باب الوداع .. السينما حين تعلمك أن تفكر / أشرف الجمّال

 

 

باب الوداع .. السينما حين تعلمك أن تفكر

أشرف الجمّال

……….

 

سعدت كثيرا بمشاهدة الفيلم المصري (باب الوداع) بمهرجان القاهرة السينمائي, سيناريو وإخراج كريم حنفي, الإخراج المساعد جينفر باتريسون, البطولة:  سلوى خطاب, آمال عبد الهادي, شمس لبيب, أحمد حمدي, والطفل عماد حسام الدين.. التصوير زكي عارف, الموسيقى: راجح داوو, إنتاج خيال للإنتاج الفني، بدعم من وزارة الثقافة.

والفيلم يحظى بكثير من الحرفية الفنية على كل مستويات التقنية السينمائية مما يجعله مميزا وخاصا من وجوه عديدة, على مستوى الرؤية والإخراج والتصوير والموسيقى التصويرية, ويمكن حصر نقاط التميز وفق قراءة تحليلية للفيلم من خلال :

الرؤية والفكرة :

تبدو فكرة الفيلم في ظاهرها معالجة فنية لقضية الموت والوجود .. حتى يظن المشاهد أن الموت والفقد هو الهاجس الأكثر حضورا في الفيلم, ورغم حضور الموت بقوة في الرؤية الفنية إلا أنه من الظلم حصر فكرة الفيلم في الصراع بين الموت والحياة, فالرؤية بالغة الثراء وغنية بكثير من محاور الدلالة ولذلك حضوره بقوة في المشاهد المختلفة .. ثمة معان وقضايا فكرية ووجودية عديدة يطرحها باب الوداع منها :

– الموت والفقد:

 ويتجلى ذلك بوضوح في شيخوخة الجدة (آمال عبد الهادي) وعكوفها على ما تبقى لها من ذكريات وحنين إلى عشق تولّى رَمَز له المؤلف ببدلة الفرح للزوج المفقود وبزيارة المقابر بصحبة حفيدها وهو المشهد الأول في الفيلم, وسماع الجدة لأغنيات العشق القديمة بما تحمله من حنين للأصالة والماضي الزاخر بروحانية الحب والفقد, فالجدة تصغي بكل حواسها مصاحبة لطقوسها الخاصة بتناول فنجان القهوة مع السيجارة إيماء بحالة التوحد مع الذات لهذا الكوبليه الغنائي الأصيل :

 أعللُ قَلبي في الغرامِ وأكتمُ ….  ولكنَ حالي عن هَوايَ يُترجمُ

وكنتُ خَلياً لستُ أَعرفُ ما الهوى … فأصبحتُ حَياً والفؤادُ متيمُ .

كما يظهر حضور الفقد في مشهد تقوم فيه البطلة ( سلوى خطاب ) بقص شعرها المرسل والتضحية به أمام المرآة بما يحمله الرمز من تضحية وإهدار للأنوثة وغياب الطرف المقابل الذي يستحقها, غياب الزوج أو الحبيب مقابل حضور الموت والعدم

حيث تنتقل المشاهد تباعا بين غرفة المعيشة والمقابر.. توحد في الغرفة .. وتشظي باكٍ حزين أمام المقبرة, و بين الغرفة والمقبرة إنسانية ضائعة ومغتربة ومتوثبة لعدمية لا حياة بعدها يهون معها الجمال ويفقد معناه وسلطانه , وينعكس هذا الإحساس بالعدمية وتربص الموت الساكن بوجدان الأم (سلوى خطاب) في مشهد تخيلي درامي ترى فيه جثة ابنها مسبلة الجفنين طريح فراش الموت لا حراك فيها ولا ثمة حياة فتتهاوى هربا من هول الإحساس بمرارة الفقد لاحتضان طفلها الذي هو حقيقة إلى جوارها فيما تتمثل الابن الميت المتخيل طريح الفراش وكأن الموت يزاحم الوجود في الوعي , هو حاضر في التفاصيل رغم غيابه , وقابض على الوعي قبل أن يجيء.

 

– مصرية الذائقة والتكوين :

الفيلم ينضح بمصرية خالصة لا مراء فيها , كل لقطة فيه تنطق بمصريتها , وبثقافة مصر الفرعونية الأصيلة الضاربة بجذورها في الوعي الجمعي لأبناء مصر , بدءا من طبيعة الأغاني المختارة والمقتطفات القرآنية الطقوسية التي تمثل خلفية ناطقة لديالوج الروح الصامت , كذلك على مستوى الرؤية من حيث حضور الأنثى بقوة فجميع أبطال الفيلم إناث ولا يوجد رجل واحد في الفيلم إلا الابن وهو إما طفلا وإما صبيا يافعا وليس ثمة رجل باعتباره حبيبا أو زوجا مشهودا اللهم إلا في حضوره في وعي الجدة كذكرى مندثرة .. أما عن الأم ( سلوى خطاب ) فلها ابن وحيد وليس هناك إشارة ظاهرة أو باطنة عن أبيه, من هو؟ ومن يكون؟  وما شكله؟ وهذا يحيلنا إلى طبيعة الثقافة المصرية القديمة التي كانت تمجد الأنثى وتعتبرها سر الوجود وفيض الحياة , ويتضح ذلك من ارتباط الابن (أحمد حمدي ) بأمه باعتبارها الوطن الأول والملاذ وسر الوجود , حيث يبدأ ارتباط الإنسان بالمكان والعالم من ارتباط الجنين برحم الأم , المكان الأول , ومن ثم الارتباط بالمنزل والبلدة ثم الوطن , يقول البطل في عبارة شعرية جنائزية أشبه بترانيم إخناتون بين أرجاء المعبد :

أنا ابن أمي

ابن خوف أمي

ابن حزن أمي

 

أما عن الأب فلا إشارة .. لا ذكور يجسدون معنى الذكورة في الفيلم .. ثمة أطفال يحضرون في مشهد يلعبون ويمرحون على خلفية مطر شديد يتساقط غاشما كرمز لعماء المادة وضآلة الإنسان أمام بطشها .. هم أطفال يمثلون البنوة والبذرة , ونساء يمثلن رحم العالم وسر التكوين , وهو ميراث فرعوني أصيل حيث إيزيس الأم وحورس الابن الذي ولدته من رحمها من دون تواصل جسدي مع إيزوريس .. تماما كما أنجبت الأم ( سلوى خطاب ) ابنها من دون أن نرى زوجا أو يشار إلى وجوده من قريب أو بعيد .. إننا أمام عذراء ومسيح .. وبحث عن الخلاص .. لكنه خلاص من الموت وفرار من العدم وإصرار على الوجود وعلى إنسانية الإنسان رغم ضعفه وفنائه .. كأنما هي صرخة من أجل البقاء هنا .. أو هناك :

 

أنت يا من كنت دوما هنا .. ستكون في كل مكان .

عبارة تصدرت شاشة العرض في بداية الفيلم .. إصرارا على الوجود في عالم كُتب عليه الفناء .. إنه التشبث بالحضور رغم حتمية الغياب .. نزعة دفاعية ضد الموت ضد الفقد ضد الرحيل .

 

– الطقوسية وأنسنة الأشياء :

وعوضا عن الإحساس بالموت , ودفاعا عن القيمة والحضور , يقوم أبطال الفيلم وخصوصا الجدة والأم إلى تحويل الأفعال اليومية إلى طقوس خاصة وحميمية فتكتسب الجمادات معها إنسانية حنونا بدءا من فنجان القهوة للجدة , وصناعة عروس من ورق وتخريمها بإبرة الخيط لقتل الأرواح الشريرة , واحتفاظها بما يخلّفه تمشيط شعرها من شعيرات داخل أوراق سلوفان والاحتفاظ بها وعدم إلقائها دون عناية .. كل شيء طقس له خصوصيته .. صناعة القهوة على السبرتاية .. سماع القرآن .. الأغنيات القديمة .. زيارة القبور .. إضاءة الشموع عليها .. إلقاء صور الموتى بين يدي شواهدها , وهي صور أبيض وأسود لا ألوان فيها , شاحبة وفانية كحقيقة الحياة .. الحنين يسري في كل المشاهد واللقطات بفعل الممارسة الطقوسية للأبطال وكأنهم يصدقون أرواحهم ويعيشون بكل خلاياهم كل فعل وكل حركة وكل خطوة يخطونها نحو العدم أو نحو الحياة .. نحن أمام إنسانية مفعمة بالدفاع عن تواجدها حتى في تفاصيلها اليومية .. تستميت بكل ما تملك من وعي ولا وعي من أن تترك بصمة في هذا العالم قبل أن ترحل .. قبل أن تغيب .. قبل أن تصير ذكرى يتلقفها النسيان .

 

الرمزية في الفيلم :

يلعب الرمز دور البطل في باب الوداع  , فالرمز والتعبير بالصورة هما الحوار الحقيقي الذي يدور ويرسم الشخصيات ويعبر عن آمالها وآلامها , ذلك لخصوصية الفكرة , فانتقال المشاهد بين الموت والحياة يحتاج لمساحة برزخية من الوعي تراهن على روحنة الأشياء وتستنفر طاقة التخيل وتستعين بالرموز في إنتاج المعنى والتعبير عن الرؤية .. ومن المشاهد الرمزية القوية وقوف البطل والأم مرات كثيرة أمام نافذة زجاجية مغلقة تطل على العالم فلا تدري هل ينظران للحياة من وراء القضبان أم لمصيرهما العدمي المحتوم , أم ينتظران غائبا .. أم يودعان راحلا .. أم يودعان أنفسهما قبل الرحيل .

أيضا ثمة مشهد رمزي مضن وعميق أمام المقابر حيث تلتف النسوة المتشحات بالسواد كالبجع الحزين حول المقابر يعلوهن صوت غراب ينعق كالموت , ومنهن من تحتضن شاهد قبر ومنهن من تلقي بجسدها على ظهر مقبرة ومنهن من تتكور كجنين سلبته الحياة القدرة على الدفاع والمواجهة .. لكن أشدها تأثيرا كان مشهد هذه المرأة وقد بدأت الكاميرا الذكية بإظهار نصف سيقانها العارية تدريجيا بما تحمله من فتوة وإغراء وجمال أخاذ فتكاد تتوقع أن بقية الجسد ممد على فراش المتعة فإذا بك تفاجأ أنه مستند إلى القبر باكيا على من يفقده وكأنها رسالة رمزية بأن هذا الجمال الحزين بدلا من أن يهنأ بشريك عاشق ويُهنأ به .. مصيره إلى القبر كطعام للعدم والموت الذي لا يشبع أبدا .

أيضا مشهد تسير فيه الأم (سلوى خطاب) ترتدي طرحة العروس البيضاء بين أزقة القبور إثر موت أمها التي هي أيضا قد ارتدت طرحة عرسها كذكرى وداع تأنس بماضيها قبل أن تفارق الحياة .. وكأنها رسالة موجهة من الموت إلى الجميع : كلكن زوجاتي والدور لا يفوت إحداكن وإن طال أمد الانتظار .

أيضا مشهد الختام العبقري حيث يركض الابن الطفل في الطريق مغادرا البيت ومن ورائه الابن نفسه حين كبر يقتفي خطاه ويلهث في اللحاق به حتى يضيع منه وراء الضباب كأنما يفقد طفولته ويشيعها , يودع بكارة إحساسه بالوجود وتصالحه مع ذاته والعالم .. يفقد ملاكه الحارس الذي يرافقه أينما كان في طفولته .. ويعيش في مواجهة الحياة القاسية بلا حارس يحميه ويهون عليه مرارة الفقد وقسوة الحنين .. يغادر حضن أمه إلى بحر الحياة الغاشم بعذاباته وعذابه .

 

– الزمان والمكان :

باب الوداع فيلم يطمح منذ بدايته رؤية ومعالجة إلى التجديد والابتكار والخروج عن النمطية والمفاهيم الكلاسيكية وثوابت الفن , طموحا لخلق أدوات وقواعد فنية جديدة مبتكرة وإنتاج المعنى بشكل مغاير .. وقد انعكس ذلك على حضور الزمان والمكان في مشاهد الفيلم , أما الزمان فقد كان يمضي ببطء على مستوى الخارج وكأنه دفاع مستميت عن ضرورة ألا يمضي لأن معنى ذلك انقضاء الأجل , أما عن الداخل وروح الأشخاص بالفيلم فقد كان الزمان يتهاوى تباعا مسرع الخطى لاهثا كأنما يسابق نفسه ويهيم مسلوبا وراء نداء الموت والرحيل , ويدعم ذلك كاميرا التصوير الذكية انتقالا من مشهد لآخر من غير كلفة أو دون إحساس بالقفز من حالة لحالة مغايرة .. فكل مشهد مضفر بذكاء وحميمية مع ما يليه مما يضمن بقاء الحالة واتساق المعنى في وعي المشاهد وروح المتلقي .. يخدم ذلك موسيقى تصويرية مواكبة للفكرة والمعنى دون تطرف أو استثارة انفعالية وإنما بمناجاة تجسد حركة الوعي للشخوص وديالوج الباطن الروحي لهم كأنها تنطق بالمسكوت عنه بلغة تدركها مسامع القلوب , تشكل وعينا بالزمن الافتراضي .. فالزمن في باب الوداع ليس حقيقيا وإنما زمن افتراضي داخلي يعبث بحنين الشخصية للبقاء وفرارها من الموت .. إنه الزمن بسطوة حضوره المنعكس على جدران المنزل القديم للأم والجدة والابن وعلى شواهد القبور وواجهة الكنيسة التي بدت البطلة وهي تعبر أمامها كقزم صغير وضئيل .. إنه الزمن الذي يجسد صراع الإنسان مع المسافة وضآلته وعجزه عن مواجهة الفقد والرحيل.

أما عن المكان فلم يعد مجرد مسرح تظهر عليه الأحداث ويتنقل خلاله الشخوص, وإنما شريك أصيل وفاعل في توصيل المعنى وصناعة الدلالة , والمكان رغم أنه محدود للغاية في الفيلم إلا أنه يختزل الدنيا ويعبر عن مستويات تجلي الحياة الإنسانية للفرد , فلم تظهر أماكن كثيرة في الفيلم , هناك البيت .. غرفة المعيشة .. واجهة الكنيسة .. المقبرة .. الطريق من البيت للمقبرة .. هذا هو الوجود الإنساني .. المنزل والمعبد والقبر .. والطريق .. إنه طريق بمفهوم صوفي , أوله الإنسان وآخره الله , وبين هذا وذاك حياة ملأى بالحب والحنين والفقد والمواجع والسؤال الذي لا يجد إجابة.