التقنية الأدبية ووظائفها في قصيدة النثر/ أشرف الجمال

 

لم يواجه شكل كتابي بتحفظات قد تصل لدرجة الحصار الأكاديمي والإعلامي كما واجهت قصيدة النثر.. ذلك الشكل الذي تجاوز المفاهيم الكلاسيكية حول الشعرية والكتابة الفنية بشكل عام .. وأحدث ما يشبه الصدام مع بنية الوعي المتراكم تجاه مفهوم الشعر بدءا من العنوان الذي يشير لمفارقة ( قصيدة / نثر)، ومرورا بتقنية أداتية للتعبير غير النمطي والتجاوزي، وختاما بتوظيف أنساق جمالية ولغوية لإنتاج الدلالة وفتح أفقها التأويلي تأصيلا لوعي إبداعي مفارق ومغاير للمألوف، ولذاكرة التلقي وجدلية التفاعل مع الموروث الجمالي المتأصل للوعي الجمعي بمفهوم الشعرية وطبيعتها.. لقد استطاعت قصيدة النثر أن تحدث ثورة في بنية الكتابة الشعرية، وتحرك الماء الراكد في محيط الأدب منذ عقود طويلة لتفجر طاقات اللغة وتستكنه جمالياتها بوسائل غير اعتيادية، وتحتفظ لنفسها بمكان ومكانة تؤصل لفرديتها وتفردها حتى باتت تطغى على سائر أشكال الكتابة الشعرية عالميا وليس في محيط الثقافة العربية فحسب.. ويرجع ذلك بشكل أساسي لطبيعة التقنية المستخدمة في قصيدة النثر.. إذ تمثل التقنية الوعاء الفني المنتج لجمالية النص ودلالته.. والمحدد لشكله وموقعه بين دوائر النصوصيات المختلفة.. ويمكن تتبع أدوات التقنية الفنية في قصيدة النثر ورصد ملامحها وإيجاز بعضها على النحو التالي :

1- التشظي:

لا تراهن قصيدة النثر على العلاقات المألوفة وطبيعة التصورات المقولبة حول العالم واللغة والمعجميات الثبوتية وقوالب النقد الأدبي المعلبة بنيويا وأسلوبيا.. تنطلق قصيدة النثر من وعي مبدئي بطبيعة التغير كحقيقة دينامية تشكل تصوراتنا عن الوجود والحياة وكذلك الصراع الذي يضفر ثالوث الوجود (الله / العالم / الإنسان) وينعكس ذلك على إيدولوجية الشاعر وطريقة القراءة والتأويل لوجوده وذاته فيسعى جادا لتفتيت الموروث والمجهز والجامد المعلب عن طريقة آلية التشظي لإحداث الدهشة الجمالية، ولخلق وعي مغاير بالوجود، حقائقه ومضمونه، بما يناسب ثورية الشكل الكتابي ذاته (قصيدة النثر).. كما نراه في قول عبد الغفار العوضي :

إنه فخٌ ،
تلك الحياةُ فخٌ متقنُ الصدفةِ ،
أنظرُ فى تلك الهوة السحيقة فى جسدى ، مثلَ بيتٍ بأعمدة خرسانية فقط ، لا جدرانَ تغلف ضلوعَ صدرى المفتوحةِ على القصف العشوائىِّ فى الخارج
أنا لستُ لى ،
أنا سلعةٌ …يتداولُنى العالمُ كأسهمٍ فى البورصة ،
أنا المادةُ الخام التى تحتكرها الشركاتُ متعددةُ الجنسيات ،
أنا فريسةٌ ساذجة لذئابِ الدعايةِ الإستهلاكية ،
أنا ربحٌ مؤجل ،
أنا جندى احتياطى ،
أنا رقم عشوائى فى أرشيفات المواليد .

 ولكن التشظي هو من قبيل الفوضى المنظمة التي تفتت لتلحم وتهدم لتبني، لا الفوضى المدمرة التي تنمحي معها خصوصية الشعر وتدخله دائرة السرد الهذياني أو القص الحكائي التقريري أو الخواطر السردية المقالية، فهذا إن حدث فإنما يحدث جزئيا لفقر بعض الشعراء وعدم قدرتهم على توظيف أدواتهم الفنية بشكل احترافي مدروس.. ولا يمنح هذا مشروعية للتقنية ما لم تحفظ للشعر خصوصيته وتحدد جغرافيته وتخومه التي تمنحه شكلا فنيا خاصا له ملامحه المحددة والواضحة فنيا وأسلوبيا، وطريقة الصياغة، وتوظيف القيمة سواء كانت معجمية أم جمالية.. ومثالا على التشظي الذي يصنع نظاما قول أسماء يس :

 لَنْ أفَكِّرَ أَبَدًا فِى تعَلُّمِ الصَّيْدِ.. وسَأجْلِس أَمَامَ البَيْتِ كُلَّ مساءٍ أوقِّع النَجْمَات.. التِى اخْتَارَتْ، مثْلِى، تِلْكَ البقْعَة البَعيدَة مِنَ السَّمَاءِ، وأحْتَفِظ بِهَا، فِى صنْدوقٍ زجَاجىّ، كَانَ قَدِيمًا لسَمَكَتى البرْتقَالِيَة.. قَبْلَ أنْ تَموتْ.

كلَّ يومٍ سَأطْعِم النَجْمَات السُّكَّرَ؛ لتضِىء لِى، عنْدَمَا تَنْقَطِعُ الكَهْرَبَا. ودَائمًا، سَأعَلِّقَ البنْدقِيَةَ القَدِيمَةَ عَلَى كَتِفى.. وَهَكَذَا لَنْ يَجْرُؤَ الغرَبَاءُ عَلَى الاقْتِرَاب.

 2- الصورة:

يعد التعبير بالصورة وسيلة من أهم وسائل التقنية للتعبير الشعري في قصيدة النثر.. إذ هناك إيمان ما بأن مظهرية العالم المتمثلة في صوره وأشكاله هو انعكاس لتجلٍ حقائقي ومضموني.. فالصورة علامة وإشارة إلى معنى.. ولكن بدون خيار المباشرة والتصريح الذي يقتل امتداد الدلالة واتساعها.. هو تعبير إيحائي وإشاري يرتكن إلى قدرة المتلقي من خلال وسيط الوعي الجمالي الذي يمتلكه إلى فهم الإشارة وصهرها وتحويلها إلى قيمة فنية وجمالية وفكرة فاعلة.. حيث المتلقي شريك أصيل في عملية الإبداع.. الصورة تنظر للعالم على أنه ليس رسالة حرفية ومواضعات سكونية غير قابلة لثنائية التأويل أو ضدية المعنى.. التعبير بالصورة والرمز هو بمثابة إسقاط ضمني لأحادية الرؤية ودوجمائية التصور.. وإشعار واضح وصريح أن العالم يتسع لكل التصورات، وأن الفرد والذات الشاعرة هما مصدر إنتاج هذه التصورات.. فالعالم وفقا لهذا التصور ليس مفهوما فوقيا وإنما شريك جدلي وتفاعلي مع الشاعر.. كل منهما ينتج الآخر ويسهم في خلقه وتكوينه.. وهو ما يمنح النص رحابة وقدرة على تخطي الدلالة الثابتة عبر تغير الزمان والمكان.. وذلك من نراه في قول محمد عيد إبراهيم :

 من الآخرةِ، نطّ أبي، إلى بيتي، من صورةٍ، في الأبيضِ والأسودِ، ضاعَت منذُ حينٍ، ثم صادفتُها عندَ بائعِ أنتيكاتٍ في وَسَطِ البلدِ، يعاتبُني أني لم أَزُرهُ من 10 سنين… وكانَ يُطلّ من عالَمٍ فوقَ خيالي، بأرجوحةٍ، لكأنهُ كِلمةٌ فوقَ طيرٍ تحقّقَ من كُفرِ الطبيعةِ، كيفَ جاءَ: هل ركِبَ قطاراً بمكّوكٍ، من بطنِ غَيمةٍ، في حنينٍ إلى امرأةٍ هجرته ؟

 3- التفاعلية:

وهو مفهوم يقصد منه قدرة قصيدة النثر كنص أدبي على ملامسة الفنون الأخرى واستعارة جمالياتها واستدعائها بشكل غير مباشر بحيث تكون حاضرة.. ليس حضورا استقلاليا ولكنه حضور تماهٍ يحفظ للقصيدة خصوصيتها كشكل فني دون أن يحرمها من توظيف فنيات تثري النص، مستفادة من تفاعلها مع بقية أشكال الكتابة الفنية كالقصة القصيرة والأقصوصة والرسالة والمناجاة والخاطرة.. ولذكاء الشاعر دور كبير في ذلك، بحيث يمثل حاجزا لا مرئيا يحول دون ذوبان قصيدته وانفلاتها وتفتتها في الأشكال الأخرى، بحيث تكون لديها قدرة على التمثل وإعادة الإنتاج وليس محاكاة لتقنية كتابة مغايرة لخصوصيتها.. فقصيدة النثر طموح لتستوعب تقنية الرسم من خلال الصورة والحكي من خلال القص والمشهدية السينمائية والسردية الروائية، كما تستدعي الومضة والمفارقة وغيرها من التقنيات لإنتاج المعنى الشعري بطريقة تدوير القيمة وخلقها خلقا جديدا لا تصديرها كما هي معلبة في موارد استدعائها.. يقول أحمد المريخي :

 يقولُ عقربُ الثواني لعقرب الدقائق:

تعبتُ من المُلاحقة؛

أقطعُ ستين وحدةً كي أعانقَك ثانيةً..

هذا كثير.

ويقولُ عقربُ الدقائق لعقرب الساعات:

تعبتُ من المُضاجعة؛ أربعًا وعشرين مرةً في اليوم..

هذا كثير!

وإذ ينظرُ عقربُ الساعات ساعتَهُ، يهتفُ:

“العضو المُهمل يضمُر؛ أنا أعمل إذنْ أنا موجود”.

 4ـ التخطي:

وأقصد به القدرة على تجاوز العلاقات المنطقية في البناء اللغوي وأنماط التعبير ومواضعات النظام الكلامي وتصورات متحدثي اللغة عنه.. بحيث يلجأ الشاعر إلى استخدام علاقات لغوية غير مألوفة تنتقل بفكرته من سطر لسطر مستخدما عنصر المفاجأة لتخطي المألوف المتوقع.. فكل جملة هي بمثابة مقدمة للجملة التي تليها ولكن الشاعر في قصيدة النثر يفاجيء المتلقي كثيرا بنتائج لا تحيل إليها مقدماته عن طريق الإزاحة والإشارية والمنطقية الشعورية لا منطقية اللغة نحوا وصرفا ومعجما.. وهذا ما يمنح قصيدة النثر خصوصية فارقة تميزها عن منطق السرد ومعقولية بنائه في الرواية والقصة مثلا.. فالتعبير الشعري داخل قصيدة النثر تعبير فصامي يضع المتلقي دائما قيد احتمال الدهشة والمفاجأة وتخطي المتوقع التراتبي في إنتاج الدلالة.. هو تقنية مضللة ذات قصدية من الذات الشاعرة في علاقتها الجدلية مع الموضوع (العالم) بهدف التفلت من خنق الدلالة والرغبة في ابتكار لغة خاصة تميز القصيدة النثرية عن غيرها والشاعر عمن سواه.. وتخرج النص عن العرفان الإطلاقي التعميمي في ظل انتصار فكرة النسبي المتحرك والمتغير اللاثبوتي.. وهذا ما يتعارض مع اليقين المنطقي في بناء النسيج اللغوي باعتبار اللغة نظامًا ذهنيًا مفترضًا ومتصورًا عن العالم من حولنا.. تقول بهية طلب :

 لن تكون نبيلاً

بهذا البهاءِ الذى وددته

حين استعدتنى

من الأيامِ الباردةِ

التى كنت أوقفُ بالسجائرِ

زحفَ الجنون داخلى

حتى لأرى القمرَ معلقًا ليلاً

لأنه يضيءُ باحتراقى

أنت أحببتنى

قلتَ إننى أيامُ عمرك .

 5- الذاتية:

ومما يميز تقنية قصيدة النثر: الذاتية.. باعتبار أن الشاعر يتحدث عن نفسه وعن العالم من خلال نفسه، محاولا أن يحتفظ برؤية تخصه ليست مجرد إعادة إنتاج لرؤى السابقين أو استهلاك مكرور ونمطي لما قيل من قبل.. تتطلع قصيدة النثر دوما لأن تكون ابنة شرعية لتصورات شاعرها وفرديته وتفرده.. باعتبار أن الشاعر تجربة وجود ومرآة لتجليات بالغة الخصوصية ملتبسة بأنوية بيئية وثقافية وأفق عرفاني متفرد يدافع عن بقائه داخل زحام عولمة الأفكار والأوطان والثقافات.. تسعى قصيدة النثر حثيثا لتأسيس وجودية نصية مقابل إمبريالية واقعية متحركة تلتهم كل خاص وفردي.. وما لم ينجح الشاعر في ذلك يصبح صدى لغيره وتحاصر قصيدته بفكرة الموت في توابيت ذوات الآخرين.. أو الانجراف في غنائية جماعية مستهلكة لا تمنحه ونصوصة ذكرى على نقوش القصيد.. يقوا أسامة حداد :

نعم أنا العشوائي…

أحاول اكتساب مهاراتٍ جديدةً مثل:

التحدث مع شجرةٍ،

أو مصادقة مومياواتٍ فى المتحف،

عرض كوابيسي فى دورِ السينما،

صناعة أجهزةٍ للاختفاء عن العابرين…

لدي أحلامي الخاصة جدًّا عن صعود عاصفةٍ درجَ البيت، وإعادة ما نزف من دمٍ إلى أجساد الصغار .

 6- الإيقاع:

تتباهى القصيدة العمودية وقصيدة التفعيلة دائما بالموسيقى الظاهرة المتمثلة في الأوزان والقوافي والتفاعيل، وهو ما لا يتوفر في قصيدة النثر.. والواقع أن هذا تباهٍ سطحي وشكلاني وغير صحيح في حقيقته.. فقصيدة النثر لها إيقاع وموسيقى.. ولكنه إيقاع خاص وموسيقى ذكية لا ترصدها الأذن وإنما ترصدها الروح ويسمعها العقل الواعي بمفهوم الشعرية.. فتدفق الصور والرموز بإيقاع تخيلي بنائي بطريقة محددة يمثل لحمة الموسيقى الداخلية للنص.. يمكنك أن تصغي لنمطية استلهامية لحقول التخييل لدى كل شاعر.. ويمكنك أن ترصد إيقاعا مفرداتيا معجميا لدى كل شاعر، ويمكنك أن تلمح إيقاعا تصوريا وتحليليا لبنية الوجود والذات داخل كل نص.. إنه إيقاع خفي يدرك ولا يسمع.. بعيدا عن الطنطنة الشكلانية التي تفرغ المضمون من محتواه وتحيله إلى علاقات صوتية لا تمس العقل ولا تلمس الوجدان.. وهذا في تصوري إيقاع وموسيقى أعقد بكثير في صناعتها من الموسيقى الظاهرة التي تطعن جوهرية الشعر لصالح شكله وشكلانيته.. تقول جيهان عمر :

تستطيعُ الآن أن تنامَ

دون أن ينقر الغرابُ رأسَك طوالَ الليل

دون

أن يفتتَ النملُ قدميك؛ كخبزٍ يابسٍ

على الفراش.

تستطيعُ

أن ترى دون نظارتك الطبيةِ

ولا تدعني أعرف

إن رأيت شيئا بخلاف النجوم.

7- الجوهرية:

إن حصر الشعر في الجانب الموسيقي وفي الأوزان والتفعيلات لهو فهم ضيق لمفهوم الشعرية.. وهو محاولة لشكلنة ماهية الشعر وجوهره والخروج به عن حقيقته تلك التي أدركها القدماء بوعي شديد.. فعلى سبيل المثال وَصَف كفار قريش القرآن الكريم الذي لا يمكن إدراجه تحت أوزان وتفعيلات الموسيقى العروضية بأنه شعر.. وذلك بنص آية صريحة في قول الله تعالى (ويقولون شاعر) وذلك يوميء بفهمهم الثاقب لجوهر الشعرية، إذ أدركوا أن الشعرية طاقة كامنة وجوّانية تمثل أيقونة الماهية النصوصية وحقيقتها لا شكلها.. وهو ما تفصح عنه بطريقة خاصة لإنتاج الدلالة وتمثُّل العالم وهندسة المعنى واستدعاء مراسم التخيل والتعبير عن العالم بالرموز والصور.. وتحطيم بنية التركيبات الكلاسيكية للغة والخروج عن نمطية السرد التعبيرية.. وتفجير معجمية مضافة إلى متن المعجمية الأساسية للخروج عن المألوف والنمطي اللفظي والشعوري.. وتخطي مواضعات اللغة بطريقة خاصة تمثل روح قصيدة النثر التي توظف تقنية الكتابة بشكل مغاير عن بقية الأشكال التعبيرية الأخرى.

إن الشعر محاولة هدم وبناء.. إعدام وخلق لقيمة الشكل وباطن المضمون وطريقة الأداء الفني واستلهام الفكرة والإفصاح عنها في نصوصية كتابية مشحونة بخيال قوي وفاعل في مناجاة وعي وروح المتلقي.. وإنه من الفقر والضيق حصر مفهوم الموسيقى في السماع الأذني والإيقاع الملموس.. فثمة موسيقى فكرية وروحية تكتن طاقة التخيل وهندسة العبارة في القصيدة النثرية وتحتاج لذائقة أكثر عمقا لدى المتلقي.. لأنها تتخطى المفاهيم الشكلانية والمباشرة لموسيقى الشعر الموزون.. وها هو عبد القاهر الجرجاني من كبار البلاغيين القدامى والنقاد الأفذاذ يورد واقعة الأعرابي الذي سئل: لمَ تحب حبيبتك؟ فأجاب: لأنني أرى القمر على جدار بيتها أحلى منه على جدران الناس.. ويستخلص عبد القاهر من هذا الموقف: أن الشعر يمكن أن يوجد دون أوزان.. يقول عادل جلال :

 إِنَّه العيد

وفي العيد بين الطفولةِ وخُلُوِّ البالِ تمرحُ الأَبديَّة

بطرفِ عيني غالبًا بطرفِ عيني اليُمنى أَنظر قطعةَ الخشبِ المُستطيلةِ وأَضحكُ..

.. أذهبُ بقدمين طائرين في هذا العامِ سأنتصرُ عليها

يمدُّ الحلاقُ يده كأنه يطلب مِني صعود المشنقة

في كلِّ عيد.. بطرف عيني أَنظرُ إليها

وأَتمنى لو يمدّ يده.. قطعة الخشبِ المُستطيلةِ هناكَ.. تمرحُ الأَبديَّة.

 8 – التعقيد:

ليس هناك تناقض يضفر بنية القصيدة النثرية باعتبارها شعرا.. لأن الفن الحقيقي هو ما يوظف التقنية بشكل ثوري يمنحها رحابة وأفقا ممتدا للقراءة والتأويل.. والقصيدة النثرية هي وليدة المد الثقافي والإنساني المعقد في الفلسفة والعلوم والتتابع التاريخي وإنتاج النظريات التي تشكل وعي الإنسان بذاته.. وسقوط الفلسفات الإثنينية التي تفصل بين الشكل والمضمون والمادي والمثالي والعرض والجوهر.. ثمة تداخل بين أشكال الكتابة واستدعاء وظائفها.. فلم يعد النظر إلى الملمح الخارجي هو المحرك لإنتاج القيمة.. إن البذرة الكامنة في باطن الأرض هي ما تشكل الشجرة.. والطاقة الشعرية التي تكتن قصيدة النثر هي ما يشكل وعينا بشعريتها لا إيقاعها الظاهر.. وقصيدة النثر هي بوابة الشعر للخروج من حجريته وتكلسه وتمثل الآني والحاضر والمعيش.. والخروج من أكفان الرؤى الماضوية المعلبة والجاهزة.. هي رهان الوعي في جدليته مع العالم.. ومحاورة الذات مع الموضوع وفق لغة ذكية وأدوات تخاطُب غير مباشرة تناسب تعقيدات العالم والأفكار وطرائق تمثل الوجود.. وإنتاج فعل القراءة والتأويل إشارة لا تصريحا لكي لا يموت النص وتتحجر جماليته في مظهرية كتابية لا تعبر عن حقيقة الفن من قريب أو من بعيد. ومثالا على التعقيد الذي هو بمثابة انتفاضة على الجاهز والموروث قول أحمد يماني :

دورة كاملة حول كائن يقبع على حدود قطعة الأرض التي يعدونها للبناء، كائن أوجدته صدفة محضة، نواة ملقاة صنعته لكنه لن يغادر صدفته وسيبقى داخل البيت كبرج قديم للحراسة.

المعدن والخشب والزجاج أحاطت بالكائن في وحدته المطلقة، على جذعه تراكمت السنوات التي كانت ترى في كل سعفة يتم قطعها وتشذيبها، سنوات تتراكم والكائن يصبح في كل مرة أكثر عتمة، بعدها اختار ساعة رحيله، جعل نفسه ذكرا، بلا ثمرات تتساقط تحته، وهناك قطعوه من جذوره بقلب مستريح.

كانت نخلة وحصاة وهواء بلا آخر. فجأة تعتم، الحجر صار بيتا والهواء صار غرفة والنخلة صارت كلمة والكلمة لم تصر جسدا.

 9 – الإطارية:

ومع ثراء قصيدة النثر ورحابتها وقدرتها على التماس والتداخل واستدعاء تقنيات أدبية من فنون أخرى كالقصة القصيرة والخواطر والمراسلات مثلا إلا أن ذلك لا يمس جغرافيتها الجمالية التي تحدد ملامحها الخاصة وتشكل إطارها البنائي.. فالعولمة كقيمة لا تعني غياب تفاصيل النص والتخلي عن تمسكه بهويته التي تمنحه خصوصية عن بقية الأشكال الأخرى.. فالإطار مفهوم أدبي يمكن أن يكون وعاء للتقنية.. وقد يوظف القاص تقنية شعرية داخل إطاره القصصي وهذا لا يعني أن قصته شعر.. وقد يوظف الشاعر تقنية قصصية داخل إطار شعري وهذا لا يعني أن قصيدته قصة.. إن تبادل التقنيات وتوظيفها هو قيمة جمالية مشروعة ومطلوبة لتغذية المعنى وإثراء الدلالة وتحقيق غنى الطرح الجمالي النصوصي بغير تناحر أو تذويب لملامح الإطار.. فإن حدث هذا التناحر والتماهي الذي تغيب معه خصوصية الشكل الأدبي فإن ذلك يعني ضعف المبدع أمام تقنيته.. وهو وإن كان عيبا في المبدع فإنه لا يعني أنه عيب في الإطار.. فالشاعر المحترف هو من يوظف التقنية الأدبية على تنوع منابعها دون أن تتفلت منه أعمدة إطاره التي تشكل جسد النص وروحه.. يقول شريف رزق :

 صَبَاحَ يومِ عِيْدٍ
أنْتِ تسيرينَ في غَبْشَةِ مَا قبلَ الشُّروقِ
وأنَا أتشبَّثُ بطَرْفِ جِلْبَابِكِ الأسْوَدِ 
في الطَّريقِ المؤدِّيةِ إلى المقَابرِ
أنْتِ شَاردَةٌ يا جدَّتي
وأنَا أتأمَّلُ صَحْوَةَ العِيْدِ 
في الطَّريقِ المؤدِّيَةِ إلى المقَابرِ

لمْ أكُنْ بينهُمْ وهُمْ يُشعِلُونَ النَّارَ في المنزلِ المواجِهِ
كُنْتُ جَالِسًا على عتبَةِ الدَّارِ وَحْدِي .

 10 – المراوغة:

وتراهن قصيدة النثر على تقنية تخصها بشكل رئيس وهي تقنية المراوغة.. فقدرة النص على الإحالة والترميز والإشارة والتلميح وتفجير طاقات اللغة بحيث تصدم وعي المتلقي بمواضعاتها المعجمية الجديدة التي تؤسس لها قصيدة النثر للتعبير عن رؤى غير كلاسية وغير موروثة ولا هي إعادة إنتاج لتصور السابقين عن الوجود وما وراءه.. وعن الإنسان وإشكاليات التعايش.. هو ما يحقق الصدمة الجمالية أو ما يسمى بالدهشة.. فقصيدة النثر تحاول أن تضيف لقارئها عبر رؤية جديدة ومعالجة فنية ثورية تضيف لرصيد القاريء الجمالي.. وتعمل وفق تقنية المراوغة التي تتخطى الموروث والمتوقع لذائقة المتلقي، إنها تعمد إلى المفاجيء واللامتوقع عبر المغالطة التعبيرية أو التضليل المقصود للتمويه على الطرق المباشرة الكامنة في استعداد القاريء للتلقي.. بحيث تفجؤه وتحرضه على إعمال فكره وإعادة المراجعة لوسائل وعيه في استلهام القيمة وتذوق الجمال.. وتلعب اللغة دورا كبيرا في تحقيق ذلك.. وكذلك الصورة والرمز والمفارقات والقفز على رتابة تموضع الدلالة وهندستها بشكل دينامي لا استاتيكي ثابت.. يخالف عامدا ما ينتظره المتلقي تعبيرا وسردا.. شكلا ومضمونا.. صورة وفكرة.. فكل ثورية رؤوية تقتضي بالضرورة وسائل ثائرة ولا نمطية للإفصاح عنها. يقول عاطف عبد العزيز :

 قَدَمايَ الكبيرتانِ آخرُ ما تبقَّى من الأسلاف، إنهم الزُّرَّاع، الزُّرَّاعُ الذين صاروا غزاةً، حتى تذوَّقوا النبيذَ على أبوابِ أنطاكيا.

في الطَّريقِ إلى المجدِ، مرَّوا بوادٍ كان ينبتُ فيه زعترٌ بريّ، ويرعى راهبٌ عنزتيه، كانت تحدُّهُ بركةٌ متَّسعةٌ وقفَ فيها المعمدانُ ذات يومٍ يُحمِّمُ تائبيه، ثم جاءها إنكشاريٌ كي يغتسلَ من الجنابةِ بعد أن قتلَ الغلام.

هكذا عبَرَ الشِّتاءُ كاملاً دون أن يتمكَّنَ الفلاحون من التَّواؤمِ .

 11- اللاشكلانية:

تكتن قصيدة النثر في باطنها بنية شعرية قوية تضع المتلقي بقوة الفعل تحت تأثير الشعرية الطاغية بحيث يكون السؤال (هل هذا شعر أم نثر) ساذجا وغير مقبول على مستوى الوعي بالفن وتذوقه.. لقد حرصت قصيدة النثر باعتبار النظر إلى هويتها على تفعيل المحتوى الكامن والمحرك لما هو ظاهر على السطح.. والتزمت بآلية تحطيم القيود التقعيدية في محاولة الماضي العروضي لفقهنة الشعر وعلمنته ووقوفه عند المؤطر الذي لا يمكن الخروج عنه.. ومحاولة تقديس الشكل للحفاظ على القيمة والتذرع بجغرافية تصنيفها.. وهو الأمر الذي حدث مع الفقه كموروث ثقافي دافع عن تكلسه بالتلويح بتهمة (البدعة).. والأمر نفسه حدث مع البلاغة التي احتضرت على يد يعقوب السكاكي في محاولة لطمس هوية الفن المتحررة والخلاقة والطموح إلى التجديد والإبداع.. وذلك بتحويلها إلى علم وقوانين راديكالية منحوتة لا تقوى على التمثل المستمر والتشكل التناوبي المتجدد والفرار من قضبان الشكل الأحادي الذي يصيب الفن بالجمود والتحجر.. ما أصاب الدين من جمود وعدم استجابة للآني والمتحرك هو ثبوتيته على يد الفقهاء.. وهو ما حدث للشعر على يد الخليل الذي حاول أن يقعّد ما لا يُقعّد فتأبّت عليه روح الشعر فكبحها بما يسمى بالزحافات والعلل العروضية وهي إشارة لانتفاض الشعر وتمرده ضد محاولات تقعيده.. حتى بات النظر للموشحات ولمحاولات أبي العتاهية للفكاك من الثبوتية العروضية هرطقة وبدعة وكفرا على مستوى الإبداع.. وهي التهمة ذاتها التي واجهت شعراء قصيدة التفعيلة من خصومهم الخليليين.. ودافعوا عن أنفسهم بأنهم مجددون.. ومن عجيب ومما يثير الدهشة أن هؤلاء التفعيليين – وهم أنفسهم من واجهوا تهمة الهرطقة شعريا – هم من يوجه الآن التهمة ذاتها لشعراء قصيدة النثر! وكأن التجديد حكر عليهم.. أو لا ينبغي أن يكون إلا وفقا لقواعدهم المقدسة.. وبالطبع الفن لا يعرف التقديس.. ولا ثبوتية العلم وقدرته على الحسم نظريا وتجريبيا.. فمفهوم الشعرية أعمق من كونه علامة شكلانية مؤطرة , وإنما الإطار ينبع من هويتها الكامنة في بنية الصياغة وجوهر المعنى , يقول جمال القصاص:

أنا “جمال القصاص”

اعترف بأنني زوَّرتُ كثيرًا في تواريخ أحلامي

وهأنذا.. ولدتُ منذ دقيقتينِ

في غرفةٍ بالطابق الثالث

في فندقٍ يطلُّ على البحر.

كان ذلك في الثاني من أكتوبر عام 2001

وحتى لا أنسى

كان عمري وقتها تجاوزَ الخمسين!

12- المعرفية:

لا تحاول قصيدة النثر أن تجر نفسها لفخ الغنائية الساذجة.. أو الخطابية الموجهة.. أو التقريرية المتعالية.. وإنما هي تطمح وتتطلع إلى رؤية معرفية هي بمثابة فلسفة للعالم وتصور عن دينامية الوجود وفعل الحياة وموقف الإنسان من الطبيعة والله وذاته والآخر الذي يشاركه ديمومة الحراك الوجودي عاطفيا وإنسانيا.. ما يميز قصيدة النثر حقيقة هو قدرتها على الاستيعاب والتحليل والتفصيل والجدل وتوظيف المعرفي والتاريخي والديني والعلمي داخل إطارها توظيفا شعريا بعيدا عن ممارسات الكتابة العلمية أو السرد الروائي أو منطقية التعبير المقالي.. إنها تؤسس لها منطقية جمالية وشعورية خاصة تحتضن قيما معرفية وفلسفية عميقة.. لكنها تفصح عنها بخصوصية شعرية ممنهجة على مستوى الديالوج الجمالي مع الوعي والذائقة ولكنها مرنة وثورية وغير قابلة لهيكلة الدلالة وترسيمها بشكل حاسم يقبض على المعنى كما يحدث في الخطاب العلمي أو الفلسفي.. ومن هنا كان استدعاء الأساطير والميثولوجيا والمحاورات الفلسفية والغنائيات الفرعونية والترانيم والحوار والومضة والقص والحدث التاريخي والمشهدية الوصفية وامتداد الزمكان الشعري.. كل ذلك كان بمثابة احتواء للقيمة وإعلاء لرتبة الدلالة الشعرية ووظيفتها باعتبارها طريقة في رؤية العالم والإسهام في صياغة الوجود لا مجرد مشاعر رخوة للتغني الرومانسي.. يقول جورج ضرغام :

 

لنتفق أولاً على تسمية النهر:
ذكرى صيفية
لا أكثر من ماء يسيل على الوجنتين
ولا أقل من جفاف لعاب شهوانى
ولنكمل السير لطريق العرّافة الشمالى
واثقين من رؤى نجمة مجوسية فوقنا
لا أعرف هوية لكفك
ولا تجدين وصفا لوجهى فى الفنجان 
ولنتفق على جماليّات الغزل:
أول الليل بدويّ
وآخر قبلة موؤودة فى صحراء
لا نملك فيها أى أثر للبئر حول الشفاة .

 13 – المشاركة:

لا تعول قصيدة النثر باعتبارها إبداعا شعريا في إنتاج دلالتها الجمالية على الشاعر وحده.. وإنما هي تنظر للمتلقي على أنه شريك أصيل في فعل الإبداع.. لأنها تراهن على القاسم الإنساني المشترك بين المبدع والمتلقي.. لذا فهي تتطلع لوجود قاريء يمتلك من المؤهلات المعرفية والجمالية ما يمكّنه من استلهام القيمة وإنتاجها.. سواء كانت هذه القيمة معرفية أم جمالية.. ومن هنا لا يمكن لقاريء تكلست ذائقته الشعرية عند شكل الشعر التقليدي، أو توقّف وعيه عند حدود البلاغة الكلاسيكية، أن يحسن قراءة قصيدة النثر أو يتعاطى جمالياتها على الوجه الأمثل.. ويمكن القول إن الدرس الأدبي الخاص بقصيدة النثر ينبغي أن يتجاوز عرفيته النمطية لإيصال المعنى والجمالية لذائقة المتلقي.. فيمكن أن نبدأ بالرؤية لأنها بمثابة الإطار المحرض للتقنية على انتقاء أدواتها.. والفاعل في خيارات الشاعر لطرائق بناء العبارة ورسم الصورة واختيار المفردات التي تخدم رؤيته وتمنحها التوهج.. فاللغة هي مجموعة الرموز التي تشكل المعنى وتحدد فضاء الرؤية.. ولكنها في الوقت ذاته ابنة شرعية لقصدية الشاعر البنائية النابعة من تصوراته عن ذاته والعالم وما وراء الطبيعة.. هي وليدة طريقته في التفكير والتمثل وطبيعة تصوراته عن الوجود والحياة.. إنها بمثابة إشارة سيميائية كامنة وفق قوانين العقل لاختزال الوجود في صورة رمزية يكتنها الوعي.. فاللغة الشعرية هي وليدة وعي الذات (الإنسان) بالموضوع (العالم).. فالبدء بمعالجة الرؤية التي تمثل فلسفة الشاعر تزامنا مع استبطان اللغة هو أنسب طريقة في تصوري لاستكناه خصوصية النص الأدبي والوقوف على أدواته المنتجة لقيمة الجمال .