التعدّديّة الدينيّة برؤية عقلانيّة قرآنيّة/ حسن معلمي

 

التعدّديّة الدينيّة برؤية عقلانيّة قرآنيّة؛ الحقّانيّة، النجاة، التعايش السلميّ:

[كلمتا] الدين والحقّ، هما مفردتان لطالما كانت تربط بينهما، ولا تزال، علاقة وثيقة، أي أنّ كلّ إنسان يرى معارفه الدينيّة حقًّا، وكذلك فإنّ أحد هواجس كل إنسان ينشد الحقيقة هو التوصّل إلى مسلك ومنهج وطريق الحياة الصحيح، الذي يقال له «دين». تُطرح تبعًا لهذه المسألة قضايا، الإجابة عنها لازمة وضروريّة[1]:

أ. ما هو الدين، وما هي خصائصه؟
ب. ما هو الحقّ، وما معنى الحقّانيّة؟
ت. ما هي العلاقة القائمة بين الدين والحقّ؟
ث. هل يمكن أن تكون جميع الأديان حقًّا مطلقًا، أو حقًّا نسبيًّا؟
ج. ما العلاقة بين الحقّانيّة والنجاة؟
ح. ما هي نظرة القرآن الكريم إلى هذا البحث؟

أ. تعريف الدين وخصائصه
قُدِّمت تعاريف متنوّعة للدين، وبمقتضى بعض هذه التعريفات عُدَّت الشيوعية التي تتضمّن نفي الله والمعاد دينًا، أي أنّ [هذا] التعريف هو من العموميّة والسعة بمكان، بحيث يشملها أيضًا، ومنها تعريف الدين بأنّه «منهج وأسلوب الحياة»، أو «الإيديولوجيّة المبتنية على الرؤية الكونيّة». تشمل بعض التعاريف الأديان الإلهيّة فقط، وعُدَّ الإسلام فقط في بعض التعاريف دينًا. لكن من الواضح أن كون الدين حقًّا أو باطلًا لا يتضح من خلال تعريفه، بل إنّ أي تعريف نأخذه بعين الاعتبار، سيكون مصداقه الصحيح هو [الدين] الحقّ. على سبيل المثال، إذا كان الدين هو عبارة عن «منهج وأسلوب الحياة»، فسيكون الدين الحقّ هو «المنهج والأسلوب الصحيح للحياة»، بحيث يجب أن يكون لكلمة «صحيح» في هذه العبارة معنىً خاصًّا بها، كأن يكون: «المنهج والأسلوب الصحيح هو الذي يسدّ جميع الاحتياجات المادّيّة والمعنويّة والروحيّة والجسديّة»، أو «الدين الحقّ هو الذي يكون لديه رؤية كونيّة تتطابق مع الواقع، وإيديولوجيّة تبتني عليها».

ونذكر في المقام بعض تعاريف الدين، ومنها:
الدين هو حالة روحيّة، أو حالة خالصة وقدسيّة، نسمّيها ب«الخشية»[2].
الدين هو الاعتقاد بإله سرمديّ الحياة، أي الاعتقاد بإرادة وعقل إلهيّ يهيمن على العالم، وله علاقات أخلاقيّة مع النوع الإنسانيّ[3].
مجموعة من الاعتقادات، الأعمال والمشاعر (الفرديّة والجَمْعِيَّة) التي انتظمت حول حقيقة غائيّة[4].
الدين هو تصديق هذا الأمر، وهو أن جميع الأشياء هي تجلّيات قادرٍ هو أسمى من معرفتنا (هربرت سبنسر)[5].
الدين هو سعيٌ لإظهار حقيقة الخير الكاملة، من خلال جميع الجوانب الوجوديّة للإنسان[6].
وثمّة تعاريف متنوّعة أخرى، عرضت ضمن أفكار العلماء الغربيّين[7].
نحو سلوك في الحياة الدنيا، يتضمّن صلاح الدنيا، بما يوافق الكمال الأخرويّ، والحياة الدائمة والحقيقيّة عند الله سبحانه[8].
الدين هو الاعتقاد بخالق للعالم والإنسان، وبتعاليم عمليّة تتناسب مع هذه العقائد[9]
الدين هو الشرائع الصادرة عن الرسل الإلهيّين[10].

الدين هو الاعتقاد بوجود إله واحد، وبوجود برنامج للسير نحو الغاية[11]. تركّز هذه التعاريف في بعض الموارد على الحقيقة الغائيّة، وأحيانًا على الله الخالق، وحينًا على الإله الواحد مع جميع صفات كماله، ويكون التركيز أكثر في بعضها على قيمة الإنسان وتسليمه أو حالاته، لكن الأمر الذي نركّز عليه في هذه المقالة هو الاعتقادات والأخلاقيّات والانبغاءات وعدم الانبغاءات السلوكيّة، وهي أمور ترتبط فيما بينها بعلاقة وثيقة، ومصداقها البارز هو الإسلام، وحقّانيّة هذه الاعتقادات والأخلاقيّات والانبغاءات وعدم الانبغاءات تعتمد عليه. أمّا خصائص الدين، سواء أكان الدين من الأديان التوحيديّة أم غير التوحيديّة، فهي:
تسليم الإنسان له.
شموليّته، في أكثر الأديان، لحياة الإنسان كلّها، وحتّى لاستمراريّتها بعد الموت.
الاعتقاد بحقيقة غائيّة (وأنّ الله الخالق، السرمد و… هو مصداقها البارز).
وجود الاعتقادات (في باب الوجود والأخلاق) والسلوك المناسب لها.

كون الحركة في الدين والتدين أمرًا منهجيًّا.
ب. تعريف الحقّ
في اللغة
ذكرت كتب اللغة للحقّ معانٍ مختلفة: كالثبوت، الموجود الثابت ووجوب مطابقة الواقع[12] بين جميع المعاني، فإنّ معنى الثبوت مع نحو من الضرورة ومطابقة الواقع، هو الأكثر شيوعًا، أي بمراجعة موارد الاستعمال، فإنّ الاستعمال الأكثر هو في هذا المورد، ويُلاحظ الثبوت مع نحو من الضرورة في الأمور الواقعة والمُطابَقَة في القضية.

في المصطلح
ذكرت أيضًا في مؤلَّفات بعض العلماء معانٍ مختلفة للحقّ، من قبيل: القول المطابق للواقع، الموجود الحاصل بالفعل، الموجود الذي لا سبيل للباطل إليه والموجود الدائم، كلّ واقع يطابق القانون، والباطل هو انحراف عن القانون، المرتبة الضعيفة للمُلك، السلطنة، القدرة المعتمِدة على القانون، ما ينبغي متابعته، وما هو مقيّد بحال الإنسان[13]  تختلف هذه التعاريف باختلاف الموارد؛ كأن يكون البحث حقوقيًّا أو أنطولوجيًّا أو أخلاقيًّا أو يتعلّق بنظريّة المعرفة. أكثر ما هو مطروح في نظريّة المعرفة هو مطابقة الواقع، وفي الأنطولوجيا، فإن مسألة الثبوت أو عدم الثبوت الدائم أو الثبوت الضروريّ هي المطروحة، وتطرح في الفقه والحقوق مسألة المالكيّة، السلطنة، القدرة المعتمدة على القانون وما شابه.

تُعرض لكلمة الحقّ في باب الدين تعاريف من قبيل: مطابقة الواقع، كونه مفيدًا للإنسان، ما يسدّ حاجات الإنسان الحقيقية، ما يجدر اتّباعه، مطابقة الفطرة الإنسانيّة، ما يتضمّن سعادة الدنيا والآخرة، ما فيه النجاة، وما شابه. بناء على ما بيّناه، فإذا عرّفنا الدين بأنّه «مسلك وطريقة الحياة»، فعند ذلك تطرح المطابقة للواقع، وكونه مفيدًا، أو ما يسدّ الحاجات الحقيقيّة و..، أي المسلك والطريقة التي تسدّ جميع حاجات الإنسان الحقيقيّة، أو تتضمّن سعادة دنياه وآخرته. أمّا ما هو مصداق هذه التعاريف، الإسلام أم المسيحيّة أم اليهوديّة أم غيرها؟ فهذا بحث آخر، يُطرح بتبعه بحث آخر، وهو: هل يمكن أن توجد «أديان حقّ»، أي أن تكون عدّة أديان، في عرض بعضها، وتكون جميعها حقًّا؟ كأن تكون جميعها مطابقة للواقع، وتكون جميعها مسلك وطريقة الحياة، وتسدّ جميعها كلّ الاحتياجات الحقيقيّة للإنسان، وما شابه.

تطرح أحيانًا في الإجابة على هذا النمط من السؤال مسألة [امتناع] اجتماع النقيضين، وأحيانًا أخرى مسألة نفي الأديان الأخرى من قِبَل دين خاصّ، وهو ما يحول دون اتصاف جميع الأديان بالحقّانيّة في هاتين القضيّتين، وسنشير في التتمة إلى هذا البحث.

ت. العلاقة بين الدين والحقّانيّة، والأقوال المختلفة في هذا الباب
كما تقدم، فإنّ من الأبحاث المهمّة في فلسفة الدين، بحث الدين والحقّانيّة، فهل أن ثمّة دينًا واحدًا هو الحقّ، وما سواه باطل؟ أو أنه يمكن الحديث عن حقّانيّة جميع الأديان، وفي هذه الحالة ما هي المعاني التي يمكن تقديمها من خلال هذه المسألة؟

يرى بعض أنّه لا يمكن في عالمنا المعقّد تصديق دين بعينه، وتجاهل سائر الأديان الأخرى بنحو كامل، وأنّ كلّ دين يدّعي لنفسه مكانة خاصّة وحقّانيّة، ولا يمكن عدّ الأديان منفصلة عن بعضها؛ إذ إنّ كثيرًا منها نشأ عن بعضها، من قبيل الديانة «السيخيّة» التي تشكّلت من الهندوسيّة والإسلام، أو «البوذيّة» التي هي ردّة فعل تجاه ثقافة الارتياض [الهندوسيّة] و..، أضف إلى ذلك، أن تشابه الأديان أيضًا فيما بينها في موارد مختلفة، يجعل الأمر أصعب[14].
خلاصة القول، إنّ تنوّع الأديان، وادّعاء كلّ دين الحقّانيّة لنفسه، وتشابه الأديان فيما بينها في قضايا كثيرة، وكون المسيحيّة واليهوديّة والإسلام أديانًا إلهيّة، ومن جهة أخرى، تحريف الأديان وظهور نِحَل جديدة وفرق حديثة الظهور؛ يجعل مسألة الحقّانيّة في باب الأديان تواجه مشكلة كبيرة، أي في الإجابة عن هذا السؤال أنّه «هل جميع الأديان حقّة، أو جميعها باطلة إلّا دينًا واحدًا، أو أنّ كلًّا منها يترافق مع قسط من الحقّ»؟، فإنّ الحديث عن البطلان المطلق غيرُ صحيح، وتتطلّب مسائل من هذا القبيل بحثًا وحوارًا وإمعانًا في النظر.

يمكن عرض آراء مختلفة في باب الدين والحقّانيّة، ولبعضها أو لجميعها أيضًا قائلون بها، ومنها:
جميع الأديان حقّة في جميع قضاياها، وحتى على الرغم من التعارضات الداخليّة، فيمكن أن تكون حقًّا.
تحتوي جميع الأديان على أجزاء من الحقّ، وما يتفاوت [فيما بينها] هو مقدار تمتّعها بالحقّ، فيتمتّع بعضها بقسط أوفر منه، وبعضها الآخر بقسط أقلّ.
جميع الأديان هي مظاهر من الحقّ، وقد تجلّى الحقّ لكل قوم بصورة خاصّة، ويعود الاختلاف بين الأديان إلى التفاسير المختلفة لهذا المظهر.
جميع الأديان هي مظهر ناقص من الحقّ، ولم يحظَ أيٌّ منها بالحقّ المحض.

يمكن لجميع الأديان أن تتضمّن أجزاء من الحقّ، ويمكن حتّى ألا تكون القضايا المشتركة فيما بينها قليلة، لكن معيارَ الحقّانيّة، هو المستوى المطلوب من الحقائق التي تؤدّي إلى النجاة والسعادة، ويمكن لهذا الأمر أن يوجد في دين بعينه، خاصّة بالنظر إلى السير التكامليّ للأديان الإبراهيميّة، وهذا الأمر مطروح في الأديان من اليهوديّة حتى الإسلام، وخاصّة بالنظر إلى الخاتميّة والشموليّة في الإسلام، اللتين يوليهما المسلمون الاهتمام، ولديهم أيضًا أدلّة وشواهد عليهما.

فوجود أجزاءٍ حقّةٌ في جميع الأديان، أو [وجود] مظاهر للحقيقة في الأديان المختلفة؛ لن يكون دليلًا على أنّها تحقّق السعادة وعلى أنّها مقبولة، أي لا يستحيل منطقيًّا أن يكون الدين الحقّ دينًا واحدًا، رغم أن جميع الأديان تتضمّن، بنحو ما، حقائق في داخلها، خاصّة إذا التفتنا إلى أنّ دائرة النجاة أوسع بكثير من دائرة الحقّانيّة، ولا يلزم من كون دين حقًّا، عذاب جميع الناس والأفراد الذين ينتمون إلى الأديان المختلفة، حتى يُشكّك في هداية الله أو رحمته أو حكمة الحقّ وما شابه، وهذا ما سيتضح أكثر في تتمّة البحث.

خلاصة القول، إذا فصلنا «الحقّانيّة» عن «النجاة من العذاب»، واعتبرنا دائرة النجاة أوسع بكثير من دائرة الحقّانيّة، وأخذنا أيضًا السير التكامليّ للأديان الإبراهيميّة بعين الاعتبار، فلن يكون محالًا منطقيًّا أن يكون، في مجال الحقّانيّة، دين واحد هو الحقّ، لكن يكون له فيرصة في النجاة بمقدار حيازة الحقيقة، وكون المرء جاهلًا قاصرًا في عدم إدراك الدين الحقّ، هو المعيار، لا الحقّ الواقعيّ الذي لم يصل إلى الناس.

نقد وتحليل
يفضي الرأي الأوّل، من الحقّانيّة إلى التناقض في بعض القضايا التي تطرحها الأديان المختلفة؛ إذ على سبيل المثال تطرح بعض الأديان مسألة التوحيد، وتطرح بعضها مسألة التثليث وما شابه. وقد يستعين أحدٌ بنظرية كانط، ليجيب على هذا الإشكال بنحو ما، فيقول: إنّنا لا نواجه الواقع، بل نواجه ظواهر الواقع، والأمر نفسه أيضًا يجري في باب حقائق الأديان، إذًا فالتناقض في الظواهر لن يكون هو التناقض في الكينونات[15].

والجواب عليه، أنّه أوّلًا: أُبطل في محلّه أساس مبنى كانط[16]، وتبيّن أن أهمّ إشكال على نظريّة كانط، هو عدم وجود دليل كافٍ لمبانيه النظريّة وأصل ادّعائه. ثانيًا: العلم الحضوريّ بالنفس وحالاتها، دليل متين على التوصّل إلى الواقع، وقد تبيّن جيّدًا في محلّه أيضًا أنّ البديهيّات الأوّليّة تعكس الواقع[17].

إضافة إلى المطالب المذكورة، فإذا كان الدين للهداية والنجاة، وكان هذان الأمران أمرين واقعيَّين ويطابقان نفس الأمر أيضًا، فمع عدم الوصول إلى الواقع في كلّ موضع؛ لن تتحقّق أبدًا هذه الحقيقة، وهي أنّه يوجد بين أفعال الإنسان والنتائج المترتّبة عليها علاقة ضروريّة وواقعيّة. على سبيل المثال: يشبع الإنسان عندما يأكل، وتتأمّن احتياجات جسمه، أو تحصل روح الإنسان ونفسه على حالة إيجابيّة أو سلبيّة من خلال القيام بأعمال خاصّة. وفي باب الأديان أيضًا، فإنّ النظرية المقبولة هي أنّ جزاء الإنسان أو عقابه، يرجع إلى أعماله وسلوكه ونيّاته وعقائده، وأن العقيدة الصحيحة والنيّة السليمة وأعمال الإنسان وسلوكه الخاصّ، تقود [جميعها] إلى السعادة وإلى نتائج إيجابيّة (نظريّة المصالح والمفاسد)، فإذا كانت الأديان قد جاءت من أجل سعادة الإنسان ونجاته، فنظرًا إلى النقطتين السابقتين، فلن تتحقّق هذه الحقيقة مع نظريّة كانط؛ إذ بناء على وجهة نظره، لن يتوصّل الإنسان أبدًا إلى الواقع، والأمور التي سبق ذكرها، هي أمور تطابق نفس الأمر وهي واقعيّة، إذًا فالسعادة الواقعيّة غير ممكنة، ولا يمكن التوصّل إلى جميع أو أكثر ما تتدّعيه الأديان. خلاصة القول، إنّ حقّانيّة جميع الأديان في جميع قضاياها باطلة، ويجب أن نحلّل الآراء الأخرى.

أما الآراء من الثاني إلى الرابع، فإنّها تواجه إشكالًا آخر، وهو أنّه: هل أنّ المستوى المطلوب من الحقّانيّة والذي يوجب النجاة موجود في هذه الأديان، أم يحتمل أن يكون المستوى المطلوب موجودًا في دين خاصّ؟ هذا الاحتمال مطروح منطقيًّا، ويجب الإجابة عنه بنحو حاسم حتى يتمكّن الإنسان من الخضوع بسكِيْنة إلى أيّ دين حسن، إذًا فمع هذا الاحتمال المذكور؛ يحكم العقل أنّه ما لم يحصل الاطمئنان تجاه هذه الآراء، فلا يعقل أن يتقبّل الإنسان التعدّديّة الدينيّة. هذا بالإضافة إلى أنّ الإسلام يدّعي الشموليّة والخاتميّة، ولهذا فإنّه يرى أنّه هو الدين الوحيد الذي يؤدّي إلى النجاة، وتعزز هذه المسألة احتمال عدم فلاح كلّ دين، وتجعل البحث العقلانيّ في باب حقّانيّة دين خاص، بمعنى المستوى المطلوب اللازم للحقّانيّة، أمرًا أكثر جدّيّة. طبعًا فإنّ عدم تحريف القرآن، وكونه معجزًا، وعقلانيّة آيات القرآن مقارنة مع الكتب المقدّسة لليهود والمسيحيّين، وأمور من هذا القبيل تظهر بنحو جيّد تفوّق الإسلام والقرآن على الكتب المقدّسة، وهو ما ينبغي أن يُبحث في محلّه. لكن جميع هذه الأمور، تعزّز مسألة عدم الاكتفاء بأيّ دين من أجل الفلاح، وتعزّز السعي للوصول إلى الدين الشامل والكامل. عجز العقل الإنسانيّ عن الوصول إلى جميع الحقائق الضروريّة للسعادة الأبديّة؛ يرجّح الأديان الإبراهيميّة على غير الإبراهيميّة، ونظرًا إلى المطالب المذكورة، فينبغي أيضًا أن يُدرس الإسلام، ضمن الأديان الإبراهيميّة، بنحو أكثر جديّة. 

وأنّه، من حيث النظرة العقليّة والاحتمالات العقلانيّة، ليست أيٌّ من المسائل المذكورة كافية في باب إثبات حقّانيّة جميع الأديان أو أكثرها، والاحتمال الراجح هو أن يمتلك دين واحد المستوى المطلوب اللازم للفلاح، ويكون بذلك هو الحقّ. وكذلك فإنّه نظرًا إلى الأبحاث الكلامّية والفلسفيّة في باب حقّانيّة الإسلام (التوحيد، النبوّة والمعاد)، وإثبات القضايا الاعتقاديّة، فإنّ المسألة تكتسب وضوحًا ويقينًا أكبر، ويستدعي مجالًا آخر. وأيضًا، نظرًا إلى سعة دائرة النجاة مقارنة مع دائرة الحقّانيّة، وهو ما سنعرض له لاحقًا، فمع قبول حقّانيّة دين خاصّ، فإنّ الرحمة والهداية والحكمة الإلهية لن تواجه التشكيك، وستكون التعدّديّة الدينيّة مقبولة فيما يتعلّق بالسعادة والفلاح. النقطة الأخيرة هي أنّ التعايش السلميّ بين الأديان إلى جانب بعضها، لا يتنافى مع حقّانيّة دين خاصّ، وأنّ التعدّديّة السلوكيّة[18] ليست لازمًا لا ينفكّ عن الانحصار في الحقّانيّة.

ث. علاقة الحقّانيّة والنجاة في الدين
طرح في باب العلاقة بين الحقّانيّة والنجاة ثلاث وجهات نظر عامة:

1. الانحصاريّة:
يرى هذا الاتجاه أنّ الخلاص والنجاة هما كالحقّانيّة، يكونان في دين خاص فقط[19] يقول جون هيغ:

«أوّلهم، والذين يمكن أن نسمّيهم «انحصاريّين»، يربطون النجاة/الخلاص الإنسانيّ بشكل انحصاريّ بمسلك دينيّ خاصّ، بنحوٍ يكون هذا الأمر من ضمن اعتقاداتهم الدينيّة وأبحاثهم الإيمانيّة؛ أنّ النجاة تنحصر بهذه الجماعة الخاصّة، وسائر أبناء البشر، إمّا أنّهم يبقون بعيدًا عن الأمر، أو أنّهم يُستثنون بصراحة من دائرة الخلاص والنجاة. يمكن أن نرى أكثر الأقوال إحساسًا وتأثيرًا في الحديث عن هذا الاعتقاد، في هذا الاعتقاد الدوغمائيّ الكاثوليكيّ الذي يقول: «لا خلاص ولا نجاة خارج الكنيسة»، وإلى جانبها أيضًا الحركة التبشيريّة البروتستانيّة في القرن التاسع عشر، التي كانت تقول: «لا يمكن تصوّر أي خلاص خارج المسيحيّة»[20].

نقد وتحليل
1. تقتضي الرحمة والعدالة الإلهيّة أن يكون الإنسان معذورًا إذا لم يصل، من دون تقصير أو تعمّد، إلى جميع أو بعض قضايا الحقيقة والواقع، خاصّة مع الالتفات إلى أنّ اليقين حجّة، وأكثر الناس في الأديان المختلفة، هم على يقين بما يؤمنون به، وحتى أنّهم في بعض الحالات لا يحتملون الخلاف، ويعتقدون أنّهم يعملون بما هو حقّ. إذا لم يكن هؤلاء الأشخاص مقصّرين في يقينهم واعتقادهم هذا، وكانوا جاهلين مقصّرين، فسيكونون معذورين، وسينجون من العذاب الإلهيّ.

2. ومع فرض انحصار النجاة في الدين الحقّ، فيجب أن يكون الوصول إلى هذا الدين الحقّ ممكنًا للجميع، ومع فرض الواقع الموجود في الأديان، والادعاءات المختلفة، وأيضًا من خلال نظرة تاريخيّة، فسيتّضح جيّدًا بجلاء، أنّ موانع وصول الإنسان إلى الحقّ المطلق، التي تحصل عادة عبر التحريف والإضلال، تمنع هذه الحقيقة؛ ولهذا السبب، فإنّ الحديث عن الانحصار في النجاة لن يكون حديثًا تامًّا. بعبارة أخرى، لم يكن عدم توصّل جميع من لم يتوصّلوا إلى الدين الحقّ، بداعي سوء النية أو معاندة الحقّ، وثمّة عدد كبير منهم هم معذورون في ذلك.

2. الشموليّة
على الرغم من أنّ الدين الحقّ ينحصر في وجهة النظر هذه في دين واحد فقط، فإنّ الأديان الأخرى يمكن لها أن تؤدّي إلى النجاة والفلاح، وقد ذكروا أدلّة مختلفة لهذا الأمر طبعًا، يمكن ذكرها، أو ذكر بعضها على النحو التالي: مسألة الاستضعاف، أو وجود قضايا حقّة في جميع أو أكثر الأديان، أو اللطف الإلهيّ [المتجلّي] عبر الأديان المختلفة، أو شموليّة اللطف الإلهيّ بنحو مطلق، الذي يوجب قبول الأديان الأخرى التي تشملها الرحمة الإلهيّة بنحو ما من خلال فداء المسيح[21]. يقول جون هيغ:

«على أي حال، يمكن أن نتناول الآن إجابة مسيحيّة ثانية عن جوابنا، ويمكن أن نسمّيها ب«الشموليّة». يمكن أن نبيّن هذا الأمر على الأساس الحقوقيّ لمفهوم الخلاص، أو على أساس مفهوم تغيّر وتحوّل الموجود الإنسانيّ. بناء على الأوّل، فإنّه تطرح هذه النظريّة، وهي أنّ المغفرة الإلهيّة وتقبّل الناس [من قبل الله تعالى] صارت ممكنة بموت (صلب) عيسى المسيح، أمّا الآثار ومنافع هذه الآثار والفداء، فهي أمور لا تنحصر أبدًا بأولئك الذين عبّروا صراحة عن إيمانهم بها. تغطّي حقوق فداء المسيح «كلّ» الذنوب الإنسانيّة، بحيث إنّ اللطف والرحمة الإلهيّة يشملان الآن جميع أبناء الإنسان، رغم أنّهم لم يسمعوا أبدًا حتى باسم عيسى المسيح، أو لا يعلمون لماذا سلّم الروح على صليب تلة الجلجلة في القدس بفلسطين. أعتقد أنّ هذا النحو من الشموليّة والعموميّة أيّده البابا الحاضر في أوّل بيان عامّ له، إذ أعلن بصراحة: «خطيئة الإنسان – جميع الناس دون أدنى تحفّظ أو استثناء – افتُديت من قبل المسيح، ومن هذا الحيث فإنّ المسيح متّحد بنحو ما مع الإنسان – كل الناس دون أدنى تحفّظ أو استثناء – حتى عندما يكون الإنسان نفسه جاهلًا بهذا الاتحاد»[22].

يبدو أنّ الشموليّة، ببيان واحد، هي تعديل ذاك الأمر الذي يستحسنه العقل، وهو أنّه لا يوجد أيّ تلازم بين الحقّانيّة والنجاة، بل كلّ دين حقّ هو علّة للنجاة، لكن ليست النجاة بالضرورة من خلال الدين الحقّ فقط، أي ربما يكون المعتقدون بالأديان الأخرى أيضًا من أهل النجاة بسبب الجهل القصوريّ والاستضعاف، وهذا الأمر هو لازم العدل والرحمة الإلهيّة.

3. التعدّديّة
أو أن أكثر الأديان لها سبيلها نحو الحقيقة والنجاة، ولا وجه لانحصار الحقّانيّة والنجاة في دين خاصّ. هذه هي عبارة جون هيغ:
الجواب الثالث الممكن عن السؤال حول العلاقة بين الخلاص/النجاة والمذاهب الدينيّة الأخرى الكثيرة، يمكن تسميته بأحسن وجه بـ «التعدّديّة». كموقف مسيحيّ، يمكن رؤية هذه التعدّديّة على نحو قبول النتيجة المنطقيّة اللاحقة، التي تشير إليها «نظريّة الشموليّة والعموميّة»؛ فإذا قبِلْنَا أنّ نجاة/خلاص الإنسان تتحقق ضمن مذاهب العالم الدينيّة الكبرى، فلماذا إذن لا نقبل بصدق، أنّه يوجد نحو من التعدّديّة في الانعكاسات الخلاصيّة الإنسانيّة مقابل الحقيقة الإلهيّة الغائيّة؟ في هذه الحالة، فالتعدّديّة هي: إقرار وقبول وجهة النظر هذه، أنّ تحويل وتبديل الوجود الإنسانيّ من حالة التمركز حول الذات إلى التمركز حول الله (الحقيقة)، يحصل بأنحاء متنوعة داخل جميع مذاهب العالم الدينيّة الكبرى. بعبارة أخرى، لا يوجد طريق وأسلوب واحد فقط للخلاص والنجاة، بل يوجد في هذا المجال طرق متعدّدة ومتكثّرة. يوجد ضمن المصطلحات الكلاميّة-المسيحيّة، أنواع من الرسائل الإلهيّة الوحيانيّة، التي تؤمِّن في المحصلة أرضيّة لأنماط الانعكاسات الإنسانيّة الخلاصيّة[23].

نقد وتحليل
يبدو أوّلًا، أنّ تعاليم جميع الأديان تتعارض مع وجهة النظر هذه. ثانيًا، مضى في بحث الحقّانيّة أنّ احتمال وجود المستوى المطلوب من الحقيقة في دين خاصّ هو عائق كبير في طريق وجهة النظر هذه، وما لم يُدفع هذا الاحتمال، فلا يمكن الاعتقاد بهذه النظريّة؛ ولهذا فإنّه في ظلّ وجود أدلّة كلاميّة وفلسفيّة تثبت حقّانية الدين الإسلاميّ الذي يدّعي الشموليّة والخاتميّة، ويتمسّك أتباعه لإثبات ذلك بأدلّة وشواهد أيضًا، فإنّ هذا الاحتمال يتعزّز بنحو ما، وفي الإسلام يتطلّب الإعراض عنه دليلًا قاطعًا، ولا وجود أيضًا لدليل كهذا.

2. نظرة قرآنيّة إلى التعدّديّة الدينيّة
يمكن بالرجوع إلى آيات القرآن الكريم، التوصّل إلى جملة من النقاط المهمّة، ومنها:

أ. الإسلام هو الدين الحقّ، وهو مهيمن على جميع الأديان، ويجب على جميع الناس وعلى جميع أهل الكتاب الإيمان به. الإسلام دين عالميّ، وتُطرح فيه مسألة الخاتميّة والشموليّة، ولن يُقبل أيّ دين آخر سواه[24].
ب. تمتلك جميع الأديان الحقّانيّة في عصرها إلى حين مجيء الرسول اللاحق، ويجب علينا الإيمان بجميع أديان الرسل الإلهيّين[25].

ت. حُرّفت الأديان السابقة، ولا يمكن الوثوق بما بين يديها[26]. آيات القسم الأوّل من قبيل قوله تعالى: ﴿هُوَ الَّذي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالهُدَى وَدِينِ الحقّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ﴾[27]، وكذا الآية 29 من سورة التوبة، التي تدل على أنّه يجب على أهل الكتاب إمّا أن يؤمنوا بالدين الحقّ (الإسلام)، أو أن يدفعوا جزية وضرائب للدولة الإسلاميّة. وكذلك الآية 85 من آل عمران التي تقول: ﴿وَمَنْ يَبْتَغِ غَيرَ الإِسْلَامِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ﴾، أو الآية 137 من سورة البقرة التي تقول: (فَإِنْ آمَنُوا بِمِثْلِ مَا آمَنْتُمْ بِهِ فَقَد اهْتَدَوا)، والآية السادسة من سورة الصف التي بشّرَ فيها النبيُّ عيسى(عليه السلام) برسول الإسلام(صلى الله عليه وآله وسلم) ، وأقر بحقّانيّته[28]، والآية الشريفة 19 من سورة الإنعام التي تقول: {وَأُوحِيَ إِلَيَّ هَٰذَا الْقُرْآنُ لِأُنذِرَكُم بِهِ وَمَن بَلَغَ}، فجميع هذه الآيات تدلّ على حقّانيّة الإسلام، وعلى أنّه يجب على الجميع الإيمان به.

في الحقيقة، يتبيّن من السير التاريخيّ للأديان الإلهيّة ومن الآيات السابقة، أنّ الأديان الإلهيّة، من النبيّ آدم حتى الخاتم، هي جميعًا على صراط الله المستقيم، وكلّما تقدّمنا [زمنيًّا] إلى الأمام أكثر، فإنّها تتمتّع بشموليّة وتكامل بإزاء تكامل الناس لفهم وإدراك حقائقه.وفي هذا السياق فإنّ الإسلام هو دين شامل وخاتم إلى يوم القيامة، ومع وجوده، ومنذ عصر رسول الإسلام(صلى الله عليه وآله وسلم) وما بعد، فإنّ الذي يمتلك المستوى المطلوب للهداية والفلاح، هو الإسلام. إذًا، فمن الناحية العقليّة – كما مضى – ليس محالًا أن يكون دين واحد هو الحقّ، وألّا تكون أيٌّ من الأديان الأخرى مقبولة من قبل الحقّ تعالى، رغم أنّه يوجد بكثرة في جميع الأديان قضايا حقّة أيضًا، ولربما يكون بعض المؤمنين (الجاهلين المقصّرين والمستضعفين) بهذه الأديان من أهل النجاة. فيجب على الأديان أن تتعامل في حياتها الاجتماعيّة بسلوك مسالم، ولازم حقّانيّة دين خاصّ، ليس هو عذاب جميع الناس، ولا الحرب، ولا سفك الدماء، وتؤيّد الآيات القرآنيّة أيضًا هذه المطالب، كما سيأتي لاحقًا.

القسم الثاني من الآيات، كالآية الشريفة 285 من سورة البقرة التي تقول: (آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنزِلَ إِلَيْهِ مِن رَّبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ…)، وكذا الآيات 136 إلى 152 من سورة النساء، و184 من سورة آل عمران، التي تدلّ جميعها على هذا الأمر.

وآيات القسم الثالث أيضًا، كالآية الشريفة 71 من سورة آل عمران، التي تقول: (يَا أَهْلَ الكِتَابِ لِمَ تَلْبِسُونَ الحقّ بِالباطِلِ) (تخلطون الحقّ بالباطل وتوقعون الآخرين بالخطأ) (وَتَكْتُمُونَ الحقّ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ)، والآيات 75 إلى 79 من سورة البقرة التي تدل على تحريف الكتب المقدّسة [لأهل الكتاب]، وفي المحصّلة، فإنّ الإيمان بها لن يكون مقبولًا عند الله تعالى.
الشيء الذي لا يراه العقل محالًا، هو أن يكون بين الأديان الموجودة في العالم، دين واحد هو الحقّ بدليل شموليّته وكماله وعدم تحريفه ونقصه، وأن يتضمّن المستوى المطلوب من السعادة والفلاح، ويرى القرآن الكريم أيضًا أن هذا الأمر متحقّق في الإسلام. لكن آيات من قبيل: (لا يُكَلِّفُ اللهُ نَفْسًا إلَّا مَا آتاها)[29]، (لَيْسَ لِلْإِنْسانِ إِلَّا ما سَعَى)[30] و(وَمَا كُنَّا مَعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا)[31] تدلّ على هذا الأمر: أن ما هو مهمّ، هو سعي الناس وجهدهم من أجل الوصول إلى الحقّ والعمل به. فإذا سعى الإنسان سعيه، لكنّه واجه موانع، غير الهوى والشهوة وحب الدنيا، ولم يصل إلى الحقّ بنحو كامل، فإنّه معذور ومن أهل النجاة، خاصّة إذا كان عمل بما كان يراه صحيحًا، من قبيل الصدق، الأمانة، عدم ظلم الآخرين، وما شابه. إذًا، فما دام أن الحجّة غير تامّة على الناس، فإنّ الله لا يعذّب أحدًا، وكلّ هذا يدلّ على هذه المسألة، أنّه ليس اللازم الذي لا ينفكّ عن كون دينٍ حقًّا، عذابَ بقية الناس، وكذا الحرب وسفك الدماء بين الأديان، كما كان الحال في المدينة، حيث كان أهل الكتاب يعيشون بسلام.

يوجد في القرآن الكريم آيات يمكن أن تبدو وكأنها تدلّ بنحو ما على التعدّديّة الدينيّة. نستعرض بداية الآية التي نشير إليها، ثم نبحث دلالتها: ﴿إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هادُوا وَالنَّصارى وَالصَّابِئِينَ مَنْ آمَنَ بِاللهِ وَاليَوْمِ الآخِرِ وَعَمِلَ صالِحًا فَلَهُمْ أجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلا خَوفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُون، أي عُرِّف معيار النجاة، على أنّه الإيمان بالله والمعاد والعمل الصالح، وكذلك فقد جعلت الآيات الشريفة 125 من النساء، 113 من البقرة، والآيات من 113 إلى 124 من آل عمران، معيارَ النجاة، الإيمان والتقوى، واتّباع دين النبيّ إبراهيم(عليه السلام)، والتوحيد ونفي الشرك والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وظاهر هذه الأمور عدم الاحتياج، بنحو كامل، إلى اعتناق الإسلام. إذًا، فهذا يشير إلى أنّ الإنسان إذا قام بالأمور المذكورة، فسيكون ناجيًا على أيّ دين كان. وهذه الأمور هي: 1) [الإيمان][32] بالله والمعاد والتوحيد، 2) [العمل][33] الصالح والإخلاص والعبادة، 3) الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والمسارعة في الخير.

والجواب عنه، هو أنّه:
أوّلًا: بدليل وجود آيات القسم الأول والقسم الثالث، فيجب أن تُفسّر هذه الآيات بنحو لا يتعارض مع تلك الآيات.
ثانيًا: إذا كان لأهل الكتاب إيمان وتقوى وعمل صالح، فسيدركون حقّانيّة الإسلام، إذ العمل بالإنجيل والتوراة الحقيقيّتين، يهديهم إلى الإسلام.
ثالثًا: ما هو منقذ، ليس اسم الإسلام، وليس اسم اليهود والنصارى، بل الإيمان بالله والتقوى والعمل الصالح، وعدم الإعراض عن أنبياء الله، ولو كان اليهود والنصارى يتّبعون الحقّ، ولم يعرضوا عن رسول الإسلام(صلى الله عليه وآله وسلم) بسبب تحريف دينهم [المسيحيّة] ودين موسى(عليه السلام)، إذن لهدوا إلى الطريق المستقيم. في الحقيقة إنّ الإيمان بالله، هو الإيمان بجميع لوازم هذا الإيمان، ومن جملة ذلك الإيمان بإرسال الرسل وبنبوّة النبيّ محمّد (صلى الله عليه وآله وسلم) .
رابعًا: من يتمتّع بالإيمان بالله والمعاد والتوحيد، وينفي الشرك، ولديه الإخلاص والعمل الصلاح ويعمل الخير، فقد وصل بمقدار كبير إلى الحقيقة، وإذا كانت سائر الموارد الأخرى عن جهل وقصور – لا عن تقصير – فإنّها مغفورة عند الله تعالى، وكلّما كان الإنسان أقرب إلى الحقّ، كان حظّه من الفلاح أكثر.

النتيجة
الدين الحقّ، هو دين يطابق الواقع، ومفيد للبشريّة، ويسدّ جميع الحاجات المادّيّة والمعنويّة، وهو دين يتضمّن طريق الحياة الصحيح، وسعادة دنيا الإنسان وآخرته أيضًا.
ليس محالًا من وجهة نظر العقل أن يكون دين واحد، من بين جميع الأديان الموجودة في العالم، هو الحقّ المحض، بمعنى أن يكون حقًّا كمجموعة كاملة، في عين أن تتضمّن جميع الأديان الحقّ في بعض أقسامها، وتتضمّن مظاهر من الحقّ، ويكون لها قضايا مشتركة كثيرة مع الدين الحقّ.

قُدّم الإسلام في القرآن الكريم على أنّه الدين الحقّ، وكذلك فإنّ القرآن أيّد جميع الأديان الإلهيّة في المواضع التي تتصف بالحقّ، وأنكر القضايا المحرّفة.
بناء على آيات من قبيل (لا يُكَلِّفُ اللهُ نَفْسًا إِلَّا ما آتَاها)، (لَيسَ لِلْإِنْسانِ إِلَّا ما سَعَى) و(وَمَا كُنَّا مَعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا)، فإنّ الإنسان مكلّف بمقدار وُسْعِه وما يملك، لا أكثر من ذلك، وهذا أيضًا ما تقتضيه العدالة الإلهيّة. بناء عليه، فإنّ الجهلاء غير المقصِّرين (القاصرين) والمستضعفين، هم أولئك الذين رغم أنّهم لم يصلوا بشكل كامل إلى الحقّ والدين الحقّ، فإنّهم معذورون وأهل نجاة، وإنّ دائرة النجاة أوسع من دائرة الحقّانيّة.

لا يتنافى التعايش السلميّ للأديان مع حقّانيّة دين خاصّ، ولا يلزم من حقّانيّة دين خاصّ الحرب الدائمة بين الناس وسفك الدماء، كما أنّنا نرى هذه الحقيقة بجلاء في مدينة الرسول والحكومة الإسلاميّة الراهنة[34].

المصادر والمراجع
القرآن الكريم.
دروس في العقيدة الإسلاميّة، الجزء الأوّل، طهران: مركز منظّمة الإعلام الإسلاميّ للطباعة والنشر- (1375هـ)
سابقة وأسس نظريّة المعرفة، طهران، مؤسّسة نشر معهد دراسات الثقافة والفكر الإسلاميّ، الطبعة الثانية- (1396هـ).
ابن منظور، محمّد بن مكرم، لسان العرب (1414)، بيروت: دار صادر، الطبعة الثالثة.
ابن ميثم البحرانيّ (1378)، شرح نهج البلاغة، طهران: المطبعة الحيدريّة.
أنيس، إبراهيم وآخرون (1372)، المعجم الوسيط، طهران: مركز نشر الثقافة الإسلاميّة، الطبعة الرابعة.
بيترسون، مايكل وآخرون، (1379)، العقل والاعتقاد الدينيّ، ترجمة أحمد نراقي وإبراهيم سلطاني، طهران: مؤسّسة وزارة الثقافة والإرشاد الإسلاميّ للطباعة والنشر، الطبعة الثالثة.
بيترسون، مايكل؛ هاسكر، ويليام؛ رايشنباخ، بروس؛ بازينجر، ديفيد (1379) العقل والاعتقاد الدينيّ، ترجمة أحمد نراقي وإبراهيم سلطاني، طهران: منشورات طرح نو، الطبعة الثالثة.
الجعفريّ، محمّد تقي (1378)، الحقّ والباطل، طهران: منشورات رسالة الحرّيّة، الطبعة الأولى.
جوادي آملي، عبد الله (1385)، الحقّ والتكليف في الإسلام، قم: مركز إسراء للنشر، الطبعة الثانية.
جون هيغ، جون (1378)، أبحاث التعدّديّة الدينيّة، ترجمة عبد الرحيم ﭽواهي، طهران: مؤسّسة تبيان الثقافيّة للنشر.
حسيني بهشتي، السيّد محمّد (1378)، الحقّ والباطل في القرآن، طهران: منشورات بقعه، الطبعة الأولى.
الراغب الأصفهانيّ، حسين (1416 ق)، مفردات ألفاظ القرآن، تحقيق صفوان عرفان، بيروت: الدار الشامّيّة ودار القلم.
الزبيديّ، محمّد تقي (لا تاريخ)، تاج العروس من جواهر القاموس، بيروت: منشورات دار مكتبة الحياة.
الشرتوني اللبنانيّ، سعيد الخوري (1889)، أقرب الموارد في فصح العربيّة والشوارد، بيروت: السبوعيّة[35].
الطباطبائيّ، السيّد محمّد حسين (1392 ق)، الميزان، قم: مؤسسة إسماعيليان للطباعة.
الفارابي (1405 ق)، فصوص الحكم، تحقيق محمد حسين آل ياسين، قم: منشورات بيدار.
الفراهيديّ (1405 ق)، العين، تحقيق مهدي المخزوميّ وإبراهيم السامرائيّ، قم: دار الهجرة، الطبعة الأولى.
كانط، نقد العقل العمليّ، ترجمة الدكتور إنشاء الله رحمتي (1385)، طهران، منشورات نور الثقلين، الطبعة الثانية.
لغنهاوزن، محمّد وآخرون (1376)، الدين وأفق جديدة، ترجمة غلام حسين توكّلي، قم: مركز الإعلام الإسلاميّ.
مصباح اليزدي، محمّد تقي (1386)، نظريّة الحقوق الإسلاميّة، قم: منشورات مؤسّسة الإمام الخمينيّ التعليميّة والبحثيّة، الطبعة الأولى.
معلمي، حسن (1388)، نظرة على نظريّة المعرفة في الفلسفة الغربيّة، طهران: مؤسّسة نشر معهد دراسات الثقافة والفكر الإسلاميّ، الطبعة الثانية.
ناس، جون بي (1370)، تاريخ الأديان الشامل، ترجمة علي أصغر حكمت، طهران: منشورات تعليم الثورة الإسلاميّة، الطبعة الخامسة.
هيوم، روبرت (1369)، أديان العالم الحيّة، ترجمة عبد الرحيم ﭽواهي، طهران: مركز نشر الثقافة الإسلاميّة.        

——————–
[1]*- أستاذ محاضر في الفلسفة وعلم الكلام – جامعة باقر العلوم- إيران.
– ترجمة: رولا السعدي.
– فصليّة آيين حكمت [مذهب الحكمة] العلميّة-البحثيّة، السنة العاشرة، صيف 1397، العدد 36.
[2]- (تي يل 1830-1902؛ بيترسون وآخرون، 1379: 18).
[3]- المصدر السابق.
[4]- المصدر السابق.
[5]- (لغنهاوزن وآخرون، 1376: 19).
[6]- (إي. إتش. برادلي) (السابق).
[7]- (انظر: لغنهاوزن وآخرون، 1376: 19-20؛ ناس، 1370: 13).
[8]- (الطباطبائيّ، 1392 ق، 2: 120).
[9]- (مصباح اليزدي، دروس في العقيدة الإسلامية، ج1، ص 28).
[10]- (ابن ميثم البحراني، 1378، 1: 108).
[11]- (الجعفري، فلسفة الدين، ص 95).
[12]- (انظر: الفراهيدي، 1405 ق: 190؛ الشرتوتي اللبناني، 1889 م، 1: 214؛ أنيس، 1372، 1: 187؛ الزبيدي، بلا تاريخ، 6: 315؛ الراغب الأصفهانيّ، 1416 ق: 124-126). (الصحاح، ج4: ص 149، لسان العرب، ج3، ص 255)
[13]- (الفارابي، 1405 ق: 56-57؛ الجعفريّ، 1378: 3-4؛ بهشتي، 1378: 19-20؛ جوادي آملي، 1385: 24-27؛ مصباح اليزدي، 1386: 33-34).
[14]- (بيترسون، 1379: 398-400؛ هيك، 1378: 60).
[15]- سعى أمثال جون هيغ بنحو ما إلى تقديم جواب كهذا (أنظر: هيك، 1387: 244-246).
[16]- (أنظر: معلمي، 1388: 134-135)
[17]- (السابق، 1396: 330-341).
[18]- [پلوراليسم رفتارى: التعدّديّة السلوكيّة تعني التعايش السلميّ لجميع الأديان إلى جانب بعضها].
[19]- (هيك، 1378: 64 وما بعدها؛ بيترسون، 1379: 402).
[20]- (هيك، 1378: 64-65).
[21]- (بيترسون، 1379: 414 وما بعدها).
[22]- (هيك، 1378، 66-67).
[23]- المصدر السابق- ص 69.
[24]- (انظر: الفتح: 28؛ التوبة: 29؛ آل عمران: 7، 13، 20 و85؛ المائدة: 3، 15، 16 و19؛ البقرة: 130 و137؛ النساء: 115؛ الأنعام: 19-20؛ الصف: 6؛ الأعراف: 157؛ الفرقان: 10؛ التكوير: 27).
[25]- (انظر: البقرة: 285؛ النساء: 132، 152 و161؛ آل عمران: 83).
[26]- (انظر: آل عمران: 7؛ البقرة: 75-79؛ النساء: 46 و171؛ المائدة: 13، 14، 59، 64 و72).
[27][التوبة: 33].
[28][«وَمُبَشِّرًا بِرَسُولٍ يَأتِي مِنْ بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَد»].
[29][الطلاق: 7].
[30][النجم: 39].
[31][الإسراء: 15].
[32][الجملة ناقصة دون هذه الكلمة المفقودة من النص].
[33][نفس الملاحظة السابقة].
[34][يعني في الجمهورية الإسلامية في إيران].
[35][كذا في النص الفارسي، ولعله خطأ مطبعي!].

**

المصدر: مجلة الاستغراب