي عملية تحويل وتغيير وتعويض واستبدال. وتتحقق هذه العملية على المحورين المتقاطعين: المحور الاستبدالي الدلالي والمحور التأليفي التركيبي اللذين يساهمان في تحقيق الوظيفة الشعرية حسب رومان جاكبسون (R. Jakobson). بيد أن تزفيتان تودوروف (Tzvetan Todorov) وأوزوالد دوكرو (oswald Ducrot) ينتقدان نظرية الانزياح عند جون كوهن في كتابهما المشترك (القاموس الموسوعي لعلوم اللغة)[4]، ويقران بأن ليس كل صورة هي انزياح، وليس كل انزياح صورة. ويعني هذا أن مفهوم الانزياح مفهوم قاصر عن فهم الصورة البلاغية؛ لأن ثمة بعض الصور البلاغية القديمة ليست انزياحات، مثل: صورة الوصل برابط وبغير رابط[5]. وبتعبير آخر، لم يستثمر جون كوهن مصطلح الانزياح إلا بمقارنة النصوص الشعرية مع النصوص العلمية الحديثة والمعاصرة. ومن ثم، لا تنفع هذه النظرية كثيرا أثناء التفسير والشرح، لكنها تجدي أثناء عملية الوصف. بل أكثر من هذا فاللغة الإنسانية في الأصل استعارية كما يرى نيتشه، وفيكو، وهامان، وروسو، وتودوروف، مادام هناك ما يسمى بالاستعارات المنسية أو الصور الخامدة[6] (métaphores éteintes).

وعليه، فقد تبلورت الصورة في ثقافتنا الإنسانية عبر مراحل عدة، فقد ارتبطت بالتشبيه، والاستعارة، والمجاز المرسل، والكناية، والمحاكاة، والتخييل، والتكرار، والتوازي، والرمز، والأسطورة، والرؤيا، والعلامة… كما تشكلت مفاهيمها الاصطلاحية والنظرية وصفا وتحليلا وفهما وتفسيرا، عبر مجموعة من النظريات التي يمكن حصرها في نظرية الحقيقة والمجاز عند نقادنا العرب القدامى، ونظرية النظم عند عبد القاهر الجرجاني، ونظرية الخرق والانزياح عند جون كوهن، ونظرية التفاعل (Interaction) عند ريشارد (Richards) وإمبسون (Empson)، ونظرية الحجاج، ونظرية المقومات السيميائية، ونظرية الاستبدال، ونظرية التأليف، ونظرية الإحالة عند بول ريكور في كتابه (الاستعارة الحية)، حيث تصبح الاستعارات أو الصورة لديه وسيطا لنقل الواقع وتحويله إلى عوالم تخييلية ممكنة أو افتراضية[7].

وعلى أي، تعتبر الصورة، في مفهومها العام، تمثيلا للواقع المرئي ذهنيا أو بصريا، أو إدراكا مباشرا للعالم الخارجي الموضوعي تجسيدا وحسا ورؤية[8]. ويتسم هذا التمثيل بالتكثيف والاختزال والاختصار والتصغير والتخييل والتحويل من جهة، ويتميز بالتضخيم والتهويل والتكبير والمبالغة من جهة أخرى. ومن ثم، تكون علاقة الصورة بالواقع التمثيلي علاقة محاكاة مباشرة، أو علاقة انعكاس جدلي، أو علاقة تماثل، أو علاقة مفارقة صارخة. وتكون الصورة صورة لغوية تارة، و صورة مرئية بصرية تارة أخرى. وبتعبير آخر، تكون الصورة لفظية ولغوية وحوارية، كما تكون صورة بصرية غير لفظية. وللصورة أهمية كبيرة في نقل العالم الموضوعي بشكل كلي اختصارا وإيجازا، وتكثيفه في عدد قليل من الوحدات البصرية. وقد صدق الحكيم الصيني كونفشيوس الذي قال: “الصورة خير من ألف كلمة”[9].

هذا، وتتألف الصورة عند فرديناند دوسوسير F. De Saussure من الدال والمدلول والمرجع. بيد أن دوسوسير يستبعد المرجع، ويكتفي بالصورة السمعية (الدال) والصورة المفهومية (المدلول). وبتداخلهما، بشكل اعتباطي واتفاقي، يتشكل ما يسمى بالصورة أو العلامة بالمفهوم اللساني أو السيميائي.

وعلى وجه العموم، تحيل كلمة الصورة على التصوير والتمثيل والمحاكاة. ومن ثم، فالصورة هي التي تنقل لنا العالم إما بطريقة حرفية مباشرة وإما بطريقة فنية جمالية. أي: إن الصورة تلتقط ما له صلة بالواقع أو الممكن أو المستحيل. والآتي، أن الصورة قد تكون لغوية بيانية كما هو حال الصور البلاغية من تشبيه، واستعارة، ومجاز، وكناية، … وقد تكون صورة حسية بصرية أيقونية، أو عبارة عن أنساق سيميائية غير لفظية، تتجسد بشكل جلي في الجسد والسينما والمسرح والفوتوغرافيا والحاسوب والكنيسية والميم… وغير ذلك من الأنساق الحسية المتعلقة بالموضة والطعام والعمران والأزياء والإشهار…

ومن المعلوم، أن الصورة أفضل من الكلمة على مستوى التبليغ والتواصل والإفهام. اضف إلى ذلك، أن الصورة قد تنقل العالم بإيجاز وإيحاء واختصار، أو قد تنقله مفصلا واضحا وجليا. وإذا كانت العلامة اللغوية في التصور اللساني ثنائية الطابع، تجمع بين الدال الصوتي والمدلول المفهومي المجرد، فإن الصورة المرئية تقوم على عناصر ثلاثة: الدال والمدلول والمرجع. ويقوم المرجع- هنا- بدور هام في تسنين الصورة وتشفيرها بصريا ومرئيا وحسيا.

 

مفهوم الصورة السردية أو الصورة الروائية:

ترتبط الصورة الروائية أو الصورة السردية الموسعة بالباحث المغربي محمد أنقار كما في كتابه (صورة المغرب في الرواية الاستعمارية الإسبانية)[10]، ويعرفها بأنها تصوير لغوي وفني وجمالي وتخييلي، تعبر عن الخلق والابتكار والإبداع الإنساني. والآتي، أنها تتشكل من سياقات عدة: نصية، وذهنية، وأجناسية، ونوعية، ولغوية، وبلاغية. بمعنى أن الصورة، سواء أكانت جزئية أم كلية، هي تعبير لغوي وتخييلي وبلاغي. كما أنها مجموعة من القواعد التجنيسية والنوعية، وطاقة لغوية وبلاغية، تتجاوز البلاغة التزيينية التي ترتبط بالشعر إلى بلاغة سردية موسعة. وفي هذا الصدد، يقول محمد أنقار: ” إن كل هذه الحدود اللغوية والدلالية والجمالية لا تنفي اشتراك الصورة الروائية مع مطلق الصور في ثوابت الحسية، والطابع الخيالي، والتموضع بين الواقع الخارجي وذهن المتلقي.

فالطابع الحسي مبدأ أساسي في الصورة. ولكنه لا يمثل جوهرها ولا الوظيفة المنوطة بها، لأن اللجوء إلى التعبير الحسي وسيلة من وسائل تأثير الصورة، وأداة لتمكين تلك الوظيفة وتقويتها في النفس. بهذا تكون الحسية هي المعطى الأساس الذي يستعيره الفنان من العالم المحسوس لينجز منه صورة مشكلة لغويا.

إن الصورة بهذا المعنى هي نتاج ثري لفعالية الخيال الذي لا يعني نقل العالم أو نسخه، وإنما إعادة التشكيل، واكتشاف العلاقات الكافية بين الظواهر، والجمع بين العناصر المتضادة أو المتباعدة في وحدة. وإذا فهمنا هذه الحقيقة جيدا أدركنا أن المحتوى الحسي للصورة ليس من قبيل النسخ للمدركات السابقة، وإنما هو إعادة تشكيل لها، وطريقة فريدة في تركيبها، إلى الدرجة التي تجعل الصورة قادرة على أن تجمع الإحساسات المتباينة، وتمزجها وتؤلف بينها في علاقات لا توجد خارج حدود الصورة (…) وعلى هذا الأساس يمكن القول: إن الصورة الفنية لا تثير في ذهن المتلقي صورا بصرية فحسب، بل تثير صورا لها صلة بكل الإحساسات الممكنة التي يتكون منها نسيج الإدراك الإنساني ذاته.

تلك إذن [11]هي الحدود العامة للصورة الروائية، فهي في هذا السياق نقل لغوي لمعطيات الواقع، وهي تقليد وتشكيل وتركيب وتنظيم في وحدة، وهي هيئة وشكل ونوع وصفة. وهي ذات مظهر عقلي ووظيفة تمثيلية، ثرية في قوالبها ثراء فنون الرسم والحفر والتصوير الشمسي، موغلة في امتداداتها إيغال الرموز والصور النفسية والاجتماعية والأنتروبولوجية والإثنية، جمالية في وظائفها مثلما هي سائر صور البلاغة ومحسناتها، ثم هي حسية، وقبل كل ذلك، هي إفراز خيالي. “[12].

وعليه، فهناك من الباحثين من يتعامل مع الصورة على أنها مرآة عاكسة للذات أو الواقع أو لنفسها. وهناك من يتعامل معها على أنها فن تخييلي جمالي وإبداع إنساني من جهة، ومرتبط بالمتخيل وعملية التخييل اللغوي والبلاغي من جهة أخرى. وهناك من يتعامل مع الصورة من الناحية السيميائية والمرئية والبصرية. وهناك من يتعامل معها في ضوء الصورة الروائية أو الصورة البلاغية الموسعة، كما هو شأن الدكتور محمد أنقار ومريديه من حلقة تطوان (محمد مشبال، وجميل حمداوي، ومصطفى الورياغلي، وشرف الدين ماجدولين، وعبد الرحيم الإدريسي، ومحمد العناز، والبشير البقالي…).

 

آليات الصورة البلاغية:

تنقسم البلاغة العربية القديمة إلى علوم ثلاثة: علم البيان الذي يدرس التشبيه، والاستعارة، والمجاز المرسل، والمجاز العقلي، والكناية بأنواعها. بينما يدرس علم المعاني الخبر والإنشاء، وأسلوب الحصر والقصر، والمساواة والإطناب والإيجاز. كما يدرس علم البديع مجموعة من المحسنات اللفظية والمعنوية، مثل: السجع، والجناس، والتشاكل، والتكرار، والتضمين، والتورية، والطباق، والمقابلة، والالتفات… بينما هناك صور لم تدرسها البلاغة العربية، كالرمز، والأسطورة، والأيقون، والمخطط… . ويلاحظ أيضا أن البلاغة العربية لم تدرس المحسنات البديعية كصور، بل أدرجتها ضمن محسنات تزيينية ليس إلا، يراد بها التنميق والزخرفة اللفظية والمعنوية. في حين، جعلتها البلاغة الغربية صورا مثل باقي صور علم البيان، فضمتها إلى الاستعارة والتشبيه، وسمتها بـ (Figures) أو بـ (Tropes).

ويمكن تجميع الصور البلاغية العربية في الأنماط التالية: صورة المشابهة (التشبيه والاستعارة)، وصورة المجاورة (الكناية، والمجاز المرسل، والمجاز العقلي)، وصورة الرؤيا (الرمز والأسطورة)، وصورة الائتلاف (التوازي، الجناس، والتشاكل، والتكرار، والمماثلة، والتكافؤ، والتناسب، والتعادل، وتشابه الأطراف…)، وصورة الاختلاف (الطباق والمقابلة…)، وصورة السيمياء (الأيقون، والإشارة، والعلامة، والمخطط، والعلامات البصرية…)، وصورة الإحالة (التضمين، والتناص، والاقتباس، …)، هذا، وقد صنفت البلاغة الغربية الصورة الفنية والجمالية تصنيفات عدة، وبطرائق مختلفة. بيد أنه يمكن تعداد مجموعة من الصور البلاغية الغربية التي لا تختلف، بشكل من الأشكال، عن الصور العربية، وهي: المماثلة، والجناس، والطباق، والسخرية، والمجاز المرسل، والتشبيه، والاستعارة، والتشخيص، والتكرار، والمقارنة، والحذف أو الإضمار، والتدرج نقصانا وزيادة، والمبالغة، والتعويض، والاستبدال، والتهذيب، والكناية، والمقابلة، والتعريض، والتلويح، والإشارة، والإيحاء، والتلميح…

وبناء على ما سبق، ظهرت مجموعة من الدراسات اللسانية التي تحاول تصنيف الصور البلاغية في ضوء معايير منهجية محددة، وأيضا في ضوء مقولات تصنيفية. فقد صنفت الصور البلاغية في ضوء المعيار الصوتي أو الخطي، وصنفت صور في ضوء المورفيم (الزوائد واللواحق والمقاطع)، وصنفت صور أخرى حسب طبيعة الكلمة، أو حسب طبيعة المركب (Syntagme) أو التركيب (syntaxe)، وصنفت أخرى حسب طبيعة الدلالة أو حسب السياق التداولي. ومن جهة أخرى، فقد نمطت الصور البلاغية حسب المحاور اللسانية. فهناك صور المحور الاستبدالي، مثل: صورة السخرية. وهناك أيضا صور المحور التأليفي، مثل: الاستعارة.

وهناك من يرتبها بطريقة أخرى أكثر تنظيما، مثل جان دوران (J. Durand) وجماعة لييج (جان دوبوا وآخرون)، حيث يتحدثون عن صور منطقية، مثل: صور الوصل والربط، وصور الحذف، وصور التعويض (تجمع بين الوصل والحذف)، وصور الاستبدال. ويقسم دوران هذه الصور كذلك إلى صور الهوية، وصور المشابهة، وصور الاختلاف، وصور التعارض. وهناك من يضيف الصور المعقدة، والصور البسيطة، والصور الجزئية، والصور الكلية. وترى جماعة لييج بأن الاستعارة في الحقيقة ليست سوى مجاز مرسل ثان[13]. وقد صنفت الصورة كذلك إلى صور الفكر، وصور الدلالة، وصور النطق والتعبير، وصور الأسلوب، وصور البناء والتأليف، وصور الكلمات، وتجتمع هذه الصور، جزئيا أو كليا، في النصوص الشعرية والسردية والحجاجية والدرامية[14].

وإذا تتبعنا الصور البلاغية الغربية عبر تاريخها، فقد تمثل مصدر الصور البلاغية، في العصور الوسطى، في النصوص الشعرية والأدبية، أو في النصوص ذات الكلام المجازي. بيد أن دومارسيه (Dumarsais) كان يعد الأدب الشعبي مصدرا للصور المجازية أكثر من باقي المجالات الأدبية والفنية الأخرى. وذهب كثير من منظري الأدب، في عصرنا الحديث، إلى مفهوم مختلف للصورة، حيث تعاملوا مع الصورة السردية، بكل تجلياتها وأشكالها، في نصوص سردية وقصصية وحكائية وروائية، كما نجد ذلك واضحا عند شكلوفسكي، ورومان جاكبسون، وريتشاردز، وبيرسي لوبوك…

هذا، وقد صنفت الصور البلاغية، مع تطور العلوم في القرن التاسع عشر، إلى صور المشابهة وصور المجاورة، كما يتحدد ذلك في السحر عند فرانز وموس، و علم النفس عند فرويد، أو اللسانيات عند فرديناند دو سوسير وكروزفسكي (kruszwski). وقد تطورت الصورة دلاليا وسياقيا وعلاماتيا مع السيميائيات في إطار النحو السيمي (la grammaire sémique).

وقد صنف رومان جاكبسون الصور البلاغية في قطبي الاستعارة والمجاز المرسل، أو في ثنائية المشابهة والمجاورة، إذ وجد الشعر مرتبطا بالاستعارة. في حين، يتميز النثر بالمجاورة. بيد أن ميلر يعد النثر فنا استعاريا، فقد كان جي هلس ميلر التفكيكي الأمريكي “متأثرا إلى حد كبير بالنقد الظاهري كما في كتابه: “الخيال والتكرار: سبع روايات إنجليزية”(1982م). كما أنه كان مدينا لنظرية جاكبسون عن الاستعارة والكناية، بالرغم من أنه، في الواقع، يفكك معارضة الاستعارة الأصلية عند جاكبسون (والتي هي بالضرورة شعرية)، وكذلك الكناية (التي هي أساسا واقعية). ويحاول ميلر أن يبرهن على أن الشعر يقرأ في كثير من الأحيان كما لو كان واقعيا، إذ يمكن أن تكون الكتابة الواقعية خيالا. ولكن انتقد الكثيرون ميلر بسبب تلميحه بأن اللغة لا يمكنها أبدا أن تشير إلى العالم الفعلي. [15]

ويمكن أن نضيف أيضا بأن الكثير من النصوص الروائية الشاعرية تتقاطع فيها صور المشابهة مع صور المجاورة. لكن يبقى الشعر هو المحظوظ بصور التشبيه والاستعارة. في حين، يحظى السرد الأدبي بصور المجاورة، سواء أكانت مجازا مرسلا أم مجازا عقليا أم كناية.

هذا، وتستعمل الصورة، بصفة عامة، مجموعة من الآليات البلاغية والبصرية بغية التأثير والإمتاع والإقناع، وتمويه المتلقي، مثل: التكرار، والتشبيه، والكناية، والمجاز المرسل، والاستبدال، والتقابل، والتضاد، والجناس، والاستعارة، والمبالغة، والمفارقة، والسخرية، والحذف، والإضمار، والإيجاز، والتوكيد، والالتفات، والتورية، والتعليق، والتكتم، والقلب، والتماثل، والتشكيل البصري…دون أن ننسى الآليات الأخرى التي تستنبط من داخل النصوص نفسها.

 

أنواع الصورة:

يمكن الحديث عن مجموعة من الصور في مختلف الحقول المعرفية والعلمية، ويمكن حصرها في ما يلي:

الصورة الشعرية: هي تلك الصورة البلاغية القديمة التي تعتمد على صور البيان (التشبيه، والاستعارة، و المجاز العقلي، والمجاز المرسل، والكناية)، والمحسنات البديعية (الطباق، والمقابلة، والتكرار، والالتفات، والتورية، والجناس، والسجع، والتورية، والتضمين…).

الصورة السردية الموسعة: هي تلك الصورة التي ترتبط بالسرد، سواء أكانت رواية أم قصة أم قصة قصيرة، وهي تصوير لغوي تخييلي، وتشكيل فني جمالي إنساني، يراعي مجموعة من السياقات، مثل: السياق الذهني، والسياق النصي، والسياق اللغوي، والسياق البلاغي، والسياق الأجناسي والنوعي.

الصورة المسرحية: يقصد بالصورة المسرحية تلك الصورة المشهدية المرئية التي يتخيلها المشاهد والراصد ذهنا وحسا وشعورا وحركة. وغالبا ما تكون هذه الصورة ركحية وميزانسينية[16]، تتكون من مجموعة من الصور البصرية التخييلية المجسمة وغير المجسمة فوق خشبة الركح. وتتكون هذه الصورة الميزانسينية من الصورة اللغوية، وصورة الممثل، والصورة الكوريغرافية، والصورة الأيقونية، والصورة الحركية، والصورة الضوئية، والصورة السينوغرافية، والصورة التشكيلية، والصورة اللونية، والصورة الفضائية، والصورة الموسيقية أو الإيقاعية، والصورة الرصدية.

ومن هنا، فإن ” الصورة المسرحية ليست هي الشكل البصري فقط، بل هي العلاقات البصرية والحوارية البصرية؛ العلاقات البصرية فيما بين مكونات العمل أو العرض الفني المسرحي ذاته، والحوارية البصرية بين هذه المكونات والممثلين والمتفرجين. “[17].

علاوة على ذلك، فالصورة المسرحية هي تقليص لصورة الواقع على مستوى الحجم والمساحة واللون والزاوية. ويعني هذا أن المسرح صورة مصغرة للواقع أو الحياة، وتتداخل في هذه الصورة المكونات الصوتية/ السمعية والمكونات البصرية غير اللفظية.

الصورة الإشهارية: يقصد بالصورة الإشهارية تلك الصورة الإعلامية الإخبارية التي تستعمل لإثارة المتلقي ذهنيا ووجدانيا، والتأثير عليه حسيا وحركيا، ودغدغة عواطفه لدفعه لاقتناء بضاعة أو منتج تجاري ما. وقد ارتبطت الصورة الإشهارية بالرأسمالية الغربية ارتباطا وثيقا، واقترنت كذلك بمقتضيات الصحافة من جرائد ومجلات ومطويات إخبارية، فضلا عن ارتباطها بالإعلام الاستهلاكي بما فيها الوسائل السمعية والبصرية من راديو، وتلفزة، وسينما، ومسرح، وحاسوب، وقنوات فضائية، بالإضافة إلى وسائل أخرى كالبريد، واللافتات الإعلانية، و الملصقات، و اللوحات الرقمية والإلكترونية…

الصورة الفوتوغرافية: هي صورة مختصرة ومختزلة للواقع الحقيقي مساحة وحجما وزاوية ومنظورا وتكثيفا وخيالا وتخييلا. وبالتالي، فهي تعبر عن لمسات المصور وأفكاره ووجه نظره وطبيعة وعيه وإدراكه الذاتي والموضوعي.

هذا، وتتميز الصور الفوتوغرافية بطابعها المهني / التقني، وطابعها الفني والجمالي، وطابعها الرمزي والدلالي، وطابعها الإيديولوجي والمقصدي. كما تتشكل الصورة الفوتوغرافية من الدال والمدلول والعلاقات التي تجمع بينهما. ويعني هذا أن الصورة الفوتوغرافية، باعتبارها صورة واصفة للواقع، يمكن إخضاعها لثنائية التعيين والتضمين، وثنائية الاستبدال والتأليف، وثنائية الدال والمدلول، وثنائية التزامن والتعاقب. ولا ننسى أيضا بعض المكونات المناصية الأخرى، كحجم الصورة الفوتوغرافية (حجم صغير، متوسط، كبير)، ومقاسها، وطبيعتها (الصورة الشمسية، و الصورة الرقمية، والصورة الاصطناعية، والصورة المفبركة، والصورة المركبة من التشكيلي والفوتوغرافي…)، وحجمها، ومرسلها، ومتلقيها، وزاوية التقاطها…

الصورة التشكيلية: تنبني الصورة التشكيلية على الخطوط والأشكال والألوان والعلاقات. ومن ثم، تتأسس الصورة التشكيلية على التمفصل المزدوج البصري: الشكل أو الوحدة الشكلية (Formème)، واللونم (colorème) أو الوحدة اللونية [18].

الصورة السينمائية: تعتمد الصورة السينمائية على لقطات فيلمية، وكتابة سينارستية، ومشاهد متعاقبة مفككة أو متناظرة، وتستعين بالحكي والوصف والحوار، والتوجه مباشرة إلى الجمهور المتعلم. وغالبا ما تتخذ الصورة السينمائية طابعا توثيقيا من جهة، وطابعا تخييليا من جهة أخرى.

الصورة الإعلانية أو التوجيهية: توظف الصورة الإعلانية أو التوجيهية أو التحسيسية لأغراض تعليمية أو إخبارية أو تنبيهية أو تواصلية، ويقصد بها نصح المخاطب أو توجيهه أو إرشاده إلى ما يخدم مصلحته وذاته وواقعه ووطنه وأمته وبيئته. ويعني هذا أن هذه الصورة هادفة وسامية، تحمل في طياتها رسائل إعلامية وإخبارية تنويرية وتوجيهية، تهدف إلى غرس القيم النبيلة في نفوس المخاطبين لتمثلها في حياتهم اليومية والسلوكية. ومن أمثلة ذلك الصور التي تتعلق بالحفاظ على البيئة، والصور التي تحث على التضامن، والصور التي تحث على احترام القانون وعلامات السير. ويعني هذا أن الصورة التوجيهية أو الإعلانية هي صورة إرشادية وتحسيسية وأخلاقية وتعليمية بامتياز.

الصورة الأيقونية: يتضمن النص الإبداعي صوراً أيقونية يحضر فيها الأيقون البصري باعتباره علامة سيميائية قائمة على وظيفة المماثلة، كأن يتضمن ذلك النص صورا لأشخاص أو شعارات مرئية (Logo)، ومنحوتات بصرية، وخرائط وأشكال مرئية.

هذا، ويرتبط الأيقون (Icon) بالسيميائي الأمريكي شارل سندرس بيرس (CH. S. Peirce)، ويدل هذا المفهوم، بصفة عامة، على كل أنظمة التمثيل القياسي المتميز عن الأنظمة اللسانية. و يتضمن الأيقون الرسومات التشكيلية والمخططات والصور الفوتوغرافية والعلامات البصرية.

الصورة الرقمية: ترتبط هذه الصورة بالحاسوب والشبكة الرقمية. ويمكن – الآن- أن نجد كل الصور المرغوب فيها دون اللجوء إلى التشكيلي أو الفوتوغرافي، بل هي صور موجودة بكثرة داخل العوالم الإلكترونية الرقمية هنا وهناك، يختار الإنسان منها ما يشاء. وأكثر من هذا، فقد تحولت كثير من الصور التشكيلية والسينمائية والمسرحية والإشهارية وغيرها إلى صور رقمية عصرية، يتحكم فيها الحاسوب بالتثبيت أو التغيير أو التحوير. ويعني هذا كله أن النص الإبداعي قد استفاد من الثورة التكنولوجية في مجال استثمار الصورة الرقمية بسرعة ومرونة وسهولة ويسر.

الصورة التربوية أو البيداغوجية: نعني بالصورة التربوية تلك الصورة التي توظف في مجال التربية والتعليم، وتتعلق بمكونات تدريسية هادفة، كأن تشخص هذه الصورة واقع التربية، أو تلتقط عوالم تربوية هادفة تفيد المتعلم في مؤسسته أو فصله الدراسي. أي: إن الصورة التربوية هي التي تحمل، في طياتها، قيمًا بناءة وسامية، تخدم المتعلم في مؤسسته التربوية والتعليمية بشكل من الأشكال. وقد تتنوع هذه الصورة في أشكالها وأنماطها وأنواعها، لكن هدفها واحد هو خدمة التربية والتعليم. ولا تقتصر هذه الصورة على ما هو تربوي عام فقط، بل تطلق على الصور الموظفة في الكتاب المدرسي، ما عدا الصورة الإشهارية، والصورة التشكيلية، والصورة الفوتوغرافية، والصورة التوجيهية التحسيسية… بل لابد أن تكون صورة متميزة بهدفها التربوي والتعليمي.

الصورة الديداكتيكية: هي تلك الصورة التعليمية المرتبطة بمقاطع الدرس الثلاثة: المقطع الابتدائي، والمقطع التكويني، والمقطع النهائي. وتندرج هذه الصورة كذلك ضمن ما يسمى بوسائل الإيضاح. وبالتالي، يستعمل المدرس الصورة الديداكتيكية المثبتة في الكتاب المدرسي لبناء الدرس شرحا وتوضيحا واستثمارا واستكشافا واستنتاجا وتقويما.

 

وظائف الصورة:

تتضمن الصورة مجموعة من الوظائف حسب موقعها السياقي. فهناك الوظيفة التخييلية، والوظيفة الفنية والجمالية، والوظيفة المرجعية، والوظيفة التمثيلية، والوظيفة الانعكاسية، والوظيفة البلاغية، والوظيفة الحجاجية، والوظيفة السردية، والوظيفة التصويرية، والوظيفة الإبداعية، والوظيفة الإحالية، والوظيفة الأيقونية، والوظيفة التوثيقية، والوظيفة التفسيرية، والوظيفة التأويلية، والوظيفة الثقافية، والوظيفة التأثيرية، والوظيفة الإيديولوجية، والوظيفة الإشهارية، والوظيفة التزيينية، والوظيفة التقبيحية، والوظيفة السحرية، والوظيفة الوجودية، والوظيفة الهوياتية، والوظيفة الإعلانية، والوظيفة النفسية، والوظيفة الاجتماعية، والوظيفة التوجيهية، والوظيفية التربوية، والوظيفة الديداكتيكية، والوظيفة التقريرية، والوظيفة التضمينية، والوظيفة الإنسانية، إلخ…

 

معيار الصورة الروائية أو السردية:

نعني بالمقاربة البلاغية السردية تلك المنهجية التي تدرس النصوص السردية، سواء أكانت قصصية أم روائية، في ضوء الصورة البلاغية الموسعة أو في ضوء معيار الصورة الروائية، كما طرحها الباحث المغربي الدكتور محمد أنقار في كتابه (صورة المغرب في الرواية الاستعمارية الإسبانية)[19].

وتنبني منهجية هذا الباحث على مجموعة من الخطوات تشكل ما يسمى بمعيار الصورة الروائية أو ما يسمى أيضا بالتصوير اللغوي. وهذه الخطوات هي: السياق النصي، والمستوى الذهني، وقواعد الجنس، والطاقة اللغوية، والطاقة البلاغية. أي: يعتمد الباحث على مجموعة من السياقات التحليلية التي ترد فيها الصورة السردية الموسعة أو الصورة الروائية أو التصوير اللغوي، وهي: السياق النصي، والسياق الذهني، والسياق الأجناسي، والسياق اللغوي، والسياق البلاغي. ولابد للباحث أن ينطلق، حين تحليله للصورة السردية الموسعة، من السياق النصي بدراسة المكونات الثابتة، مثل: مكون الأحداث، ومكون الشخصيات، ومكون الفضاء، ومكون الوصف، ومكون اللغة، ومكون الرؤية السردية. وفي الوقت نفسه، يدرس السمات الثانوية التي تحضر وتغيب، مثل: سمة الواقعية، أو سمة العجائبية، أو سمة الخرافة، أو سمة التوتر، أو سمة الدينامية، وهلم جرا… وبعد ذلك، ينتقل إلى دراسة المستوى الأجناسي الذي يعنى بدراسة مكونات الجنس الأدبي داخل الصورة، واستكشاف مكونات النوع. ويعني هذا ربط الصورة الروائية بسياقها الجنسي والنوعي، باستخلاص قواعدها التجنيسية وسماتها النوعية. ” وحقيقة الأمر أنه مثلما تمتاح الصورة الشعرية من معين الشعر، وتجسم ماهيته المتوترة، وتئن تحت وطأة غموضه، وتمرح وفق إيقاعاته، وتسرح عبر متاهات رموزه، فإن الصورة الروائية تخفق بدورها في فضاء الجنس الروائي، وتتفاعل مع باقي مكوناته، وتواكب تفتحه على الأجناس الأخرى. ولا تني أبدا عن مسايرة التواءات العقدة وامتدادات المتن برمته. ولا عن تشكلها وتجسدها للمتلقي في آلاف الأوضاع والأحجام والمواقف والألوان. ثم لا يهم بعد ذلك إن اتسمت بالشفافية، أو قدمت في صيغة مباشرة. “[20].

ولا يكتفي الدارس بهذا، بل لا بد أن يهتم بالسياق الذهني الذي يعبر عن عملية التفاعل التي تتم بين المتلقي والصورة بملء فراغاتها وفجواتها عبر فعل التأويل والتقييم. . بمعنى أن الصورة الروائية” تمثل ذهني وتجربة يتلذذ بها المتلقي المساهم في فعل القراءة بدوره الحاسم، وجدله الثري مع خطاطات النص ومظاهره الجزئية وبياناته ومعلوماته وجوانبه المتفاعلة والمنعكسة على بعضها البعض. وحقيقة هذه الصورة، من منظور التلقي، لا تكمن في تشكيل التوافقات بين العناصر، بل في، طريقة التشكيل نفسها. ومن هنا نرى أن كل تحديد صارم للصور الروائية لا يمكن تحققه إلا بالكشف عن مجموع الطرائق التي يمارسها الوعي لتمثل الصور من خلال العناصر الجمالية المقترحة من لدن المبدع في كل متن روائي. “[21].

ولن يتحقق ذلك التفاعل الذهني إلا بمراعاة الصورة الكلية العامة. و”إذا كانت الصورة الجزئية تتسم بالحضور الفعلي داخل النص، فإن الصورة الكلية توجد دائما في خالة غياب، يستحضرها المتلقي بعد اطلاعه الكلي على المتن، اعتمادا على مجموعة من مرتكزات القراءة وقوانينها.

تتسم الصورة الكلية بالتجريد والضمنية. وهي مكون وتكوين في آن واحد، من حيث اشتراكها، من ناحية في البناء، واحتياجها من ناحية ثانية، للدخول في ترابط مع سائر المكونات التي تحقق بدورها، كيانها الذاتي، بمعزل ظاهري عن الصورة الكلية. إلا أن علاقة الصورة الكلية بالجزئية تتجاوز نطاق الاحتياج والتساند لترقى إلى مستوى التجانس المتكامل. بحيث لا توجد صورة كلية بدون صور جزئية. كما أن هذه تعطي صورة كلية. “[22].

• أما السياق اللغوي، فيحيلنا على التصوير اللغوي، واستجلاء المكون اللغوي، ودراسة الأساليب وخصائص الكتابة التصويرية على مستوى التعبير والتشكل اللغوي، بالتوقف- مثلا – عند الأصوات والمقاطع والكلمات والجمل والتعابير. في حين، يهتم السياق البلاغي بالتوقف عند الصور السردية الكبرى لدراستها وتأويلها، وتبيان خصائصها الفنية والجمالية بعيدا كل البعد عن بلاغة الشعر. بمعنى ” أن الصورة الروائية، من حيث هي مظهر أسلوبي، تعبير نسقي عن التماثل البلاغي المتجذر في السياق الكلي للمتن. ومن هنا افتراقها عن الصور البلاغية التزيينية التي قد تندرج في إطار السرد. إلا أنها تظل فيه في وضعية افتقار إلى سمات التكوين الروائي. “[23].

وعليه، لا يمكن للنقد العربي أن يكون نقدا حقيقيا، في مقاربة النصوص السردية والقصصية، إلا بتمثل معيار الصورة الروائية أو بلاغة الصورة السردية الموسعة، باتباع مجموعة من الخطوات المنهجية، مثل: قواعد الجنس، والطاقة اللغوية، والطاقة البلاغية، والسياق الذهني، والسياق النصي.

 

المصطلحات النقدية:

يستند معيار الصورة الروائية أو بلاغة الصورة السردية إلى مجموعة من المفاهيم والمصطلحات الإجرائية التي تتمثل في: البلاغة النوعية، ومفهوم السمات، والتجنيس، والطاقة البلاغية، والطاقة اللغوية، والسياق الذهني، وسلطة الجنس، ودينامية التخييل، وصورة الموضوع، والتصوير، ومفهوم الامتداد، ومفهوم التدرج، ومفهوم الصورة، ومفهوم السمة المهيمنة، والسمات النوعية، والاستعارة السردية، والصورة الكلية، والتوتر، والتصوير البلاغي، وصورة اللغة، والاستعارة السردية، والصورة الجزئية، والصورة الكلية، والصورة الاستهلالية، والصورة الحكائية، والصورة الهزلية، والصورة الأسطورية، والصورة الواقعية، وصورة المفارقة، والبناء الجمالي، ومفهوم المكونات، والتشكيل الجمالي، والصورة بين التوازن والاختلال، ومفهوم الهجنة، وصورة البطل، والصورة الوصفية، وكثافة الفضاء، وصورة الفعل الروائي، والخطة التصويرية، وصورة الشخصية، والتصوير الاستدراجي، وبلاغة التواطؤ، والنسيج الدرامي للنص، والانزياح التركيبي، وسياق النص، والتصوير الموضوعي، وصورة الراوي والمتلقي، والبنية الذهنية للمتلقي، والغاية الجمالية، والحوار الاستفزازي، ومفهوم الإيقاع والتوتر، والصوت السردي، والتشكيل اللغوي، وصورة الانشطار النوعي، وإيقاع المفارقة، والتساند الجمالي، والانشطار النوعي، والصورة النزوية، والمفارقة الدرامية، والصورة الشاعرية…

 

تركيب:

وخلاصة القول، يتبين لنا، مما سبق ذكره، بأن الصورة، بصفة عامة، تصوير لغوي وعقلي وذهني وخيالي وحسي، قد تنقل العالم الواقعي أو قد تتجاوزه نحو عوالم خيالية وافتراضية أخرى. لكن أهم ما في الصورة هو طبيعتها اللغوية والفنية والجمالية الخاصة، وارتباطها بمتخيلات غنية وثرية. كما أن للصورة آليات تعبيرية قد تتجاوز الصور الشعرية إلى صور نثرية وسردية ودرامية موسعة، تجعل من مبحث الصورة عالما منفتحا وخصبا.

هذا، والصورة أنواع، منها: الصورة البلاغية، والصورة السينمائية، والصورة المسرحية، والصورة الشعرية، والصورة البصرية، والصورة التشكيلية، والصورة السيميائية، والصورة البيداغوجية، والصورة الديداكتيكية، والصورة الإعلانية…

وفوق ذلك كله، تؤدي الصورة مجموعة من الوظائف التي يمكن استكشافها واستجلاؤها عبر السياق التداولي والكلي للنص أو الصورة على حد سواء.

هذا، ويستند معيار الصورة، سيما الروائية والسردية منها، إلى مجموعة من الخطوات المنهجية، مثل: قواعد الجنس، والطاقة اللغوية، والطاقة البلاغية، والسياق النصي، والسياق الذهني.

هذا، ونختم كلامنا بقولة أستاذنا محمد أنقار: ” نفترض أن اعتماد (معيار الصورة) في النظر والمعالجة النقدية من شأنه أن يتيح للنقاد إجراءً منهجياً مشتركاً لضبط وظيفة الكشف عن الآليات الجمالية المتحكمة في الإنتاج الأدبي، وتقليص الحواجز المصطنعة القائمة بين مختلف الاتجاهات والمذاهب النقدية.

من أجل ذلك نرى أن الوقت قد حان كي تتبوأ بلاغة الصور السردية مكانها المناسب في ميدان النقد الأدبي، وتلملم نتائجها المتناثرة، وتجلي علاقاتها المبهمة مع الأجناس الأدبية ونظريتها، وتنتظم رسميا، بفعالية، في سياق الإنشائية المعاصرة. “[24].


[1] أرسطو: الخطابة، ترجمة: عبد القادر قنيني، أفريقيا الشرق، الدار البيضاء، المغرب، الطبعة الأولى سنة2008م، ص:191.

[2] Molino-Joêlle Tamine :Introduction à l’analyse linguistique de la poésie,P.U.F.Paris, 1982, pp : 152-170.

[3] جون كوهن: بنية اللغة الشعرية، ترجمة: محمد الولي ومحمد العمري، دار توبقال للنشر، الدار البيضاء، المغرب، الطبعة الأولى سنة 1986م.

[4] Oswald Ducrot /Tzvetan Todorov : Dictionnaire encyclopédique des sciences du langage, Collection Points, éditions du Seuil. Paris, 1972, p : 349.

[5] Oswald Ducrot /Tzvetan Todorov: Op.cit, p: 349-350.

[6] Oswald Ducrot /Tzvetan Todorov: Op.cit, p: 350-351.

[7] A regarder : Paul Ricœur : La métaphore vive, Ed.Seuil, Paris, 1975.

[8] قدور عبد الله ثاني: سيميائية الصورة، مؤسسة الوراق للنشر والتوزيع، عمان، الأردن، الطبعة الأولى سنة 2007م، ص:24-25.

[9] قدور عبدالله ثاني: سيميائية الصورة، ص:119.

[10] د. محمد أنقار: صورة المغرب في الرواية الإسبانية، مكتبة الإدريسي، تطوان، المغرب، الطبعة الأولى سنة 1994م.

[11] تكتب إذن في الحقيقة (إذاً)، فالأولى تدخل على الفعل المضارع فتنصبه، والثانية استنتاجية ليس إلا.

[12] د. محمد أنقار: صورة المغرب في الرواية الإسبانية، ص:15.

[13] Oswald Ducrot /Tzvetan Todorov: Op.cit, p: 356.

[14] Jean Dubois et autres : Dictionnaire de linguistique, Larousse, Paris, 1991, p : 214.

[15] ديفيد كارتر: النظرية الأدبية، ترجمة: د.باسل المسالمه، دار التكوير للتأليف والترجمة والنشر، الطبعة الأولى سنة 2010م، ص:122-123.

[16] الميزانسين (Mise en scène) هو الإخراج المسرحي.

[17] د. شاكر عبدالحميد: عصر الصورة، سلسلة عالم المعرفة، العدد:311، يناير 2005، ص:306.

[18] د. قدور عبدالله ثاني: نفسه، ص:26.

[19] محمد أنقار: نفسه، المرجع المذكور سابقا.

[20] محمد أنقار: نفسه، ص:18.

[21]– محمد أنقار: نفسه، ص:45.

[22]– محمد أنقار: نفسه، ص:29.

[23]– محمد أنقار: نفسه، ص:45.

[24]– محمد أنقار نفسه، ص:13.