السيرة الذاتية بين النص الأدبي والوثيقة الاجتماعية/ د. أماني فؤاد

 

 

السيرة الذاتية بين النص الأدبي والوثيقة الاجتماعية

دراسة في سيسيولوجيا الأدب

“خارج المكان” (1) لإدوارد سعيد

أنموذجاً

مــدخــل:

 لا يقدم لنا المجتمع “ببساطة مسرحيات وأشعاراً أو روايات، لكنّه ينمي أدباً وأدباء، يستخلصون أعمالهم ومهاراتهم الفنية ونظرياتهم منه” ([1]). بهذه العبارة الموجزة اختزل (فيكو) العلاقة بين الفنون والآداب والظروف والعوامل الاجتماعية المحيطة بها.

وليس هناك من يغض الطرف على نحوٍ كلي عن طبيعة العلاقة الوثيقة القائمة بين الاثنين: (الفنون والآداب/ المجتمع) أو يقلل من أهميتها، بما في ذلك الدراسات التي لا تتجاوز حدود العمل الفني إلى مرجعياته الخارجية المرتبطة به. فلا ينكر أحد أنّ المجتمع يمكن له أن يمدنا بما يعيننا  في تفسير الظواهر الفنية على اختلاف أشكالها، وبالأخص عندما يكون هذا الفن (فناً قولياً) تمثل اللغة فيه أداة التعبير دون غيرها من وسائل التعبير المختلفة ([2]).

ولعل من أوضح الأمثلة التي يمكن ملاحظتها بهذا الشأن أنّ النشاط الاجتماعي في أي مجتمع يترك كثيراً من الانطباعات التي يمكن تمثلها في النشاط الفني كذلك. وإذا كانت المجتمعات في تطور دائم لا يستقر على وضعٍ معينٍ لفترة طويلة، فإنّ النّشاط الفني نفسه لا يتصور له أن يستقر على أحوال ثابتة إلا بقدر ما تستقر عليه الأوضاع الاجتماعية المختلفة. ولهذا السبب نجد الثورات وفترات الاضطراب والقلق والهزات السياسية والاقتصادية يصحبها غالباً اعتبارات جديدة في ميدان الفنون تضعها هي الأخرى على طريق تغيرات وتطوراتٍ مستمرة ([3]).

ولهذه الأسباب لا يبدو ربط الفن بالقيم الاجتماعية أمراً غريباً، بل هو أمر طبيعي، وربما جوهري في بعض الاتجاهات على نحوٍ مما نجده في الحركة الواقعية ([4]). والمبدأ الأساسي الذي ينطلق منه النقد الاجتماعي هو أنّ ” علائق الفن بالمجتمع ذات أهمية حيوية. وأنّ تقصي هذه العلائق قد ينظم استجابة المرء الجمالية إلى عملٍ من أعمال الفن ويعمقها. إنّ الفن لا يتخلق في فراغ، وإنّه ليس من عمل شخصٍ حقاً، بل من عمل خالقٍ محددٍ في الزمان والمكان، يستجيب لمجتمعٍ هو منه في القمة، لأنّه جزؤه الناطق” ([5]). وهذا هو ما يؤكده على وجه الخصوص (لوسيان غولدمان) من خلال منهجه النقدي المقترح (البنيوية التكوينية) الذي يمثل الأساس الذي ينطلق منه هذا البحث، إذ يرفض (غولدمان) التعامل مع النصوص الفنية بوصفها بنية لغوية مغلقة – كما هو الحال مع الشكلانيين-  من دون أي اعتبار للعوامل الاجتماعية الخارجية التي ترتبط بعلاقة تفاعلية معها. ويرى أنّ لعلم الاجتماع القدرة على إثبات أنّ حياة الأفراد العاطفية والثقافية لها دلالة موضوعية ذات طابعٍ تاريخي واجتماعي([6]).

إنّ نظرة متأملة إلى الإلياذة أو الأوديسة –على سبيل المثال- أو غيرها من الأعمال التراجيدية التي كتبت في الزمن الغابر في ضوء علائقها المجتمعية وفي إطار الزمان والمكان المحدد المرتبط بها، هو وحده الذي يمكن أن يبين لنا لماذا كانت هذه الملاحم بطولية ومقبولة ومرضية وجذابة في نظر من كتبت لهم، في الوقت الذي قد نعدها نحن فيه ساذجة أو طفولية. فعلى ما يبدو أنّ انفعالات الإنسان وخيالاته المرتبطة بحقيقة وجوده ومصيره المجهول لم يكن ينظر لها بالطريقة نفسها التي هي عليها في وقتنا الحاضر. ولا نستطيع أن نحكم نحن اليوم على عمل من أعمال الفن بعد أن تتسرب منه الحياة كلياً، لكن بإمكاننا أن نتصوره نصف تصورٍ فيما لو استطعنا أن نقيس المسافة التي ابتعدنا بها عنه ([7]).

    وليست العوامل الاجتماعية مقتصرة الأثر على الفنون والأدب فقط ، فربما تجاوزت آثار هذه العوامل ساحة الفنون والأدب لتلقي بظلالها على جوهر العملية النقدية نفسها، على نحوٍ قد ينعكس سلباً أو إيجاباً على تطور الفنون والآداب والدراسات النقدية المرتبطة بها. فمما أخذ على النقد الاجتماعي أحياناً أنّ الأحكام النقدية التي أطلقها بعض النقاد كانت تحاول فرض قيمهم ورؤيتهم الخاصة على العمل الفني والأدبي، وكأنّ الناقد يطالب الأديب بالانخراط في مذهبه والانطلاق من أفكاره على نحو يعكس رؤية ض يقة التصور لا تقلقها طبيعة العلاقة المعقدة التي تربط بين الفن والمجتمع. فقد تنبه (جيمز فاريل) – على سبيل المثال- في دراسته (ملاحظة على النقد الأدبي 1936) إلى الضرر الفادح الذي ألحقه زملاؤه  النقاد (الماركسيون) المحسوبون على أيدولوجية اشتراكية بالنقد من خلال الاعتماد بأحكامهم النقدية على تصوراتهم الخاصة، وتقليلهم الجاهل من شأن مسألة العلاقة الشائكة التي تربط المجتمع بالفن والأدب ([8]).

    فالنقد ليس مجرد وسيلة للتربية كما قد يتصوره بعض المعنيين بهذا الشأن، بل هو فعل، وهدم وخلق، هو باختصار اضطلاع بالمسؤولية الاجتماعية. وسلامة النقد الاجتماعي العلمي لا تُقوَّم إلا من حيث تأثيره على الإنسان في ممارسته الاجتماعية، أي تأثيره على قدرة الإنسان على تغيير المجتمع، وتغيير مستوياته الإنسانية والثقافية من خلال قراراته ومساعيه الخلاقة، وبهذه الطريقة يمكن أن يكفل التقدم المستمر للمجتمع بتهيئة الظروف التي يمكن للشخصية الإنسانية أن تنمو في ظلها ([9]). وفي هذا ما يفسر بعض أسباب التداخل العلمي والمعرفي بين دراسات علم الاجتماع من جهة، والدراسات المعنية بالفنون والآداب من جهة أخرى، وهو ما كان بعض من ثماره نشأة بعض العلوم البينية مثل (علم اجتماع الأدب) و (علم اللغة الاجتماعي) اللذين يمثلان اليوم حقلاً من الحقول المشتركة التي تلتقي عندها علوم واختصاصات مختلفة.

 إلا أنّ استثمار هذا التفاعل والتبادل بين حقول المعرفة والعلوم الإنسانية لن يتوقف في هذا البحث عند حدود العلاقة المشتركة بين النقد والفن وعلم الاجتماع، وإنّما يتضمن أيضاً دراسة بينية من نوعٍ آخر تتجادل فيها السيرة الذاتية في نص ” خارج المكان” لإدوارد سعيد مع علم سيسيولوجيا الأدب والنقد؛ لدراسة تجربة بشرية لها خصوصيتها وثراؤها وتراكبها، لمفكر وناقد عمل على إعادة بناء وعي نقدي تاريخي للذات العربية والآخر الغربي، وعي يعتمد على العقل والمعرفة بعيداً عن الخطابات الحماسية الجامحة أو الاستعمارية الشوفينية، ويسعى لإطلاق الطاقات الإبداعية للفرد لتغيير أنماط التفكير والعمل والسلوك، ولكشف إدعاءات العقل المركزي الغربي، وتعرية سلبية العرب فكراً وسلوكاً وعلماً وعصبيتهم في مواجهة سيطرة الغرب وشيوع ما يصوره ويصدّره عن الشرق.

  و اعتمادا على مفاهيم علم سيسيولوجيا الأدب ونظرياته ومناهجه وخاصة “البنيوية التكوينية” لرائدها “لوسيان جولدمان” أتناول نص “خارج المكان” بوصفه تماثلا أدبيا وفنيا تتفاعل فيه البنية الاجتماعية والاقتصادية والتاريخية وتتناظر مع البنية الجمالية بطريقة غير مباشرة ولا شعورية ، التناظر القائم في كل عمل إبداعي بين واقعه وموضوعه، بين بنية شكلية ظاهرة، وبنية موضوعية عميقة، بين اللحظة التاريخية والاجتماعية واللحظة الإبداعية، بين سياقية الجدل السردي والتوثيقي وسياقية الجدل الاجتماعي” ([10]). ويجسد النص مراحل المعاناة النفسية لبحث السارد عن طاقاته الحقيقية وسط عدد من البيئات المختلفة حيث كان لكل منها نوع سلطاتها وطبيعته ، حين مثلت أنواعا من القيود العائلية أو المجتمعية الثقافية العامة.

 إدوارد سعيد في (خارج المكان):

  تتجسد في شخصية إدوارد سعيد الإشكالية مجموعة من الانزياحات ما بين الماهية والصيرورة، بين أصوله وما أصبح عليه، فبداخل الفلسطيني الأمريكي”إدوارد سعيد” تتعايش وتتجاور مجموعة من الازدواجات والتناقضات التي تتجلى بسيرته و تصل حد التضاد كثيرا ، حيث الصراع الدائم بين أصول وثقافات وحضارات مختلفة ، تتعارك في ذات إنسانية تتأمل العالم من حولها وتخضع قضاياه للتحليل. الذات التي تنشد موقعا حرا لها بالوجود يتسق مع قناعتها وأفكارها حول كل حضارة وكل سلطة، موقع يستطيع فيه أن يصحح كثيراً  من الصور المزيفة التي تراكمت حول الشرق وثقافته ورسخت لها الحضارة الغربية، كما يدرك النقاط المضيئة في الحضارة الغربية حين تشجع طاقات الفرد الخاصة، وتطلق إمكاناته الفكرية والإبداعية، صاحب السيرة الذي تتطلع ذاته أن تعلو على المكان “أي مكان” لكثرة ما عانت الشتات والغربة في كل مكان تواجدت به رغم تميزها في الإنجاز العلمي و الإنساني ، ورغم خدمة قضيتها ومساندة وطنها المسلوبة أرضه وحقوق شعبه؛ رغبة في ترسيخ نظرة إنسانية عادلة ومنصفة تصنع توازنا وتصحيحا لنظرة السيادة والاستعلاء التي تمارسها الثقافة الغربية نحو ماعاداها من ثقافات.

وموظفاً للتماثل الأدبي والجمالي مع الواقع يقص الكاتب شرائح جوهرية ودالة من سيرته فردا، حالة تماسها مع مأساة مجموعة بشرية كبيرة مشتتة هم مواطنو دولة فلسطين الذين تم تهجيرهم لكثير من بلدان العالم، مجموعة اجتثت جذورها عنوة من أرضها وعالمها فعاشت تقاوم الفناء بتنشيط ذاكرة مبدعيها ومفكريها وأقلامهم، تحكي وتعاود قص التاريخ العام، وتاريخ أفراد مواطني الدولة التي سطا عليها اليهود والقوى الإمبريالية؛ لعلها تقاوم هذا التهميش والتجاهل ومن ثم النسيان فالموت، ومن هنا تأتي المذكرات أو السيرة الذاتية لتعبر عن صوت جماعة بشرية كاملة، (أمة بأكملها) وليس عن آمال أو طموح طبقة واحدة من طبقات المجتمع الفلسطيني ينتمي لها سعيد، وهي الطبقة التي مثلها من خلال أسرته أثناء عيشهم بالقاهرة بوصفه لها: ” بأنها أسرة تصر على افتعال تصوير نفسها جماعة أوربية صغيرة، على الرغم من بيئتها المصرية والعربية.. وهي نوعية اصطناعية لماهيتنا” ([11]).

ولا شك في أنّ الرؤية التي يصدر عنها إدوارد سعيد هنا هي رؤية خاصة لا تمثل بنية فكرية لجماعة ما أو تشكل (رؤيتهم للعالم) على نحو مما يركز عليه (جولدمان) في بنيويته التكوينية، إذ تحمل (رؤية العالم) عنده صفة اجتماعية تجعل منها بنية فكرية منسجمة، وهذه الرؤية لا يمكن أن تكون من إبداع الفرد وإنّما الجماعة ([12])، أما الفرد فيمكنه فقط أن يرتفع بها إلى درجة عالية من الانسجام بتحويلها إلى مستوى الإبداع الخيالي أو إلى المستوى النظري. وكان قصده من ذلك إعادة النظر في التصور الذي ساد طويلاً بين مضمون العمل الأدبي والانتماء الجماعي للمبدع ([13]).

وفي (خارج المكان) تتضح الخصيصة الفلسفية النقدية التي اتسم بها إدوارد سعيد والتي تميزه عن جماعته أو طبقته التي ينتمي إليها. حيث اختلاف العقلية العلمية، والشخصية المستقلة التي جعلت منه حالة فردية فكرياً وإبداعياً، فإذا جمعته مع فكر جماعته قضية الحقوق الإنسانية وكيفية تفسير بعض الأحداث والقضايا، خرج عنها واختلف معها في توجهاتٍ فكرية أخرى.

   وليس في هذا التميز الفكري والنقدي ما يتناقض مع مبادئ (غولدمان) التي تدور في إطار الجماعي والمشترك من المواقف والقضايا والتطلعات، إذ لم يستهن (غولدمان) نفسه بالعبقرية الفردية ولم يغض من شأنها، ولم ينكر الجهد الفردي الذي يميز كثيراً من الأعمال الفنية والإبداعية، ولم يكن غافلاً عن خصوصيات النشأة والظروف الاجتماعية التي تحمل معها فرصاً غير متساوية في ما يخص الثقافة والتعليم وتنعكس بدورها على الاستعداد الفكري والوجداني. فهو لا يأخذ مفهوم (رؤية العالم) بمعناه التقليدي المرتبط بنوايا المؤلف، والعبرة عنده بالدلالة الموضوعية التي تتشكل من خلال بنية النص سواء اتفقت مع رغبة المؤلف أم كانت ضد رغبته. فإذا كان (ديكارت) مؤمناً فإن العقلانية الديكارتية ملحدة، و(بلزاك) صرح بأنه من أنصار النظام الملكي، غير أن فيكتور هيجو قد فطن إلى أن مؤلف هذه الأعمال الكثيرة من طينة الكتاب الثوريين شاء ذلك أم أبى ([14]).

   السيرة الذاتية إذا نوع أدبي اختاره إدوارد سعيد ليقاوم اندثار الذاكرة الجمعية وتلاشي الأحداث مع مرور الزمن، يكشف كثيراً من الادعاءات والصور المزيفة التي تضفيها كل سلطة على نفسها، فيتخير إدوارد سعيد عندما شعر بمرضه الأخير أن تتزامن جلسات العلاج الكيماوي مع جلسات الكتابة لإعادة  قص تاريخ انتهاك وطنه، وتفنيد الصور التي كرستها القوى الاستعمارية عن “الأرض التي بلا شعب”، لعل الضمير الإنساني العالمي يستيقظ فيما يخص مأساة شعب بأكمله. كما يكتب ليدرك العرب نقاط الضعف في تكوينهم المجتمعي والمعرفي، ليعرفوا أيضا كيف أن النسق الثقافي الذي توارثوه منذ ما يقرب من قرن ونصف نسق عاطفي غير موضوعي، تحالفت فيه القوى الحاكمة مع أطماع الآلة الإعلامية متمثلة في الشعر أو خطابات أخرى لتكرّس لتثبيت قدر الادعاءات والزيف في طبيعة الثقافة الحاكمة للسلوك العام السياسي والديني والاجتماعي في المجتمعات العربية، ومن ثم سلسلة متوالية من الإخفاقات والحروب والهزائم.

و لنص “خارج المكان” مجموعة من المحاور التي تميزه: الداخلية التي مرت بمراحل تخص صاحب السيرة وثقافته المتنوعة، تحليله لمكوناته المعرفية على اختلافها وتمايزاتها، وقدرته على تأمل عوالمه الخارجية وعلاقاته بالمحيطين به، ووعيه بمكنوناته النفسية العميقة التي استشعرها في صباه ومراهقته بنوع من (الوعي القائم) أو الواقع.

 

 ومع مرور السنوات وتراكم الخبرات تحول هذا الوعي إلى (وعي ممكن) ينشد فيه كثيراً من التطلعات والأحلام لشخصه وجماعته التي عاش مهموما بقضيتها ([15])، فتوسعت رؤاه لتشمل قضية الاستشراق وأطماع الغرب الاستعمارية في المنطقة العربية ودحضها في حضارتها، وربطه بين المستشرقين ونوازع الهيمنة على الشرق، وكون أغلبهم أدوات استعمارية لسلطات إمبريالية ، كل مقولاتهم عن الشرق موظفة لأطماع سلطوية مشحونة بروح التعالي على العربي، والنظر إليه نظرة دونية تمكًن الغرب من الوصاية عليه وحكمه والاستيلاء على أرضه وخيراته، تحت إدعاءات مغالية لا تتمتع بالنزاهة عن طبيعة الشخصية العربية وطبيعة الإسلام استنادا على رد الظواهر إلى مبدأ واحد كمتعصبي الأديان، وإطلاق أحكام شاملة لا تتمتع بالموضوعية، وتكريس صور تحط من شأن كل ما هو شرقي، وارتباط كل هذه الدراسات عن الشرق بالأطماع السياسية رغبة في السيطرة على الشرق أرضه وخيراته، ولذا انشغل إدوارد سعيد في كتاب (الاستشراق) بتفنيد كل هذه الادعاءات والرد عليها.

   وتمثلت مجموعة المحاور الخارجية في السرد حول اللحظات التاريخية المتوترة منذ حرب فلسطين 1948م وتداعياتها المتتابعة حتى كتابة سيرة “خارج المكان” وعمره يقترب من الستين، وطبيعة علاقته المركبة بالمجتمعات المتباينة التي عاش بها: في فلسطين والقاهرة ولبنان وأمريكا وأوروبا.

كما يتميز النص فنيا ببنية لغوية مبدعة تحمل رؤاه الخاصة للعالم من حوله، وتعبر عن البنى الدالة التي تمحورت حولها سيرته رغم أنه مترجم من الإنجليزية، وبالرغم من إجادة الكاتب للغة العربية وهذا وجه من إحدى الازدواجات المتعددة لدى الكاتب.

   ما تجمّع لهذه السيرة من أفكار وتقنيات فنية يجعلها نصاً أدبياً فارقاً في السير الذاتية لغناها بما توافر لها من أحداث وقضايا واختلاف مجتمعات وحضارات، ولعلاقات كاتبها بالآخر المغاير على مستويات متعددة عربية وغربية، وللانقسام والازدواج والشك الذي عُد سمة أساسية في حياة إدوارد سعيد في تناوله لطبيعة الثقافة العربية والغربية، ومن ثم تحمل هذه المذكرات خصوصيتها في الدراسات البينية التي تقع في منطقة برزخية بين حقول كتابية متداخلة وذات قيمة فكرية عالية، فهي تمثل الأدب حالة تفاعله مع التكوين النفسي الفردي وفرادته، وتفاعله مع المجتمعات والأحداث التاريخية حالة تعبيره عن الازدواج الثقافي وتجاوره في الإنسان رغم صراعاته، ولما فيها من قدرة على البوح بمكنونات الذات ووعيها بالعالم من حولها.

   ولخصوصية الأصول الفلسطينية لصاحب السيرة وعائلته ثم انتقالهم للحياة بمصر، ثم رصده الإنساني للشتات الذي أصاب أصحاب هذا الوطن بعد استلابه والاستيلاء عليه طبيعة خاصة نستطيع أن نميز فيها عدم اقتناع إدوارد سعيد بالسياسات والإجراءات التي عولجت بها هذه القضية التي مست العرب جميعهم، وخاصة طريقة تناول السلطة السياسية في مصر وفلسطين ولبنان للأمر، ونلمس فيها نقده الواضح واختلافه مع السياسات التي صاحبت ثورة يوليو 1952 م ومن قبلها وخاصة في الفترة الأخيرة الملكية وفساد الحاشية التي كانت حول الملك فاروق، والتحولات السياسية والاجتماعية التي حدثت بالمجتمع والدولة المصرية ومن ثم أضرت بالثقافة العامة وقضت على المجتمع الكوزموبلوتاني المنفتح ([16]). كما أصابت تطور المجتمع  المصري بالشلل والردة ومن ثم المجتمع العربي، حيث يتجلى موقفه في نقده واستيائه من الشعارات السياسية الجانحة التي سادت لدى السلطة المصرية متمثلة في خطابات جمال عبد الناصر ومواقفه المتشنجة ([17])، ونقده أيضا للمنظمات الفلسطينية ومواقفه معهم، ولقد حرص سعيد على عدم صبغ السرد بأية إيديولوجية صارخة أو انفعالية، بل عرض للحالات الفردية الإنسانية، ووقع هذه المتغيرات السياسية على النماذج الإنسانية في السيرة ” (عمته) على سبيل المثال، (خليل بيدس) مدرس اللغة العربية الفلسطيني، جورج ويوسف أولاد عمته، فريد ابن وديع حداد وسجنه بتهمة الشيوعية ثم وفاته لدى الأمن المصري([18])، هذا بالإضافة إلى التكوين النفسي الخاص لأبيه وأمه وانعكاسات الحروب والثورات على حياة العائلة والمهاجرين الفلسطينيين والمجتمع المصري بصفة عامة ([19]).

ورغم كون الكاتب أحد رموز القضية الفلسطينية بعد حرب 1967 م إلا أنه يصرح برأيه في القومية وتوجسه منها قائلا:” يمكن للقومية أن تتكشف بسهولة عن شوفينية ” ([20]) و يقصد حين تتحول إلى أيديولوجيا صلبة أحادية لا تقبل النقد أو المراجعة، وكثيراً ما أشار إلى ظواهر التطهير العرقي استناداً على الهوية والعقيدة والأيديولوجية، والتحفظ على كل ما يتعلق بتصفية الآخر استنادا على قوميته واختلافه وهو بصدد حكيه عن شخصية “شارل مالك” الذي شغل منصب السفير اللبناني في أمريكا فترة دراسة إدوارد هناك ([21]).

   وتعد السيرة أو كتابة المذكرات في نص “خارج المكان” بحث عن خصوصية تكوين الكاتب ذي الأصول الفلسطينية رغم مجموعة الانزلاقات والانزياحات التي مرت بحياته ووصوله لهذا الكيان اللامنتمي([22]) الذي تعايش معه في النهاية رغم قلقه ولهاثه الذي لا نهاية له، تأكيد وجود وقدرة على تفنيد المغالطات ومقاومة السلطة بكشف ادعاءاتها، قبض على الزائل في الزمان من أحداث واستحضاره لحظة الكتابة، محاولة مستمرة لبناء ذاته والوصول لحالة من تصالح ذاته الجوّانية كما يطلق عليها وذاته الخارجية رغم الطباق بينهما والاختلافات ([23])، وحيث الكتابة أيضا أحد الأجوبة عن المرض والابتعاد فيها عن الحياة المهنية والسياسية ([24]) وهي أيضا تذكير دائم بما حدث لمواطني دولة كاملة من شتات وتهجير، واستحضار وتمثل لجماعة ممنوعة من أرضها ودولتها ووطنها في صورة الكاتب وحياته، جدل بين ذاته والعالم من حوله متمثلا في بيئات مختلفة، حيث تنفتح الرؤية السردية للعالم على آفاق شاسعة تنشد إنساناً مطلقا فوق المكان وخارج كل الأيديولوجيات سواء الخطابية الجهورية رثة الأثر وعدميته على مستوى الواقع، أو الاستعمارية المزهوة باستعلائها وتفوق قواها، حيث تطلق مقولاتها التي ادّعت تفردها بها ولا تمارسها؛ مثل مناداتها بقيم الحرية وحقوق الإنسان والمساواة وهي أول من يميز بين البشر، أول من يشعر بالسيادة على كل من ليس من الغرب. ولذا يصف الكاتب هويته نتيجة تلك الأصول وما توالى عليها من تغيرات وثقافات بقوله: “إنها تتكون من تيارات وحركات لا من عناصر ثابتة وجامدة” ([25]).

البنية الدالة في السيرة الذاتية خارج المكان:

  للرواية أو السيرة في إطار التصور البنيوي التكويني بنية دالة، تقابلها بنية فكرية خارجية هي بنية إحدى رؤى العالم لدى جماعة بشرية معينة. وهذا العالم هو نفسه البنية السطحية حيث يجب تفكيكه بهدف الوصول إلى النظام الفكري الذي يحكمه، وهذا النظام هو البنية الدالة. وقد أشار غولدمان إلى الكيفية التي يضطلع بها لاكتشاف البنية الدالة. وهي تتمثل بالبنية التي تكاد تشمل النص كله ويتوصل إليها عبر قراءة جزيئات النص في ضوء مجموع النص ذاته مع التركيز على ماله وظيفة أساسية في العالم. وقد ترك غولدمان مجال البحث عن البنية الدالة في العمل الروائي رهيناً بقدرات الناقد الحسية ([26]).

و مفهوم (البنية الدالة) يعد ركيزة أساسية في البنيوية التكوينية وهو تصور فلسفي يهيمن على مجموع العمل الأدبي ويظهر من خلال التواتر الدلالي، وتكرار بنيات ملحة على نسيج النص، وهي التي تشكل لحمته ومنظوره ونسقه الفلسفي، ويحدد جولدمان الدور المزدوج للبنية الدالة باعتباره مفهوما إجرائيا بالأساس فهو:” من جهة الأداة الأساسية التي تمكننا من فهم طبيعة الأعمال الإبداعية ودلالاتها، ومن جهة أخرى، هو المعيار الذي يسمح لنا بأن نحكم على قيمتها الفلسفية والأدبية أو الجمالية، فالعمل الإبداعي يكون ذا صلاحية فلسفية أو أدبية أو جمالية بمقدار ما يعبر عن رؤية منسجمة عن العالم إما على مستوى المفاهيم، وإما على مستوى الصور الكلامية أو الحسية. وإننا لنتمكن من فهم تلك الأعمال وتفسيرها تفسيراً موضوعياً بمقدار ما نستطيع أن نبرز الرؤية التي تعبر عنها” ([27]).

   وفي (خارج المكان) هيمن الازدواج وتعايش الاختلافات على السيرة وهو نتيجة حتمية للشتات والاجتثاث من الأوطان، ثم أصبح مع نضج الكاتب الفكري حالة وجودية يقول:”أرى نفسي كتلة من التيارات المتدفقة، أوثر هذه الفكرة عن نفسي على فكرة الذات الصلدة، وهي الهوية التي يعلق عليها الكثيرون أهمية كبيرة . تتدفق تلك التيارات .. وهي عندما تكون في أفضل حالاتها لا تستدعي التصالح ولا التناغم. إنها من قبيل النشاز، وقد تكون في غير مكانها، ولكنها على الأقل في حراك دائم مع الزمان وفي المكان وبما هي أنواع مختلفة من المركبات الغريبة لا تتحرك بالضرورة إلى أمام، وإنما قد يتحرك أحيانا واحدها ضد الآخر، على نحو طباقي ولكن من غير محور مركزي، إنه ضرب من ضروب الحرية على ما يحلو لي أن أعتقد، على الرغم من أني بعيد كل البعد عن أن أكون مقتنعا بذلك ونزعة التشكيك هذه أحد الثوابت التي أتشبث بها بنوع خاص، والواقع أني تعلمت، وحياتي مليئة إلى هذا الحد بتنافر الأصوات أن أوثر ألا أكون سوياً تماماً وأن أظل في غير مكاني” ([28]). فكما يتضح من النص هناك وعي من الكاتب بهذا التعدد والتضاد الذي يحكم رؤيته للعالم ، كما أن هناك تعايشا قد صار بداخله نوعاً من التسليم والراحة لهذا التعدد أو الرضى به ومن ثم أثًر هذا على بنية السيرة.

  ويظل ازدواج اللغة خصيصة أخرى لكاتب “خارج المكان” حيث شكّل لدى صاحب السيرة طريقة لتلقي العالم والوعي به ومن ثم الازدواج النسبي في الانتماء، وهو ازدواج مرهق ظل يعاني منه طويلا حيث اللغة بيت الثقافة والهوية وطريقة تلقي الحياة، أدرك سعيد مأزقه وخاصة عندما شرع في كتابة “خارج المكان” كان عليه أن يقص عن تاريخه ومراحل حياته فوجد نفسه يعود بالذاكرة لأيام حياته بالقاهرة ليقص يومياته وحياته بلغة ثم يكتبها بلغة أخرى، حيث الأخيرة هي ما أصبحت تسعفه في التعبير عن ذاته. يقول في مقدمة السيرة: ” الفارق بين الإنجليزية والعربية يتخذ شكل توتر حاد غير محسوم بين عالمين مختلفين كليا، بل متعاديين: العالم الذي تنتمي إليه عائلتي وتاريخي وبيئتي وذاتي الأولية الحميمة ــ وهي كلها عربية ــ من جهة، وعالم تربيتي الكولونيالية وأذواقي وحساسياتي المكتسبة ومجمل حياتي المهنية معلما وكاتبا من جهة أخرى. لم يعفني هذا النزاع منه يوماً واحداً، ولم أحظ بلحظة راحة واحدة من ضغط واحدة من هاتين اللغتين على الأخرى، ولا نعمت مرة بشعور من التناغم بين ماهيتي على صعيد أول وصيرورتي على صعيد آخر، وهكذا فالكتابة عندي فعل استذكار، وهي إلى ذلك فعل نسيان أو هي عملية استبدال اللغة القديمة باللغة الجديدة” ([29]).

هذا الازدواج الذي ظل مقيماً بداخله بتجلياته المختلفة جعله فوق هوة متحركة وحائرة على الدوام وهو ما عبر عنه بطرائقه الجمالية الأدبية وبنياته الدالة في سيرته. فتتبدى مظاهر وتجليات هذه الانزلاقات والانقسامات في التقنيات الفنية والسردية للنص منذ اقتراحه لعنوان هذه السيرة، حيث يصرح في مؤلفة السلطة والسياسة والثقافة أنه كان عازما على عنونتها بـ ” لست كما يجب ” ([30]) ثم انتهى لعنونتها “بخارج المكان”، حيث يطغى على السرد الشعور الحاد بالقلق في أي مكان وجد به حتى في وسط عائلته منذ صباه، كما أن هناك خطأ في تركيبه الجسدي المختلف عن عائلته يقول:” وقع خطأ في الطريقة التي تم  بها اختراعي وتركيبي في عالم والدي وشقيقاتي الأربع، فخلال القسط الأوفر من حياتي المبكرة لم أستطع أن أتبين ما إذا كان ذلك ناجماً عن خطئي المستمر في تمثيل دوري، أو عن عطب كبير في كياني ذاته، وقد تصرفت أحياناً تجاه الأمر بمعاندة وفخر، وأحياناً وجدت نفسي كائناً يكاد أن يكون عديم الشخصية، وخجولاً ومتردداً وفاقداً للإرادة. غير أن الغالب كان شعوري الدائم أني في غير مكاني. هكذا كان يلزمني قرابة خمسين سنة لكي أعتاد على “إدوارد” .. ” ([31]) ، فقد بدا “اللامكان” أو حالة الترحال والمغادرات الدائمة التي كان يشعر بها في كل مكان وجد به كعنصر مهيمن في النص وهي بنية تضاد قلقة عبر عنها فنياً حين يقول :” عندما أسافر أصطحب معي دائما كمية لا حاجة لي بها من الأمتعة، .. حقيبة يدوية محشوة بأغراض أكبر حجما وأكثر عدداً مما يتطلبه زمن الرحلة الفعلي، وفي تحليلي لذلك، استنتجت أني مدفوع بخوف سري لا فكاك منه ، هو خوفي من عدم العودة، وقد اكتشفت منذ ذلك الحين أنني على الرغم من ذلك الخوف أخترع المناسبات اختراعاً لكي أغادر، فأستثير ذلك الخوف استثارة بملء إرادتي” ([32]) ، تتداخل تلك التناقضات جميعها لتشكل النموذج الإنساني الذي يعاني تشتته وازدواج هويته وثقافاته. وتظهر وطأة الغربة منذ طفولته متمثلة في الهوية غير المصرية المركبة رغم حياته بالقاهرة، والحذر الدائم في كل محيط وتجمع تواجد به.

 يصف د. صلاح فضل الحياة الاجتماعية المنغلقة لإدوارد سعيد كما وردت بالسيرة ويصف إمكاناته الإبداعية والفكرية فيقول عنها “فقر التجربة وثراء المخيلة” ([33]) مشيرا إلى حياة إدوارد سعيد في القاهرة وابتعاده عن منتج الثقافة العربية والمصرية في تلك الفترة التي عاش بها في القاهرة. وربما كان هذا التباعد عن منتج النهضة المصرية الحديثة فنا وفكراً سبباً في تفاقم هذا الازدواج في عقود عمره التالية، لأنه لم يتحصل في مخزونه الثقافي باللغة العربية ما يشبع فضوله الفكري والفني، وظلت لعقود الثقافة الغربية وآدابها هي مصدره الوحيد للمعرفة والفنون.

   ربما تبدّى المأزق في هذه السيرة أنها هي نفسها متحركة ومتغيرة ومتبدلة؛ لاعتمادها على ازدواجات ثقافية تعلو إحداها في ذات الكاتب لفترة ثم تتغلب الأخرى وتستيقظ مرة أخرى أو يكون هناك صراع وشك دائم في ذاته بما يخصهما كحضارتين وثقافتين ولغتين وحالة من إخضاعهما لحالة من النقد والتحليل الدائم كما يتضح في كل مؤلفاته وحواراته.

    بعد قراءة نص “خارج المكان” ومعايشة خصائصه البنائية لفهم وتفسير رؤية المؤلف في رحلته بالحياة و استدعاء جذورها وتتابع مراحلها وتغيراتها، ثم نقده لذاته، ومجتمعه العربي، والإمبريالية العالمية، وتمرده على كل أشكال السلطات، تبين التناظر بين هذه البنية والعمل الأدبي الذي تضمن رؤية للعالم تبنتها هذه المجموعة، وعبر عنها الكاتب بصفته أحد كبار مبدعيها ومفكريها، لكنه أيضا عاش ودرس وشرب الثقافة الغربية فامتلك العقل النقدي الذي مكنه أن يلمس ويعي الصدوعات في كلتا الحضارتين، ويختلف فكريا عن جماعته بنسب مسببة.

عانى سعيد من هوية عربية أمريكية إشكالية فكان منذ البداية شخصا بحاجة لنوع من الانسجام والتكيف والتآلف مع مجتمعه العربي ثم الغربي حيث:

ــ مثلت عائلة سعيد أقلية ضمن أقلية في مجتمع معظم سكانه في القدس من المسلمين حيث كانوا من البروتستانت وسط مجموعة كبيرة من الأرثوذكس في مجتمع أغلبيته من المسلمين ([34]).

ــ كان أبوه فلسطينيا يحمل الجنسية الأمريكية نتيجة لانضمامه للأمريكان في الحرب العالمية الثانية، وورث أولاده تلك الجنسية الأمريكية.

ــ تنقل بين فلسطين منذ ولادته عام 1935م والقاهرة ولبنان صيفا، ثم إلى أمريكا حيث أكمل تعليمه الثانوي في مدرسه بنيو إنجلاند، ثم تعليمه الجامعي وقضى جل حياته بهذا المجتمع دارسا ومعلما وكاتبا ومشاركا في الحركة الثقافية العامة.

ــ حصل على تعليمه في القاهرة في مدارس إنجليزية وفرنسية، ثم استكمله في أمريكا حتى حصوله على الدكتوراه من هارفارد، ويشير في مؤلفه “السلطة والسياسة والثقافة” إلى أن اللغة العربية كان يمنع التحدث بها في المدرسة، كما أن علاقته بالثقافة العربية لم تبدأ إلا بعد حصوله على الدكتوراه في أمريكا بعد حرب 1967 ([35]) لقد ظل الازدواج والنزاع قائما بين الثقافتين إلى وفاته 2003م.

ــ يحكي افتقاده طيلة حياته لإحساس أنه في بيته كليا، فيقول إنه لا يعرف هذا الشعور ([36]) فظل شخصا يعوزه الانسجام والتكيف مع المجتمع في كل مكان وجد فيه، حتى المكان الذي استطاع أن يحصد به نجاحات قاسى فيه نوعا من الإبعاد والإرباك.

ــ كما تجلت بنية الازدواج والتوجس والبحث عن الذات وتفردها من خلال تكرار صيغ مختلفة على مدى النص كله وتتضح هذه البنية بداية من اختياره لمفرداته وتراكيب جمله واستعاراته إلى بنائه لشخوص السيرة بداية من ذاته إلى من حوله وبخاصة أمه وأبوه، إلى رؤيته للعالم ووعيه الممكن والزائف.

   يكرر الحديث عن نواقصه الشخصية، جبنه وخجله صغيرا وكونهما كانا انعكاسا لنواقص جسده وملامحه المميزة الإشكالية التي كانت محط محاولة تعديل مستمرة من والديه وخاصة أبيه ([37]). فلقد عانى سعيد من طبيعته الجسدية وشعر أن بداخله نفسا تواقة لشيء أعظم مما بدت عليه حياته، كان هناك ازدواج بين بنيته الجسدية وبنيته النفسية وإمكاناته وطاقاته العقلية والوجدانية وكثيرا ما أشار إلى ذلك في مراحل كتابة النص ومذكراته يقول:” التمييز بين إدوارد في جماع إعاقاته وخطاياه المعروفة، وبين الكائن الجوّاني الذي اعتبره ذاتي الحقيقية والفضلى، “وهي ذات غامضة التخوم، حرة، فضولية، سريعة، شابة وحساسة، بل ومحبوبة “. والآن لم يعد في مستطاعي استظهار تلك الذات إذ تواجهني ذات وحيدة لا مناص منها، منقوصة بل محكوم عليها بالإخفاق” ([38]). 

وهو بصدد تفسيره وحكيه عن علاقته بأمه وعلاقتها بأخواته البنات يستشعر القارئ أنه يحكيها ويحللها من فكرة العلاقة الاستعمارية، وأيضا من بنية الازدواج يقول:” على أنني كنت دوما أشتبه على أنها كانت تلعب على تلك الغرائز والنوازع وتستخدمها لبذر الشقاق بيننا بتشديدها على الفوارق وتضخيمها نواقص واحدنا للآخر على نحو درامي، بحيث تشعرنا أنها وحدها مرجع كل منا وصديقه الصدوق وحبه الأغلى، والمفارقة في الأمر أني ما أزال أصدق أنها كانت ذلك كله، وكان على كل شيء بيني وبين شقيقاتي أن يمر عبرها، وكل ما أقوله لهن يجب أن ينبع من أفكارها هي ومشاعرها هي ومعاييرها هي لما هو الصواب والخطأ ” ([39]) شعور بازدواج في المعاملة وحيرة وقلق وتوجس في مشاعر الأم.

كما شكل اسمه المهجن الذي يجمع تناقض عالمين مختلفين منذ صباه ازدواجا آخر: إدوارد الإنجليزي وسعيد العربي.

[1] النقد الأدبي وعلم الاجتماع 60.

[2] ينظر:  النقد الأدبي المعاصر 78- 79، والأسس الجمالية في النقد العربي 257.

[3] ينظر: الأسس الجمالية في النقد العربي 257.

[4] ينظر: خمسة مداخل إلى النقد الأدبي 136، ومنهج الواقعية في الإبداع الأدبي 14- 17.

[5] خمسة مداخل إلى النقد الأدبي 135.

[6] ينظر : النقد الأدبي المعاصر 64.

[7] ينظر : خمسة مداخل إلى النقد الأدبي 142.

[8] ينظر : خمسة مداخل إلى النقد الأدبي 137، وينظر أيضاً: في النقد الاجتماعي 15.

[9] ينظر : في النقد الاجتماعي 15- 16.

[10] سيسيولوجيا الرواية والسياسة 54. وهناك من الباحثين من يعترض على مبدأ (التناظر) الذي ينطلق منه غولدمان ويرى أنّه لا يمكن أن يصدق إلا على قلة قليلة من الإنتاج المكتوب مثل الساطير البدائية والحكايات الشعبية. ومعظم الأعمال الأدبية يقيم مع الأدب الذي تقدمها والمجتمع المحيط بها علاقة جدالية. ينظر: النقد الأدبي المعاصر 67.

[11] خارج المكان 107.

[12] يعرف غولدمان (رؤية العالم) بأنّها: ” مجموع الطموحات والمشاعر والأفكار التي يشترك فيها أفراد مجموعة واحدة (هي في الغالب طبقة اجتماعية واحدة)، ويباينون بها غيرهم من المجموعات ” النقد الأدبي المعاصر 65.

[13] ينظر: النقد الأدبي المعاصر 64، والبنية التكوينية وقراءة النص الأدبي 11.

[14] ينظر: النقد الأدبي المعاصر 64- 65. وينظر: منهج الواقعية في الإبداع الأدبي 230.

[15] يرجع هذا التمييز بين الوعي الواقع والوعي الممكن إلى غولدمان. وهو أحد المبادئ الأساسية في بنيويته التكوينية. ويقصد بـ (الوعي الواقع) الوعي البسيط الذي لا يتوفر صاحبه على إمكانية التأمل فيه، فيفكر بالسلوك أكثر مما يفكر بالذهن. أما (الوعي الممكن) فهو الذي لا يمكن أن يصله الفرد إلا بعد اكتسابه ثقافة وخبرة طويلة بالمعطيات الفكرية لجماعته تمكنه من بلورة افكاره في صالح الجماعة وأهدافها. ينظر: الوعي القائم والوعي الممكن 25، والبنيوية التكوينية ولوسيان غولدمان 22.

[16] ينظر: خارج المكان 248- 249.

[17] ينظر: خارج المكان 323.

[18] ينظر: خارج المكان 153، 160، 163، 164، 177.

[19] ينظر: خارج المكان 82، 108.

[20] السلطة والسياسة والثقافة 264.

[21] ينظر: خارج المكان 323، 345.

[22] ينظر: خارج المكان 306.

[23] ينظر: خارج المكان 209.

[24] ينظر: خارج المكان 269.

[25] خارج المكان 9.

[26] ينظر: البنيوية التكوينية وقراءة النص الأدبي 8.

[27] مناهج الدراسات الأدبية الحديثة 242- 243. والبنية عموماً هي : ” كل مكون من ظواهر متماسكة ، يتوقف كل منها على ما عاداه ، ولا يمكنه أن يكون ما هو إلا بفضل علاقته بما عاداه .. وكمفهوم اصطلاحي تتميز بثلاث خصائص هي : تعدد المعنى والتوقف على السياق والمرونة ” نظرية البنائية في النقد الأدبي 121.

[28] خارج المكان 358- 359.

[29] خارج المكان 8.

[30] ينظر: السلطة والسياسة والثقافة 257.

[31] خارج المكان 90.

[32] خارج المكان 271.

[33] لذة التجريب الروائي 24.

[34] ينظر: السلطة والسياسة والثقافة 272.

[35] ينظر: السلطة والسياسة والثقافة 260.

[36] ينظر: السلطة والسياسة والثقافة 261.

[37] ينظر: خارج المكان 85- 90.

[38] خارج المكان 242.

[39] خارج المكان 90.