الغزالي وابن رشد.. جدل الدين والفلسفة (2) – أيمن عامر

علم الله بالجزئيات.. أو العلم الإلهي عموماً

كان من أسباب تكفير الغزالي الفلاسفة قولهم – حسب زعمه – أن الله لا يعلم الجزئيات، أو أنه لا يعقل إلا ذاته، ويعلم الأشياء بشكل كلي دون الجزئيات والتفاصيل. يقول الغزالي إنهم (أي الفلاسفة) يزعمون أن «الله – تعالى عن قولهم – لا يعلم الجزئيات المنقسمة بانقسام الزمان إلى الكائن، وما كان، وما يكون»، وإنهم «قد اتفقوا على ذلك، فإن مَن ذهب منهم إلى أنه لا يعلم إلا نفسه، فلا يخفى هذا من مذهبه. ومَن ذهب إلى أنه يعلم غيره – وهو الذي اختاره ابن سينا – فقد زعم أنه يعلم الأشياء علماً كلياً، لا يدخل تحت الزمان، ولا يختلف بالماضي والمستقبل والآن».

أما ابن رشد فقال إن الفلاسفة لم يقولوا بذلك أصلاً، وإنما هم يقولون إن علم الله بالموجودات أو الأشياء غير مجانس لعلمنا نحن بها، فإن إدراكنا للأشياء والأحداث متعلق بوجودها أو حدوثها، معلول بها ولاحق عليها، وإن حدوث تغيُّر في المدرَك يستتبع تغيراً في إدراكه والعلم به. وهذا يخالف علم الله بالأشياء والأحداث، لأنه علم محيط كلي يتجاوز الزمان والمكان والحدوث، وهو سابق على الأشياء والأحداث، بل هو علة حدوثها. وإنما جاء هذا الوهم أو الخلط من تشبيه العلم الإلهي بالعلم الإنساني، والفارق بينهما عظيم بقدر الفارق بين المحدَث والقديم،، بلا فرق في ذلك بين الكليات والجزئيات.

يقول: «وهذا مستحيل عند الفلاسفة أن يكون علمه (الله) على قياس علمنا، لأن علمنا معلول للموجودات وعلمه علة لها. ولا يصح أن يكون العلم القديم على صورة العلم الحادث. ومَن اعتقد هذا فقد جعل الإله إنساناً أزلياً، والإنسان إلهاً كائناً فاسداً». ومن ثم «فلا معنى للاختلاف في هذه المسألة، أعني تكفيرهم أو لا تكفيرهم». «وكيف يتوهم على المشائين أنهم يقولون إنه سبحانه لا يعلم بالعلم القديم الجزئيات، وهم يرون أن الرؤية الصادقة تتضمن الإنذارات بالجزئيات الحادثة في الزمان المستقبل، وأن ذلك العلم المنذر يحصل للإنسان في النوم من قبَل العلم الأزلي، المدبر للكل والمستولي عليه. وليس يرون أنه لا يعلم الجزئيات فقط على هذا النحو الذي نعلمه نحن، بل ولا الكليات، فإن الكليات المعلومة عندنا معلولة أيضاً على طبيعة الموجود، والأمر في ذلك بالعكس».

وهذا التمييز بين السياقين أو الدائرتين، دائرة العلم الإلهي المطلق الكلي غير المتعلق بالحدوث من ناحية، وبين العلم الإنساني الجزئي، المرتبط بوجود الأشياء والمترتب عليها عبر المشاهدة والملاحظة والاستنتاج، من ناحية أخرى، هو تمييز مهم جداً، إذ يميز بين المطلق والنسبي، بين الإلهي والبشري، واضعاً كلاً منهما في سياقه، فاتحاً المجال (في حدود ما تسمح به ثقافة عصره) أمام الإنسان كي يلاحظ ويدرس ويفكر، بعيداً عن دواعي الحظر والتكفير والخلط بين ما هو إنساني وما هو إلهي. وهو تمييز له أهميته الكبيرة في تاريخ الثقافة الإنسانية عموماً.

القضاء والقدر وحرية الإرادة

مشكلة القضاء والقدر مشكلة عويصة في تاريخ الثقافات الدينية عموماً، ومشكلة الحرية من المشاكل العويصة كذلك في تاريخ الثقافة الإنسانية كلها، سواء نُظر إليها من منظور ديني، أو من منظور فلسفي. ولقد أقرَّ ابن رشد بذلك، فهو يرى أنه من الصعب جداً القول بأن الإنسان حر حرية مطلقة، أو أنه مجبور بإطلاق، وأن الأدلة النقلية لا ترجح أحد الرأيين، ففيها ما يفيد الحرية، وما يفيد الجبر، أو بتعبيره: «أما في الكتاب فإنه تُلفى فيه آيات كثيرة تدل بعمومها على أن كل شيء بقدَر، وأن الإنسان مجبور على أفعاله، وتُلفى فيه أيضاً آيات كثيرة تدل على أن للإنسان اكتساباً بفعله، وأنه ليس مجبوراً على أفعاله». أما من الوجهة الفلسفية فإن قوانين الطبيعة تحد من حرية الإنسان، وكثيراً ما تقف عقبة أمام حريته وفعل ما يشاء، غير أن الإنسان ليس مقيداً ولا مجبراً تماماً، فكثيراً ما تواتيه الظروف فيفعل ما يريد.

وفي هذه القضية رفض ابن رشد موقف الجبريين، الذين ينفون حرية الإنسان وإرادته تماماً أمام المشيئة الإلهية، على اعتبار أنه لا فاعل إلا الله، ورفض كذلك موقف القدريين القائلين بحرية الإنسان المطلقة، ورأى أن موقف الأشاعرة – والغزالي معدود منهم – وقولهم بنظرية الكسب (أي أن الفعل لله والكسب للإنسان) مجرد لغو لا يزيد على كلام الجبريين شيئاً «لأنه إذا كان الاكتساب والمكتسَب مخلوقان لله سبحانه، فالعبد – ولابد – مجبور على اكتسابه».

لقد تعرَّض ابن رشد لهذا الإشكال الكبير، وقدَّم فيه رأياً لم يحظَ باهتمام كافٍ في تاريخ الثقافة الإسلامية، التي سيطر عليها الفكر الأشعري إلى الآن، يمكن إجماله في أن الله خلق في الإنسان القدرة على إتيان أفعال متناقضة، ومنحه الحرية والإرادة للاختيار. وهذه الإرادة تواجه في الوجود أو العالم أو الواقع قوانين طبيعية ثابتة، فإذا توافرت الرغبة عند الإنسان، ووافقتها الظروف الخارجية في الواقع، وامتنعت العوائق، تحقق الفعل ونفذ القضاء.

أي أن تحقق الفعل رهين بسببيتين، سببية داخلية وفق قوانين النفس، وسببية خارجية وفق قوانين العالم أو الطبيعة، دون إهدار للقوانين، ودون سلب لإرادة الإنسان وحريته، بزعم أن الله هو الفاعل الوحيد في الوجود. وإن بقي ابن رشد – في حلِّه هذا – داخل إطار ثقافة عصره الإسلامية لا يتعداها. وإنما حسبه أن حاول التوفيق بين ما يراه الشرع وما يقول به العقل، دون سحق لإرادة الإنسان، أو نفي لحريته ومسئوليته عن أفعاله. ويكفيه في هذا السياق قوله: «وينبغي أن تعلم أن من جحد كون الأسباب مؤثرة بإذن الله في مسبباتها، أنه قد أبطل الحكمة، وأبطل العلم. وذلك أن العلم هو معرفة الأشياء بأسبابها، والحكمة هي المعرفة بالأسباب الغائية. والقول بإنكار الأسباب جملة، قول غريب جداً عن طباع الناس».

مسألة البعث والمعاد

أجهد الغزالي نفسه في إبطال آراء الفلاسفة التي رآها مخالفة للدين، بحسب ما يراه هو. ومن ذلك أنه أورد «مسألة في إبطال إنكارهم لبعث الأجساد، وردِّ الأرواح إلى الأبدان، ووجود النار الجسمانية، ووجود الجنة والحور العين، وسائر ما وُعد به الناس، وقولهم إن كل ذلك أمثلة ضُربت لعوام الخلق، لتفهيم ثواب وعقاب روحانيين، هما أعلى رتبة من الجسمانيين».

وبدأ ابن رشد رده عليه بقوله إن أحداً من الحكماء لم يقُل بإنكار البعث للأجساد. ومع ذلك فهو يرى أن باب التأويل مفتوح في هذه المسألة على مصراعيه، مقرراً أنه لا خلاف في إثبات البعث، وإنما الخلاف في صفة هذا البعث كيف هو.

ويرى ابن رشد في «تهافت التهافت» أن مقصد الشرائع العام هو حثُّ الناس على فضائل الأعمال، وكذلك مقصد الحكمة أو الفلسفة في النهاية، فهما تقصدان إلى غاية واحدة، هي تهذيب النفوس وتربية الضمير، بحيث يسلك الإنسان أقوم السبل في حياته. وليس أحث للناس على الفضائل من ترغيبهم بالنعيم بما يشبه ما يعرفونه من متع تتمتع بها النفوس والأجساد معاً في هذه الحياة الدنيا. ومن ذلك ما ورد من الكلام عن جنات تجري من تحتها الأنهار، وغير ذلك، غير أن ذلك قد يكون للترغيب والتصوير والتشبيه، وتقريب صور أخرى من النعيم غير محسوسة، هي أرقى من هذه التشبيهات الحسية، ففي الجنة «ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر»، واستشهد بقول ابن عباس أن «ليس في الآخرة من الدنيا إلا الأسماء».

وفي كتابه «مناهج الأدلة» أتى بكلام طويل ومفصَّل ومهم جداً، لا يسعنا تتبعه كله ها هنا، منه مثلاً أن «الحق في هذه المسألة أنَّ فرْضَ كل إنسان فيها هو ما أدى إليه نظره فيها، بعد أن لا يكون نظراً يُفضي إلى إبطال الأصل جملة، وهو إنكار الوجود جملة»، أي أن كل إنسان يفهم مسألة البعث هذه حسب ما يؤديه إليه نظره، دون إنكار للبعث في ذاته. أما كيفية البعث وصفته، فالمجال مفتوح فيها للتأويل والتأمل والتصور. ولقد اختلف الناس في تصور هذا البعث اختلافاً كبيراً، فمنهم من يراه لهذه الأجسام بأعيانها، وأنه نعيم أو عذاب حسي، كما في هذه الدنيا، بلا فرق سوى في طول الأمد، ومنهم من رأى أنه يكون للأجسام، لكنها أجسام غير هذه التي نعرفها، ومنهم من ذهب إلى أنه يكون للأنفس دون الأجساد، فهي الباقية.

ويظهر من كلام ابن رشد أنه يؤمن بخلود النفس وبالمسرات والآلام الروحية أو النفسية لا الحسية، وأنه يجد صعوبة في بعث هذه الأجساد بذاتها، إذ «يظهر أن مواد الأجسام ها هنا توجد متعاقبة ومنتقلة من جسم إلى جسم. وأعني أن المادة الواحدة بعينها توجد لأشخاص كثيرة في أوقات مختلفة. وأمثال هذه الأجسام ليس يمكن أن توجد كلها بالفعل، لأن مادتها هي واحدة. مثال ذلك أن إنساناً مات واستحال جسمه إلى التراب، واستحال ذلك التراب إلى نبات، فاغتذى إنسان آخر من ذلك النبات، فكان منه مَنيٌّ تولَّد منه إنسان آخر. وأما إذا فُرضت أجسام أُخر، فليس تلحق هذه الحال».

وليس صدفة أن يختم ابن رشد كلامه في كتاب «مناهج الأدلة»، وعقب كلامه عن البعث والمعاد مباشرة، بالكلام عن «ما يجوز من التأويل في الشريعة وما لا يجوز»، محاولاً رفع حرج التأثيم والتكفير عن التفكير والنظر والتفلسف، مبيناً – في الوقت نفسه – أصول هذا النظر وضوابطه، حسب ما يرى من أصول التأويل. وهذا ما سندير عليه كلامنا في المقال القادم، فمازال للحديث بقية.