التأويل الصوفي للنص/ د.عبد الاله نبهان

التأويل الصوفي للنص

د.عبد الاله نبهان

..

 

يتداول مفسرو الكتاب العزيز والباحثون في اللغة والأدب قديماً وحديثاً كلمتين هما: التفسير والتأويل، ويستفيضون في تطورهما، في اتحادهما ثم افتراقهما(1) واستقر الأمر على التفريق بين التفسير والتأويل فَخُضَّ التفسير بتناول المدلول اللغوي القريب الذي يُعنى بشرح المعنى وتفسير آيات الأحكام، وخُصَّ التأويل بأنه عملية عقلية أو ذوقية إلهامية تسمو إلى إدراك المقاصد الخفية والعميقة مما لايدركه سائر الناس،ولذلك نجد الإمام القشيري(376-465هـ) يميز تمييزاً حاسماً بين التفسير والتأويل، فيجعل التأويل للخواص وتفسير التنزيل للعوام(2)، وكان الماتريدي أبو منصور(….-333هــ) قبل ذلك قد جعل التفسير خاصاً بالقَطْع بأن مراد الله تعالى كذا، أما التأويل فهو ترجيح أحد المحتملات بدون قطع(3).. وانتهى الأمر لدى الإمام الآلوسي(1217-1270هــ)، بأنه قد تم التعارف من غير نكير أن التأويل إشارة قدسية ومعارف سبحانية تتكشف عن سجف العبارات للسالكين، وتنهلّ من سحب الغيب على قلوب العارفين، والتفسير غير ذلك(4).ومن هذا الفهم الإلهامي الذوقي الغيبي للتأويل يمكننا أن نفهم ما ذهب إليه آل تيمية(5) في كتابهم “المسودة في أصول الفقه” من أن التفسير علم ليست له أصول(6)، ولذلك يمكننا ألا نأبه للحظْر الذي ذهب إليه بعضهم من أن كلام الصوفية في القرآن ليس بتأويل (7)، إذ كيف يكون كلام غيرهم تأويلاً وكلامهم ليس بتأويل؟.. ومَن المسموح له بإقرار تأويل ونبذ آخر؟ والجميع على اختلاف مذاهبهم يقرون بضرورة التأويل، بل إن ابن رشد(520-595هـ) ذهب إلى أن المسلمين أجمعوا ” على أنه ليس يجب أن تحمل الفاظ الشرع كلها على ظاهرها، ولا أن تخرج كلها عن ظاهرها بالتأويل” ويذكر ابن رشد أن السبب في ورود الشرع فيه الظاهر والباطن هو اختلاف نظر الناس وتباين قرائحهم في التصديق” والسبب في ورود الظواهر المتعارضة فيه هو تنبيه الراسخين في العلم على التأويل الجامع بينهما” أما الاختلاف في التأويل فهو أمر لابد منه، بل إنه نتيجة منطقية لاختلاف نظر الناس وتباين قرائحهم لذلك ذهب الغزالي(450-505هـ) وأبو المعالي إمام الحرمين(419-478هـ) وغيرهما من أئمة النظر إلى أنه لا يُقطع بكفر مَنْ خرق الإجماع في التأويل(8)، وبناء على ما تقدم يمكننا أن ننظر إلى بعض مظاهر التأويل عند الصوفية متأملين محللين محاولين الكشف عن مصادر هذا التأويل وأسبابه، ولكن لابد من التنبيه أولاً على أن كبار الصوفية كالغزالي وابن عربي(560-638هـ) والنابلسي(1050-1143هـ) .. كانوا ينصون صراحة على أن تأويلهم للنص القرآني لا يلغي معناه الظاهري المعتمد على فهم اللغة وتراكيبها، فهم بذلك يختلفون عمّن اتخذ التأويل أساساً للفهم والعمل من أصحاب المذاهب الأخرى.. لذلك صرح ابن عربي في غير ما موضع بأن هذا من باب الإشارة لا من باب التفسير(9).. فمن جملة ما اتسع الصوفية في تأويله نص آية النور( الله نور السماوات والأرض مثل نوره كمشكاة فيها مصباح، المصباح في زجاجة، الزجاجة كأنها كوكب دري يوقد من شجرة مباركة، زيتونةٍ لا شرقية ولا غربية يكاد زيتها يضيء ولولم تمسسه نار، نور على نور، يهدي الله لنوره مَن يشاء، وضرب الله الأمثال للناس، والله بكل شيء عليم)(10). وقد ورد في تأويل هذه الآية كلام كثير، وخصّها الإمام الغزالي بالتأويل في كتاب وَسَمه باسمها” مشكاة الأنوار” وتم تأويله على النحو التالي:
1- المشكاة :
هي الروح الحساس، وهو الذي يتلقى ما تورده الحواس الخمس وكأنه أصل الروح الحيواني وأوله، وهو موجود للصبيّ والرضيع، وأوفق مثال له من عالم الشهادة : المشكاة..
2- الزجاجة:
وهي تقابل الروح الخيالي الذي يستثبت ما تورده الحواس ويحفظه مخزوناً عنده ليعرضه على الروح العقلي الذي فوقه عند الحاجة إليه، وخواصه أنه من طينة العالم السفلي الكثيف، لكنه إذا صُفّي ورقق وهُذّب صار موازياً للمعاني العقلية ومؤدياً لأنوارها، ثم إنّ الخيال محتاج إليه لضبط المعارف العقلية فلا تضطرب ولا تتزلزل، وهذه الصفات لا تتوافر في عالم الشهادة إلا للزجاجة فهي في الأصل جوهر كثيف لكنه صُفّي ورقّق حتى لا يحجب نور المصباح، بل يؤديه على وجهه ثم يحفظه عن الانطفاء بالرياح العاصفة والحركات العنيفة.
3- المصباح:
وهو الروح العقلي الذي به إدراك المعارف الشريفة الإلهية، ولذلك كان الأنبياء سُرجاً منيرة..
4- الشجرة: وهي تقابل الروح الفكري الذي هو قابلٌ للمضاعفة، فهو يبتدئ من أصل واحد، ثم تتشعب منه شعبتان.. وهكذا إلى أن تكثر الشعب بالتقسيمات العقلية.. ثم تفضي بالآخرة إلى نتائج هي ثمراتها، وهذه الثمرات تعود بذوراً لأمثالها.. هذا الروح الفكري الذي يبدأ من واحدٍ ثم يتلاقح مثاله في عالمنا هذه الشجرة، وخُصّت شجرة الزيتون بالاختيار لأن الزيت يستمد منها، وهو مادة المصابيح، وتختص بخاصية زيادة الإشراق.. ولذلك كانت هذه الشجرة مباركة لكثرة ثمرها وما يفيضه من خير” وإذا كانت شعب الأفكار العقلية المحضة خارجة عن قبول الإضافة إلى الجهات والقرب والبعد، فبالحريّ أن تكون لا شرقية ولا غربية..”
5- الزيت:
وهو مقابل الروح القدسي النبّويّ الذي يختصّ به الأنبياء وبعض الأولياء لأنه في غاية الصفاء والشرف، وكأنه يتنبّه بنفسه من غير مدد خارج، لذلك فهو يكاد يضيء ولو لم تمسسه نار ” إذ من الأولياء من يكاد يشرق نوره حتى يكاد يستغني عن مدد الأنبياء..وفي الأنبياء من يكاد يستغني عن مدد الملائكة.. وإذا كانت هذه كلها أنواراً بعضها فوق بعض فبالحري أن تكون نوراً على نور، ونور الله المتجلي في الإنسان كمشكاة.. وتلك الأنوار اقتبست من نور الأنوار الذي ضرب لها أمثلة من العالم المحسوس(11).
وللباحث أن يتساءل : أتوحي هذه الآية الكريمة أم تشير إلى ما ذهب إليه الغزالي في تأويلها؟ أتستطيع الآية أن تحمل ما حمّلها إياه الإمام؟ وهذه الأرواح ذات المراتب المتدرجة من المحسوس إلى المعقول والتي قابل بها المشكاة والزجاجة والمصباح والشجرة والزيت من أين أتى بها، وكيف أقام صلة الوصل بين بعضها وبعض؟ قد يكون من السهل البحث عن أصول هذه التقسيمات في اصول ثقافة الغزالي، وفعلاً فإننا وجدنا بعض الباحثين يعود بها إلى تساعات أفلوطين( 205- 270م) أو إلى أثولوجيا أرسطو(12)(384-322ق.م).. وليس هناك أدنى شك في اطلاع الغزالي على تلك الثقافات وعلى جماع ما فيها من آراء، ولكن السؤال يبقى قائماً: كيف أمكن لهذه الآراء أن تعيد تشكلها وتكوينها على نحو جديد يتلاءم على نحوٍ ما مع نصٍّ محكم التنزيل؟ بل إنها حملت عليه وكأنها تفصيل لمجمله؟..
وأرى أن أؤخر محاولة الإجابة إلى موضع آخر، لأتناول قبل ذلك أمثلة أخرى من ضروب التأويل التي أبدعها كبار الصوفية، وساقف لدى بعض التأويلات اللطيفة للإمام القشيري..
في لطائف الإشارات وقف الإمام القشيري لدى قوله تعالى: ( وإذ قال إبراهيم ربّ أرني كيف تحيي الموتى، قال : أولم تؤمن؟، قال : بلى، ولكن ليطمئن قلبي، قال : فخذ أربعةً من الطير فصرهنّ إليك ثم أجعل على كل جبل منهنّ جزءاً ثم ادعهنّ يأتينك سعياً، واعلم أن الله عزيز حكيم)(13) فالطيور الأربعة عند القشيري هي : طاووس وغراب وديك وبط، فإذا ذبحها فقد ذبح زينة الدنيا وزهرتها= الطاووس، والحرصَ =الغراب، والاختيال والعجب= الديك،.. والسعي لطلب الرزق=البط..
ورأى القشيري أن الإشارة من هذا أن حياة القلب لا تكون إلا بذبح هذه الأشياء، يعني النفس، فمن لم يذبح نفسه بالمجاهدات لم يَحْي قلبه بالله…
وفيه إشارة أيضاً، وهو أنه قال: قطّع بيديك هذه الطيور وفرّق أجزاءها ثم ادعهنّ يأتينك سعيا.. فما كان مذبوحاً بيد صاحب الخلة مقطعاً مفرّقاً بيده فإذا ناداه استجاب له كل جزء مفرّق.. كذلك الذي فرّقه الحق وشتته، فإذا ناداه استجاب….: (من الكامل).
ولو آنّ فوقي تربةً ودعوتني
لأجبتُ صوتَكَ والعظامُ رُفاتُ (14)

ومن لطائف التأويل ما تعاوره أئمة التصوف في تأويلهم لما ورد في قصة موسى عندما ظهرت له النار، وطلب من أهله أن يمكثوا ليذهب إليها ويأتي منها بقبس أو يجد على النار هدى.. فذهب وكان ما توقّعه، ممّا هو مشوق إليه من الهداية وذلك لمّا نودي: ياموسى إني أنا الله ربك فاخلع نعليك، وما النعلان هنا إلا الصورة الظاهرة والباطنة = الجسم والروح عند النابلسي(15)، والكونين = الدنيا والآخرة عند الغزالي(16)، لأنه لا يمكن وطء ذلك الوادي المقدس إلا باطّراح ذينك النعلين اللذين يُسار بهما في عالم الأغيار، أما الوادي المقدس فهو الذات الوجود الحق المقدس عن كل شيء محسوس أو معقول.. إنه وادي (طوى) لانطواء العوالم كلها فيه واختفائها في وجوده ولانعدامها في حقيقته(17).
اما النار الظاهرة في هذه القصة فهي نار تبدّت لعيني موسى وأهله، فذهب إليها ومطلبه الهداية، فلمّا وصل لم يجد ناراً وإنما وجد الهداية، فتجلى الرّب مكلماً موسى، أمّا لماذا اختار التجلّي أولاً بالنار فلأنه أراد أن يظهر، فهو يظهر بما شاء أن يظهر، أو لأن النار كانت بغية موسى فتجلّى له الربّ في مطلوبه ليقبل عليه ولا يعرض عنه ، فإنه لو تجلّى في غير صورة مطلوبه أعرض عنه لاجتماع همه على مطلوب خاص، ولو أعرض لعاد عمله عليه وأعرض عنه الحقّ وهو مصطفى مقرّب، فمن قربه أنه تجلّى له في مطلوبه وهو لا يعلم:( من البسيط)
كنار موسى رآها عينَ حاجته
وهو الإله ولكن ليس يَدْرِيه(18)

وعند القشيري أن الربّ ألاح له ناراً ثم لوّح له نوراً، ثم بدا مابدا ولاكان المقصود النارَ ولا النورَ وإنما سماع نداء ( إني أنا الله ربّ العالمين)(19).
ومن طرائـف التأويل تأويل تابوت موسى، فقد مرّ بـه القشـيري مرور الكـرام(20)، لكن الشيخ الأكبر جعل من التابوت ناسوتاً لموسى، ومن اليمّ ما حصل له من العلم بواسطة هذا الجسم مماأعطته القوة النظرية الفكرية والقوى الحسية والخيالية التي لا يكون شيء منها ولا من أمثالها لهذه النفس الإنسانية إلا بوجود هذا الجسم العنصريّ، فلما حصلت النفس في هذا الجسم وأمرت بالتصرف فيه وتدبيره جعل الله لها هذه القوى آلات يتوصّل بها إلى ما أراده الله منها في تدبير هذا التابوت الذي فيه سكينة الربّ ، فرُمي به في اليمّ ليحصل بهذه القوى على فنون العلم فأعلمه بذلك أنه وإن كان الروحَ المدبّر له هو الملَك، فإنه لا يدبره إلا به، فأصحبه هذه القوى الكائنة في هذا الناسوت الذي يعبّر عنه بالتابوت في باب الإشارات والحكم(21)، وكانت صورة إلقاء موسى في التابوت وإلقاء التابوت في اليمّ صورةَ هلاكٍ لموسى، ولكنها كانت في الباطن صورة نجاة له من القتل فحيي كماتحيا النفوس بالعلم من موت الجهل(22). ومن الاستطراد من تأويل إلىتأويل في سياقات تبدو في الظاهر متفاوتة متخالفة وهي في الباطن متحدة يصل الشيخ الأكبر إلى نظريته في أحدية الكثرة، فمن كان ميتاً بالجهل أحياه الله بالعلم وجعل له نوراً يمشي به في الناس وهو الهدى، فهذا ليس كمن كان في الظلمات أي الضلال، ليس بخارج منها فلا يهتدي أبداً.. ويعلق الشيخ:” فالهدى هو أن يهتدي الإنسان إلى الحيرة، فيعلم أنّ الأمر حيرة، والحيرة قلق وحركة، والحركة حياة، فلا سكون فلا موت، ووجود، فلا عدم..” ويتصل هذا على سبيل التداعي بقوله تعالى( وترى الأرض هامدة،فإذا أنزلنا عليها الماء اهتزت وربت وأنبتت من كل زوج بهيج)(23).
فمن الماء كانت حركة الأرض وولادتها، ولم تلد إلا ما يشبهها وذلك عن طريق الزوجية الشفيعة لها بما تولّد منها وظهر عنها، ويبني الشيخ على هذا أنه ” كذلك كان وجود الحق، كانت الكثرة له وتعداد الأسماء أنه كذا وكذا بما ظهر عنه من العالَم الذي يطلب بنشأته حقائق الأسماء الإلهية، فثبت به وبخالقه أحدية الكثرة، وقد كان أحديّ العين من حيث ذاتُه كالجوهر الهيولاني أحديّ العين من حيث ذاته، كثير بالصور الظاهرة فيه التي هو حامل لها بذاته..
كذلك الحق بما ظهر منه من صور التجلّي، فكان مجلى صور العالم مع الأحدية المعقولة.. فانظر ما أحسنَ هذا التعليم الإلهي الذي خصّ الله بالاطلاع عليه من شاء من عباده(24).
وهذه الفكرة الأخيرة وهي اختصاص الله مَنْ شاء من عباده بهذا التعليم الإلهي أو بالفهم الخاص لآيات التنزيل تجدها مبثوثة في معظم كتب أئمة القوم، فقد بثها الغزالي في مواضع من كتابه” إحياء علوم الدين” كما صدّر بها صراحة كتابه الموسوم بمشكاة الأنوار عندما قال :” سألتني أن أبثّ لك أسرار الأنوار الإلهية مقرونة بتأويل ما يشير إليه ظواهر الآيات المتلوّة والأخبار المروية، وهذا باب مغلق لا يفتح إلا للعلماء الراسخين، ويذكر الحديث ” إن من العلم كهيئة المكنون لا يعلمه إلا العلماء بالله، فإذا نطقوا به لم ينكره إلا أهل الغرّة بالله، ومهما كثر أهل الاغتراروجب حفظ الأسرار على وجه الإسرار..”(25).
ولا نعدم في تأويلات الصوفية سبحات ربانية ونفحات أدبية لا تضيع فيها فكرة الصوفي لكنها تتجلى في نَفَس أدبيّ باستخدام عبارات لطيفة واستجلاب أبيات رقيقة مما ألِف الأدباء قولَه وإنشادَه، ولكنها تُنقل من سياقها إلى عُرْف القوم في فهمهم للنص بعد تأويله والارتفاع به من حضيض الفهم الظاهري إلى يفاع الفهم الصوفي اللائق بالخواص الذين يغوصون في النص على مقاصده العليا غير منكرين ولا جاحدين تفسيره الأول اللائق بالعوام، ومن أمثلة هذا الاستطراد الأدبي في تأويل النص ما أدّاه إلينا الإمام القشيري في تأويل قوله تعالى تتجافى جنوبهم عن المضاجع يدعون ربهم خوفاً وطمعاً ومما رزقناهم ينفقون(26).
ففي الظاهر : عن الفراش قياماً بحقّ العبادة والجهد والتهجد.
وفي الباطن: تتباعد قلوبهم عن مضاجعات الأحوال ، ورؤية قدر النفس وتوهّم المقام، فإن ذلك بجملته حجاب عن الحقيقة، وهو للعبد سمّ قاتل، فلا يساكنون أعمالهم ولا يلاحظون أحوالهم ويفارقون مآلفهم ويهجرون في الله معارفهم..
ويستطرد القشيري:
والليل زمان الأحباب، قال تعالى لتسكنوا فيه(27)، يعني عن كل شغل وحديث سوى حديث محبوبكم، والنهار زمانه أهل الدنيا، قال تعالى:وجعلنا النهار معاشا(28)، أولئك قال لهم: فإذا قضيت الصـلاة فانتشروا في الأرض(29)، : إذا ناجيتمونا في ركعتين في الجمعة، فعودوا إلى متجركم واشتغلوا بحرفتكم..
وأما الأحباب فالليل لهم إما في طرب التلاقي، وإما في حرب الفراق، فإن كانوا في ليل القربة فليلهم أقصر من لحظة كما قالوا: ( من الخفيف)
زارني مَنْ هويت بعد بعاد
بوصالٍ مجدد ووداد
ليلة كاد يلتقي طرفاها
قِصراً وهْيَ ليلة الميعاد
وكما قالوا:( من الرجز)
وليلةٍ زينُ ليالي الدهر
قابلت فيها بدْرَها ببدر
لم تستبن عن شفقٍ وفجر
حتّى تولّت وهي بكْر الدهر

وأما إن كان الوقت وقت مقاساة فرقة وانفراد بكربة فَلَيْلهم طويل كما قالوا:( من المنسرح)
كم ليلة فيك لاصباح لها
أفنيتُها قابضاً على كبدي
قد غُصّتِ العينُ بالدموع وقد
وضعت خدي على بنان يدي

قولهيدعون ربهم خوفاً وطمعاً: قوم خوفاً من العذاب وطمعاً في الثواب وآخرون خوفاً من الفراق وطمعاً في التلاقي، وآخرون خوفاً من المكر وطمعاً في الوصل..
ومما رزقناهم ينفقون ” يأتون بالشاهد الذي خصصناهم به، فإن طهرنا أحوالهم عن الكدورات حضروا بأحوال مقدسة، وإن دنسنا أوقاتهم بالآفات شهدوا بحالات مدنّسة.. فالعبد إنما يتجر في البضاعة التي يودعها لديه سيده 🙁 من البسيط):
يفديك بالروح صبّ لو يكونُ له
أعزّ من روحه شيء فداك به(30)

ما مر بنا مما عرضناه يبيّن لنا أن المؤوّل الصوفي يحاول دائماً أن ينفذ من سطح النص إلى عمقه وكأنه يسمو به من عالم الصورة إلى عالم العلم الخالص، ومن صعيد الحسّ الماديّ إلى صعيدٍ من الإدراك المعنويّ مستعيناً بإرث ثقافي بالغ الغنى والتعقيد، وبذهن خصب الخيال، وغنىً لغوي نادر المثال وبيان رفيع ناهض لما انتدب له، ومن هنا كانت المقدرةُ التأويلية بعيدةَ المدى رائعة التجلّي.. لقد وقفوا أمام قصة يوسف وفيها مافيها، ورأوا أنّ تأويلهم يخرق بها حجب الحسّ ويسمو بها في عالم المعاني.. لقد تناولها الشيخ الأكبر بالتأويل فغدت بين يديه رموزاً لمفاهيم مجردة، استمدها الشيخ من الفلسفات الإشراقية التي تفاعلت لديه مع تعليمات الإسلام وتصوراته لِتُنْبِتَ تصوّراً جديداً، فتراه يقرر أن قصة يوسف كما نعرفها في عالمنا الإنساني معروفة فلا معنى لذكرها، لكنها تتخذ وضعاً آخر بعد تأويلها فتنقلب من قصة معروفة إلى قصة تصوّر قلق الإنسان وجهاده في سبيل نيل القرب من المقام الأعلى، يقول الشيخ في كتاب الأسفار” سِفر المكر والابتلاء”:
اعلم أن الله تعالى لما أراد من النفس المؤمنة أن تسافر إليه اشتراها من إخوتها الأمّارة واللوامة بثمن بخس من عَرَض العاجلة وحال بينها وبين العقل الذي هو أبوها فبقي العقل حزيناً لا تفتر له دمعة.. فإن الإلهام الإلهي والإمداد الربانيّ إنما كان لهذه النفس وكان العقل يتنزه في الحضرة الإلهية بوجود هذه النفس، فلمّا حيل بينه وبينها لم يزل يبكي حتى كفّ بصره، وذلك أنّ البصر وإن لم يكن مكفوفاً صاحبه فإن الظلمة إذا تكاثفت وحجبت المبصرات صار صاحب البصر أعمى وإن كان البصر موجوداً يبصر به الظلمة، ولما كان الحزن ناراً، والنار تعطي الضوء لذلك قيل( وابيضت عيناه من الحزن)(31)، فجاء بالبياض، فإن البياض لون جسماني كما أنّ الضوء نور روحاني(32).
وهكذا تحوّلت قصة يوسف على يد الشيخ الأكبر إلى ما يشبه الترجمة الفلسفية، أو لنقل ترجمةً للروح المعتملة في سيرها نحو الملأ الأعلى وفي صراعها ضد الشهوات، أما امرأة العزيز ” زليخا” فقد تحوّلت بالتأويل إلى النفس الكلية التي تهب نفسها ليوسف، وتمكنه من رؤية النفوس الجزئية وهن” نسوة في المدينة” خارجاً عنها..ولما همّ بها- أي بالنفس الكليّة ليأخذ منها ما أودع الله من الحقائق فيها من غير أمر إلهيّ له بذلك غار الحق أن يتصرف عبده في شيء من غير أمره، فأظهر له في سره برهان عبوديته، فتذكر عبوديته فامتنع من التصرف بغير أمر سيده فحبسته النفس في سجن هيكله، فلم يزل يناجي في سره سيده بالعبودية حتى أقرّت النفس أنها الطالبة لاهو، فأثبت له السيد الحفظ والأمانة، ولو همّ بسوءٍ لم يكن أميناً، ولوفعل لم يكن حفيظاً، ولهـذا قال: لنصرف عنه السـوء والفحشـاء(33) فولاّه الملك والسيادة بدلاً من العبودية الكونية الظاهرة التي كان فيها قبل ذلك، ثم أجدب محل العقل الذي هو الأب وسمع بالرخاء الذي في مدينة ابنه وهو لا يعلم أنه ابنه لأنه أعمى، فبعث إليه بالرحم لينيله شيئاً مما أُمن عليه فبعث إليه بثوبه الذي فيه رائحته وهو على صورته، فلما استنشق الرائحة وألقاه على وجهه أبصر قميصه فأخذ في الرحلة إليه ابتداءً في عزّ يناقض سفر ابنه.. فلما دخل عليه سجد لأنه معلمه الذي يهبه من الله ما تقوم به ذاته ويتنعم به وجوده…(34).
والمُراجع لتأويلات الصوفية يلاحظ اختلافاً في تأويلاتهم ، وهذا يعود إلى التفاوت العلمي والثقافي بين مؤوّل وآخر، وهم يرون أن ذلك يعود إلى الخلاف في الكشف والإلهام الذي هو خصوصية لكل شيخ،.. لقد كان شيوخهم الكبار كالغزالي وابن عربي وابن سبعين(613-669هـ) والنابلسي من كبار المتمرسين بالثقافات المختلفة والعارفين بالأديان وفلسفات الشرق واليونان.. كل هذا هيأ لهم أن ينفذوا إلى النص الإلهي وغيره بثقافاتهم ويحملوه عليها أو يحملوها عليه دون أن يفقد خصوصيته، وهم كما يرون إنما يتعمقون في فهم النص ويبتعدون به عن ظاهريته، وينفذون إلى المقاصد الحقيقية والمرامي الخفية، غير أن هناك أمراً هاماً يجب أن يلاحظ في تأويلات كل منهم ويتجلى ذلك في خضوع التأويل للشرط الاجتماعي الذي يُنجَز التأويل في ظلال هيمنته، وعند أخذنا الشرط الاجتماعي السياسي بعين الاعتبار يمكننا أن نفهم طريقة الغزالي وابن عربي وغيرهم في حل معضلات مجتمعهم ومشكلاته وتناقضاته فـ ” حين يجد ابن عربي أن هذه الحلول لا تجد صدى في الواقع يتجاوزه مكوناً بناءً سياسياً باطنياً روحياً راقياً يعتبره هو العالم الحقيقي ودولة الباطن، ويعتبر أن هذه المعرفة معرفة ذوقية حدسية، ينكرها العقل والحسّ، ولكنّ المنكرين معذورون لأن حقيقة الوجود تتجلّى لهم على قدرهم وينتهي ابن عربي إلى أن الرحمة الإلهية الشاملة ستنتظم الجميع في نهاية الأمر” (35)..
وطرائق الصوفية في تأويل الشعر والعبارات الشطحية هي نفسها طرائقهم في تأويل الكتاب العزيز، ومن هنا برز حسن تأتيهم في تأويل الشطحات، كما برزت قدرتهم الفائقة في تأويل الشعر بنقله من المعاني الحسية المادية إلى المعاني المعنوية مستفيدين من ثقافة المذاهب والفلسفات كافة..
إن جهود الصوفية في التأويل تعدّ من الجهود المهمة الجديرة بالتأمل والدرس، وفيها تتجلّى مشكلة النص، إنها نتيجة تفاعلات حية عميقة بين ثقافتهم وببن مجتمعاتهم تتجلّى بتأويلاتهم لمحكم التنزيل أولاً ولغيره من النصوص ثانياً، وهي نموذج رائع لتجليات النص الديني من الفهم جديد، مستفيداً من جماع ثقافات المذاهب والأمم..
الإحالات
(1) انظر الكليات اللغوية،2: 15 ، 16.فصل المقال لابن رشد32بحوث في اللغة والنحو البلاغة239
(2) لطائف الإشارات 3:-21
(3) كشف الأسرار للبزدوي1: 45 وفيه رأي الماتريدي “التفسير هو القطع على أن المراد باللفظ هذا، فإن قام دليل مقطوع به على المراد يكون تفسيراً صحيحاً مستحسناً، وإن قطع على المراد لا بدليل مقطوع فهو تفسير بالرأي، وهو حرام لأنه شهادة على الله تعالى، بما لايأمن أن يكون كذباً، فأما التأويل فهو بيان عاقبة الاحتمال بالرأي دون القطع فيقال: يتوجه اللفظ إلى كذا وكذا”..
وانظر” بحوث في اللغة والنحو والبلاغة248″ ومقدمة تفسير الماتريدي: تأويلات أهل السنة 1: 9 وما بعدها..
(4) روح المعاني 1: 5
(5) آل تيمية: المقصود بهم ثلاثة أئمة تتابعوا على تصنيف المسوّدة في أول الفقه وهم:” مجد الدين أبو البركات عبد السلام بن الخضر وشهاب الدين أبو المحاسن عبد الحليم بن عبد السلام وشيخ الإسلام تقي الدين أبو العباس أحمد بن عبد الحليم..
(6) المسوّدة في أصول الفقه175
(7) الكليات 2: 16
(8) فصل المقال :34،35
(9) انظر مذاهب التفسير الإسلامي 261.
(10) سورة النور 24/35
(11)مشكاة الأنوار76.
(12) مقدمة محقق مشكاة الأنوار.
(13) البقرة 2: 260
(14) لطائف الإشارات 1: 214
(15) شطحات الصوفية 195
(16) مشكاة الأنوار 70
(17) شطحات الصوفية 194
(18) فصوص الحكم 213″ فص حكمة علوية في كلمة موسوية”.
(19) لطائف الإشارات 5: 65 والآية من سورة القصص 28/30
(20) لطائف الإشارات 5: 55
(21) فصوص الحكم 198
(22) المرجع السابق 199
(23) سورة الحج 22/5
(24) فصوص الحكم 200
(25) مشكاة الأنوار: مقدمة المؤلف.
(26) سورة السجدة 32/ 116
(27) سورة يونس 10/67
(28) سورة النبأ 78/11
(29) سورة الأحزاب 33/53
(30) لطائف الإشارات 5: 142/ 143
(31) سورة يوسف 12/84
(32) سفر المكر والابتلاء / كتاب الأسفار 41 وما بعدها
(33) سورة يوسف 12/24
(34) سفر المكر والابتلاء /كتاب الأسفار 41 وما بعدها..
(35) فلسفة التأويل :37
مراجع البحث:
– إحياء علوم الدين أبو حامد الغزالي- المكتبة التجارية- القاهرة ، بلا تاريخ.
-الأسفار : محيي الدين بن عربي ، نشر ضمن رسائل ابن عربي، دار إحياء التراث ..
– الأعلام : خير الدين الزركلي ط3 – بيروت.
– الإمام القشيري .د. إبراهيم بسيوني ، مجمع البحوث الإسلامية بالقاهرة1972
– بحوث في اللغة والنحو والبلاغة، د. عبد الاله نبهان، اليمامة- حمص 1995.
– تأويلات أهل السنة. أبومنصور الماتريدي ، تح: إبراهيم عوضين والسيد عوضين المجلس الأعلى للشؤون الاسلامية- القاهرة1971.
– رسائل ابن العربي – للشيخ محيي الدين بن عربي – دار إحياء التراث العربي / عن طبعة الهند .
– رسالة في حكم شطح الولي، عبد الغني النابلسي، مطبوع ضم كتاب شطحات الصوفية..
– روح المعاني ، محمود الآلوسي، دار إحياء التراث العربي – بيروت.
– شطحات الصوفية ، د. عبد الرحمن بدوي، وكالة المطبوعات، الكويت 1976
-فصل المقال فيما بين الحكمة والشريعة من الاتصال .ابن رشد، دراسة وتحقيق محمد عمارة، دار المعارف بمصر 1972
– فصوص الحكم. محيي الدين بن عربي. تحقيق د. أبو العلا عفيفي- البابي الحلبي القاهرة 1946
-فلسفة التأويل .د. نصر حامد أبو زيد، دار الوحدة ، بيروت1983
– كشف الأسرار لعبد العزيز البخاري على أصول الإمام البزدوي – استانبول 1307هـ
– الكليات، الكفوي، تح:د. عدنان درويش ومحمد المصري وزارة الثقافة- دمشق.
– لطائف الإشارات، الإمام القشيري، تح: د. إبراهيم بسيوني، دار الكاتب العربي- القاهرة 1970.
– مذاهب التفسير الإسلامي، اجنتس جولد تسيهر،ترجمة الدكتور عبد الحليم النجار. مكتبة الخانجي بمصر 1955
– المسوّدة في أصول الفقه ، آل تيمية ، تح محمد محيي الدين عبد الحميد..مطبعة المدني- القاهرة 64
– مشكاة الأنوار – أبو حامد الغزالي ، تحقيق د. ابو العلا عفيفي. الدار القومية – القاهرة -1964
– المعجم المفهرس لألفاظ القرآن الكريم – محمد فؤاد عبد الباقي . ط. كتاب الشعب القاهرة 1378هــ.

المصدر: مجلة التراث العربي
مجلة فصلية تصدر عن اتحاد الكتاب العرب-دمشق العدد 68 – السنة السابعة عشرة – آب “أغسطس” 1997 – ربيع الآخر 1418