الغزالي وابن رشد.. جدل الدين والفلسفة (1) / أيمن عامر

 

 

كان كل من الغزالي وابن رشد علماً على تيار أو مدرسة فكرية في تاريخ الثقافة العربية. كانت بينهما مشابهات، بحكم انتمائهما لثقافة واحدة، ودين واحد. وكان بينهما من الخلاف في النظر والتفكير ورؤية كل منهما للكون، أو العالم والوجود والحياة وعلاقة الإنسان بالعالم وبالله وبالآخرين، ما يجعلهما على طرفي نقيض.

كان أحدهما (الغزالي) صاحب مذهب، يدافع عنه، وينتصر له، ويجاهد في سبيله، ولو بهدم أفكار الآخرين وتكفيرهم، لأنه يراها مذاهب منافسة ومضادة لمذهبه، ودولة مناهضة للدولة التي ينتمي إليها. أما الآخر (ابن رشد) فكان صاحب رأي ومنهج لا مذهب، ينتصر له بالطبع، ولكن ليس لنصرة مذهب بعينه، وإنما انتصاراً لطريقة في النظر والتفكير، ولآراء يرى أنها الحق، لما قام عليها من أدلة العقل والبرهان.

هاجم الأول الفلسفة والفلاسفة، مستخدماً أسلحة المنطق الذي يرفض أصحابه ونتائجه، ومستخدماً الجدال والخطابية، والنصوص الدينية – بعد استغلالها أيديولوجياً – لهدم قواعد الفلسفة، مكفِّراً الفلاسفة في حربه المقدسة التي سار في ركابها كثيرون، حتى كتب بعضهم «مصارع الفلاسفة»، وكتب غيره «نقض المنطق»، بل جاء من كتب عن «ذم التأويل».

طريق المعرفة والحقيقة

تجوَّل الغزالي في مجالات وحقول معرفية عديدة، كالفقه والكلام والتصوف. وله في كل منها جهد كبير لا يُنكر. وبالنظر في إسهاماته هذه يمكن الوقوف على نظرته للمعرفة. كان الغزالي يرى أن المعرفة الحقة تُحصَّل عبر الحدس، أو النور الذي يُقذف به في قلب المؤمن، على حد قوله في «المنقذ من الضلال»، فالمعرفة موجودة في النص الديني، أو في كلام الله، أخذاً عن اللوح المحفوظ. وعبر الحدس والصفاء الروحي، تُرفع الحجب، ويزول تشوش الحواس، وأوهام الموجودات، ويصل الإنسان إلى المعرفة أو الحقيقة واليقين. أي إنه يُنزل يقينه على العالم، وهذا المنهج ستكون له نتائجه الخطيرة، التي سنتعرَّض لها فيما بعد.

أما ابن رشد فكان يرى أن الحدس طريق خاص بالمتصوفين، لا يمكن التدليل عليه بالبرهان، ولا يقف عنده طويلاً، لأنه «ليس شائعاً في الناس بما هم ناس». ولذلك فهو يفضِّل طريقة أخرى في النظر في الوجود والمعرفة، خلاصتها هي البدء بملاحظة الظواهر أو الموجودات، ودراستها عبر الرياضيات والمنطق أو البرهان، ثم مد النظر أو الاستدلال إلى أقصاه، وصولاً إلى بحث عالم ما بعد الطبيعة. وهذه الطريقة في التفكير ستكون لها نتائجها المهمة، المغايرة تماماً لطريقة الغزالي والمتكلمين.

الأول يبدأ من الأعلى، مما بعد الطبيعة أو اللوح المحفوظ أو من كلام الله، ومن ثم من سلطة إلهية لا يمكن مخالفتها، مما يضع المعرفة قبل العقل فيحجمه، ويضع المحاذير والعقبات أمامه، مخافة مخالفة المراد الإلهي، ومن ثم يُقرأ الواقع والوجود والعالم برؤية مسبقة مغلقة خائفة متوجسة وحذرة، رغم أنه لا يمكن قراءة شيء خارج حدود العقل.

والثاني يرى أن الله، الذي شرع الشريعة وأوحى النص، هو نفسه الذي أعطى الإنسان العقل، المستعد بالإمكانات والأدوات والمنطق، أو التفكير البرهاني، الذي لا يخالف الحقيقة الدينية في المبادئ الأساسية، لأن «الحق لا يضاد الحق»، وإذا لوحظ تضاد أو تناقض في ظاهر النص، وجب تأويله حتى يستقيم مع حكم العقل.

من هذا الفرق الأساسي ستتفرع فروقات أخرى، على درجة كبيرة من الأهمية. وبسبب هذا الفرق سيكفِّر الغزالي الفلاسفة، ويرفض أي معرفة غير ما يراه هو، وسيعلن ابن رشد أن الخلاف والتعدد هو الأصل، وأن النظر في أقاويل القدماء واجب، وأن مخالفة الآخرين لنا في الملة لا يقدح بالضرورة في سلامة منطقهم وأدواتهم، ولا في صحة معارفهم.

الله والعالم

كفَّر الغزالي الفلاسفة في ثلاث مسائل هي القول بقدم العالم، وإنكار علم الله بالجزئيات، والبعث والجزاء الأخروي. وفسَّقهم في مسائل أخرى كثيرة.

يرى الغزالي، ومعه سائر الأشاعرة والمتكلمين، أن قول الفلاسفة بأن العالم قديم كفر، لأنه قول يساوي بين وجود الله ووجود العالم، بين الخالق والمخلوق، أو بين الصانع والمصنوع. وهم يرون أن الله هو الموجود الأزلي القديم وحده بلا شريك من أحد ولا شيء، وأنه خلق العالم بإرادته وأظهره للوجود بمشيئته، غير أنهم وُوجهوا بسؤال: إذا كان الله قد أوجد العالم في لحظة معينة، فلماذا اختار هذه اللحظة بالذات، هل كان ذلك عن رغبة أم احتياج، فأجابوا بأن العالم محدَث في الوجود، قديم في الإرادة، أي أن الله أراد منذ القدم خلق العالم، وحدد منذ القدم كذلك، اللحظة التي سيخلق فيها العالم فيما بعد.

ويرى ابن رشد أن الفرق بين المتكلمين وغيرهم من الفلاسفة في هذه المسألة هو فرق في التسمية فقط، فهي مسألة عويصة يصعب القطع فيها برأي. ويخلص إلى أن العالم مخلوق معلول لله، ومن هذه الجهة فهو شبيه بالمحدث، وأنه في الوقت نفسه لم يسبقه زمان، ومن هذه الجهة فهو شبيه بالقديم، «وهو في الحقيقة ليس محدثاً حقيقياً ولا قديماً حقيقياً، فإن المحدَث الحقيقي فاسد ضرورة، والقديم الحقيقي ليس له علة». ومن ثم فمن طبيعة هذه المسائل أن تختلف الآراء فيها حتى تكون في الغاية من التباعد، دون مسوغ لأن يكفر بعضها بعضاً. ويرى أيضاً أن من مسوغات القول بقدم العالم أنه كان كامناً في المشيئة الإلهية منذ القدم، ومشيئة الله لا راد لها، ولا يطرأ عليها التغيير، وأن سبق الله العالم هو سبق رتبة لا سبق زمان.

لقد دفعت هذه الرؤية بعض المتكلمين إلى القول أن العالم بما فيه من موجودات – بحكم تعلقه بالتدخل الإلهي المباشر والدائم – من الجائز في العقل أن يكون على الصورة التي هو عليها، أو أن يكون على غيرها، بحيث تحرق النار أو لا تحرق، أو أن تتدلى الأشجار من السماء، أو يرتفع الحجر لأعلى بدلاً من السقوط لأسفل. ويرى ابن رشد – بحكم استدلاله على الموجد من بحث الموجودات – أن القول بتجويز الشيء وضده يعني أن «ليس ها هنا حكمة، ولا توجد ها هنا موافقة أصلاً بين الإنسان وبين أجزاء العالم»، وأن هذا عبث يتنزه الله عنه، لأن من تمام الحكمة الإلهية خلقُ العالم وفق قوانين ونواميس لا تتغير.

المعجزة ونفي السببية

لقد ظن الأشاعرة والمتكلمون – ومنهم الغزالي – أن إطلاق يد الله في العالم، يتصرف فيه كيف يشاء – ولو بخرق كل نواميسه وقوانينه – إثبات لقدرة الله المطلقة، وحلٌّ لمسألة المعجزة، وهربٌ من القول بأن في الطبيعة قوانين ثابتة، مما قد يُتوهم معه أن الطبيعة تتميز بفعل خاص مستقل عن الله، في حين أن الفاعل الوحيد في العالم، بكل تفاصيله، هو الله، بشكل دائم ومباشر.

هذه النظرة من قيَل الأشاعرة – وعلى رأسهم الغزالي – جعلتهم ينفون مبدأ العلية أو السببية، لأن الله هو الفاعل في كل تفصيلة مهما صغرت، وكل حدث مهما كان هامشياً في الوجود، فالطبيعة لا تفعل، والقوانين لا وجود لها، وما من سبب ولا نتيجة أكثر من حكم العادة والتكرار، وأن عقلنا هو الذي يظن الارتباط بين حدثين لمجرد اقترانهما زمنياً. وهكذا نفى الغزالي – مثلاً – فعل الإحراق بسبب النار، فقال إن النار لا تحرق، وإنما الله هو الفاعل، أو إن الأحراق لا يحدث بسبب النار، وإنما يحدث عند النار. هذا الإهدار العجيب لقوانين الطبيعة ذهب إليه الغزالي كي يحصر القدرة كلها لله، وليفسر وقوع المعجزات، التي هي بالأساس خرق لقوانين الكون الفيزيقية. ولو سألتهم، أي المتكلمين: فكيف إذن نفسر التكرار الذي لا يُخرق من حدوث الحرق مع النار، لقالوا: هي العادة فحسب!!

أما ابن رشد فلم يستطع قبول هذا الكلام، فهو يرى أن صنع الله للعالم مغاير لصنع الإنسان سائر ما يصنعه، وأن من تمام قدرة الله وعلوِّ شأنها أن قدَّر الأشياء بقدرها، وأن خلق العالم على هيئة محددة، وأجرى حركاته وفق قوانين محكمة لا تُخترق ولا تخالف عبثاً، وأن الله خلق كل موجود بقوانينه الخاصة، فالنار من طبيعتها الإحراق إذا صادفت موجوداً قابلاً للاحتراق، وبهذا يخرج الموجود من حيز الوجود بالقوة إلى حيز الوجود بالفعل. وعلى هذا تكون للوجود قوانينه التي تدل على حكمة تدبير الصانع، دون حاجة لنفي السببية وإشاعة العبث أو الفوضى في الوجود والعالم، حتى إنه قال إن «من رفع الأسباب فقد رفع العقل».

وللحديث بقية.