إِشكاليَّاتُ النَّوعِ الشِّعريِّ في قَصِيدةِ النَّثْر /شريف رزق

           

” مَا مِنْ شَيءٍ أصْعَبُ هَذِهِ الأيَّامِ ،

مِنْ أنْ يكونَ الإنْسَانُ، شَاعِرَ قَصِيدَةِ نَثْرٍ”

 أندريه بِرِيتون (1896 – 1966)

…..

 

تُشكِّلُ قصيدةُ النَّثْر خَرْقًا حَادَّاً لكُلِّ الأعْرافِ الشِّعريَّةِ السَّابقةِ عليها، ويكمنُ موقعُهَا الإشْكاليُّ في كونِهَا طَرَحَتْ شَتَّى مُكَوناتِ العمليَّةِ الشِّعريَّةِ التَّاريخيَّةِ، وَتَشَكَّلتْ كنوعٍ شِعْريٍّ مُغايرٍ، اسْتَعْصَى على قِيَاسِهِ على غيرِهِ، وَرُبَّما لهذَا رَفَضَ البعضُ شِعْريَّتَهَا، دونَ أنْ يُنْكِروا إبْداعيِّتَهَا، وَدَعوا إلى اعْتِبَارِهَا نوعًا أدبيًّا مُسْتَقلاً، غيرَ أنَّ قصيدةَ النَّثرِ ظلَّتْ – في نضالٍ حَادٍّ – تُعمِّقُ مَجْرَاهَا الخَاص المُثِيرَ، وبرغمِ اسْتقرارِ  قصيدةِ النَّثرِ كنوعٍ شِعْريٍّ، إلاَّ أنَّ إشْكاليَّاتِها النَّوعيَّةَ لا تزالُ قادرةً على السِّجالِ والمُوَاجَهَةِ، وقدْ كانتْ مِنْ الفاعليَّةِ بحيثُ جعلتْ شَتَّى مُحدِّداتِ العَمَليَّةِ الشِّعريَةِ مَحَلَّ بحثٍ وخِلافٍ.

 

وَتَرَكَّزتْ الإشْكاليَّاتُ الأساسيَّةُ لقصيدةِ النَّثْرِ في قَضَايَا: المُصْطَلحِ الإيقَاعِ- كيفيَّةِ تحقيقِ الشِّعريَّةِ علاقتِهَا بِالسَّردِ. وتباينتْ هذه القَضَايا حُضُورًا؛ فثمَّةَ إلحاحٌ شديدٌ على إشكاليَّةِ الجَمْعِ بينَ قصيدة والنَّثْر برغمِ مَا ارْتبطَ به كُلٌ منهما منْ دلالاتٍ، كذلكَ السُّؤال عن بديلِهَا العَروضيِّ، وعندَ تناوُلِ القضيَّةِ الثَّالثةِ: كيفيَّةِ تحقُّقِ الشِّعريَّةِ، تبرُزُ أمامَنَا الوسائِلُ الأساسيَّةُ التي رَكَّزَتْ عليها أعمالُ شُعراءِِ الرِّياَدةِ المُتَمَرْكِزِيْنَ في تَجَمُّعِ مَجَلَّة: (شِعْر) اللبنانيَّةِ، منذُ أواخِرِ الخَمْسينيَّاتِ، وأبْرَزُهُمْ: توفيق صايغ، وجبرا إبراهيم جبرا، وإبراهيم شُكْرالله، وأدونيس، وأُنْسِي الحاج، وشوقي أبو شقرا، ومحمد الماغوط، وهيَ أعمالٌ مُتفاوتةُ القيمةِ. أمَّا عندَ تناولِ علاقتِهَا بالسَّردِ، فإنَّهُ يجدرُ  في البداية ِ- تحديد مفهوم السَّردِ، ثُمَّ الكشف عنْ مُكوناتِ العمليَّةِ السَّرديَّةِ، ثُمَّ اسْتِكشَاف تجلياتِ السَّرد ِفي الشِّعرِ، وتحقُّقات السَّرد الشِّعريِّ–  وهيَ الظَّاهرةُ الأبرزُ التي تتجلَّى هُنا – ثم رَصْد تجلياتِ البنيةِ السَّرديَّةِ في قصيدةِ النَّثرِ، ثُمَّ مُتابَعَةِ ظاهرة مُهمَّة في السَّردِ الشَّعريِّ هِيَ: مُراوَغاتُ السَّردِ الشِّعريِّ؛ التي تقودُ إلى تشكيلِ بنيةٍ سرديَّةٍ خاصةٍ، تقومُ على الانزياحِ السَّرديِّ .

 

هكذا سيحُاطُ بإشكاليَّاتِ النَّوعِ الشِّعريِّ في قصيدة النَّثْر،في جِهاتِهَا الأرْبَعِ الآتيةِ:

1   المُصْطَلحُ.

2   الإيْقَاعُ.

3   إنجازُ الشِّعرِ بالنَّثر:

قَصِيدَةٌ أُخْرَى، قَصِيدةٌ مِنْ خارجِ الرَّحِمِ:

تجربَةُ مَجلَّة:” شِعْر” اللبنانيَّةِ نموذجًا.

4   قَصِيدَةُ النَّثْرِ مِِنْ منظورِ التَّحليلِ السَّرديِّ.

 

لا يزالُ  مُصْطَلَحُ  قصيدةِ النَّثْرِ قادرًا على الإثارةِ، رغمَ مرورِ نحوِ نصفِ قرنٍ، على إطلاقِهِ ، في المَشْهَدِ الشِّعريِّ العَرَبيِّ؛ فلا يزالُ القومُ مُخْتَصِمِيْنَ حولَهُ، ويُجْمِعُ المُعارِضُونَ على تناقُضِ المُصْطَلحِ(1)، ويقترِحُونَ مُصْطَلَحاتٍ أُخْرى، أغلبُهَا مُستقرُّ في الدَّلالةِ على أشْكالٍ أدبيَّةٍ أُخْرى، ضِمْنَ نظريةِ الأنواعِ الأدبيَّة؛ مثل: ” النَّثر الفنيِّ”، و”النَّثْر الشِّعريِّ”، و” الشِّعْر المَنْثُور”(2)، وبعضُهَا جديدٌ، يتَّسمُ بعموميَّةٍ فضفاضَةٍ؛  مثل: ” كِتَابَة عَبْرَ نوعيَّة”(3).

 

أمَّا المؤيِّدونَ فيتشبَّثونَ- في حماسَةٍ مُقابِلةٍ – بالمُصْطَلحِ، ويجعلونَهُ رايَةً لِشِعْريَّةٍ بديلةٍ، تستقرُّ في عُمْقِ المَشْهَدِ.

 

وَبفضْلِ الفريقينِ معًا، ترسَّخَ المُصْطَلحُ، وَرَاجَ، وَاسْتَقَرَّ، عُنْوانًا على مَنْطِقةٍ شعريَّةٍ مُحدَّدةٍ، وقد اسْتدعى الجِدَالُ حولَ المُصْطَلَحِ قياسهَا على الشِّعريَّةِ العربيَّةِ السَّابقةِ عليها، والمُجَاورةِ لهَا، التي قَامتْ قصيدةُ النَّثْرِ في مُوَاجَهَتِهَا، وَقَادَ هذا إلى نفي صِفَةِ الشِّعريَّةِ عنْهَا.(4)

 

واللافتُ هنا أنَّ الاحتدامَ في رفضِ المُصطلحِ، لمْ يكنْ يعني بالضَّرورةِ رفضَ النَّوعِ الشِّعْريِّ ذاتِهِ، بلْ رفض اعْتبارِهِ إبْداعًا شِعْريًّا؛ حيثُ رأى المُعارضونَ فيه تهديدًا للشِّعرِ العربيِّ وخُطوَرة عليه(5).

 

إذنْ ، فقدْ انْطَلَقَ المُعارضونَ منْ رفضِ المُصطلحِ، إلى سَحبِ هذا النَّوعِ الشِّعريِّ منْ دائرةِ الشِّعْرِ؛أي نَسْف شِعريَّته بالكامِلِ، ومنْ هؤلاءِ: إبراهيم حمادة؛ الذي رأى أنَّ “التَّسمِيةَ خاطئةٌ من النَّاحيةِ الاصْطلاحيَّةِ والدِّلاليَّةِ؛ إذْ افْتَرَضَتْ بَدَاءَةً أنَّ القطعةَ منْ هذا الشَّكلِ “قصيدةٌ” بينما اقتصرَ إطلاقُ هذا المُصْطلحِ- منذُ ردحٍ مجذَّرٍ في الماضِي البعيدِ ،على صِيغةٍ قوليَّةٍ مُعيَّنةٍ، يُفْتَرَضُ في بنائِهَا الشَّكليِّ- قبْلَ أيِّ شَيءٍ آخَرٍ- أنْ يكونَ مَوْزونًا طِبْقاً لِمَعَاييرَ تفعيليَّةٍ معلومةٍ سَلَفًا، أوْ- على الأقلِ- مُبْتَكَرَةً، وَمُسْتَخْدَمَةً على نحوٍ تِكرَاريٍّ مُعيَّنٍ” ، ويرى “أنَّ  قصيدةَ النَّثْرِ يُمكِن أنْ نُطْلقَ عليه “المَنْثُورَةَ الشِّعريَّةَ “؛ لأنَّهَا في المَحَلِّ الأوَّلِ نَثْرٌ، وفي المَحَلِّ الثَّاني مُزَوَّدةٌ بِتَزَاويقَ شِعْريَّةٍ، أوْ فَليَتَسَمَّ هذا النَّثْرُ المَشْعورُ بـ “جَوَاهرِ القَوْلِ” ، أوْ بأيِّ اسْمٍ آخَرٍ رَنَّانٍ فَخْمٍ، ولكنْ عليه ألاَّ يَتَسَمَّى باسْمِ “قصيدةٍ”؛ حَتَّى ولوْ على سبيلِ المَجَازِ، أوْ أنَّ بعضَه يتفوَّقُ على بعضِ القَصَائدِ المَوزونَةِ ، فلا يزالُ النَّثْرُ نَثْرًا، والشِّعْرُ شِعْرًا.”(6)

 

ومنْ هؤلاءِ أيضًا عبد الحميد إبراهيم(1935- 2012)؛الذي رأى أنَّ الجمعَ بين شِقَّيْ المُصْطلحِ جعلَهَا “أشْبَهَ بذلكَ المَخْلوقِ الذي لا يَنْتَمِي إلى جِنْسِ الذَّكَرِ، وفي الوقْتِ نفسِهِ لا يَنْتَمِي إلى جِنْسِ الأُنْثَى.”(7)

 

ولقدْ كَانَ مِنْ أبرزِ دواعِي رَفْضِ المُصْطلحِ- حَتَّى بعدَ شِيوعِهِ ، وَاسْتِقرَارِهِ- هذا “التَّناقُض الظَّاهر بينَ العُنْصُرينِ اللغويَّينِ؛ قَصِيدةٍ ونَثْرٍ لِمَا لِكُلِّ مِنْهُمَا في تُراثِنَا الأدبيِّ والتُّراثِ العَالمِيِّ مِنْ ماهيةٍ رَاسِخةٍ، وهو الأمْرُ الذي لا يَجْعَلُ المُصْطلحَ يَصْدقُ على طبيعةِ مَا أُطْلِقَ عليه، فَهُوَ اسْمٌ على غيرِ مُسَمَّى.”(8)

 

ولهذَا الاعْتِبارِ نفِسِهِ رَفَضَ محمد إبراهيم أبو سنَّة (1937-) المُصْطلحَ ، مُؤكِّدًا على ” التِباسِ المُصْطَلحِ الذي تَطْرَحُ ” قصيدةُ النَّثرِ” نفسَهَا مِنْ خِلالِهِ؛ فقدْ دَرَجْنَا في أدَبِنَـا العَرَبيِّ على التَّمييـزِ بينَ النَّثْرِ والشِّعْرِ.”(9)

 

وآخرونَ تجاوزوا إشكاليَّةَ المُصْطلحِ للتَّحذيرِ منْ خُطورةِ الظَّاهرةِ؛ فأقرَّ أحمد عبد المعطِي حِجازي (1935- ) بـ”أنَّهَا أصْبَحَتْ ظاهِرَةً طاغِيةً، وَلكِنَّهَا لا تَزَالُ مع طُغيَانِهَا غيرَ مُبَرَّرةٍ”(10)، أمَّا نازك المَلائِكَة (1923- 2007) فَرَأتْ في قَصِيدةِ النَّثرِ خَطَرًا على الأدبِ العَربيِّ، وعلى اللغةِ العربيَّةِ، وعلى الأمَّةِ العربيَّةِ، بلْ وخيانةً للغةِ العربيَّةِ وللعَرَبِ”(11)،وَاتَّهَمَ أحمد سُليمان الأحمد (1926- ) شُعرَاءَهَا “بِالتَّشويِهِ والتَّآمُرِ على التُّراثِ”(12)، بينَمَا رَأى صبري حافظ (1941- ) أنَّ هذِهِ الحركَةَ “حَرَكة هَدْمٍ وَتدميرٍ”، وَأنَّ “الاستِعْمَارَ يقِفُ وَرَاءَهَا”، وَأنَّهَا “قَدْ لَعِبَتْ دَوْرًا كَبِيرًا منْ المخطَّطِ المرسُومِ لهَا.”(13)

 

وذِرْوَةُ الاتِّهاماتِ بَدَتْ في تأكيداتِ شوقي بغدادي(1928- ) بأنَّ الصُّهيونيَّةَ تقفُ وراء قَصِيدةِ النَّثرِ وأنَّ البَرْلمَانَ الصُّهيونيَّ قدْ اتَّخذَ قرَارًا سِريًّا بِتَخْرِيبِ اللغةِ العربيَّةِ والشِّعرِ العَربيِّ عَبْرَ “قَصِيدَةِ النَّثْرِ(14). وَاقْتَرَنَتْ هذه الاتِّهامَاتُ بأقْذَعِ النُّعوتِ، ومِنْ ذلكَ قول أحمد عبد المعطِي حِجازي في شَكلِ تَسَاؤلٍ: “ كيف َنقبلُهَا وقدْ بَلَغَتْ هَذَا الحَدَّ مِنَ الصَّفاقَةِ والغُرورِ.”(15)

 

واتُّهِمَ شُعراؤهَا بالجَهْلِ بمُقوِّمَاتِ الشِّعْرِ؛ بلْ وبقواعِدِ اللغةِ؛ فَصَرَّح خليل حاوي (1919- 1982) بأنَّ شُعرَاءَ قَصِيدةِ النَّثْر عندنا.. طائِفَةٌ تجهلُ قيمةَ الإيقاعِ المُنْضَبِطِ في الشِّعْرِ، وَصُعوباتِ البِناءِ الدَّاخليِّ المُقيَّدِ بذلكَ الإيقاعِ الذي لابُدَّ منه لِكُلِّ شَاعرٍ يأبى أنْ تَنْسَاحَ قصيدتُهُ وتنحلَّ إلى مجموعةٍ من الصُّورِ المُبَعْثَرةِ إنَّها ظاهرةُ مرضٍ يسعى إلى إخْفَاءِ حقيقتِهِ ببهرجِ الصُّورةِ وزُخْرفِهَا الزَّائفِ(16)، وقال أحمد عبد المعطِي حِجازي ” نحنُ نقرأُ للذينَ يكتبونَ هذَا النَّوعَ مِنَ الكتابةِ، فَنَجِدُ أخْطَاءً لا يقعُ فيها تلاميذُ المَدَارِسِ.”(17)

 

والاتِّهَامُ بالجَهْلِ ، يقودُ – بالضَّرورةِ – إلى نَفْي الوعي بِفَنِّ الشِّعْرِ وآلياتِهِ، ولهَذَا نفى محمد عفيفي مطر (1935- 2010) وجودَ ما يُسَمَّى بقصيدةِ النَّثْرِ؛ لـ”أنَّها تفتقدُ الجَمَاليَّاتِ المُتَّفقَ عليها للقصيدةِ، هِيَ اجْتِثَاثٌ مِن الجُذورِ لا تعتمدُ على أيِّ إطَارٍ مَرْجِعِيٍّ لُغويٍّ أوْ بَلاغِيٍّ أوْ تَخْييليٍّ، هُمْ يريدونَ هَدْمَ أحدِ ثوابِتِ الكَوْنِ ألا وهو النِّظامُ المُوسِيقيُّ(18)، وَأكَّدَ أحمد عبد المعطِي حِجازي” أنَّ قصيدةَ النَّثرِ لمْ تَسْتَطِعْ بعدَ مُرورِ أكثرِ منْ قرنٍ على ظُهورِهَا، أنْ تُقْنِعَنَا بِأنَّهَا قصيدةٌ، أوبأنَّها شِعْرٌ بِالمَعْنَى الاصْطِلاحيِّ للكلامِ، أوْ بأنَّهَا شِعْرٌ آخَرٌ يُكافِئُ الشِّعْرَ كَمَا نعرفُهُ أوْ يُسَاويهِ”(19).

 

وحَاوَلَ البَعْضُ أنْ يَتَجاوزَ إشْكَاليَّةَ المُصْطَلحِ، ويُعْلِنَ موقِفَهُ مِنَ الشِّعْرِ ذاتِهِ، ومِنْ هؤلاءِ صلاح عبد الصَّبور (1930- 1981)؛ الذي قال:” لِيُسَمُّوهَا قَصِيدةَ نَثْرٍ، أوْ لِيُسَمُّوهَا شِعْرًا مَنْثُورًا .. أمَّا أنَا فلا أحِبُّ التَّسمِيَةَ الأُوْلَى، ولكنَّ كثيرًا من أصْواتِ الشِّعْرِ المَنثورِ تَهزُّنِي”(20).

 

أمَّا أدونيس – الذي ارْتَبَطَ اسْمُهُ بأوَّلِ عَرْضٍ نَظَريٍّ لِمَا يُسَمَّى بِقَصِيدةِ النَّثرِ”(21)، والقائِلُ بِأنَّهُ “أوَّلُ مَنْ كَتَبَ قصيدةَ النَّثرِ، وذلكَ في عام 1958 (22)– فقدْ أبْدَى تَرَاجُعًا وَاضِحًا عنْ مَوْقِفِهِ التَّاريخيِّ؛ حينَ أعْلَنُ – بعدَ خمسٍ وعِشْرِينَ سَنةً كامِلةً مِِنْ مُمَارَسَتِهَا :” إنَّ علينا أنْ نُعِيدَ النَّظرَ في مَا قُلنَاهُ ، وَمَا رَسْنَاهُ، مِمَّا يَتَّصلُ بِمَا سَمَّينَاهُ ” قَصِيدة نَثْر”(23).

 

ولابُدَّ أنّ نُشيرَ إلى أنَّ سوزان برنار، نفسَهَا ، في دِرَاستِهَا الرَّائدةِ عِن  قَصِيدةِ النَّثرِ، هيَ أوَّلُ مَنْ أشَارَ إلى التَّناقُضِ في تركيبةِ المُصْطَلحِ، وَرَأتْ فيه جُزْءًا مِنْ إشْكَاليَّةِ هذا النَّوعِ الشِّعريِّ حينَ أوْضَحَتْ أنَّه ” إذَا كانَ بوسْعِنَا مُشَاهَدَةَ تَطوُّرِ جِسْمٍ انْطِلاقاً مِنْ خَليةٍ أساسيَّةٍ، فإنَّ بوسْعِنَا أنْ نرى كَلَّ المَجْموعِ المُعَقَّدِ للقوانينِ التي تدخلُ في تركيبِ هذا النَّوعِ الأصِيلِ، مَوجودًا أسَاسًا، وبصورةٍ افتراضيَّةٍ، في تَسْمِِيتِهَا قَصِيدة النَّثر، إنَّهُ اتِّحَادٌ غريبٌ، بِلا شَكّ، يَتَضَمَّنُ جَمْعَ المُتَنَاقِضَاتِ؛ (أَ فَلَيْسَ”المَنْثُورُ” هُوَ نَقِيضُ “الشِّعْريِّ” في اللغةِ الدَّارجَةِ؟)، و قَصِيدةُ النَّثْر في الواقعِ مبنيةٌ على اتِّحادِ المُتَنَاقِضَاتِ، ليسَ في شَكْلِهَا فَحَسْب، وَإنَّمَا في جَوْهَرِهَا كذلكَ: نَثْرٌ وَشِعْرٌ، حُريَّةٌ وَقَيْدٌ، فَوْضَويَّةٌ مُدَمِّرةٌ وَفَنٌ مُنَظَّمُ.. وَِمِنْ هُنَا يبرزُ تَبَايُنُهَا الدَّاخليُّ، وتنبعُ تناقُضَاتُهَا العَمِيقَةُ الخَطِِرَةُ وَالغَنِيَّةُ، ومِنْ هُنَا ينجمُ تَوتُّرُهَا الدَّائمُ وحَيويَّتُهَا”(24).

 

إذنْ فَالتَّناقُضُ الظَّاهِريُّ بينَ قَصِيدةٍ ونَثْرٍ يعكسُ إشْكَاليَّاتِهَا الكُبْرَى؛ فإشْكاليَّةُ المُصْطَلحِ جُزْءٌ مِِنْ إشْكَاليَّةِ النَّصِّ الشَّعريِّ كُلِّهِ، والذينَ تَصوَّروا أنَّهُمْ اكْتَشَفوا جُرْثُومَةَ التَّناقُضِ التي لابُدَّ أنْ تُودي بِهَا، مُخْطِئونَ، وَكَانَ طه حسين (1889- 1973)- قَبْلَ هؤلاءِِ جميعًا – أكثرَ ُجُرْأةً وتَحَرَّرًا ، حِيْنَ صَرَّحَ- في جَريدةِ “الجُمهوريَّةِ ” في عام 1957 – أنَّهُ ” ليسَ على شَبابِنَا مِنَ الشُّعراءِِ بأسٌ، فِيْمَا أرَى، مِنْ أنْ يَتَحَرَّروا مِنْ قيودِ الوزنِ والقافيةِ، إذَا تَنَافَرَتْ أمْزِجَتُهُمْ وَطَبَائِعُهُمْ، ولا يُطْلَبُ إليهم في هذِهِ الحُريَّةِ، إلاَّ أنْ يَكُونُوا صَادِقِيْنَ.”(25)

 

وإذَا كانَتْ قصيدةُ النَّثْرِ في جميعِ الآدابِ تُثيرُ أسْئِلَتَهَا النَّوعيَّةَ الأسَاسِيَّةَ إلاَّ  أنَّهَا في مَشْهدِ الأدبِ العَربيِّ هيَ الأكْثرُ حِِدَّةً وضَرَاوةً، ولمْ تعرف الآدابُ الأُخْرى الفَصْلَ بينَ مَا هُو( شِعْرِ)يٌّ ومَا هُو ( نَثْرِ)يٌّ بِهَذَا الشَّكلِ الحَاسِمِ، كَمَا هُو في الأدبِ العَربيِّ، الذى يُحِيطُ به مِيرَاثٌ نَظَريٌّ هَائِلٌ.

 

إنَّ مُصْطلحَ قَصِيدةِ النَّثْر إذًا ، ليسَ بعيدًا عنْ هويَّةِ هَذا النَّوعِ الشِّعريِّ الإشْكاليِّ؛ بلْ إنَّه مَجْلىً له؛ فهيَ ” قَصِيدةٌ ” لأنَّهَا تَبَنْيُنٌ شِعْريٌّ مَقْصُودٌ شِعْرًا في الأسَاسِ – حَسْبَمَا تُشيرُ دالةُ “قَصِيدةٍ”- لَهُ إجْرَاءَاتُهُ الخَاصةُ في تحقيقِ شِعْريَّتِهِ، وتأسيسِ ” قَصِيْدتِ”ـهِ في فَضَاءِِ هذه “الشِّعريَّةِ، هيَ “قَصِيدةٌ” اكْتَسَبَتْ التَّعريفَ بإضافَتِهَا إلى “النَّثْرِ”؛ لأنَّهُ اِلحقـلُ الذي تتشكَّلُ في تُرْبَتِهِ، وتَنْبُتُ في مُكَونَاتِهِ، في شكلٍ مُنظَّمٍ، وإذَا كانَ “النَّثْرُ” يُشيرُ مُعْجَميًّا إلى التَّفرُّقِ والتَّبعُثرِ، فإنَّ “القصيدةَ” هنا هيَ النِّظامُ الصَّاعدُ في هذَا الفَضَاءِِ المُحْتَشِدِ بالمُتَنَاثِرِ في غيرِ نظامٍ ، ومُصْطَلحُ ” قَصِيدةِ النَّثْرِ” – كَمَا اسْتقرَّ في شِعريَّاتِ اللغاتِ الأُخْرى – يُشِيرُ إلى ” القَصِيدةِ النَّثْريَّةِ غيرِ المُقَطَّعةِ، قَصِيدةِ الإيقاعِ المُتدفِّقِِ المَوْصُولِ، في خِطَابٍ يَتَدَفَّقُ، فَيَحْتَلَّ مِسَاحاتِ البَيَاضِ، في هَيْئَةٍ كَهَيْئَةِ النَّثْرِ المَوْصُولِ، على فَضَاءِِ الصَّفْحَةِ كأيِّ نَثْرٍ، مُسْتَثْمِرَةً طاقاتِ السَّردِ في اصْطِيادِ الشِّعْرِ في خَريْطَةِ النَّثْرِ؛ ليُصْبحَِ مِنَ النَّثرِ العَاديِّ الكِيَانَ الفَنيَّ المُحْكَمَ، الذي هُو القَصِيدَةُ كامِلةً، في هَيْئَةِ النَّثْرِ وسِيولَتِهِ وتَدَفُّقِهِ، ولكنَّ الوعيَ بإنْشَاءِِ قَصِيدةٍ في رُكَامِ النَّثْرِ، هُوَ وعيٌ بإنْجَازِ نوعٍ شِعْريٍّ مَقْصودٍ في الأسَاسِ مُنذُ أوَّلِ مُفردَةٍ في إبداعِ هذِهِ القَصِيدَةِ؛ اسْتِجَابةً لإيقاعِ التَّجربةِ المُنَظِّمِ للتَّركيبِ النَّحْويِّ للنَّصِّ، ولِمِعْمَارِ النَّصِّ كُلّهِ، وهَذَا مَا يُشكِّلُ مِنْهَا قصيدةً؛ فهيَ  قصيدةٌ تَسْتَثْمِرُ حِيَلَ وإجْرَاءَاتِ النَّثرِ العَاديِّ؛ كالسَّردِ والوَصْفِِ والاسْتِرْسَالِ والتَّدفُقِِ الحُرِّ، لأغْرَاضٍ شِِعْريَّةٍ أكثر تَحَرُّرًا وبَكَارَةً .. إنَّ مُصْطلحَ قَصِيدَةِ النَّثْرِ يُرَادُ به الدَّلالة على تلكَ القَصِيدةِ التي تُكْتَبُ كَمَا يُكْتَبُ النَّثْرُ العَادِيُّ، المُكَوَّنةِ مِنْ عَنَاصِرِ النَّثْرِ التَّامةِ، القَصِيدةِ الصَّاعِدَةِ في مَجَـالِ النَّثْرِ، قَصِيدَةٌ هُنـَا مُضَافَةٌ إلى النَّثْرِ؛ لأنَّ النَّثْـرَ هُـو الأصْلُ والأسَاسُ، والقَصِيدَةُ هيَ الخُلاصَةُ الطَّالعةُ في فَضَائِهِ، والثَّمَرَةُ النَّاتِجَةُ في حَقْلِهِ، هيَ (الشَّكْلُ) الطَّالِعُ في (اللا شَكْلِ)، و(النِّظَامُ) المُنْبَثِقُ مِِنَ (اللا نِظَامِ)، و(الصِّيغَةُ) الصَّاعدةُ مِنَ (الانْفِرَاطِ)، وهذَا مَا يَجْعَلُهَا نَوْعًا (شِعْريًّا)، صَاعِداً في خَريطةِ (النَّثْرِ)؛  التي هِيَ تَفَرُّقٌ وَلا نِظَامٌ وَتَبَعْثُرٌ وَانْفِرَاطٌ”(26).

 

غيرَ أنَّ ما يُعرف بقصيدة النَّثْر لا يُكْتَبُ كُلُّهُ على هيئَةِ النَّثْرِ العَاديِّ المَوْصُولِ على فَضَاءِ الصَّفحةِ؛ فَالبَعْضُ يُكْتَبُ في سُطورٍ قَصِيرةٍ مُتَفَاوتِةِ الطُّولِ، وهذا يُعْرَفُ، اصْطِلاحًا، بـالشِّعْرِ الحُرِّ، وهو مُصْطَلحٌ تمَّ تداولُهُ خطأً – للدَّلالةِ على شِعْرٍ عَروضِيٍّ، في مَرْحَلتيْنِ شِعْريتينِ، وفي كُلِّ مرحلةٍ اتَّخذَ دلالةً خاصةً؛ ففي المَرْحلةِ الأُولى أطْلَقهُ أحمد زكي أبو شادي(1892- 1955) للدَّلالةِ على شِعْرٍ مَوْزونٍ، غيرَ أنَّهُ لا يلتزمُ بإيقاعاتِ بَحْرٍ مُحَدَّدٍ، وإنَّمَا يُنوِّعُ بينَ البحورِ، داخلََ أسْطرِ النَّصِّ الشِّعريَّةِ، كانَ هذا في عِشْرينيَّاتِ القرنِ الماضِي بدايةً مِنْ عام 1927، وبعدَ اثْنَيْنِ وعِشْرِيْنَ عَامًا تَمَّ تَدَاولُهُ، عَبْرَ نازك الملائِكة ؛ للدَّلالةِ على مَا أُجْمِِعَ عليه، فيْمَا بعدَ بشِعر التَّفعيلة؛ وهو الشِّعْرُ الذي يعتمدُ التَّفعيلةَ أسَاسًا، أوْ يعتمدُ تفعيلاتِ البحرِ الوَاحِدِ اعْتِمَادًا حُرَّاً؛ بِحَيثُ لا يَرْتَبِطُ بعَدَدٍ مُحَدَّدٍ مِنَ التَّفعِيلاتِ.

 

وكَانَ أمين الرِّيحاني (1876- 1940) قدْ سَبَقَ أبا شَادي( ورفاقه)، ونازك الملائِكة، أيضًا، في اسْتِعمالِ هذَا المُصْطلحِ في عامِ1910؛ للدَّلالةِ على الشِّعْرِ المَنْثورِ، مُعْتَمِدًا على مَفْهومِ والت وايتمان (1819-1892)، وهذَا المفهومُ أقربُ إلى الدِّقةِ الاصْطِلاحيَّةِ، غيرَ أنَّ هذَا المُصْطَلحَ: الشِّعْرَ الحُرَّ لمْ يَرُجْ مع الرِّيحاني؛ لأنَّه اخْتَارَ لهُ صِيْغَةَ الشِّعْر المَنْثُور، وأشَارَ إلى أنَّهُ يُدْعَى عندَ الغربيينَ بـ” الشِّعْرِ الحُرِّ”(27)، وظَلَّ المُصْطَلحُ العَرَبيُّ البـَدِيلُ: “الشِّعْرُ المَنْثُور”، يَنوبُ عَنْهُ ويَتَرَسَّخُ .

 

وقَدْ مَيَّزَ يوسف الخال (1917- 1987)، تَمْيِيزًا دَقِيقًا بينَ قَصِيدَةِ النَّثْرِ و الشِّعْرِ الحُرِّ- في رَدِّهِ على نازك الملائكة – بِقَوْلِهِ: قصيدة النَّثْرِ ” شَكْلٌ يختلفُ عن الشِّعْرِ الحُرِّ في آدَابِ العَالمِ، بأنَّهُ يَسْتَنِدُ إلى النَّثْرِ ، ويَسْمُو بِهِ إلى مَصَافِ الشِّعْرِ، فِيْمَا يَسْتَنِدُ الشِّعْرُ الحُرُّ إلى الشِّعْرِ التَّقليدِيِّ، ومِِنْ هُنَا التزامُهُ الأشْطُرَ شَكْلاً، مُكْتَسِبًا مِنَ النَّثْرِ العَاديِّ عَفْويَّتَهُ وبَسَاطَتَهُ، وحُرِّيَّتَهُ في الأداءِ والتَّعبيرِ، وبُعْدِهِ عَنِ الخَطَابيَّةِ والبَهْلَوانيَّةِ البَلاغِيَّةِ والبَيَانِيَّة.”(28)

 

وهَكَذَا جَاءَتْ  قَصِيدَةُ النَّثْر مُحَاوَلَةً لتحريرِ الشِّعْرِ؛ باتِّخاذِ النَّثْرِ نُقْطَةَ انْطِلاقٍ، كَمَا جَاءَ الشِّعْرُ الحُرُّ والبَيْتُ القَصِيْرُ، تمثِيلاً للمُحَاولَةِ نفسِهَا، بالابْتِعادِ عَنْ البَيْتِ الشِّعْريِّ”(29)، إذَنْ فَليْسَ كُلُّ شِعْرِ النَّثْرِ قَصِيدةَ النَّثْرِ؛ غيرَ أنَّ الجَمِيعَ: مُؤيِّدًا ومُعَارِضًا، يُشَارِكُونَ في هذِهِ الأزْمَةِ، للدَّرجةِ التي لو ذُكِرَ الشِّعْرُ الحُرُّ، لَثَارَ التَّسَاؤلُ: أيُّهُمَا..؟، فيْمَا تَقَدَّمَ مُصْطَلحُ قَصِيدَةِ النَّثْرِ، في المشهدِ الَّذي يَتَقاسَمُهُ النَّوعَانِ الشِّعريَّانِ النَّثريَّانِ.

 

ومِنْ أهَمِّ النَتَائِجِ المُتَرتِّبَةِ على تَرْويْجِ مُصْطَلحِ قَصِيدةِ النَّثْرِ: التَّأكيدُ على بُطْلانِ ادِّعاءِ الفَصْلِ بينَ الأنْواعِ الأدبيَّةِ؛ فَثَمَّةَ شِعْرٌ في النَّثْرِ، وثَمَّةَ نَثْرٌ في الشِّعْرِ، وإبْدَاعُ “قَصِيدَةٍ” يَقْتَضِي الوعيَ بِهَذَا التَّداخُلِ، واسْتِثْمَارِ طَاقاتِ الشِّعْرِ أنَّى وُجِدَتْ.

 

 

2

الإيقــَــاعُ:

 

لِمَاذَا ينزعِجُ البَعْضُ مِنَ الخُروجِ على الأوزانِ وتَأسِيْسِ شِعْرٍ بِمَعْزلٍ عَنْهَا، على الرَّغْمِ منْ أنَّ نِظامَ الخَليلِ نفسَهُ لمْ يَسْتوعِبْ إيقاعَاتِ الشِّعْرِ العَربيِّ السَّابقِِ عليهِ، ولا المُجَاورِ لعَمَلِهِ؟، وتُذْكَرُ في ذَلكَ نَمَاذجُ عديدةٌ لامرئ القيسِ، ولعَبِيْدِ بنْ الأبْرَصِ ، وللأسْوَدِ بنْ يَعْفُرَ، ولأُمَيَّةَ بنْ أبي الصَّلتِ، ولأبي العَتَاهِيةِ، وآخَرِينَ، وهيَ نماذجُ مَعْلومَةٌ، بلْ إنَّ إحْدَاهَا وهيَ لعَبيْدِ بنْ الأبْرَصِ اعْتُبـِرَتْ مِنَ المُعَلَّقاتِ العَشْرِ، وَصُدِّرَ بِهَا كِتَابُ: جَمْهَرة أشْعَار العَرَب للقُرَشِيِّ .

 

ولمْ يَتَوَقَّفْ الشِّعْرُ على حَالٍ؛ فالتُّرَاثُ الذي فيهِ القاعِدةُ فيه الاسْتِثنَاءُ أيضًا، فكثيرًا مَا خَرَجَ على أُطُرهِ المُسْتَقِرِّةِ، كَمَا أنَّ حَرَكةَ شِعْرِ التَّفعيلةِ قدْ اقْتَرَبَتْ كثيرًا مِنْ مناطِقِ النَّثْرِ؛ في اسْتِخدَامِ أسَالِيبِهِ وطرائِقِهِ التَّعبيريَّةِ وتعامُلِهِ مَعَ المُفردَاتِ، ويبدو هذَا في شِعْرِ صلاح عبد الصَّبور وأحمد عبد المعطِي حِجازي ومجاهد عبد المنعم مجاهد وكامل أيُّوب وسِوَاهم، كَمَا أنَّه مِنَ المُسلَّمِ بِهِ أنَّ الوَزْنَ لمْ يكُنْ سَابِقًا على الشِّعْرِ، وكَمَا كانَ ذلكَ فيَنْبَغِي ألاَّ يكونَ أيضًا، كَمَا أنَّ الوَزْنَ فَرْعٌ واحِدٌ مِنْ شَجَرةِ الإيقاعِ؛ وبالتَّالي يُمْكِنُ تَحَقُّقُ الإيقاعُ بغيرِ الأوَزْانِ؛ وذلكَ باعْتِمادِ أدَواتٍ إيقاعيَّةٍ تُوْجَدُ في المَنْثُورِ كَمَا تُوْجَدُ في المَوْزونِ أيضًا، غيرَ أنَّهَا في شِعْرِ النَّثْر تكونُ هيَ كُلُّ الآليَّاتِ التي يعملُ عليها الشَّاعرُ؛ لتشكيلِ فَضَائِهِ الإيقاعِيِّ الخَاصِّ، المُعَادِلِ لِتِجْرِبتِهِ بحركتِِهَا المُتَواليةِ، هذِهِ الحَرَكَةُ التي لا تَتَفِقُ بِالضَّرورةِ مَعَ الوزنِ الثَّابتِ المُتكرِّرِ، بَلْ يقعُ شاعرُ الوَزْنِ في صِرَاعٍ مَعَهَا لتَطْوِيعِهَا – وتَطْويعِ تجربتِهِ أسَاسًا – لَهَا.

 

وخطأٌ بَيِّنٌ أنْ نُقْصِرَ الإيقاعَ على الأوزانِ؛ بلْ إنَّ الإيقاعَ لا يقتصِرُ على الشِّعْرِ وَحْـدَهُ؛ حيثُ تَصْبُو جَمِيعُ الفُنُونِ- كَمَا يرى شوبنهور(1788-1860)- إلى أنْ تكونَ مُوسِيقَا؛ بلْ إنَّ الفَلاسِفَةَ وَسَّعُوا مفهومَ الإيقاعِ ليَشْمَلَ الوجودَ كُلَّهُ، وَأشَارُوا إلى وجودِ “صِلَةٍ وثيقةٍ بينَ الإيقاعِ والنِّظامِ الذي تسِيرُ عليه حَرَكةُ الجِسْمِ وحَرَكةِ الطَّبيعَةِ؛ فللجِسْمِ حَرَكَاتٌ إيقاعيَّةٌ سَريعَةٌ، كالتَّنفُسِ بِمَا فيه منْ شَهيقٍ وزَفِيْرٍ وحَرَكَاتٍ بطيئةٍ نِسْبِيًّا، كَتَعَاقُبِ الجُوعِ والشَّبَعِ، والنَّومِ واليَقَظَةِ، وفي الطَّبيعَةِ إيقاعٌ ثُنائِيٌّ تَتَعَاقَبُ فيه فُصُولُ السَّنةِ، ومِنْ هُنَا قالَ كثيرٌ مِنَ البَاحَثَينِ إنَّ للمُوسِيقا أصْلاً عِضْويًّا أو طَبِيْعيًِّا، مَادَامَتْ الحَرَكةُ الطَّبيعيَّةُ فيها تَرْدِيدٌ لِحَرَكاتٍ مُنَاظِرَةٍ لَهَا دَاخِلَ الجِسْمِ الإنْسَانِيِّ أوْ في الطَّبيعَةِ الخَارجيَّةِ ، مِمَّا أدَّى إلى تَكْوينِ مَِا يُسمَّى بالحَاسَةِ الإيقاعيَّةِ لدى الإنْسَان.”(1)

 

أمَّا الإيقاعُ، في الشِّعْرِ، تَحْديدًا، فَهُو، كَمَا يَذْكُرُ عزُّ الدِّين إسماعيل (1929-2007): “حَرَكَةُ الأصْوَاتِ الدَّاخليَّةِ ، التي لا تعتمدُ على تَقْطِيعَاتِ البَحْرِ والتَّفاعيلِ، وهو غيرُ الوزنِ، وهو التَّلوينُ الصَّوتيُّ الصَّادرُ عن الألفَاظِ المُسْتَعْمَلةِ ذاتِهَا، فهو يَصْدُرُ عن المَوضُوعِ، فيحِين يُفْرَضُ الوزنُ على المَوضُوعِ، هَذَا من الدَّاخِلِ وهَذَا مِنَ الخَارَجِ.”(2)

 

والإيقاعُ، كَمَا يرى النُّعمان القاضِي( – 1983) “عَزْفٌ شَخْصِيٌّ، أيّ أنَّهُ مِنْ قبيلِ الإبداعِ، وبِقَدْرِ مَا يكونُ للشَّاعرِ إيقاعُهُ الخَاصُّ، وصَوتُهُ الفَردِيُّ، يكونُ إبداعُهُ وابْتِكَارُهُ وأصَالتُهُ.”(3)

وهُوَ، كَمَا يَرَى والت وايتمان، يُشْبِهُ ” أمْوَاجَ البَحْرِ في سُرْعَتِهَا وانْسِيَابِِهَا، وإيقاعِهَا المُتَرَاكِمِ، وحَرَكتُهُ أكْثَرُ حُريَّةً ومُرونَةً مِنْ إيقاعِ الوزنِ، وهُوَ أقْرَبُ إلى الحَرَكَاتِ الحُرَّةِ في الطَّبيعَةِ.”(4)

 

هَذَا هُوَ الإيقاعُ الذي تَتَبَنَّاهُ قَصِيدَةُ النَّثرِ، ودائمًا مَا يَتَسَاءَلُ المُعَارضُونَ عنْ كُنْهِ هذَا (الإيقاعِ) وعنْ قانونِهِ الضَّابِطِ، وهُمْ بِهَذَا يُريدونَ ” قَالَبًا جَديدًا يَحِلُّ مَحَلَّ قالَبٍ قَدِيمٍ”(5)، غيرَ أنَّ شُعَرَاءَ قَصِيدَةِ النَّثْر يردُّونَ – على لِسَانِ أُنْسِي الحَاج (1937- )- قَائِليْنَ: ” لا نَهْرَبُ مِنَ القَوَالبِ الجَاهِزَةِ لِنُجَهِّزَ قوالبَ أُخْرَى، ولا نَنْفِي التَّصنِيفَ الجَامِدَ لِنَقَعَ بِدَورِنَا فيهِ .. لا نُرِيْدُ، ولا يُمْكِنُ أنْ نُقيِّدَ قَصِيدةَ النَّثْرِ بِتَحْدِيدَاتٍ مُحَنَّطَةٍ .. لَقَدْ خَذَلَتْ] :قَصِيدَةُ النَّثْرِ[ كُلَّ مَا لا يَعْنِي الشَّاعرَ، واسْتَغْنَتْ عَن المَظَاهِرِ والانْهِمَاكَاتِ الثَّانويةِ والسَّطحيَّةِ والمُضَُيِّعَةِ لقوَّةِ القَصِيدَةِ . رَفَضَتْ مَا يُحِوِّلُ الشَّاعرَ عن شِعْرِه؛ لِتَضَعَ الشَّاعرَ أمَامَ تَجْرِبتِهِ، مَسْئولاً وَحْدَهُ، كُلَّ المَسْئوليَّةِ، عَنْ عَطَائِهِ.”(6)

 

إنَّ الإيقاعَ في قَصِيدَةِ النَّثْرِ، لا يَتَوقَّفُ عندَ حَدٍّ ،مَادَامَ يَتَوَاشَجُ مَعَ حَرَكةِ التَّجربَةِ الشِّعريَّةِ البَاطِنيَّةِ المُتَحوِّلةِ، وتُشَبِّهُ سوزان برنار هَذَا الإيقاعَ، بِطَاقَةِ الكَهْرُبَاءِ، تَسْري؛ فَنَرَى أثَرَهَا نُوْرًا بَازِغًا، حيثُ: “يَسْري بِهَا التَّيَّارُ الشِّعريُّ الخَفِيُّ، عَبْرَ جُمَلٍ تَخْلو – على ما يَبْدو – مِنَ الوزنِ، كَمَا يَسْري تيَّارٌ كَهْرَبَائيٌّ، غيرُ مَرْئِيٍّ، عبْرَ سِلْكٍ غَليظٍ ؛ لِيُغْرِقَنَا بِالنُّورِ فَجْأَةً.”(7)

 

كَمَا تَسْتَثْمِرُ قَصِيدَةُ النَّثْر أنْوَاعَ ” التَّوَازِي والتِّكرار والنَّبْرِ والصَّوْتِ وحُرُوفِ المَدِّ وتَزَاوُجِ الحُرُوفِ وغَيْرِهَا..إلخ ، كَمَا أنَّ إيقاعَ الجُمْلةِ ، وعَلائِقَِ الأصْوَاتِ والمَعَانِي والصُّورِ، وطَاقَةَ الكَلامِ الإيحَائيَّةِ ، والذِّيولَ التي تَجُرُّهَا الإيحَاءَاتُ وَرَاءَهَا ، مِنَ الأصْدَاءِِ المُتَكوِّنةِ المُتَعَدِّدةِ، هذِهِ كُلُّهَا مُوسِيقا ، وهيَ مُوسِيقا مُسْتَقِلَّةٌ عنْ مُوسِيقا الشَّكلِ المَنْظُومِ، قدْ تُوْجَدُ بِهِ ، وقَدْ تُوْجَدُ بِدُونِهِ .”(8)

 

ويرى كمال أبو دِيب أنَّ قَصِيدَةَ النَّثْرِ لا إيقاعَ لَهَا سِوَى الإيقاعِ النَّابعِ مِنَ النَّبْرِ والتَّركِيبِ الصَّوتيِّ للغةِ النَّصِّ والأبعاد الدِّلاليَّة للنَّظْمِ؛ أيْ مِنَ المُكونَات ِذَاتِهَا التي تَمْنَحُ النَّثرَ بكلِّ أشْكَالِهِ وتَشْكِيلاتِهِ إيقاعًا مَا، ولا تُوْلَدُ وَحْدَهَا إيقاعًا شِعْريًّا بِالتَّحديدِ العَرَبيِّ للإيقاعِ؛ الذي يقومُ على التِّكرَارِ المُنْتَظِمِ لمُكَوِّنَاتٍ مُعيَّنةٍ، وفي تَشْكِيلاتٍ وَزْنيَّةٍ مُحَدَّدةٍ، “قَصِيدَةُ النَّثْرِ” بِهَذَا المَعْنَى لا وَزْنَ لَهَا، لَكن لِكُلِّ نَصٍّ مِنْهَا إيقاعًا.”(9)

 

إنَّ الوَعْيَ بِهَذَا الإيقاعِ البَاطِنيِّ  المُرَاوِغِ “يَحْتَاجُ إلى تَدْريبٍ ومِرَاسٍ؛ حَتَّى تَألَفَهُ آذَانُنَا، ونَهْتَدِي إلى مَا فيهِ مِنْ مُوْسِيقيَّةٍ خَفِيفةٍ، ونِظَامٍ سَمْحٍ، ومُعْظَمُ الجُهْدِ في هَذَا المِرَاسِ والتَّدريبِ، سَيَتَكوَّنُ مِنْ مُحَاولةِ تَحريرِ آذانِنِا، مِنَ اسْتِبعَادِ النِّظَامِ الكَمِّيِّ؛ ذِي القَوَانِين الضَّيقَةِ.”(10)

 

فَهُوَ إيقاعٌ شَديدُ المُرَاوَغَةِ، وليسَ مِنَ السَّهلِ تَحْدِيدُهُ وتَقْنِينُهُ، لأنَّ لكُلِّ نَصٍّ حَقِيقيٍّ إيقاعُهُ الخَاصُّ، كَمَا أنَّ الإيقاعَ لا يَقْتَصِرُ على العَنَاصِرِ الصَّوتيَّةِ أو التَّركيبيَّةِ أوْ الدِّلاليَّةِ في النَّصِّ، وإنّمَا يتخطَّاهَا إلى إيقاعِ الشَّكلِ البَصَريِّ؛ فالعَيْنُ تَسْتَقْبِلُ النَّصَّ بِتَجَسُداتِهِ بِاعْتِبارِهِ بناءً مُتَكَامِلاً خَاصًّا، يقول مالارميه (1842-1898): ” إنَّ عينَ القَارِئ ينبغي أنْ تَشْمَلَ القَصِيدَةَ بنظرةٍ كُلِّيةٍ، تَتَنَاولهَا أفُقيًِّا وعَمُوديًّا في آنٍ مَعًا، إذْ ليسَتْ القَصِيدَةُ حِيْنئذٍ سِلْسِلةً مِنَ الكلماتِ المُتَتَابِعَةِ تَتَابُعًا زَمَنيًّا؛ بلْهيَ أشْبَهُ باللوحَةِ، ذاتَ البُعْدِ المَكَانيِّ الوَاحِدِ.”(11)

 

والإيقاعُ البَصَريُّ هُو أكْثَرُ المَظَاهرِ الإبداعيَّةِ أهَمِيةً في النَّصِّ الشِّعريِّ الكِتَابيِّ، بالإضَافةِ إلى إمْكَانيَّاتٍ غيرِ مُحَدَّدةٍ، يُحَقِّقُهَا التَّوازي بأنْوَاعِهِ في بِقَاعِ النَّصِّ المُخْتلفةِ؛ كَتَوَازي التَّرادُفِ وتَوَازي التَّضَادِ وتَوَازي التَّركيبِ وتَوَازي التَّكامُلِ وتَوَازي الخُطْوَةِ وتَوَازي الدَّلالةِ، بالإضَافةِ، أيضًا، إلى النَّبْرِ، وهذِهِ التَّقنيَاتُ الإيقاعيَّةُ تتمتَّعُ بقدرٍ كبيرٍ مِنَ الحُريَّةِ والطَوَاعِيَةِ؛ فَتَجْعَلُ الشَّاعرَ يختارُ مِنْهَا مَا يَشَاءُ، كَيْفَمَا شَاءَ، في تَشْكِيلِ البِنْيَةِ الإيقاعيَّةِ للنَّصِّ الشِّعريِّ.

 

ويُنَبِّهُ حازمُ القُرْطَاجَنِيُّ (-664هـ) إلى أنَّ الإيقاعَ لا يُمْكنُ تحديدُهُ كالوزنِ حينَ قالَ: “الأوزانُ العَروضِيَّةُ لا تَعْدُو أنْ تكونَ قوالبَ مُفَرَّغةً، ومُنَسَّقةً تَنْسِيقاً تَجْرِيديًّا صِرْفًا..أمَّا الإيقاعُ الدَّاخليُّ للكَلِمَاتِ..أيْ إيقاعُ الحَرَكَاتِ والسَّكَنَاتِ، بِمَا فيها مِنْ قُوَّةٍ أوْ لِيْنٍ، ومِنْ طُوْلٍ أوْ قِصَرٍ، ومِنْ هَمْسٍ أوْ جَهْرٍ، فَشَيءٌ قَلَّمَا يَدْخُلُ في التَّقريرِ، وهو على كُلِّ حَالٍ، لا ضَابِطَ لهُ، ولا قَاعِدَة تَحْكُمُهُ.”(12)

 

ويُقِّررُ كمال أبو دِيب أنَّ “كُلَّ المُحَاولاتِ التي تَزْعُمُ أنَّ لقَصِيدَةِ النَّثْرِ إيقاعهَا الخَاصّ المُكَافِئ للوزنِ تَتَشَبَّثُ بأذيالِ الشِّعريَّةِ القَدِيمَةِ، وتُحَاولُ إكْسَابَ الشَّرعيَّةَ لـ ” قَصِيدَة النَّثْرِ” ؛ بِمَوْضِعَتِهَا دَاخِلَ التُّراثِ الشِّعريِّ، وتَأْصِيْلِهَا فيهِ، لكنَّ الحَقِيقَةَ البَسِيطَةَ هيَ أنَّ قَصِيدَة النَّثْرِ لا أُصُولَ لَهَا في الإيقاعِ التَّقليِديِّ.”(13)

 

هَذَا الفَرْقُ الجَوهَريُّ بينَ طَبِيعةِ الإيقاعِ، في قَصِيدَةِ النَّثْرِ، وطَبيعةِ الإيقاعِ العَروضِيِّ – في رأي محمد عبد المُطلب (1937- ) – هُوَ فَرْقٌ بينَ بِنْيةٍ إيقاعيَّةٍ كُليَّةٍ، وبِنْيةٍ إيقاعيَّةٍ جُزئيَّةٍ؛ فقدْ لاحَظَ على قَصِيدَة النَّثْرِ إهْمَالهَا لِبنْيَاتِ الإيقاعِ الجُزْئيَّةِ، وعِنَايتهَا البَالِغَة للبِنْيةِ الكُلِّيَّةِ لِهذَا الإيقاعِ، وهيَ – في ذلكَ- تَتَوافَقُ مَعَ الإيقاعِ الكُليِّ  للعَالَمِ الذي تغيبُ إيقاعَاتُهُ إذْا رَكَّزْنَا المُتَابَعَةَ على مُفْرَدَاتِهِ الجُزْئيَّةِ، فنحنُ عِنْدَمَا نتأمَّلُ لوْحَةً طَبِيعيَّةً أوْ تَشْكِيليَّةً على نَحْوٍ جُزْئِيٍّ، فَسَوْفَ نَفْتَقِدُ فيها التَّناسُقَ؛ بلْ رُبَّمَا تَجَلَّتْ أمَامَنَا نَموذجًا للتَّنافُرِ؛ حيثُ لا نَجِدُ تناسُقًا بينَ (مَنْزلٍ) بِجِوارِهِ (كَائِنٌ بَشَريٌّ أوْ حَيَوانيٌّ) ثُمَّ بَيْنَهُمَا (شَجَرَةٌ) مُتَشَعِّبَةُ الفُروعِ والأغْصَانِ، لكنَّ تجميعَ هذِهِ التَّكوينَاتِ على نَحْوٍ مَخْصُوصٍ مِنَ التَّقارُبِ والتَّبَاعُدِ والصِّغرِ والضَّخَامَةِ، هو الذي يُحقِّقُ لَهَا الاتَّسَاقَ والانْتِظَامَ، وأظُنُّ أنَّ إيقاعَ ” قَصِيدةَ النَّثْرِ” شَىءٌ قريبٌ مِنْ هذا النَّمطِ التَّكوينيِّ؛ لأنَّهُ يُعطِي إيقاعِيَتَهُ الصَّوتيَّةَ والدِّلاليَّةَ كُليًّا لا جُزئيًّا.”(14)

 

ينبغِي أيضًا أنْ نُلاحِظَ أنَّ المَجَازَ المُهَيْمنَ على نَصِّ “قَصِيدَةِ النَّثْرِ” هُو – أيضًا – مَجَازٌ (كُليٌّ) لا ( جُزئيٌّ)، مَجَازُ(المَشْهَدِ) لا مَجَاز(الجُمْلةِ).

 

قَصِيدَةُ النَّثْرِ، إذاً، لا قَاعِدةَ لإيقاعِهَا، وهيَ تُؤسِّسُ هذَا الإيقاعَ كُلَّ مَرَّةٍ في تَشْكِيلٍ جَديدٍ، يَعْتَمدُ على قِيمٍ إيقاعيَّةٍ وعَنَاصِرَ، تُشكِّلُ مِنْهَا في كُلِّ مَرَّةٍ شَكَلاً إيقَاعِيًّا مُناسِبًا للتَّجربةِ، ونابِعًا منْ إيقاعِهَا، وإيقاعُ التَّجربَّةِ (الدَّاخليِّ) لا يقفُ عندَ حَدٍّ؛ فهو مُتدفِّقٌ، ومُتَجدِّدٌ، ومُتحَوِّلٌ، بَيْنَمَا إيقاعُ (الوزنِ) ثابِتٌ مُتكرِّرٌ، مُنْتَظِمٌ آليٌّ .

 

وللإيقاعِ في قَصِيدَةِ النَّثْرِ مَجَاليَ مُتنوِّعَةٌ ومُتَفَاوتَةُ الدَّرجاتِ؛ فَمِنْهَا ما يكونُ خَافِتًا، ومِنْهَا ما يكونُ حَادًّا، مِنْهَا مَا يتدفَّقُ رَخِيًّا، ومِنْهَا ما يكونُ جَهِيرَ النَّبْرِ، ومِنْهَا مَا يَتَدَفَّقُ كَمَاءِِ جَدْوَلٍ، ومِنْهَا مَا يَتَصَاخَبُ كَأمْواجِ خِضَمٍ هَادِرٍ، ومِنْهَا مَا يكونُ على شَكْلِ سُطورٍ مُتَرَاوحَةِ الطَّولِ، مَنْبُورةٍ، تَتَصَاعُد دَرَجَةُ الإيقاعِ – هُنا – من تَوالي إيقاعِ السُّطورِ وتكامُلِهَا لتشكيلِ حَرَكةِ الإيقاعِ الكُليِّ للنَّصِّ؛ مِنْهَا مَا يكونُ هَادئًا، رَخِيًّا خَافِتًا، كَمَا يبدو كثيرًا عِندَ عبَّاس بيضون، وسركون بولص، وبِخَاصَةٍ حينَ ينزِعُ النَّصُّ إلى التَّحقُّقِِ المَشْهَديِّ، أوْ الوَصْفِ، ويَتَوَارَى خِِطَابُ الذَّاتِ، أيْ حِيْنَمَا تعمدُ الذَّاتُ الشَّاعرةُ إلى رَصْدِ حَرَكةِ الخَارجِ بِحِيَاديَّةٍ.

نقرأُ لسركون بولص (1944- 2007) :

“لَمْ يَكُنْ يُدَخِّنُ لكنَّ أنْفَاسَهُ كانَتْ مِنَ الثِّقلِ أحْيَانًا بِحَيثُ كَانَ يبدو لِي أنَّ نَوْعًا مِنَ الدُّخَانِ يَرْتَفِعُ بِبُطْءٍ مِنْ بينِ أسْنَانِهِ، كَانَ يُدَخِّنُ سِيْجَارَةً لا تَنْتَهِي في الدَّاخِلِ .

لَمْ يَكُنْ يَسْمَعُ أيَّ شَيءٍ أقُوْلُهُ وَأغَاظَنِي ذَلكَ قَلِيلاً، وَعَرَفْتُ أنَّ الرَّجُلَ مِنَ العِنَادِ وَالجُنُونِ بِحَيْثُ لا يُرِيدُ أنْ يُُفْهِمَ أحَدًا أوْ يُسْمِعُ أحَدًا. لا يُرِيدُ إلاَّ أنْ يَجْعَلَ شَخْصًا آخَر لا يهمُّهُ مَنْ كَانَ، يُصْغِي إليهِ وَهُوَ يَتَحَدَّثُ عَنِ الطُّوفَانِ، في غُرْفَتِهِ الضَّيقةِ؛ التي تَهُزُّهَا أصْوَاتُ المَطَرِ في الخَارجِ.

 كُنْتُ أعْرِفُ هَذَا النَّوعَ مِنَ المُتَعَصِّبينَ جَيِّدًا، سِوَى أنَّ الرَّجُلَ الجَالِسَ أمَامِي لَمْ يَكُنْ لَهُ أيُّ طُمُوحٍ حَقِيقيٍّ، في تِلكَ اللحْظَةِ، سِوَى إقْنَاعِي بأنَّ الطَّوفَانَ حَقِيقَةٌ صَارِمَةٌ وَضَروريَّةٌ، وَكأنَّنِي بِتَصْدِيقِهِ ، سَأُثْبِتُ ذَلكَ الوَهْمَ حَقِيقةً إلى الأبَدِ؛ لأنَّهُ لَنْ يكونَ وَحْدَهُ، وَهَذَا هُو الفَرْقُ.”(15)

 

ونقرأُ لعبَّاس بيضون(1947- ):

“المَرْأةُ تَحْمِلُ الحَسُّونَ. حِيْنَ تَمُرُّ قُرْبَ الجُنديِّ تُغَطِّيهِ. الطِّفْلُ يَلْعَبُ بِقِطْعَةِ نَقْدٍ. حِيْنَ يَمُرُّ قُرْبَ الجُنديِّ يَرْمِيهَا. الجُنديُّ لا يَنْتَبِهُ. حِيْنَ يَبْتَعِدَانِ. تَنْظُرُ المَرْأةُ إلى الحَسُّونِ، وَيَلْتَفِتُ الطِّفلُ إلى القِطْعَةِ التي خَلَّفَهَا. شَيَاطِينُ كَثِيرةٌ تَحَرَّكَتْ في الهَاوِيةِ، لَكنَّ الرَّقْصَةَ لَمْ يَشْعُرْ بِهَا أحَدٌ. مَعَ ذَلكَ بِضْعُ دَقَائِقَ مِنَ التَّأخيرِ عَن المَوْعِدِ الجُهَنَّمِيِّ.”(16)

 

ويزدَادُ الإيقاعُ وُضُوحًا، وبُرُوزًا، كُلَّمَا اتَّحَدَ بِحَركَةِ الذَّاتِ الشَّاعرةِ وتَمَوُّجَاتِهَا، كَمَا نَجِدُ عِندَ بَسَّام حَجَّار(1955-2009)، في هذَا المَقْطَعِ:

” يَجْعَلُنِي مُطْمَئِنًا أنَّ يَدَيكِ تَقْتَرِبَانِ، وَأنَّ لَمْسَتَهُمَا تَسْتَيقِظُ الآنَ في جِسْمِي الذي كُنْتُ أحْسَبُ أنَّهُ مَيِّتٌ، أوْ أنَّهُ اسْتَلْقَى لِشِهُورٍ في نَوْمٍ مُجَرَّدٍ. يَمُرُّ بِهِ كُلُّ شَيءٍ دُونَ أنْ يُغَادِرَ حِيَادً. جِسْمٌ أصَمُ. جِسْمٌ أبْكَمُ. ثُمَّ أتَتْ يَدَاكِ. رَسَمَتْ شَكْلاً مِنْ طِيْنةَِ الفَجْرِ. كُنْتُ بَعْضًا مِنْ رِقَّتِهَا. مِنْ الحَنَانِ الذي يَضَعُنَا وَيَجْعَلُنَا قَابِلِيِْنَ لأنْ نَنْكَسِرَ إذْ نَفْقِدُهُ. إذْ نَحْيَا في غَيْبَتِهِ الطَّويلَةِ. الآنَ أعْرِفُ إلى أيْنَ أذْهَبُ، حِيْنَ تَضَعُنِي الحَافِلَةُ على رَصِيفِ الازْدِحَامِ، أوْ حِيْنَ تَأخُذُنِي الغُرْفَةُ إلى الأفْكَارِ السَّودَاءِ. أعْرِفُ مَا الذي أفْعَلُهُ حِيْنَ أحْسَبُ أنَّ الوَقْتَ لا يَنْقَضِي، أنَامُ وَتَأتِي يَدَاكِ في الُحلْمِ أوْ يأتِي الحُلْمُ في يَدَيكِ. لأنَّنِي أحْسَبُ في نَوْمِي أنَّ يَدَيكِ تَحْلُمَانِ بِارْتِبَاكِ مَنْ يَجْعَلُ الطُّمَأنِينَةَ لَمْسًا، مَنْ يَجْعَلُ اللمسَ يَقْظَةَ الغِيَابِ.”(17)

 

ويزدادُ الإيقاعُ بُروزًا، وجَهَارةً كُلَّمَا شَرَعَتِ الذَّاتُ الشَّاعرةُ في غِنَائِيتِهَا، وَاسْتِبْطَانِ عَوَالِمِهَا، والامْتِثالِ لِفَوَرَاتِ الدِّمَاءِ المُدَمْدِمَةِ، وَالتَّعبيرِ عنْ الجَيَشَانِ المُتَدَافِعِ فيها، ومِنْ ذلكَ نقرأُ لمحمد الماغوط (1932-2006):

“سَئِمْتُكَ أيُّهَا الشِّعْرُ، أيَّتُهَا الِجيْفَةُ الخَالِدَةُ

لبنانُ يَحْتَرِقُ

يَثِبُ كَفَرَسٍ جَرِيْحَةٍ، عِنْدَ مَدْخَلِ الصَّحَرَاءِِ

وَأنَا أبْحَثُ عنْ فَتَاةٍ سَمِيْنَةٍ

أحْتَكُّ بِهَا في الحَافَِةِ

عنْ رَجُلٍ عَرَبيِّ المَلامِحِ، أصْرَعُهُ في مَكَانٍ مَا.

بِلادِي تَنْهَارُ

تَرْتَجِفُ عَارِيَةً كَأُنْثَى الشِّبْلِ

وَأنَا أبْحَثُ عنْ رُكْنٍ مُنْعَزلٍ

وَقَرَويَّةٍ يَائِسَةٍ، أُغَرَّرُ بِهَا.”(18)

 

إنَّ حِدَّةَ الإيقاعِ هُنَا تعكِسُ حِدَّةَ إيقاعِ التَّجربةِ الإنسانيَّةِ، وَإذَا كَانَ الإيقاعُ هُنَا لا يُدَوِّي في آذَانِنَا فإنَّهُ بِكُلِّ تأكيدٍ يُدَوِّي في قلوبِنَا(19)، وَيَتَّضِحُ هذَا أيضًا في المُجْتَزَءِ التَّالي، لمحمد آدم (1954- ) :

” سَأنْتَصِبُ مِثْلَ قَارةٍ في وَجْهِ الرِّيحِ

وَآخذُ كُلَّ سَفِيْنَةٍ غَصْبًا، وَأكونُ كَالقَرَاصِنَةِ،

 فَأيْنَ مَنَافِذُ الهَرَبِ؟

سَأسْرقُ زَوَارقَكَ،

وأُحَطِّمُ المَجَادِيفَ،

وَأُلْقِي بِالبَحَّارةِ وَأسْمَاكِ القِرْشِ وَالحِيْتَانِ إلى الأعْمَاقِِ،

وَأنْتَصِبُ – في وَجْهِكَ – شَاهِرًا سَيفِي، وَهُوَ مُطَرَّزٌ بِدَمِكَ

الأبْيَض الأبْيَضِ الأحْمَرِ الأحْمَرِ الأزْرَقِ الأزْرَقِِ الأسْوَدِ الأسْوَدِ،

وَأُلْقِي عَليْكَ بِالفِتْيَانِ وَالحِجَارَةِ،

سَأجْعَلُ عَليْكَ الليلَ سَرْمَدًا، وَالنَّهَارَ أبَدًا،

سَآتِيْكَ بِأتْبَاعِي مِنَ الغَرْقَى،

وَبِأتْبَاعِكَ مِنَ العَبِيدِ وَالجَوْعَى إلى أنْ يَحْجِبُوك عِنْدَهُمْ،

آهٍ،

سَيَعْتَصِرُونَكَ كَالحَليبِ،

وَيَسْكَرونَ بِكَ كَأجْوَدِ الخَمْرِ، يَاعَصِيْرَ التُّفَاحِ وَالأعْنَابِ،

وَيَا شَجَرَ الأقَاحِ،

يَا شَرَابَ الآلِهَةِ وَالنَّبِيّينَ،

أعْطِنِي أيُّهَا الجَسَدُ كَلامًا آخَر؛ حَتَّى أقْدِرَ على الكَلامِ،

وَأسْتَسْلِمَ لِمَقَاودِ الحُرُوفِِ ،

وَمَقَابِضِ الألفَاظِ،

أعْطِنِي أيُّهَا الجَسَدُ لُغَةً أُخْرى،

حَتَّى أرَى اللغةَ جَهْرَةً، لا مِنْ وَرَاءِِ حِجَابٍ

فَتُفْتَحُ المَغَالِيقُ لِي.”(20)

 

وَمِنَ الوَاضِحِ أنَّ النَّموذَجَينِ الأخِيْرَينِ لا يَعْتَمِدَانِ على النَّبْرِ فقط لإنْتاجِ الإيقاعِ؛ وَإنَّمَا يَسْتَغِلانِ طَاقاتِ التَّوَازي: التَّركِيبِي وَالصَّرفيِّ وَالدَّلاليِّ وَالعِلاقَاتِ الصَّوتيَّةِ التي تَرْبِطُ السُّطورَ بِبَعْضِهَا البَعْض، مِمَّا يُسَاعِدُ في إبْرَازِ الإيقاعِ الكُليِّ للنَّصِّ.

 

وَجَلِيٌّ أيضًا أنَّ الشَّاعرَ كُلَّمَا اقْتَرَبَ شَيْئًا فَشَيْئًا مِنْ أعْمَاقِهِ الحَقِيقيَّةِ، وَاسْتَجَابَ لِعَوَالِمِهَا، وَاسْتَبْطَنَهَا، اقْتَرَبَ أكْثَرَ مِنْ طَبيعةِ التَّجربَةِ الحَقيقيَّةِ، وتَوَحَّدَ مَعَ صَوْتِ الدَّاخِلِ الخَاصَّ، وَأتَى إيقَاعُهُ – مِنْ أغْوَارِ اللاوعي- أكْثَرَ حَمِيْمِيَّةً وَدِرَاميَّةً وَهَارمُونِي.

 

 

إنجازُ الشِّعرِ بالنَّثر:

3

 

قَصِيدَةٌ أُخْرَى ..

قَصِيدَةٌ مِنْ خَارِجِ الرَّحِمِ

 

…  تَجْرِبَةُ مَجَلَّة ( شِعْر) اللُبْنَانِيَّة، نَمُوذَجًا …

 

 

كَيْفَ يَخْرُجُ الشِّعْرُ مِنْ فَضَاءِِ النَّثْرِ؟، وكيفَ تتشكَّلُ شِعْريَّتُهُ في حَقْلِ النَّثْرِ؟، وَمَا وسَائِلُ تحقيقِِ الشِّعريَّةِ هنا؟.

رُبَّمَا كانَ الأنْسَبُ أنْ نتلمَّسَ الإجَابَاتِ باسْتِكشَافِ مَعَالمِ التَّجاربِ الرَّائدةِ لقَصِيدةَ النَّثْرِ، ضِمْنَ تَجَمُّعِ مجلَّةِ:(شِعْر) اللُبْنَانيَّةِ؛ هَذَا التَّجمُّعُ الذي تفجَّرتْ في فَضَائِهِ قَضِيَّةُ قَصِيدَةِ النَّثْرِ؛ فَتَعهَّدتْهَا شَكْلاً شِعريًّا بديلاً، منذُ مَطْلَعِ السِّتينيَّاتِ، وشكَّلتْ سجالاتُهُ الأسئلةَ الأسَاسِيَّةَ التي لا تزالُ تُسَيْطرُ على مَلامِحِ وإشْكَاليَّاتِ قَصِيدَة النَّثْر، رَغْمَ أنَّ قَصِيدَةَ النَّثْرِ لمْ تَكُنْ المَشْروعَ الأسَاسِيَّ الأوْحدَ لِمَجلَّةِ (شِعْر)، حِينَ صَدَرَ عددُهَا الأوَّلُ في كانون ثان ( يناير) مِنَ العامِ 1957، كَمَا أنَّ تجربـةِ مجلـَّةِ:(شِعْر)، أيضًا، لمْ تَكُنْ بِمَعْزلٍ عنْ الحَرَكَاتِ المُشَابِهَةِ، السَّابقةِ، ومَا كانَ شُعرَاؤهَا بِمَعْزلٍ عَنْ تجاربِ الشِّعْرِ المَنْثُور منذُ بدَايَاتِ القرنِ المَاضِي؛ فتوفيق صَايغ (1923 – 1971) الذي بدأَ قبلَ بزُوغِ المَجَلَّةِ بِعَشْرِ سَنَوَاتٍ كَامِلَةٍ (1947)، لمْ يكُـنْ بعيدًا عَمَّا كـَانَ يَنْشُرُهُ ألبير أديب (1908 -1985)، وألبير، ذَاتُهُ ، – لَهُ قَصِيدَةٌ نثريَّةٌ في العَددِ الأوَّلِ مِنْ:(شِِعْر) – كَانَ حَلْقَةً في سِلْسَلةِ الشِّعْرِ المَنْثُور، وَوجُودُهُ ضِمْنَ شُعَراءِ العَدَدِ الأوَّلِ مِنْ:(شِعْر)، يَشِي بهذِهِ الدَّلالةِ، وَمِثْلهُ إبراهيم شُكْرالله (1921- 1995)؛ الذي لمْ يكُنْ بمنأىً عنْ تَجَاربِ شُعرَاءِ السِّريَاليَّةِ المِصْريينَ؛ الَّتي بَدَأتْ في الظُّهورِ مَعَ بزُوغِ الأربعينيَّاتِ مِنَ القَرنِ المَاضِي، وَتَوَاشَجَتْ مَعَ حَرَكةِ السِّريَاليَّةِ الفَرَنسيَّةِ، للدَّرَجَةِ التي كَانَ أحَدُ أبْرزِ شُعَرَائِهَا: جورج حنين: (1914 – 1973) يكتبُ بِالفَرَنْسِيَّةِ وَالعَربيَّةِ مَعًا، غَيْرَ أنَّ مَجَلَّةَ:(شِعْر) جَسَّدَتْ الانْفِجَارَ الحَدَاثيَّ المُشًكِّلَ لِهَذِهِ الظَّاهِرةِ الشِّعْريَّةِ، في شَكْلِهَا الأخِيْرِ، الفَاعلِ حَتَّى اللحَظْةِ.

وَهَكذَا جَاءَتْ مَجَلَّةُ:(شِعْر) لتُمثِّلَ المَرْحَلةَ الثَّالثَةَ، عَلى هذِهِ الطَّرَيقِِ، وَفيهَا انْبَثَقَ المُصْطَلَحُ الجَديدُ، الذي – رَغْمَ الانْقِسَامِ حَوْلَهُ – أصْبَحَ يَتَمتَّعُ باسْتِقرَارٍ وَاضِحٍ، وَمَعَهُ شَرَعَ المَفْهُومُ النَّظَريُّ، لِهَذَا النَّوعِ الشِّعْريِّ في التَّشكُّلِ؛ لِتَحْدِيدِ مَعَالِمِ المَشْهَدِ الجَدِيدِ، وقدْ جَاءَتْ مَرْحَلةُ التِّسعينيَّاتِ؛ بِتَحَوُّلاتِهَا العَمِيقَةِ، لِتَدْفعََ هَذَا المَشْهَدَ إلى صَدَارةِ الأُفُقِِ الشِّعْريِّ، بِأعْدَادٍ كَاسِحَةٍ، مِنْ مُخْتَلفِ الأجْيَالِ، في مِسَاحَاتٍ مُتعدِّدةٍ مِنْ الخَرِيطَةِ الشِّعريَّةِ العَربيَّةِ، في الوقتِ نَفْسِهِ، وَلا يَزَالُ لِمَوْقفِ (شِعْر) حُضُورهُ – بِرَغْمِ رَحِيْلِ البَعْضِ، وَتَحَوُّلِ غَيْرهمْ، وَتَوَقُّفِ آخَرينَ – المُتَمَثِّلِ في اسْتِمرَارِ أحَدِ رُمُوزِهَا الكِبَارِ: أدونيس (1930 – ) في السِّجَالِ.

 

ولا يَكَادُ أحَدُ الدَّارِسِينَ، الآنَ، يَتَعرَّضُ لقَصِيدَةِ النَّثْرِ، دُونَ أنْ يَمُرَّ بِمَقَالَةِ أدونيس، الرَّائدَةِ، عَنْهَا، وَبَيَانِ أُنْسِي الحَاج ( 1937 -) في مُقدِّمَةِ ديوانِهِ الأوَّلِ: لَنْ،عَنْهَا، وَهُوَ مَا يَشِي بِأنَّ هذِهِ المَرْحَلة، (الثَّالثَة)، قَدْ اسْتَقْصَتْ الأسْئِلَةَ الأسَاسِيَّةَ المُتَعلِّقَةَ بِهَذَا النَّوعِ الشِّعْريِّ،  مُسْتَلْهِمَةً، في هَذَا، التَّجْربَةَ الفَرَنْسِيَّةَ وَالتَّجربَةَ الإنْجِليزيَّةَ في هذا الشِّعْرِ، غَيْرَ أنَّهُ ينبغِي “ألاَّ ننظُرَ إلى هذِهِ الجَمَاعةِ كَمَا لَوْ كَانَتْ شَديدةَ الالْتِحَامِ، تَامَّةَ التَّجانُسِ؛ فَقَدْ تَوَزَّعَ شُعَرَاءُ مجلَّةِ شِعْر- بِحُكْمِ عَوَاملَ تَرْبويَّةٍ ودِرَاسيَّةٍ ودِيْنيَّةٍ وَغَيْرِهَا – بينَ الثَّقَافَتينِ: الفَرَنْسيَّةِ والأنْجلوسَكْسُونيَّةِ؛ فكَانَ مِنْ أبرزِ مُمثِّلي الثَّقافَةِ الأُوْلى: أدونيس، أُنْسِي الحَاج، شوقي أبو شقرا، عصام محفوظ ، خالدة سعيـد، كمال خير بك، وكانَ منْ أبرزِ مُمثِّلي الثَّقافةِ الأُخْرَى: يوسف الخَال، وجبرا إبراهيم جبرا، وتوفيق صَايغ، وإبراهيم شُكْر الله وغيرهم، وكانَ أغْلَبُ مَنْ سَانَدوا المَجلَّةَ وَسَاهَموا في نَشَاطِها مُوزَّعِينَ على هَذِينِ الفَضَاءينِ الثَّقافِيينِ، بِاسْتِثْنَاءِ فؤاد رِفقه؛ الَّذي كانَ ذَا ثَقَافةٍ ألمانيَّةٍ. وقدْ نتجَ عنْ انْتِمَاءِِ أعْضَاءِ الحَرَكةِ إلى هَذَينِ الفَضَاءَينِ الثَّقافيينِ، بعضَ الصِّراعِ حَوْلَ الشَّكلِ الذي يُمْكِنُ أن تُبْنَى عليهِ القَصِيدةُ الحَدِيثةُ: الشَّكلِ الإنْجليزيِّ المَعْروفِ بالشِّعْرِ الحُرِّFree Verse  أمْ الشَّكلِ الفَرَنْسِيِّ المَعْروفِ بقَصِيدَةِ النَّثْرِPoeme en Prose ، وَلاحَ في بدايَةِ أمْرِ المَجَلَّةِ أنَّ الكِفَّةَ رَاجِحَةٌ لصَالحِِ ذَوي الثَّقافَةِ الأنْجلوسَكْسُونيَّةِ وَالشِّعْرِ الحُرِّ؛ إذْ كانَتْ تَجْربَتُهُمْ قدْ بَلَغَتْ بعضَ النُّضْجِ منْ خِلالِ إبداعٍ شِعْريٍّ امْتدَّ على مَدَارِ عِقْدٍ مِنَ السِّنينَ، أمَّا ذَوو الثَّقافَةِ الفَرَنْسيَّةِ فَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ- في بِدايَةِ أمْرِهِمْ- مَوْقفٌ وَاضِحٌ مُعْلنٌ، سِوَى بَعْضِ التَّعلِيقَاتِ العَابِرَةِ التي تَتَخلَّلُ نُصوصَهُمْ الَّنقديَّةَ الأُوْلى؛ نُصوص أُنْسِي الحَاج أو خالدة سعيد، حَتَّى انْتَبَهوا – آخر 1957 – إلى بَعْضِ النَّمَاذجِ الشِّعريَّةِ التي كانَ يَنْشرُهَا محمد الماغوط .. وهِىَ نماذِجُ .. تُؤيِّدُ مَا كَانُوا يُنَادُونَ بِهِ، مِنْ وُجُوبِ كِتَابةِ شِعْرٍ جَدِيدٍ كُلِّ الجِدَّةِ؛ في مَبَانِيهِ وفي مَعَانِيهِ، فَصَارَ التَّرويجُ لِمِثْلِ هَذَا الشِّعْرِ دَيْدَنَهُمْ، وَخَاصةً أنَّ الماغوط قَدْ وَفَّرَ لَهُمْ .. الحُجَّةَ القَاطِعَةَ على أنَّ العَرَبيَّةَ تَقْبَلُ مِثْلَ هَذَا الشِّعْر، فَازْدَادَ نَشَاطُ ذوي الثَّقافَةِ الفَرَنْسِيَّةِ، وَانْطَلَقوا في حَرَكةِ تَرْجَمةٍ كَثِيفَةٍ للنُّصوصِ الفَرَنْسِيَّةِ المُعَبِّرةِ عنْ أفْكَارِهِمْ، أوْ القَرِيبَةِ مِنْهَا، وَرَاحُوا يُخَصِّصونَ في كُلِّ عَدَدٍ منْ أعْدَادِ المَجلَّةِ- تقريبًا – مِسَاحَةً مُهمَّةً نِسْبيًّا، يَضَعونَ لَهَا عنوانَ: “رِسَالة مِنْ بَاريس”، يُذِيْعُونَ فِيهَا أخْبَارَ الشُّعرَاءِ الفَرَنْسِيينَ المُعَاصِرينَ، ويُعرِّفونَ بإنْتَاجِهِمْ ومَعَارِكِهِمْ، ويتتبعَّونَ منْ خِلالِهَا، مَا يَطْرَأُ على الحَرَكَاتِ الشِّعْريَّةِ الفَرَنْسِيَّةِ.”(1)

 

وَهَكَذَا تَصَدَّرَ ذَوو الثَّقافَةِ الفَرَنْسِيَّةِ، مَشْهدَ “قَصِيدَةِ النَّثْر” مُسْتلهِمِينَ المَفْهُومَ النَّظَريَّ الفَرَنْسِيَّ لقَصِيدَةِ النَّثْرِ، مِنْ أُطْرُوحَةِ سوزان برنار عن الشِّعْرِ الفَرَنْسِيِّ: قَصِيدَة النَّثْرِ مِنْ بودلير إلى أيامِنَا، وظَلَّ أقرَانُهُمْ، مِنْ ذَوي الثَّقافَةِ الإنْجِليزيَّةِ يعملونَ وِفْقَ إطَارِ الشِّعْرِ الحُرِّ؛ بمفهومِهِ الأنْجلوسَكْسُونيِّ، وبينَ هَاتينِ المَجْمُوعَتَينِ بَرَزَ محمد الماغوط؛ الَّذي كانَتْ كُلِّ صِلَتِهِ بِمُنْجَزِ شِعْرِ النَّثْرِ الغَرْبيِّ لا تتعدَّى اطِّلاعَهُ على بَعْضِ المُتَرْجَمَاتِ، غيرَ أنَّ وَعْيَهُ الشِّعْريَّ، كانَ أمْيَلَ إلى تَيَّارِ الثَّقافَةِ الشِّعْريَّةِ الفَرَنْسِيَّةِ، وقدْ حَدَّدَتْ كُلُّ مَجْموعَةٍ مِنَ المَجْموعَتَيْنِ الأسَاسِيتينِ مَعَالمَ اتِّجَاهِهَا الشِّعريّ، بالتَّركيزِِ على مَجْموعَةٍ مِنَ القِيَمِ الفِكْريَّةِ وَالجَمَاليَّةِ العَامةِ، بَيْنَمَا هَيْمَنَ مُصْطَلحُ قَصِيدةِ النَّثْرِ على الاتِّجَاهَينِ مَعًا.

وقدْ هَيْمَنَتْ على إسْهَامَاتِ المَجْموعَةِ الأُوْلى: توفيق صَايغ، وجبرا إبراهيم جبرا، وإبراهيم شُكْر الله ، ويُوسف الخَال: الغِنَائيَّةُ وَالسَّردُ، وَالذَّاتُ الجَمْعِيَّةُ، وَالرُّؤى الكُلِّيَّةُ، وَالتَّرابُطُ المَنْطِقيُّ وَالدَّلاليُّ بينَ السُّطورِ الشِّعريَّةِ، وَالتَّشبُّعُ بالتَّصوُّفِ المَسِيحيِّ، وَاسْتِقْصَاءَاتٌ مِيْتَافِيزيقيَّةٌ.

بَيْنَمَا هَيْمَنَ على إسْهَامَاتِ المَجْموعَةِ الأُخْرى: أُنْسِي الحَاج، وأدونيس، وَزُملائِهِمَا: المَجَازُ اللغويُّ المُدْهِشُ، وَالتَّشظِّي، وَالتَّناثُرُ، وَتَفْكِيكُ العَلائِقِِ اللغويَّةِ وَالتَّركِيبيَّةِ وَالدَّلاليَّةِ، وَالتَّوهُّجُ اللغويُّ، وجَهَارَةُ الإيقاعِ، وَحِدَّةُ النَّبرَةِ الشِّعْريَّةِ، وَعَدَمُ التَّرابُطِ المَنْطِقيِّ أوْ التَّسَلسُلِ السَّرديِّ القَائِمِ على العِلاقةِ السَّببيَّةِ أوْعِلاقَةِ النَّتيجةِ.

وَيُعَدُّ مُنْتَجُ المَجْموعَةِ الثَّانِيةِ، بِشَكْلٍ عامٍ، الإنْجَازُ الحَقِيقيُّ المُؤسِِّسُ لظَاهِرةِ مَا عُرِفَ بقَصِيدَةِ النَّثْرِ، وعلى الرَّغمِ ممَّا شَهَدَهُ المَشْهَدُ الشِّعْريُّ مِنْ تَحَوُّلاتٍ شِعْريَّةٍ على مَدارِ عقودٍ ثَلاثةٍ تَاليةٍ، اتَّسَعَتْ فِيْهَا فَضَاءَاتُهُ؛ فإنَّ المَعَالمَ الأسَاسِيَّةَ المُؤسِّسةَ للنَّوعِ الشَّعْريِّ الذي تأسَّسَ، قَدْ تَمَّ على أيْدِي هذِهِ المَجْموعَةِ، كَشَكْلٍ شِعْريٍّ، وَإطَارٍ نَظريٍّ.

وَبِنَظْرَةٍ أكْثَرِ تفصِيلاً، وَإلمَامًا، سَنَجْتَلِي مَعَالِمَ هَذَا المَشْهَدِ بِالوِلوجِ إلى عَلامَاتِهِ الأسَاسِيَّةِ ..

 

 توفيق صايغ:

 

يُعَدُّ أقْدَمُ شُعَرَاءِ مَجَلَّةِ: (شِعْر) النَّثْريينَ، وَيُمثِّلُ، وَحْدَهُ، نَسِيْجًا، يُجَسِّدُ – كَمَا وَضَّحَ مارون عبود (1886-1962)- ” صُوفيَّةً مُتَمَرِّدةً عَنِيفَةً”(2)، وَالفِعْلُ الشِّعْريُّ عِنْدَهُ- كَمَا أشَارَ سعيد عقل(1912- )- يُشْبِهُ الحُلْمَ ، بلْ “هُوَ مَحْضُ حُلْمٍ، لشدَّةِ مَا هُوَ حَيَاةٌ”(3)، وَالذَّاتُ الشَّاعرةُ عِنْدَهُ تُمَثِّلُ مَسِيْحًا جَدِيدًا – كَمَا رأى غالي شكري (1935-1998)- وَلكِنَّ هَذَا المَسِيحَ “لا يَرْتَدِي ثِيَابَهُ التَّاريخيَّةَ على خَشَبَةِ الصَّليبِ القَدِيمةِ”(4)، وَهُوَ مَسِيحٌ مُتَمَرِّدٌ، ثَائِرٌ، يَكَادُ لا يَقْوَى على الامْتِحَانِ الصَّعْبِ؛ حَيْثُ كانَ توفيق صَايغ – كَمَا وَضَّحَ جبرا إبراهيم جبرا – “يُعبِّرُ عنْ حِسِّهِ الفَاجعِ، أوْ حِسِّهِ بالعُقْمِ ، بِشَكلٍ آخَر، لا عَنْ طريقِِ الغَضَبِ؛ بلْ عنْ طريقِِ المُحَاجَجَةِ الدِّينيَّة.. وَكانَ دائِمًا يَخْرُجُ بنتيجةٍ، أنَّ هذِهِ القُوَى كُلّهَا لا تُؤدِي بِهِ، أوْ لا تَتَخَطَّى بِهِ، العُقْمَ الذي يَرْفُضُهُ هُوَ”(5):

“أَكُلَّمَا مَسْمَرَ الوَحْلُ قَدَمَيَّ

وَشَلَّنِي إلاَّ يَدَيْنِ رَفَعْتُهُمَا إليكَ

تَمَسْمَرْتَ وَشَلَلَتَ يَدَيكَ

وَطَالَبْتَنِي بِالانْبِثَاقِِ بِالارْتِقَاءِِ إليكَ؟

أَكُلَّمَا صَرَخْتُ وَاسْتَغَثْتُ

وَاكْتَسَبْتُ عَطْفَ مَنْ حَوَاليكَ

عَطَفْتَ لَكِنَّمَا اكْتَفَيْتَ

(يَدَيْكَ أُرِيدُ يَدَيكَ)

بِتَدْلِيَةِ حَبْلٍ إليَّ؟

وَمَاذَا إنْ كُنْتُ في حَمْأةٍ

تَشُدُّنِي شِبْرَيْنِ قَبْلَ أنْ يَشُدَّنِي حَبْلُكَ قِيرَاطًا؟

وَمَاذَا إنْ جَبَلتَ ذِرَاعَيَّ نَحِيْفَيْنِ عَيَّيِنِ

وَدَلَّيْتَ حَبْلَكَ قَصِيْرًا مُهَلْهَلاً

وَعَلَّقْتَهُ مُسْتَرْخِيًا بِخِنْصِِرِكَ؟.”(6)

 

المَوقِفُ الشِّعريُّ الأثيرُ عِنْدَ توفيق صَايغ، هُوَ ذلكَ المَوقِفُ الدِّراميُّ الحَادُّ؛ مَوقِفُ الذَّاتِ الفَرْديَّةِ الشَّقيَّةِ، طَريحَةِ العَرَاءِ، في مُوَاجَهَةِ الذَّاتِ الكُلِّيَّةِ المُسْتَبِدَّةِ، المَعْشُوقَةِ الطَّاغِيةِ، لا تَسْتَطِيعُ الفِكَاكَ مِنْهَا، ولا تَقْوَى على الفِكَاكِ مِنْهَا؛ وَلِذلكَ هيَ في حَالَةِ خِطَابٍ دَائِمٍ لَهَا، خِِطَابٍ يَحْتَدُّ أحْيَانًا لِيَصِلَ إلى دَرَجَةِ المُحَاجَجَةِ، فَالعُوَاءِ، تَتَطوَّحُ بينَ التَّودُّدِ وَالاحْتِدَادِ، وَالانْجِذَابِ وَالمَحْوِ:

“لا أُرِيْدُنِي أنْ أفِرَّ وَلا أنْ أَتَمَلَّصَ

وَأُرِيْدَكَ أنْ تَنْشُدَني

وَتَرْفَعنِي مِنْ حَيْثُ أكُونَ أوْ لا أكُون

أُرِيْدُنِي أفْعُوانًا في جَوْفِ سَلَّةٍ

غَافِيًا

عَنْ ذَاتِهِ عَنْ السَّلةِ عَنْ كُلِّ شَيءٍ

وَأُرِيْدُكَ حَاويًا تَعَرَّى

إلاَّ مِنْ لَفَّةٍ أوْ لَفَّتيِنِ وَشَعْرُهُ القَاسِي

يُوقِظُنِي وَيُكوِّننِي وَيَرْفَعُنِي أعْلَى

وَيُرَقِّصَنِي على أنْغَامِِ مِزْمَارِهِ.”(7)

 

 

وَالصُّورَةُ الكُلِّيَّةُ، عِنْدَهُ، هيَ الأسَاسُ، وَإنْ أتَتْ الصُّورُ الجُزْئيَّةُ فَلِكَي تَكُونَ أجْزَاءً مِنْ مُكوِّنَاتِ الصُّورةِ الكُلِّيَّةِ في مَشْهَدِهَا الدِّراميِّ، ويُلاحِظُ غالي شكري أنْ صَايغ “شَغُوفٌ بِصُنْعِ هَارمُونِي لِلْفِكْرِ.. فَالهَارمُونِي الذي يَشْغَفُ بِهِ توفيق صَايغ إلى دَرجَةِ الجُنُونِ، يَتِمُّ بينَ الأفْكَارِ بِمَعْنَاهَا التَّولِيديِّ المُشِعِّ الخَالِقِِ، لا بِمَعْنَى التَّصمِيمِ وَالحَذْفِ وَالمَهَارةِ في تَشْيِيدِ المُعَادَلاتِ”(8)، وَهُوَ- مِنْ هذِهِ النَّاحيةِ – أكْثَرُ زُمَلائِهِ تَجْربَةً وَتَخَفُّفًا مِنَ الذِّهنيَّةِ. وَيَحْتَفِي توفيق صَايغ احْتِفَاءً كَبِيْرًا بِالجُمَلِ الاعْتِرَاضيَّةِ(9)، كَذَلكَ بِدَمْجِ العَاميَّةِ في الفُصْحَى، وَإزَالَةِ الفَصْلِ الكَهَنوتِيِّ بَيْنَهُمَا(10)؛ أي أنَّ مَفْهُومَ اللغَةِ الشِّعْريَّةِ عِنْدَهُ كانَ رَحِيْبًا وَحُرًّا.

 

 

جَبرا إبراهيم جَبرا:

 

لمْ يَكُنْ مفهومُ جبرا إبراهيم جبرا (1920 – 1994) لـ” الشِّعْرِ الحُرِّ ” مُنْحَازًا، مُنْذُ البِدَايةِ، لمشروعِ الشِّعْرِ بالنَّثْرِ؛ فهو يُشِيْرُ في مُقدِّمةِ ديوانِهِ الأوَّلِ: تمُّوز في المَدِينةِ:1959، إلى الحُرِّيَّةِ (في اسْتِخَدامِ التَّفعيلةِ وَالقَافيةِ)، فَيَعْتَمدُ أوْزَانًا عِدَّةً وَيَمْزِجُ بَيْنَهَا، أوْ يَخْرُجُ عَليهَا جَمِيعًا؛ ليشكِّلَ إيقاعَ الفِكْرَةِ، ويبتعِدَ عنْ الرَّتابَةِ، وهَذَا المَفْهُومُ يَرُدُّنا، سَرِيعًا، إلى مَفْهومِ الشِّعْرِ الحُرِّ؛ الذي أطْلَقَهُ أحمد زكي أبو شَادِي، في عام 1927، – في ديوانِهِ: الشَّفَق البَاكِي – وَأشَارَ إليهِ كَثِيرًا فِيْمَا بَعد، غيرَ أنَّ أبَا شَادِي حِيْنَ دَعَا إلى مَزْجِ الأوْزَانِ لمْ يَقَلْ بإدْخَالِ النَّثْرِ عَليهَا، فقدْ ذَكَرَ أبو شَادِي ” أنَّ رُوْحَ الشِّعْرِ الحُرِّFree Verse إنَّمَا هَو التَّعبيرُ الطَّليقُ الفِطْرِيُّ، كَأنَّمَا النَّظْمُ غَيْرنَظْمٍ، لأنَّهُ يُسَاوِقُ الطَّبيعَةَ الكَلامِيَّةَ، التي لا تدعو إلى التَّقيُّدِ بمقاييس مُعَيَّنةٍ منَ الكَلامِ، وَهَكَذَا نَجِدُ أنَّ الشِّعْرَ الحُرَّ يجمعُ أوْزَانًا وقَوَافِيَ مُخْتَلفَةً حَسَبَ المَوْقِفِ، وَمُنَاسَبَاتِهِ، فَتَجِيءُ طَبِيْعيَِّةً لا أثَرَ لِلتَّكلُّفِ فِيْهَا.”(11)

وَجَبرا حِيْنَ يعتمدُ هَذَا المَفْهُومَ، يَدُلُّنَا أنَّه لمْ يَنْحَزْ، تَمَامًا، مِنَ البِدايةِ لإيقاعَاتِ النَّثْرِ الحُرَّةِ، حيثُ قالَ: “.. في قَصَائِدِي هَذِهِ أُعْنَى بِالتَّفعيلَةِ وَلا أُعْنَى، بَعْضُ الأبْيـَاتِ مَوْزونَةٌ وَبَعْضُهَا غَيْرُ مَوْزُونٍ، وقدْ تَتَلاحَقُ أبياتٌ مَوْزُونَةٌ، ولكنْ لِكُلٍّ مِنْهَا، في القَصِيدَةِ الوَاحِدَةِ وَزْنًا مُغَايرًا للآخَرِ. وَالقَوافِي أسْتَخْدِمُهَا أوْ أُغْفِلُهَا حَسْبَمَا أرْتَئِي، وَمَا ذَلكَ إلاّ لأنَّنِي إذْ “أُمَوْسِقُ”الفِكْرَةَ أوْ الصُّورَةَ، أرْفُضُ رَفْضاً قَاطِعًا أيَّ لحنٍ (أو”بَحْرٍ”) رَتِيْبٍ، فَإذَا قُرِأتْ كُلٌّ مِنْ هَذِهِ القَصَائِدِ قِرَاءَةً جُهُورِيَّةً، مَعَ فَهْمٍ لِبِنَائِهَا الدَّاخِليِّ الصَّاعِدِ الذّرْويِّ، بَانَتْ مُوْسِيقَايَ الجَدِيدَةُ، مَعَ بيانِ الصُّورَةِ نفسِهَا، وتَتَّضحُ هَذِهِ الطَّريقةُ لكُلِّ مَنْ يعرفُ المُوْسِيقَى الأُورْكِسْتَريَّةَ.”(12)

ومِنْ هذِهِ القَصَائِدِ نقرأُ:

“سَمِعْتُ الشَّارِعَ يَبْكِي لِيَنَامَ

وَرَأيْتُ البِيوتَ تُقِيمُْ العِظَامَ

عَلى العِظَامِ

تُطَارِدُ الأحْلاَمُ سُكَّانَهَا

فَيَرْفَعُونَ خَاوِيَاتِ الأيْدِي صَارِخِيْنَ :

ألاَ لَيْتَ العَوَاصِف لا تَهبُّ.”(13)

 

فَجَبْرَا، هُنَـا، يَعْمَدُ إلى تَتـَابُعِ أوْزَانٍ مُتَعدِّدةٍ، تَتَلاحِقُ في سطورِهِ الشِّعريَّةِ؛ فيبدأُ بإيقاعِ الخَبَبِ، ثُمَّ ينتقلُ إلى المُتَدَارَكِ، ثُمَّ إلى الرَّجَزِ، ثُمَّ السَّريعِ، ثُمَّ يَمْزجُ في السَّطرِ الأخيرِ الهَزَجَ والوَافِرَ، وَكُلُّ هَذَا الخَليطِ العَروضِيِّ في هَذَا المَقْطَعِ الصَّغيرِ، يَطْمَحُ إلى إيجادِ إيقاعٍ جَديدٍ، لا يَخْرجُ على العَروضِ، وَهُوَ مَا سَيَتَخَطّاهُ جَبرا فِيمَا بعد، وحينئذٍ سَيُوضِّحُ أنَّ “الشِّعْرَ الحُرَّ” ترجمةٌ حرفيَّةٌ لِمُصْطَلحٍ غَرْبيٍّ هُو  Free Verseبالإنْكليزيَّةِ، Vers Libre بِالفَرَنْسِيَّةِ، وقدْ أطْلَقوه عَلى شِعْرٍ خَالٍ مِنَ الوَزنِ وَالقَافِيَةِ كِلَيْهِمَا. إنّهُ الشِّعْرُ الذي كَتَبَهُ والت وتمن، وتَلاَهُ فيهِ شُعَراءٌ كثيرونَ في آدَابِ أُمَمٍ كَثِيْرَةٍ؛ فَكُتَّابُ الشَّعْرِ الحُرّ بينَ شُعَرَاءِ العَرَبِ اليومَ، هُمْ أمْثَالُ محمد الماغوط وتوفيق صايغ وكَاتِبِ هذِهِ الكَلِمَاتِ، في حِين أنَّ ” قَصِيدَةَ النَّثْرِ”، هيَ القَصِيدَةُ التي يكونُ قوامُهَا نَثْرًا مُتَواصِلاً، في فِقْرَاتٍ كَفِقْرَاتِ أيِّ نَثْرٍآخَرٍ”(14)، وَجَبْرَا هُنَا لَمْ يُحَدِّدْ “الشِّعْرَ الحُرّ” بِالمَفْهومِ الذي يعرفُهُ شُعَرَاءُ الأُمَمِ الأُخْرَى- وَهُوَ مَا كَانَ أمينُ الرِّيحاني (1876–1940) أوَّلَ مَنْ عَرِّفَهُ في العَرَبيَّةِ(15)– فَحَسْب، وَإنَّمّا مَيَّزَهُ عنْ قَصِيدَةِ النَّثْرِ، وَيَتَّسقُ هَذَا مَعَ تمييزِ دُوجاردَان بَيْنَهُمَا؛ حِيْنَ رَأى أنَّ قَصيْدَةَ النَّثرِ كَانَتْ “مُحَاوَلَةً لتَحْريرِ الشِّعْرِ، بِاتِّخاذِ النَّثْرِ نُقْطَةَ انْطِلاَقٍ، كَمَا كَانَ الشِّعْرُ الحُرّ، وَالبَيْتُ القَصِيرُ، تَمْثِيلاً لِلْمُحَاوَلَةِ نَفْسِهَا، بِالابْتِعَادِ عنْ البَيْتِ الشِّعْريِّ.”(16)

غيرَ أنَّ المُتَحَقّقَ الشِّعريَّ ، في المَرْحَلةِ التَّاليةِ – مَرْحَلةِ: المَدَارِ المُغْلَقِ:1964، و:لَوْعَةِ الشَّمْسِ:1979 – لمْ يَتَجَاوزْ، في أهَمِّيَتِهِ الشِّعْريَّةِ مَا بدأَ بِهِ، وَمِنْ ذَلكَ قولُهُ في نصِّ: هَلاوس، مِنْ دِيوانِهِ: المَدَارِ المُغْلَقِ:

“قَاه قَاه قَاه

كَضحْكَةِ الخِنْزِيرِ في حَمْأةِ القَوَاذِيْرِ

ضحْكَتُهُ، ضحْكَتُهَا –

الأسْوَدُ، السَّودَاءُ، البَغِيُّ في الدَّوَاخِلِ

مِنَ الأعْمَاقِ المُظْلِمَاتِ وَجْهٌ كَوَجْهِ حِصَانِ المَاءِ

ضحْكَتُهُ عَلى الشّدقينِ قَرْقَرَةُ السّوَاقِي

تَنِقُّ الضَّفادِعُ فِيْهَا الليلَ بِطُولِهِ،

ضحْكَةُ الظَّلمَاءِِ ، ضحْكَةُ الهَزِيْعِ الذي،

سِوَى الضّحْكَةِ السَّودَاءِِ هَذِهِ،

لا يَعْرِفُ صَوْتًا في الدَّواخِلِ …

ثُمَّ يَنْحَسِرُ السَّوَادُ، وَيَطْفُو

شَيءٍ كَالضَّبَابِ أوْ النَّغَمْ

ويُسْفِرُ وَجْهٌ شَفَتَاهُ الرَّيَّانَتَانِ هُمَا

دَعْوَةٌ وَغِوَايةٌ –

وَلِيْمَةٌ تَبْدأُ وَانْتِصَاف الليلِ بِشِفَاهٍ

تَمْزِجُ الخَمْرَ بِالرِّيقِِ على اللسَانِ،

تَقُولُ فِيْهَا السَّاحِرَةُ، لا، لا، لا،

وَتُسْلِمُ ثَدْيَيِْنِ شَقَّتْ عَنْهُمَا قَمِيْصًا لِيَدَيَّ.

لا، لا، ثُمَّ تُسْكِتُ الشَّفَتَيِْنِ عَلى فَمِي

مُسْقِطَةً بَيْنَ يَدَيَّ فَاكِهَتَيِْنِ مِنْ غُصْنٍ طَرِيٍّ.” (17)

 

 

إبراهيم شُكْرالله

 

صَدَّرَ إبراهيم شُكْرالله ديوانَهُ الوحيدَ:”مَوَاقِف العِشْقِِ وَالهَوَانِ وَطُيور البَحْرِ”، بِمُقدِّمةٍ وَافِيةٍ، ودقيقةٍ، يَرْصُدُ فيهَا تَجربتَهُ الشِّعريَّةَ، رَصْدًا رُبَّمَا يعلو فيه الطُّموحُ على المُتَحَقَّقِِ الشِّعْريِّ، وفيها يُبيّنُ توقَهُ إلى العُثورِ على لُغةٍ جَديدةٍ، زَاهِدَةٍ، وَنَظِيفةٍ، وَمُكَثَّفةٍ، لـ”ابْتِدَاعِ لُغةٍ جَديدةٍ، وشَكْلٍ جَديدٍ، يُعبِّرُ عنْ النُّزوعِ الحَارقِِ إلى الحُرِّيَّةِ الكَامِلَةِ”(18)، ويتكشَّفُ فِيهَا انْبِهَارُهُ العَمِيقُ بِكَثَافةِ اللغةِ وَاحْتِدَامِهَا، في كتاب: المَوَاقِف وَالمُخَاطَبَات، بالإضَافةِ إلى وعيهِ الطّليعيِّ بطبيعةِ الإبداعِ في الشِّعْرِالحُرِّ، كَمَا تُجَسِّدُه تجاربُ الشُّعراءُِ الغَرْبِيينَ، ويُعبِّرُ عنْ هَذَا الوَعْي تَعْبِيرًا وَافيًا بقولِهِ:“آثَرْتُ نَهْجَ النَّفَّريِّ؛ حيثُ الإيقاعُ حَرَكَةُ تَنَاغُمٍ دَاخِليٍّ،وَليْسَ تَطَابُقًا نَغَمِيًّا، بينَ أجْزَاء خَارجيَّةٍ شكليَّةٍ؛ بحيثُ يَتَوَحَّد ُالشَّكلُ وَالمَضْمُونُ تَوَحُّدًا جَوْهَريًّا؛ فلا ينفَصِلُ المَضْمُونُ عنْ الكَلِمَاتِ التي تُعبِّرُ عنْهُ، والتي تَزْخَرُ بِمَعَانٍ لا تَسْتَطِيعُهَا الكِتَابَةُ النَّثريَّةُ، كَلِمَاتٌ تُشِيرُ وَتُوْمِئُ وَتُوحِي بأكْثَر مِمَّا تقولُ، وَرَأيْتُ – كَمَا رأى شُعَرَاءُ الغَرْبِ المُحْدَثُونَ الذين آثَروا نَهْجَ الشِّعْرِ الحُرِّ- أنَّ التَّعبيرَ الدَّافِقَ المُنْطَلَقَ، بِمَا يحملُهُ منْ بِطَانَاتٍ عَاطِفيَّةٍ مُكثَّفةٍ، يَحْمِلُ كَذَلكَ مُوْسِيقَاهُ الخَاصَّةَ بهِ، وَأنَّهُ على نَقِيْضِ الإيقاعِ التَّقليديِّ المُنْتَظِمِ أكْثَرُ تنوُّعًا وَتَهَدُّجًا؛ يفورُ وَيَتَدفَّقُ مَعَ ارْتِفَاعِ العَاطِفَةِ، وَيَهْدَأُ مَعَ انْحِسَارِهَا، وَيَتَكَسّرُ مَعَ ازْدِوَاجيَّةِ المَشَاعِرِ وَتَنَاقُضِهَا. وَهَكَذَا اسْتَبَحْتُ في بِنَاءِ القَصِيدَةِ مُكونَاتِهَا الأصليَّةَ: طَبِيعَةَ الألفَاظِ، وَقِيْمَتهَا الصَّوتيَّةَ والعَروض والبِناءَ والنَّغَمَ، وَسَعَيْتُلاخْتِطَاطِ مَسَاراتٍ، نَحْوَ التَّجريدِ وَالتَّعرِيةِ وَالكَثَافَةِ وَالتَّرَاكُمِ المَضْغُوطِ؛ لإحْدَاثِ تَحَاويرَ حَافِلَةٍ بِالتَّوتُرِ وَظِلالِ المَعَانِي، كَمَا جَعَلْتُ الإيقاعَ نَابِعًا مِنْ مَوْضُوعِ القَصِيدَة، وَتَعْبِيْرًا عَنْهَا.”(19)

أمَّا مَوْضُوعَاتُهُ الأثِيْرَةُ، فَهِيَ الَّتي”تَعْكِسُ الوَحْشَةَ، وَالقَلقَ، وَالخَوْفَ، وَالشَّبقَ إلى المَجْهولِ، وَالتَّشوُّقِ إلى المُطْلَقِِ، وَالسَّعي وَرَاءَ الوجودِ الكَامِلِ.”(20)

إنَّ شُكْرالله شَاعِرٌ اسْتِبْطَانيٌّ، ذو رُؤى تجريديَّةٍ كُلّيَّةٍ حَادَّةٍ، وَنَبْرَةٍ شِعْريَّةٍ مَلْحَمِيَّةٍ كَثِيفةٍ؛ تَجْمَعُ بينَ الرُّؤى الكُلّيَّةِ للوجودِ – في الغَالبِ – وَالوعي الفَرْدِيِّ المَعِيْشِ الجَدِيدِ، وَيَتَوَاشَجُ المَوْقفُ الفِكْريُّ الصُّوفيُّ، في خِطَابِهِ، مَعَ المَوقِفِ الشِّعريِّ، في جَدِيلَةٍ شِعْريَّةٍ وَاحِدَةٍ، قَدْ يعلو المَوقِفُ الأوَّلُ على الأخِيْرِ فِيْهَا، عَبْرَ هَيْمَنةُ التَّجريدِ، وَالجُنُوحِ إلى المُطْلَقِِ، على الفِعْلِ الشِّعْريِّ، للدَّرجةِ التي تعكسُ المَوقِفَ الفِكْريَّ، رُبّمَا أقْوَى مِنَ المَوْقِفِ الشِّعْريِّ، بِحَرَكتِهِ الدَّاخليَّةِ الجَيَّاشَةِ، كَمَا أنْ اعْتِمَادَهُ على المُخَاطبَاتِ بِشَكْلٍ طَاغٍ لا يَجْعَلُ النَّصَّ ينمو مِنْ دَاخِلِهِ نموًّا حَقِيقيًّا؛ فيفقدُ تَوتُّرَهُ الدَّاخِليَّ، وَهَذَا المَوقِفُ يُعزِّزُ قِيَمَ الإخْبَارِ على الإنْشَاءِِ، وَهُوَ مَا يَجْعَلُ تَجَلِياتِ الفِكْرِ أكْثَرَ حُضُورًا مِنْ تَجَلِياتِ الشِّعْرِ، كَمَا يبدو في مَطْلَعِ نَصِّهِ:”مَوْعِظَة الجَبَل”، الذي جَاءَ على هَذَا النَّحوِ:

“مَا أجْهَلُهُ سَأَقُولُهُ

مَا أعْلَمُهُ سَأُخْفِيهِ

وَحِيْنَمَا يَنْطَوي الغَدُ سَأَظَلُّ أسْأَلُ وَلا أُجِيْبُ

مَا أُفَكِّرُ فيهِ سَأُدَارِيهِ

سَأَتَكَوَّرُ عَلى الحَقِيقَةِ

وَأُطْلِقُ نُبَاحَ الإفْكِ

وَمَا يَتَبَقَّى

سَأَنْتَزِعُهُ بِالأظَافِرِ مِنَ العَرِيْنِ”

 

ثُمَّ يَنْتَقِلُ الشَّاعرُ، في النَّصِّ نَفْسِهِ، إلى إعْلاءِ المَوْقِفِ الشِّعْرِيِّ على المَوْقِفِ الفِكْرِيِّ ؛ لِيُقَدِّمَ شِِعْرًا حَقِيقيًّا؛ حِيْنَمَا يَنْسَحِبُ إلى دَاخِلِ التَّجربَةِ؛ لِيُقِيمَ عِلاقَاتهِ التَّشكِيليَّةَ وَالبِنَائِيَّةَ، مُتَخَفّفًا مِِنْ إلحَاحِ الفِكْرِ:

“تَعْلَميْنَ أنِّي مِتُّ مِنْ قَبْلُ

مِنَ الأرْبَعِيْنَ حَتَّى السِّتينَ

مُسَجَّي في حُفْرَةٍ

في مَيْدَانِ التَّحْريرِ

عِنْدَ النَّافورَةِ التي

جَفَّتْ مِيَاهُهَا

الذينَ شَرِبُوا خَمْرِي

مَزَجُوا مَائِي بِالسُّمِّ

وَهَا عَجَائِزُ الأمْرِيكيَّاتِ

يُهْرَعْنَ إلى المُتْحَفِ

وَيُشِحْنَ بِِأنُوفِهِنَّ مِنْ رَائِحَةِ عَفَنِي

وَالتِي أرَادَتْ أنْ تَنْهَشَ جِسْمِي

أعْطَيْتُهَا قَلْبِي

فَمَاتَتْ مِنْ مَرَارَتِهِ”

 

هَكَذَا تَكْمُنُ المُشْكِلَةُ، عِنْدَ شُكْرالله – كَمَا هِيَ عِنْدَ جَبرا إبراهيم جَبرا، وَعِنْد يُوسف الخَال أيْضًا- في دَرَجةِ الوَعي وَتَجَاهُلِ المَنْطِقةِ الحَقِيقيَّةِ للشِّعْرِ؛ هذِهِ الَّتي تَتَداخَلُ فِيهَا حَالاتُ الغِيَابِ وَالحُضورِ، حَالاتُ اللاوَعْي وَالوَعْي، حَالاتُ الحُلْمِ وَاليَقْظَةِ؛ حَيْثُ تَظَلُّ التَّجربَةَُ تَتَطوَّحُ بينَ هَاتَيْنِ الجِهَتَيْنِ.

 

 

أدونيس:

 

انْهَمَكَ أدونيس (1930- ) في اسْتِحْدَاثِ بِنْيَةِ الخِطَابِ الشِّعريِّ؛ بِتَأسيسِ لُغَةٍ لا تقولُ بِقَدْرِ مَا تَتَجَسَّدُ؛ “بِعَرْضِ اللغةِ في مَشْهَدٍ بَدَلَ أنْ يَسْتَعْمِلُهَا”(21)، وَهُوَ في أوَّلِ تَجْربةٍ لَهُ بِالشِّعْرِ نَثْرًا في عام 1958، المُسَمَّاةِ: أرْوَادِ يَا أمِيْرَةَ الوَهْمِ، يبدو مُنْحَازًا لأدَائِهِ اللغويِّ، وَتَصْويرِهِ المُعْتَمدِ على تَشْكِيلاتِ اللغةِ، وَاحْتِفَائِهِ – تَحْدِيدًا – بالاسْتِعَارةِ، وَبِالالتِفَاتِ، وَبِالمُخَاطَبَاتِ، وَبِالتَّكثيفِ اللغويِّ، وَبِالتَّوَازيَاتِ. وَأدونيس يرى ضرورةً في هذَا التَّشكيلِ المَجَازيِّ؛ فبدونِهِ سيكونُ النَّصُّ الشِّعريُّ بلا “خَصِيصَةٍ ينفردُ بِهَا، فَمَا نَرَاهُ فيهِ مِنْ خَصَائِصَ شِعْريَّةٍ، يُمْكِنُ أنْ نَرَاه في رِوَايةٍ، أوْ قِصَّةٍ، أوْ كِتَابَةٍ نَثْريَّةٍ أدبيَّةٍ، وَهَذَا مِمَّا يَجْعَلُ هَذَا الإنْشَاءَ هَشًّا، وَيجْعَلُ مِنْ كتابتِهِ مِسَاحَةً مَشَاعًا: قدْ تعجبكَ في هذِهِ المِسَاحَةِ زَهْرةٌ هُنَا، أوْ نَبْتَةٌ هُنَاكَ، لكنَّهَا تبقى تَنَاثُرًا، نَوْعًا مِنَ التَّعبيرِ، ويبقى هَذَا الإنْشَاءُ، في أحْسَنِ حَالاتِهِ، نَوْعًا مِنَ الخَوَاطِرِ.”(22):

…” وَتَأتِينَ يَا طُفُولةً يَا تَمِيْمَةَ العُمْرِ، وَالمَوْتُ يَرْسُمُ صُلْبَانَنَا، وَيَقْضِمُ أطْرَافَنَا الحَالِمَةَ، وَلَيْسَ عِنْدَنَا لأرْوَادِ غير الشِّعْرِ وَغير أطْيَافٍ مِنَ البَحْرِ وَالكَنَائِسِ. وَتَتْرُكِيْنَا، يَاحُضُوَرنَا، لأيَّامِنَا المَيِّتةِ وَحُفَرٍ صَغِيرَةٍ كَأجْسَامِنَا مَسْقُوفَةٍ بِالصَّلاةِ وَالرَّملِ. امْلأْنِي، يَا وَهْمَ الطّفولَةِ- حَيْثُ العُمْرُ حَرْبةُ المَوْتِ.

أمَامَكَ أنْحَنِي، أصِيْرُ قَوْسًا مِنَ الشِّعْرِ، وَأسْتَنِفدُ انْحِنَائِي.”(23)

 

يلعبُ التَّدويرُ، هُنَا، دَوْرًا فاعِلاً في اتِّصَالِ الإيقاعِ وَالتَّركِيبِ النَّحويِّ؛ ومِنْ ثَمَّ الدَّلاليِّ؛ لِيقدِّمَ دَفْقَةً شِعْريَّةً، يلعبُ الالتفاتُ، فِيْهَا، دَوْرًا مُهِمًّا، لإنْعَاشِ الخِطَابِ، وَكَسْرِ رَتابِةِ السَّرديَّةِ، كَمَا يُؤدِّي دَوْرًا فَنيًّا آخَر؛ هُوَ إبْرَازُ المُفَارَقَةِ، عَبْرَ إقَامَةِ عَالَمِ الطُّفولَةِ المُسْتَدْعَى، في مُقَابِلِ عَالَمِ المَوْتِ الجَاثِمِ الطَّاغِي، وَتِكْرَارُ العِلاقَةِ بينَ هَذَينِ العَالَمَينِ يُعَدُّ تَجَليًا للتَّوازي الدَّلاليِّ، يتآزَرُ معَ التَّوازي التَّركيبيِّ في النَّصِّ، ويُؤدِّي النَّبرُ وَظِيفةَ التَّوازي الإيقاعيِّ وَهُوَ يُسَاعِدُ على تكثيفِ اللغةِ، وَثَمَّةَ اهْتِمَامٌ وَاضِحٌ بِالتَّصويرِ الاسْتِعَاريِّ، وَبِهَذَا التَّصويرِ كثيرًا مَا يَعْمَدُ أدونيس لتَجْسِيدِ حَالاتِهِ الشِّعريَّةِ المُتمرِّدةِ:

– 6 –

 

“السَّمَاءُ، هذِهِ الليلةَ، امْرَأةٌ تَفْتَرِشُ سَرِيرِي

السَّماءُ فَرَاشَةٌ تَسْكُنُ المَكْتَبَةَ، –

وَأنَا كَلِمَاتِي بِلا وَقْعٍ، أُتَوِّجُ بِرِيْشَةٍ قَلْبِي، وَأَتَزَوَّجُ الرِّيحَ، وَلَيْسَ في طَرِيْقِي غَيْرُ الخَرَائِطِ المُمَزَّقةِ وَغَيْرُ الرَّعْدِ. لا النَّهَارُ يَعْرفُنِي وَلا البَيْتُ، وَفَوْقَ تُرَابٍ بلونِ النِّسيَانِ، أتْرُكُ خُطُوَاتِي تَنْمُو.”(24)

 

ثمَّةَ شَغَفٌ وَاضِحٌ – لدى أدونيس – بِتَكْثِيفِ البِنْيَةِ المَجَازيَّةِ؛ لِتَجْسِيدِ حَالةِ التَّلاشِي الصُّوفيِّ، وَالفَنَاءِ في عالمٍ مُشوَّهٍ، شَظَايَاهُ لا تعرفُ الشَّاعرَ، وَهُوَ لا يَرْحَلُ عنْ هَذَا العَدَمِ لِيتبدَّدَ تَمَامًا، فَسَتَنْمُو خُطُوَاتُهُ: آثَارُهُ وَرَاءَهُ؛ وَبِالتَّالي فلنْ يتبدَّدَ فِعْلُهُ المُغَايرُ بِرَحِيْلِهِ، سَيَكُونُ رَحِيلُهُ ضَرْبًا مِنَ الإقَامَةِ.

وَلأدونيسَ نصٌّ آخرٌ بعنوانِ: مَرْثيَّةُ القَرْنِ الأوَّلِ، ينتمي إلى هذِهِ المَرْحَلَةِ وَتَارِيخِهَا؛ للدَّرجَةِ التي تَتَكرَّرُ فِيْها عدَّةُ سطورٍ شِعْريَّةٍ في النَّصينِ، وَهَاهُنَا تمتدُّ الرُّؤى ذَاتُهَا وَتَتَواصَلُ الطَّرائِقُ الجَمَاليَّةُ، وَيَتَوَهَّجُ مَوْقِفُ الشَّاعرِ الثَّوريِّ؛ حيثُ الشِّعْرُ ثَوْرَةٌ في اللغةِ باللغةِ على اللغةِ، وَالشَّاعرُ الذي يُعِيدُ إبْدَاعَ العَالَمِ، وَتَشْكِيله، في أدَاءٍ غنائيٍّ ثوريٍّ، ذي صَدىً مَلْحَمِيٍّ، وَنَكْهَةٍ نَبَويَّةٍ، وَفِيْمَا يُغْرِي الأدَاءُ الشَّعْريُّ بِالبَسَاطَةِ تَتَفَاعَلُ البُنَى المَجَازيَّةُ وَتَتَنَوَّعُ الأسَالِيْبُ:

 

– 3 –

“هُوَ ذَا شَعْبٌ يَفْرِشُ وَجْهَهُ للسَّنَابِكِ، هِيَ ذِي بِلادٌ أجْبَنُ مِنْ رِيْشَةٍ وَأذَلُّ مِنْ عَتَبةٍ .

مَنْ يُرِيْنَا عُصْفُورًا مَا؟ مَنْ يُعَلِّمُنَا أبْجَديَّةَ

الهَوَاءِ؟ وَحْدَنَا في المَفَارِقِ نَنْتَظِرُ، الرَّمْلُ يَمْحُو مَنَارَتَنَا وَالشَّمسُ تَهْتَرِئُ في تَجَاعِيدِ أيْدِيْنَا

آهٍ يَا بِلادِي يَا جِلْدَ الحِرْبَاءِ، عِطْرُكِ مَطَّاطٌ يَحْتَرِقُ،

فَجْرُكِ وطْوَاطٌ يَبْكِي. غَيْرَ الفَاجِعَةِ لا تَلِدِيْنَ، غيرَ الحَلَزُونِ لا تُرْضِعِيْنَ

هُوَ ذَا سَيِّدُكِ يَا خَادِمَةُ. هَاتِي لِي قَهْوَةَ عَدَنٍ، هَيِّئِي سَرِيرَهُ وَأَنَا سَيِّدُ الرَّفْضِ- بَعِيْدًا عَن النَّافِذَةِ أرْتَجِفُ، وَبِالفُتَاتِ أكْتُبُ هَذِهِ القَصِيدَةَ؛

في أهْدَابِي دَمْعُ الرُّتَيْلاءِ، في حَنْجَرَتِي مِزْمَارُ المَوْتِ، أتُوَّجُ بِرِيْشَةٍ قَلْبِي وَأتَزَوَّجُ الرِّيحَ، وَلَيْسَ في طَريقِي غَيْرُ الخَرَائِطِ المُمَزَّقَةِ وَغَيْرُ الرَّعْدِ.

لا النَّهَارُ يَعْرِفُنِي وَلا الليلُ وَفَوْقَ تُرَابٍ بِلَوْنِ النِّّسيَانِ أتْرُكُ خُطُوَاتِي تَنْْمُو

سَلامًا أيَّتُهَا الجُثَّةُ العَائِمَةُ يَا حَيَاتِي، وَاحْتَرِقْ يَا جَسَدِي أيُّهَا الرُّؤيَا الكَئِيْبَة، يَا حَمَامَةُ الوَدَاعْ!.”(25)

 

 

أُنْسِي الحَاج:

 

إذَا كَانَ الشِّعْرُ عِنْدَ أدونيسَ يقومُ بِإعَادَةِ تَشْكيلِ العَالَمِ بِاللغَةِ، فإنَّ أُنْسِي يقعُ على مَوْقعٍ وَثِيْقِِ الصِّلةِ بِهَذَا المَوْقِعِ؛ حَيْثُ يقومُ الشِّعْرُ عِنْدَهُ بِإعَادَةِ بِنَاءِ العَالَمِ باللغةِ. وَهَكَذَا مَضَى في تَثْويرِ بِنْيَةِ الخِطَابِ الشِّعْريِّ، بِانْتِهَاكِ أنْظِمَةِ الجُمْلَةِ، وَتَفْجِيْرِ أنْسَاقِهَا المَعْرُوفَةِ، وَخَلْخَلَةِ تَرَاكِيبِهَا، وَوَصْلِ نثَارَاتِهَا وَتَشَظِّيَاتِهَا وَتَشْذِيرِهَا، وَإقَامَةِ الفَجَواتِ بِيْنَهَا، وَالحَدِّ مِنَ انْتِشَارِ حُرُوفِ العَطْفِ، وَالانْتِقَالِ الحَادِّ بينَ الجُمَلِ وَالأسَاليبِ، وَقوَّةِ النَّبْرِ، وَالجَمْعِ بينَ “آلِيتينِ مُتَعَارِضَتَينِ: تَنَاغُمٍ وَزْنيٍّ وَتَعَارُضُ تَرْكِيْبِيٍّ”(26):

“إنَّهُمْ يُحَيُّونَنِي وَيَتْرُكُونَنِي تَحْتَ وَطْأَةِ الغَدْرِ، لَكِنَّهُمْ

لا يَعْلَمُونَ. إنَّهُمْ يَبْتَسِمُونَ وَيَعْزِفُونَ حَوَاجِبَهُمْ عَلى

تَعَاسَتِي، وَلا أنْتَ يَعْلَمُ. أنْتَ أسْطوَانَةٌ مِنَ الوَعْظِ

الضَّائِعِ. لا تَنقَّ، قَدْ أعُضَّكَ (عَفْوَكَ).عِنْدَمَا

تَتَكَلَّمُ أتَفَتَّتُ كَلَدَيَّ نَغَمٌ حَزِينٌ مُتَرَاجِعٌ. إنَّكَ

قَاسٍ، جَانِبِيٌّ، وَبَارِدٌ. أطْلُبُ مِنْكَ الرَّحْمَةَ عَجْلَى،

وَلْتَمْتَنِعْ عَنْ التَّمَايُلِ كَأنَّك أنْضَجُ. لَمَّا جَلَسَتْ قُرْبِي

كَانَتْ تَظُنُّ أنَّهَا تَحْضِنُ مَأهُولاً، وَلَمْ يَأتِهَا الصُّبْحُ إلاّ

مِنْ بَعْدِ أيُّهَا الكَاهِنُ!”(27)

 

يَتَّضِحُ هُنَا اعْتِمَادُ الشَّاعرِ على”التَّوازي، في بناءِ الجُمَلِ الشِّعْريَّةِ وَزْنِيًّا، مَعَ التَّغايُرِ، غَالبًا، في بِنْيَتِهَا النَّظْمِيَّةِ التَّركِيبيَّة”(28)، وَيَتَوَلَّدُ التَّوتُرُ الشِّعْريُّ هُنَا مِنْ زَخَمِ الخِطَابِ، بِمَا يُمْكِنُ تَسْمِيَتُهُ بِجَمَاليَّاتِ الفَصْلِ وَالوَصْلِ. وَيَتَمَتَّعُ السَّردُ بِدَرَجَةٍ عَالَيةٍ مِنَ التَّكثيفِ وَالإيقاعِيـَّةِ وَالتَّجَسُّدِ اللغويِّ الجَيَّاشِ. وَالنَّصُّ في ظَاهِرِهِ سَرْدٌ عَمُودِيٌّ مُتَدَفِّقٌ، يَتَوَلَّدُ بَعْضُهُ مِنْ بَعْضِهِ، غيرَ أنَّ الولوجَ إليهِ يكشفُ عنْ فَقْدِ التَّسَلْسُلِ وَالاسْتِطْرَادِ وَالتَّرابُطِ وَالاعْتِمَادِ على التَّركِيبِ وَالدَّمْجِ؛ الذي يجعلُ الدَّفْقَةَ الشِّعْريَّةَ أقربَ إلى الهَذَيَانِ، وَيَتَوَلَّدُ الإيقاعُ مِنَ التَّحوُّلاتِ الأسلوبيَّةِ وَالنَّحويَّةِ، وَمِنَ الالتفاتِ المُتَوَزِّعِ على مَسَافَاتٍ دَاخِلَ الخِطَابِ الشِّعْريِّ، وَمِنْ وُضُوحِ النَّبْرِ بِقُوَّةٍ، وَمنْ تَقَارُبِ عَدَدِ النَّبَرَاتِ وَالمَقَاطِعِ في الأسْطُرِ، التي يَتَألَّفُ مِنْهَا النَّصُّ”.(29)

 

“السَّاعَةُ هيَ دَائمًا مُتَّحِدَةٌ. رِمْشُهَا كَالكَلَسِ .

هُرِعْتُ وَرَاءَهُ مِمْحَاةً لَقيْتُ بَحْرَكِ يَعْلو وَأعْلو وَلا

يَمْتَصُّنِي. خَلْفَ حَرَكَةٍ خَلْفَ سُورٍ لَكنَّ بَحْرَكِِ لا يَحْرَكُ بِغَيْرِكِ. عَدَوْتُ ألْقُطُ ثَأْرًا سَبَقَتْنِي إلى رَجَائِكِ دَقَّةُ عَيْنِي الهَمَجِيَّةِ. مُقَطَّرٌ وَأَظَلُّ في صَهِيْلِكِ الأعْمَى

 

حُلْمُكِ نَاصِعٌ كَالنَّوْمِ، مَفْقُودٌ أنَا مِنْ زِنْدِكِ. وَرَاءَ

هَمْسٍ وَرَاءَ مَا يُجَرْجِرُنِي فَاتِنًا إلى قَدَمَيْكِ.

 

لَوْ بَقَيْتِ! إنَّكِ الآنَ أكْمَلُ وَأحَدُّ. مَا يَفْتَحُ عَيْنَيْهَا

مَا يَفْتَحُ عَيْنَيْهَا لِلْمُسَافِرَةِ؟ الْعَبْ بِهِمَا مُغْمَضَتَيْنِ يَا

وَهَجُ يَا الفَخُّ. صُنْ يَا شَرَرَ الفَجْرِ لَيْلَ عَيْنِهَا لِي. حُلْمُهَا نَاصِعٌ وَوَمْضُكَ جَارِحٌ، أحْبِبْهَا يَا فَجْرُ وَابْقِِ جِسْمَهَا لامِعًا لأُضِيءَ.”(30)

 

إنَّ أُنْسِي يُمَجِّدُ قِيمَةَ الحُريَّةِ، وَالانْعِتَاقِ الخَالِصِ مِنْ شَتَّى المُحَدِّداتِ السَّابقةِ على التَّجربَةِ، وَالخُلُوصِ الكَامِلِ لِحَركَةِ التَّجْربَةِ الشّعْريَّةِ وَإيقَاعِهَا المُتَحَوِّلِ؛ لِيَكُونَ الشَّاعرُ أمَامَ تَجْرِبَتِهِ مَسْئولاً وَحْدَهُ كُلَّ المَسْئوليَّةِ عنْ عَطَائِهِ.”(31)

 

 

شوقي أبو شقرا:

 

جاءتْ تجربةُ شوقي أبو شقرا (1935- )- في دِيوَانِهِ: مَاء إلى حِصَان العَائلة(32)– انْشِقَاقًا عَن النُّزوعِ الأسَاسِيِّ، الذي هَيمنَ عَلى فَضَاءِِ مَجَلَّةِ:(شِِعْر)؛ وَهُوَ النُّزوعُ المِيْتَافِيزيقيُّ التَّجريديُّ، الذي عَبَّرَ عنه أدونيسُ؛ حِيْنَمَا دَعَا إلى ضَرورِةِ تَخَلِّي الشِّعر الحديث عَن الحَادِثةِ وَالوَقَائِعِ؛ اعْتِقَادًا مِنْهُ بِأنَّ شِعْرَ الوَقَائِعِ يزدَادُ اقْتِرَابًا مِن النَّثْرِ؛ لأنَّهُ يُضْطَرُ- انْسِجَامًا مَعَ غَايتِهِ – إلى أنْ يستخدمَ الكَلِمَاتِ وِفْقَ دلالتِهَا المَألوفَةِ، بَيْنَمَا يُفَرِّغُ الشِّعْرُ الحَدِيثِ الكَلِمةَ مِنْ مَعْنَاهَا المَألوفِ، وَيَشْحِنُهَا بِدَلالةٍ جَدِيدَةٍ غيرِ مَألوفَةٍ، فَإذَا كَانَ الشِّعْرُ الوَاقِعِيُّ يَعْرضُ مَا هُوَ عَاديٌّ مَألوفٌ مِنَ الأفْكَارِ وَالآرَاءِِ وَالمَشَاعرِ، فإنَّ حَقِيقةَ القَصِيدَةِ الحَدِيثةِ هِيَ القَصِيدَةُ نَفْسُهَا، لا فِكرَة أوْ قَضِيَّة خَارجِيَّة، وَلا تَرْجِعُ عَظَمَةُ هَذَا الشِّعْرِ الحَدِيثِ إلى مَا فيهِ مِنْ تعبيرٍ، أو انْعِكَاسٍ للأشْيَاءِ، أو المَظَاهِرِ الوَاقِعيَّةِ؛ بلْ إلى مَدَى مَا يُضِيْفُهُ مِنْ جَديدٍ إلى هَذَا العَالَمِ ، وَيَتَخَلَّى الشِّعْرُ الحديث أيضًا عَن الجُزْئِيَّةِ، وَيَجِبُ أنْ يَكْشِفَ عَنْ رُؤيَا.(33)

وَعَبَّرتْ عنهُ، أيضًا، خالدة سعيد؛ حِيْنَ رَأتْ أنَّ حَرَكَةَ الشِّعْرِ الحَدِيثِ “تَخَلَّصَتْ مِنَ الجُزْئيَّةِِ؛ فَرَفَضَتْ الحَادِثَةَ.”(34)

أمَّا شوقي أبو شقرا فَقَدْ انْحَازَ إلى شِعْرِ الحَيَاةِ اليَومِيَّةِ؛ بِلَقَطَاتِهِ الحَيَاتيَّةِ المَعِيْشَةِ  الدَّالةِ، ضِمْنَ بنىَ سَرْديَّةٍ خَاصةٍ، يَتِمُّ فِيهَا التَّركِيزُ عَلى الجُزْئيِِّ لا الكُلْيِّ، اليَومِيِّ لا الذِّهْنيِّ، الحَيَاتيِّ لا اللغَويِّ، وَاحْتَفَىَ بِشُخُوصٍ حَيَّةٍ حَمِيمَةٍ، وَبِتَفَاصِيلِ حَيَواتِهَا وَبِأشْيَائِهَا البَسِيْطَةِ، وَجَاءَتْ “قَصَائدُهُ قَصِيرةً كَلَحَظَاتِ هَذِهِ الحَيَاةِ، وَلَقَطَاتِهَا، وَمَواقِفِهَا المَنْثُورَةِ؛ حيثُ يُعْطِي الجُزْئيَّاتِ المُهْمَلةَ، المَنْثُورةَ فِيهَا، الهَامِشيَّةَ بالنَّسبةِ للشِّعْرِ الرُّؤيويِّ، تلكَ الَّتي لَيْسَ فِيْهَا إدْهَاشٌ، أفقًا شِعْريًّا، وَبِالتَّالِي يَسْمَحُ لأفْعَالِهَا وَلَحَظاتِهَا أنْ تَدْخُلَ في النَّسِيْجِ اللغويِّ- الثَّقَافِيِّ للشِّعْرِ. إنَّهُ يكتبُ عنْ رقيبٍ بالدَّركِ، وَعَن التَّرمواى، وَعَن الكَرسُون وَالشَّمْبَانيَا وَالبِيْرَةِ، وَعَنْ خَوَاجَةٍ يلعبُ بِشَارِبيهِ، وَعَن تَدَهورِ سَيَّارةِ بطرس، وَعَن جدَّةٍ تذرِّي البُرْغُلَ، وَعَن نمر الجُمْرُكيِّ…وَعَنْ كَاتيَا الفَتَاةِ الَّتي تلبسُ (البِيجَامَا)، وَخَليلٍ الَّذي يُسَافرُ إلى فنزويلا …وَفُؤادٍ اللصِّ الحَنُونِ، وَالرَّاعِيَةِ رِفْقَة، وَعَن قاسمٍ بائعِ الكَعْكِ لِلمَدَارسِ، وَعَنْ مُرْقصٍ بَائِعِ المَنَاقِيشِ، وَعَن ألمَاظَةٍ العَانِسِ.”(35)

إنَّ مفهومَ اللغةِ الشِّعريَّةِ،هُنَا ، يَرْتَبِطُ بِمُفْرَدَاتِ الوَاقِعِ المَعِيشِ، وَتَفَاصِيلهِ، أكْثَرَ مِنَ ارْتِبَاطِهِ بِالتَّاريخِ اللغويِّ، وَهَذَا يُؤكِّدُ انْحِيَازَهُ إلى اكْتِشَافِ الشِّعْرِ في تَفَاصِيلِ الحَيَاةِ، لا في طَرَائِقِ اللغةِ؛ فَجُزَيْئَاتُ الوَاقِعِ المَعِيِشِ، وَتَفَاصِيلُ الحَيَاةِ، والأشياءُ تقفُ في مُقَابِلِ المِيتَافِيزِيقَا والبلاغيَّةِ التَّارِيخيَّةِ، أيضًا تتبدَّى الصُّورَةُ السَّرديَّةُ، في مُقَابلِ الصُّورَةِ اللغويَّةِ، وَالذَّاكرَةُ البَصَريَّةُ في مُقَابِلِ الذَّاكرَةِ اللغويَّةِ، وَمِنْ ثَّمَ تَتَجلَّى: قَصِيدَةُ المَعِيشِ في مُوَاجَهةِ قَصِيدَةِ المَعْرفِيِّ، وَنَظرًا لأهَمِيَّةِ السَّرْدِ، هُنَا، فإنَّهُ لا يُشكِّلُ شِعْريَّتَهُ مِنْ اعْتِمَادِهِ على الإيقَاعِ النَّبْريِّ فَقَط، أوْ مِنْ تركيزِهِ على التَّكثيفِ، وَإنَّمَا يَتَخَطَّى تَرَاتُبَ الزَّمَنِ الفيزيقيِّ ليُشْكِّلَ الزَّمنَ السَّرديَّ للنَّصِّ؛ يَتَخَطَّى التَّراتُبيَّةَ وَالتَّداعِي وَالتَّسلسُلَ المَنْطِقيَّ وَالإفْرَاطَ. التَّفَاصِيلُ الَّتي تَرِدُ – في النَّصِّ- هيَ جُزْئيَّاتٌ مِنَ المَشْهَدِ العَامِ، تُوْضَعُ في مَوَاضِعِهَا في دِِقَّةٍ مَقْصُودَةٍ وَبِنَاءٍ مَخْصُوصٍ، يُجَسِّدُ حَركةَ التَّجربةِ الخَاصَّةِ، وَإيقاعيَّتَهَا وَجَيَشَاِنهَا، وَهُوَ مَا يُحقِّقُ للسَّرْدِ شِعْريَّته. وَهَكَذَا جَاءَتْ تجربةُ شوقي أبي شقرا، البِشَارَةَ وَالوَعْدَ بِمَا سَيَزْدَهِرُ بعدَ عِقْدَينِ في المَشْهَدِ الحَاشِدِ لقصيدة النَّثر العَرَبيَّةِ :

“مَاتَ وَالدِي مُنْذُ خَمْسَ عَشْرةَ سَنَةً. دَفَنَّاهُ مَحْمُولاً عَلى الرَّاحَاتِ. تبدو مَقْبَرَتُهُ في القَرْيةِ. هِيَ صُنْدَوقةُ بَرَيدٍ وَهُو يَنَامُ. كَانَ رَقِيْبًا في الدَّرَكِ. يَقُصُّ شَعْرَهُ. يَرْكَبُ الدَّراجَةَ النَّاريَّةَ. تَحْفَظُ أُمِّي عَنْ ظَهْرِ قَلْبٍ حِذَاءَهُ الأسْوَدَ الطَّويلَ ، رَقم 44، وَقُبَّعَتَهُ وَثَوْبَهُ الكَاكِيَّ وَأزْرَارَهُ الذَّهَبيَّةَ. تَدَهْوَرَ.

نَزَلَ إلى وَادٍ مُلَّونٍ بِالصُّخُورِ.”(36)

 

هَكَذَا – مُتَجَرِّدًا مِنَ الذَّاكرةِ الشِّعريَّةِ الرَّنانَةِ، وَمُتَخَفِّفًا مِنَ البَلاغيَّةِ التَّاريخيَّةِ الآليَّةِ- آثَرَ شوقي أبو شقرا أنْ يبدأَ مِنَ النَّثْرِ الخَالِصِ؛ ليُشكِّلَ مِنْهُ(قَصِيدَةَ)ـهُ؛ الَّتي هِيَ ليسَتْ تعبيرًا عَنْ المَعِيشِ، بِقَدْرِ مَا هِيَ إعَادةُ بِنَاءٍ لَهُ، في فَضَاءِ النَّصِّ. المَعِيْشُ، الحَيَاتِيُّ يُصْبِحُ مَادَةً خَامًا لِلْمَعِيْشِ النَّصيِّ، وَهَذَا هُوَ جَوْهَرُ إشْكَاليَّةِ “قَصِيدَةِ النَّثْرِ” وَتحدِّيْهَا، وَمَنَاطِ شِعْرِيَّتِهَا الخَاصةِ .

تَتَقَوَّضُ رَتَابَةُ السَّرْدِ وَنَثْريَّتِهِ وَاعْتِيَاديَّتِهِ، انْطِلاقًا مِنْ فَاعليَّةِ الزَّمنِ السَّرديِّ، الذي يبدأُ، هُنَا، بالمَاضِي:(مَاتَ وَالدِي…دَفَنَّاهُ) ثُمَّ يقفزُ إلى الحَاضِرِ:(تبدو مَقْبَرَتُهُ)، وَيَرْتدُّ إلى المَاضِي: (كَانَ رَقِيبًا في الدَّرَكِ)، ثُمَّ يعودُ إلى الحَاضِرِ- الَّذي هُوَ اسْتِحْضَارٌ للمَاضِي- :(يَقُصُّ شَعْرَهُ – يَرْكَبُ الدَّرَاجَةَ. تَحْفَظُ أمِّي حِذَاءَهُ)؛ لِيدُلَّ عَُلى طغْيَانِ اسْتِحضَارِ هَذِهِ التَّفاصِيلِ عَلى الوَاقِعِ المُوْحِشِ، ثُمَّ يرتدُّ إلى المَاضِي: (تَدَهْوَرَ. نَزَلَ). هذِهِ الانْتِقَالاتُ المُتَوَاليةُ، في حَرَكةٍ دَائِبةٍ، تُجَسِّدُ تَوَتُّرَ الحَالةِ السَّرديَّةِ، عَبْرَ هذِهِ الانْتِقَالاتِ المُتَعدِّدةِ. إنَّ شِعْريَّةَ السَّرْدِ هُنَا ترتبطُ بِعَمَلِ المُونْتَاجِ في بِنَاءِ الخِطَابِ الشِّعْريِّ وَتَرْكِيْبِهِ. وَيُمْكِنُنَا اسْتِخْلاصُ هذِهِ النَّتيجةِ فَوْرَ تَلَقيِّ المَحْكِيِّ في هَذَا النَّصِّ؛ حَيْثُ تَتَجَمَّعُ تَفَاصِيْلُ المَشْهدِ؛ فَيَتَبَدَّى لَنَا، سَرِيعًا، عَمَلُ الشَّاعرِ في بِنَاءِ الخِطَابِ الشِّعْريِّ السَّرْديِّ؛ إذْ لو بَدَأنَا مِنْ مُنُتَصَفِ النَّصِّ، وَقُلْنَا: (كَانَ [ أبِي]رَقِيبًا في الدَّرَكِ) إلى نِهَايَةِ النَّصِّ، ثُمَّ عُدْنَا إلى بِدَايَتِه (مَاتَ وَالدِي) لَفَقَدَ النَّصُّ كثيرًا مِنْ توتُّرِهِ الشَّعْريِّ – الَّذي قَامَ على اسْتِغَلالِ طَاقاتِ الزَّمنِ السَّرْديِّ في عَمَليَّةِ البِنَاءِ السَّرْديِّ – وَمَعْلُومٌ أنَّ الزَّمَنَ السَّرْديَّ أحَدُ الأُسسِ المُهِمَّةِ في تَشْكِيلِ شِعْريَّةِ السَّرْدِ، وَهُوَ يَخْتَلِفُ عنْ الزَّمنِ الفِيزيقيِّ؛ فَالأخِيرُ يَسِيْرُ هَكَذَا:

كَانَ رَقِيبًا: (أ) تَدَهْوَرَ:   (ب) مَاتَ:    (جـ) دَفَنَّاهُ :    (د) تَبْدُو مَقْبَرَتُهُ:                        (هـ)

بَيْنَمَا الزَّمَنُ السَّرْديُّ يَمْضِي هَكَذَا :

( جـ )      ( د )     ( هـ )     ( أ )      ( ب).

أيْ أنَّ الزَّمَنَ السَّرْديَّ يبدأُ مِنْ مُنْتَصَفِ الزَّمَنِ الحِكَائِيِّ، وَيَقُومُ السَّاردُ، هُنَا، بإعَادةِ تَشْكِيلِ الحِكَايةِ؛ فيبتدِئُ مِنْ مُنْتَصَفِ زَمَنِ الحِكَايَةِ، ثُمَّ يعودُ إلى البِدَايَةِ؛ ليُحْدثَ المُفَارَقَةَ السَّرديَّةَ  عَبْرَ الارْتِدَادَتِ السَّرديَّةِ المُتَوَاليَةِ، وفي رَصْدِهِ لَِهذِهِ الحِكَايَةِ يَتَجَنَّبُ حَالةَ الهِيَاجِ العاَطِفيِّ، المَأثورِ في مَوْقِفِ الرِّثَاءِ. وَيُرَكِّزُ البِنَاءُ النَّصيُّ هُنَا عَلى تَشْكِيلِ حَالةٍ مِنَ الشَّجنِ الأليمِ، تَسْعَى الذَّاتُ السَّارِدَةُ إلى تَبْئِيرِهَا في فَضَاءِ النَّصِّ.

لقد ركَّزَ هذا الخطابُ، على شعريَّةِ سرديَّاتِ الحياةِ اليوميَّةِ المَعيشةِ، عبْرَ سَرْدٍ شِعريٍّ، واحْتفاءٍ واضحٍ بالصِّورِ السَّرديَّةِ البَصَريَّةِ:

” كان نمر جمركيًّا لا يُغيِّر ثوبَه الكاكيَّ إلا ساعةَ النَّوم، عيناه تتدحرجانِ من السُّكرِ على وجهِهِ، تُطلاَّن على الوادي ككهرباء البلديَّةِ، يعود من رحلاتِهِ إلى قريتِهِ لجنازة رفاقه وأهله، ويبرد فيفتح القنِّينةَ، يشربُ الدُّخانَ البلديَّ، ويتغطى بلحافٍ عسكريٍ”(37) 

 

 وثمَّة احتفاءٌ واضحٌ بوقائعِ الحياةِ المَعيشةِ، في لقطاتِها الصَّغيرةِ، وسرديَّاتها الشفاهيَّةِ الدَّالةِ:

 

“كاتيا تلبس البيجاما، تملك حقيبةً كالقصرِ، تتحرَّكُ فيها بحيرةُ البودرَةِ والحُمْرَةِ، تفوحُ منْهَا رائحَةُ الآلة الكاتبَةِ التي تنقرُهَا بأصَابعِهَا كالشَّجرَةِ، تُؤجِّلُ أوْرَاقَ المديرِ إلى الغدِ، وتكتبُ اسْمَهَا بأحْرُفٍ كبيرَةٍ أمامَ الموظَّفينَ؛ فيتنهدونَ ويطلبونَ القهوةَ.”(38)

 

 

محمَّد المَاغُوط:

 

عندَ محمَّد المَاغُوط تلعب التَّوازياتُ دورًا رئيسيًّا في تشكيلِ شِعْريَّةِ الشِّعْرِ؛ فهو منْ أكثرِ شُعَرَاءِ جِيلِهِ احْتِفاءً بِالتَّوَازي، ويرى كثيرونَ أنَّ التَّوَازي هُوَ المَسْئولُ الرَّئِيسيُّ عنْ تشكيلِ نَسِيجِ الشِّعْرِ ، وتخليقِ الإيقاعِ الشَّامِلِ للنَّصِّ؛ فَيُؤكِّدُ ياكوبسون (1896-1982) أنَّ “المَسْألةَ الأسَاسِيَّةَ للشِّعْرِ هِيَ التَّوَازي”(39)، وَحَصَرَ هوبكنز” الصَّنْعَةَ في الشِّعْرِ في مَبْدأ التَّوَازي؛ فَبِنْيَتُهُ تعتمدُ على التَّوَازي المُسْتَمرِّ”(40)، وَلاحَظَ يوري لوتمان أنَّ البِنْيَةَ الشِّعْريَّةَ ذاتَ طبيعةٍ تِكْراريَّةٍ حِينَ تَنْتَظمُ في نَسَقٍ لُغَويٍّ، وَمِنْ ثَمَّ تَخْلُقُ وَضْعًا شَدِيدَ التَّعقيدِ؛ فهذِهِ القَصِيدَةُ أوْ تلكَ تُمَثِّلُ بِذَاتِهَا نَصًّا كَلامِيًّا، وَهَذَا النَّصُّ ليْسَ في الحَقِيْقَةِ نِظَامًا كُلِّيًّا، بلْ هُوَ إحْدَاثٌ جُزْئيٌّ Realizatio لِلنِّظَامِ، وَلكِنَّهُ- بِاعْتِبَارِهِ لَوْحَةً شِعْريَّةً لِلعَالَمِ- يُقدِّمُ نِظَامًا كُلِّيًّا تَتَحقَّقُ مِنْ خِلالِهِ المَوْقِعِيَّةُ التِّكراريَّةُ بِالكَامِلِ؛ وَهِيَ مَوْقِعِيَّةٌ يَتَمَثَّلُ مِحْوَرُهَا الأسَاسِيُّ فِيْمَا يُدْعَى بـ” التَّوَازي”Rorallelism.”(41)

وَتَعْمَلُ التَّوَازيَاتُ المُتَعَدِّدةُ المُتَدَاخِلَةُ في فَضَاءِ النَّصِّ، جَنْبًا إلى جَنْبٍ؛ لتَشْكِيلِ بِنْيَاتٍ مُتَشَابِهَةٍ وَمُتَكَافِئَةٍ وَمُتَمَاثِلَةٍ صَرْفِيًّا وَتَرْكِيْبِيًّا وَدَلالِيًّا وَإيقَاعِيًّا، وَهُوَ مَا يُسَاهِمُ في تَشْكِيلِ أدَاءٍ سَرْديٍّ، يُلِحُّ على تَبْئِيرِ حَالَةٍ مَا، أوْ مَوْقِفٍ مَا؛ دَلاليًّا وَجَمَاليًِّا.

وَبِالإضَافَةِ إلى التَّوَازيَاتِ، تَتَجَلَّى عندَ المَاغوطِ قِيْمَةٌ فَنِّيَّةٌ أخْرَى، يُشَدِّدُ عَليهَا أدَاؤهُ الشِّعْريُّ؛ هِيَ: الاحْتِفَاءُ بِالتَّصويرِ احْتِفَاءً شَدِيدًا؛ لِتَأْسِيْسِ بِنْيَةٍ مَجَازيَّةٍ دَالةٍ، تَقُومُ عَلى تَكْثِيْفِ الصُّورِ الجُزْئيَّةِ: اللغويَّةِ أوْ المَشْهَديَّةِ، التي يَقْتَطِعُهَا مِنْ مُفْرَدَاتِ حَيَاتِهِ المَعِيْشَةِ؛ لِيَتَضَافَرَ المَجَازيُّ وَاللا مَجَازيُّ، في تقديمِ رُؤىً إنْسَانيَّةٍ فَاجِعَةٍ وَصَاخِبَةٍ، تَتَخَلَّى عَنْ الرُّؤى المِيْتَافِيزيقيَّةِ، وَتَنْخَرِطُ في عَذَابَاتِ الذَّاتِ الشَّاعرةِ، المُطَارَدةِ، المُشَرَّدةِ، المُنْعَزِلَةِ، المَقْهُورَةِ. وَقَدْ اكْتَسَبَتْ شِعْريَّةُ المَاغُوطِ حَرَارَتَهَا، مِنْ تَوَحُّدِهَا مَعَ حَمِيْمِيَّةِ التَّجْربَةِ المُتَوهِّجَةِ الضَّاريَةِ؛ التي عَاشَهَا المَاغُوطُ في شَبَابِهِ؛ تَجْربَةِ المُطَارَدةِ السِّياسِيَّةِ، التي تَظْهَرُ حِمَمُهَا في شَظَايَا صُورِهِ الحَادَّةِ المُتَوتِّرَةِ المُعْتِمَةِ، وَالإيقَاعِ الهَادرِ المُتَفَجِّعِ؛ حَيْثُ لاذَتْ الذَّاتُ الشَّاعرةُ، كَحَشَرةٍ، في غُرْفَةٍ ضَيِّقَةٍ كَالقَبْوِ، وَقَدْ وَصَفَتْهَا زَوْجَتُهُ الشَّاعرَةُ سنيَّة صَالِح بِقَولِهَا: “غُرْفَةٌ صَغِيرَةٌ ذَاتَ سَقْفٍ وَاطِئٍ، حُشِرَتْ حَشْرًا في خَاصِرَةٍ أحَدِ المَبَانِي، بِحَيْثُ كَانَ عَلى مَنْ يَعْبُرُ عَتَبَتَهَا أنْ يَنْحَنِي وَكَأنّهُ يَعْبُرُ بَوْابَةَ الزَّمَنِ، سَرِيرٌ قَدِيمٌ ، ملاءَاتٌ صَفْرَاءُ، كَنَبَةٌ زَرْقَاءُ طَويلَةٌ سرعَانَ مَا هَبَطَ مِقْعَدُهَا، سِتَارَةٌ حَمْرَاءُ مِنْ مُخَلَّفاتِ مَسْرَحٍ قَدِيمٍ، في هَذَا المُنَاخِ عَاشَ محمَّد المَاغُوط أشْهُرًا عَدِيدَةً “(42). هَذِهِ الغُرْفَةُ التي ظَهَرَتْ في مَجْمُوعَتِهِ الأُوْلى،في شَظَايَا مِنَ الصُّورِ القَاتِمَةِ المَرِيرةِ:

“بِلا أمَلٍ …

وَبِقَلْبِي الذي يَخْفُقُ كَوَرْدَةٍ حَمْرَاءَ صَغِيرَةٍ

سَأُوَدِّعُ أشْيَائِي الحَزِينَةَ في لَيْلَةٍ مَا

بُقَعَ الحِبْرِ

وَآثَارَ الخَمْرَةِ البَارِدَةِ عَلى المُشَمَّعِ اللَّزِجِ

وَصَمْتَ الشُّهُورِ الطَّويلَةِ

وَالنَّامُوسَ الذي يَمُصُّ دَمِي.”(43)

 

هَكَذَا تَتَابَعُ الصُّورُ الجُزْئيَّةُ؛ لِتُشَكِّلَ صُورَةً كُلِّيَّةً قَاتِمَةً، تعكسُ تَارِيخًا رُومَانسِيًّا، لَمْ يَنْتَهِ بَعْدُ.

وَلَدَىَ المَاغُوطِ يَتَوَاشَجُ السِّياسِيُّ وَالذَّاتِيُّ، في خِطَابٍ يَتَبَدَّى فيه الخَارِجُ بِوَعْي الدَّاخِلِ؛ فَيَتَدَفَّقُ حَارًّا، وَمُتَوقِّدًا، وَيُتِيْحُ لهُ اسْتِدْرَاجُ العَالَمِ الخَارجِيِّ إلى دَاخِلِهِ أنْ يُلْغِي كَافَّةَ النَّسَبِ الحَرْفِيَّةِ للوَاقِعِ وَيَسْتَغِلَّ أقْصَى دَرَجَاتِ الحُرِّيَّةِ التي يَتَمَتَّعُ بِهَا الحُلْمُ .(44)

تَتَطَايَرُ الصُّورُ المُكْتَويَةُ الحَارِقَةُ في فَضَاءِ النَّصِّ، في إيقاعٍ صَاخِبٍ، يَتَضَافَرُ فيهِ النَّبْرُ مَعَ التَّوَازيَاتِ المُخْتَلِفةِ، غيرَ أنَّ تَوَازِي الدَّلالةِ هُوَ أكْثَرُ أنْوَاعِ التَّّوَازيَاتِ حُضُورًا في خِطَابِ محمَّد المَاغُوط الشِّعْريِّ؛ حَيْثُ تَتَجَمَّعُ دَلالاتُ الصُّورِ المُتَشَعِّبَةِ، في اتِّجَاهٍ مُحَدَّدٍ؛ لِتُمَثِّلَ وحْدَةَ التَّأثيرِ وَتَبْئِيْرِ الحَالَةِ الشِّعْريَّةِ:

“وَبَكَيْتُ. أنَا مِزْمَارُ الشِّتَاءِ البَارِدِ

وَوَرْدَةُ العَارِ الكَبِيْرَةِ

وَتَدَفَّقَ الحُزْنُ حَوْلَ يَاقَتِي كَالنَّبِيْذِ

وَهَويْتُ وَحِيْدًا أمَامَ الحَوَانِيْتِ

أيَّتُهَا الدُّمُوعُ الأكْثَرُ نَضَارَةً مِنَ الدَّمِ

أيَّتُهَا الآلامُ التي تُضِيءُ قَدَمَيَّ

في أظَافِري تَبْكِي نَوَاقِيْسُ الغُبَارُ.”(45)

 

 

 

4

 

قَصيْدَةُ النَّثرِ

مِنْ مَنْظورِ التَّحليْلِ السَّرديِّ

 

ظاهرة السَّردِ:

ثمَّةَ اهْتِمامٌ شَديدٌ في الوَقْتِ الرَّاهِنِ، بِالسَّردِ، وَاتِّجَاهَاتِهِ، وَنَظَريَّاتِهِ ، وَيَتَوَاكَبُ هَذَا مَعَ مَا يَشْهدُهُ المَشْهدُ الرِّوائيُّ وَالقَصَصيُّ مِنْ تَحَوُّلاتٍ فَارِقةٍ في آليَّاتِ وَطَرَائقِ السَّردِ، بِالإضَافَةِ إلى زَحْفِ مَجْرَى السَّردِ إلى فَضَاءِِ الشِّعرِ، وَتَجَلِّي الشِّعر، كَثِيرًا، في السَّردِ، وَتَجلِّي السَّرد، بِأشْكَالٍ مُخْتَلفَةٍ، في مَشْهَدِ القَصِيدِ النَّثريِّ، تَحديْدًا، بَلْ لَقَدْ تَخَطَّى السَّردُ خَريْطَةَ الأنْوَاعِ الأدَبيَّةِ، وَتَجَاوَزَ تَدَفُّقُهُ حُدُودَ النَّصِّ الأدَبيِّ؛ فَصِرْنَـا نَتَحَدَّثُ عَنْ السَّردِ السِّينمائيِّ، وَعَنْهُ ذَكرَ يُوري لُوتمان، أنَّ “الحِكَايَةَ اللفظيَّةَ لَيْسَتْ النَّوعَ السَّردِيَّ الوَحِيْدَ، وَ[ أنَّ ] عَليْنَا أنْ نَلتَفِتَ إلى الخِبْرَةِ السَّرديَّةِ السِّينمَائيَّةِ”(1)، وَطُرِحَتْ قَضَايَا مِثْل: اللغَة السِّينمَائيَّة، طَبِيْعَة المَجَاز السِّينمَائيِّ(2)، فَلَمْ يَقْتَصِرْ السَّردُ على الأدَاءِِ اللغَويِّ، وَإنَّمَا انْفَتَحَ على مَجْمُوعَةٍ مِنْ الوَسَائِلِ السِّينمائيَّةِ، في تَجْسِيْدِ حَرَكَةِ السَّردِ وَتَنْظيْمِ مَسَارَاتِهَا، وَيَأتِي في مُقَدِّمَتِهَا: المُونْتَاجُ؛ الَّذي يَتَولَّى عَمَليَّةَ إبْرَازِ”تَدَاخُلِ الأفْكَارِ أوْ تَدَاعِيْهَا .. وَالتَّوالِي السَّريع ِللصِّورِ، أوْ وَضْعِ صُورَةٍ فَوْقَ صُورَةٍ، أوْ إحَاطَة صُورَةٍ مَرْكَزيَّةٍ بِصُورَةٍ أُخْرَى تَنْتَمِي إليْهَا”(3)، بِجَانبِ وَسَائل أخْرَى، فَرْعيَّةٍ، مِثْل المَشْهَدِ المُضَاعَفِ، واللقَطَاتِ البَطِيئَةِ وَالاخْتِفَاءِ التَّدريجيِّ، وَالقَطْع، وَالصُّورِ عَنْ قُربٍٍ، والمَنْظَرِ الشَّامِلِ، وَالارْتِدَادِ (4)، وَهَذِهِ الوَسَائلُ الفَرْعيَّةُ هِيَ أدْوَاتٌ لِتَحْقِيقِ تَأثِيْرِ المُونتَاجِ(5)، وَقَدْ قَسَّمَ روبرت همفري المُونتَاجَ إلى قِسْمَيْنِ: مُونتَاجٍ زَمَنيٍّ؛ وَفيْهِ يُثَبَّتُ المَكَانُ وَيَتَعدَّدُ الزَّمَنُ،  أوْ هُوَ “وَضْعُ صوَرٍ أوْ أفْكَارٍ مِنْ زَمَنٍ مُعَيَّنٍ على صورٍ أوْ أفْكَارٍ مِنْ زَمَنٍ آخَرٍ. وَمُونتَاجٍ مَكَانِيٍّ؛ وَفيْهِ يَبْقَى الزَّمَانُ ثابتًا وَيَتَغَيَّرُ العُنْصُرُ المَكَانِيُّ، وَيُسَمَّى أيضًا بِطَريقَةِ: عَيْنِ الكَامِيرَا أوْ بِطَريقَةِ المَشْهَدِ المُضَاعَفِ(6). وَتُعَدُّ اللقطَةُ الوِحْدَةَ الأسَاسيَّةَ فيتَشْكيْلِ السَّردِ السِّينمائِيِّ، وَهيَ عِبَارَةٌ عَنْ “وِحْدَةِ العَنَاصِرِ دَاخِلَ اللقطَةِ”(7)، وَهِيَ – كَمَشْهدٍ، يَتَكَوَّنُ مِنْ مَجْمُوعَةٍ مِنْ العَنَاصِرِ- ” تَدلُّ على أكْثَر مِمَّا تُصَوِّرُ.”(8)

وَهَكَذَا لَمْ يَعُدْ مَفْهُومُ السَّردِ قاصِرًا على إيْرَادِ الحِكايَةِ، كَمَا لَمْ يَعُدْ قاصِرًا على النَّثرِ، وَهُوَ- في قَصِيدَةِ النَّثرِ- المَظْهَرُ الأكْثرُ بُرُوزًا، كَمَا أنَّهُ- بنَائيًّا- المَسْئولُ عَنْ تَشْكيلِ شِِعْريَّةِ الخِطَابِ مِنْ تَفَاصِيْلِ النَّثرِ الرَّحِيْبَةِ؛ حَيْثُ تَتَضَامُ في عِلاقَاتٍ بنَائيَّةٍ دَاخليَّةٍ مُتَشَابكَةٍ، تُحَقِّقُ شِعريَّةَ الخِطَابِ، وَقَدْ رأى مُهَاجِمُوهَا في شَكْلِهَا السَّرديِّ الخَارجِيِّ مَظْهَرًا لِنَثْريَّتِهَا، وَطَعْنًا في شِعْريَّتِهَا(9)، وَيَظَلُّ السَّردُ أحَدُ أبْرَزِ الظَّواهِرِ البِنَائيَّةِ في قَصِيدَةِ النَّثرِ وَمَلْمَحًا بَارزًا تَتَجَلَّى فيْهِ شِعريَّتُهَا الخَاصَّةُ.

 

مَفْهُومُ السَّردِ

 

يُشِيرُ مُصْطَلَحُ السَّردِِ، تَحْدِيدًا، إلى عَمَلَّيةِ بنَاءٍ نَصِّيٍّ تَتَدَاخَلُ فيْهِ مَجْمُوعَةٌ مِنَ العَنَاصِرِ البنَائيَّةِ الفَاعِلَةِ؛ كَالسَّاردِ، وَالمَسْرُودِ لَهُ، وَالفَضَاءِ السَّرديِّ، وَالزَّمَنِ السَّرديِّ، وَالرُّؤيَةِ السَّرديَّةِ؛ لِتَشْكِيْلِ بِنْيَةِ النَّصِّ السَّرديِّ، وَالَّذينَ تَنَاوَلُوا المُصْطَلَحَ انْطَلَقُوا مِنْ تَمْييزِهِ عَنْ الحَكْي، وَرَكَّزُوا على عَمَليَّةِ البِنَاءِِ النَّصيِّ؛ فَرَأى عِزُّ الدِّين إسْمَاعيْل أنَّهُ عَمَليَّةُ تَشْكِيْلِ خِطَابٍ حِكَائيٍّ يَتمُّ فيْهنَقْلُ الحَادِثَةِ مِنْ صُورَتِهَا الوَاقِعيَّةِ إلى صُورَةٍ لُغَويَّة(10)، أمَّا عبد المَلِك مُرْتَاض(1935- ) فَرَأى أنَّهُ “نَسْجُ الكَلامِ، وَلَكنْ في صُورَةِ حَكْي”(11)، أمَّا يُمْنَى العِيد فَحَدَّدتْهُ بِأنَّهُ ” القَوْلُDiscouts مِنْ حَيْثُ صِيَاغَةُ الحَكْي، أوْ إقَامَةُ البِنْيَة ُالرِّوائيَّةُ مِنْ حَيْثُ مَجَال التَّقنِيَةِ وَكَيْفيَّة السَّردِ أوْ شَكْله؛ حَيْثُ تُهْمَلُ الحِكَايَة ُوَيُركَّزُ على نَمَطِ القَولِ المُحَدِّدِ لِنَمَطِ البِنْيَةِ(12)؛ فَهُوَ عَمَليَّةُ بِنَاءِ خِطَابٍ مِنْ الحَكْي، تَقُومُ على عِلاقَاتِ عَنَاصِر بِنَائيَّةٍ مُحدَّدةٍ، تُشَكِّلُ مَلامِحَهُ الخَاصَّةَ، وَهُوَ- كَمَا يَرَى جِيرارجِينت – ” صِيْغَةٌ يُقَنِّنُهَا عَدَدٌ مِنْ الإقْصَاءَاتِ وَالضَّوابِطِ التَّقييدِيَّة.”(13)

 

مُكَونَاتُ العَمَليَّةِ السَّرديَّةِ

 

تَتَضَامُ في هَذِهِ العَمَليَّةِ مَجْمُوعَةٌ مِنْ العَنَاصِرِ البِنَائيَّةِ الفَاعِلَةِ – الَّتي تَتَوَاشَجُ مَعَ خَصِيْصَتيْنِ شِعْريَّتيْنِ أسَاسِيَّتيْنِ، في قَصِيدَةِ النَّثرِ، هُمَا: النَّبرُ وَالتَّوَازِي- لِتَشْكيْلِ شِِعريَّةِ السَّردِ، هَذِهِ العَنَاصِرُ المُكَوِّنَةُ لِلْبِنيَةِ السَّرديَّةِ تَتَمَثَّلُ فِيْمَا يَلِي: السَّاردُNarrateur، وَالمَسْرُودُ لَهُNarrataire، الرُّؤيَةُ السَّرديَّةُFocalization ، الزَّمَنُ السَّرديُّTense ،الفَضاءُالسَّرديُّSpace ، وَأبَرْزُ هَذِهِ العَنَاصِرِ حُضُورًا في الدَّرْسِ النَّقدِيِّ اثْنَانِ: الرُّؤيَةُ السَّرديَّةُ، وَالزَّمنُ السَّرديُّ.

أمَّا الرُّؤيَةُ السَّرديَةُ فَقَدْ حَدَّدُوهَا بِمُصْطَلَحَاتٍ أخْرى لا تَخْتَلِفُ في دَلالَتِهَا كَثِيـْرًا، وَأبْرَزُهـَا: التَّبئيْرُ، المَنْظُورُ السَّرديُّ، زَاويَةُ الرُّؤيَةِ، وجْهَة ُالنَّظرِ، وَتَتَشَكَّلُ مِنْ مَنْظُورِ السَّاردِ، وَغالِبًا مَا يَكونُ السَّاردُ – في الشَّعرِ- مُشَاركًا في الأحْداثِ وَرَاويًا لَهَا في الوَقْتِ نَفْسِهِ، وَهُـوَ، بِهَذَا، ذَاتَانِ مُدْمَجَتَانِ؛ ذَاتٌ رَائِيَةٌ، وَذَاتٌ مَرْئيَّةٌ، ذَاتٌ مُبِئِّرةٌ (سَارِدَةٌ)، وَذَاتٌ مُبَئَّرَةٌ، (تُؤدِّي دَوَْرهَا في المَشْهَدِ السَّرديِّ)، الأُوْلَى صَاحِبَةُ الرَّؤيَةِ وَالمَوْقِفِ وَالصَّوتِ النَّابِعِ مِِنَ السَّردِ، وَصَاحِبَةُ بِنَاءِِ السَّردِ وَتَحْديدِ زَوَايَاهُ وَتَفَاصِيْله، وِفْقًا لِمَنْظُورِهَا؛ فنَحْنُ نَتَعَرَّفُ على مَعَالِمِ المَشْهَدِ السَّرديِّ مِنْ خِلالِ هَذِهِ الذَّاتِ المُبَئَِّرَةِ (الرَّائيَةِ)، وَتَتَشَكَّلُ الرُّؤيَةُ السَّرديَّةُ مِِنْ مَنْظُورِِهَا، وَيَخْتَلِف ُالسَّاردُ عَنْ المُؤلِّفِ الضِّمنِيِّ وَعَنْ المُؤلِّفِ الوَاقِعيِّ؛ فَإذَا كَانَ الأوَّلُ كائِنًا مِنْ وَرقٍ – كَمَا لاحَظَ بَارَت- وَتَقْنيَةً سَرديَّةً تَنْتَمِي إلى تَقْنِيَاتِِ العَمَلِ السَّرديِّ، فإنَّ الثَّاني يُمَثِّلُ الذَّاتَ الإبْدَاعيَّة وَالأنَا العَمِيْقَةِ المُبْدِعَةِ المَسْئولَةِ عَنْ عَمَليَّةِ بِنَاءِِ العَمَلِ السَّرديِّ، فِيْمَا يُمَثِّلُ الأخِيْرُ شَخْصًا حَقِيْقيًّا يَنْتَمِي إلى عَالَمِ الوَاقِعِ. وَدَائِمًا مَا يَتَـوَارَى المُؤلِّفُ الضِّمنيُّ وَرَاء السَّاردِ، وَلا يبدو صَرَاحَةً في حَيِّزِ النَّصِّ، وَيَتَوَارَى المُؤلِّفُ الوَاقِعيُّ وَرَاءَ المُؤلِّفُ الضِّمنيِّ، وَهَكَذَا يَظَلُّ السَّاردُ هُوَ المَسْئولُ أمَامَنَا عَنْ فِعْلِ السَّردِ وَنَقْلِ المَسْرودِ، في مَسَارٍ يأخُذُ الشَّكلَ الآتِي:

 

 

 

 

  المؤلِّفُ الواقعيُّ    المؤلِّفُ الضِّمنيُّ       السَّارد        المسرود           المسرودُ له          القارئ الضِّمنيُّ      القارئ الواقعي

 

وَمَهْمَا بَدَتْ العَمَليَّةُ السَّرديَّةُ مَوْضُوعيَّةً، وَحِيَاديَّةً، وَمُجَرَّدةً، فَإنَّ عَرْضَ المَادةِ السَّرديَّةِ وتَنْظِيمَها يخْضَعُ لِلرُّؤيَةِ السَّرديَّةِ، وَمَعَ اكْتِمَالِ الرُّؤيَةِ السَّرديَّةِ-  في نِهَايَةِ المَشْهدِ السَّرديِّ – تَتَفَتَّحُ شِعْريَّةُ النَّصِّ كَامِلَةً.

أمَّا الزَّمن السَّرديُّ فَيَخْتَلِفُ عَنْ زَمَنِ الحِكَايةِ في أنَّ الأخِيْرَ يُحَافِظُ على خَطِّيَّةِ الزَّمَنِ الفِيزيقيِّ؛ فَيَخْضَعُ لِمَنْطقِ التَّسَلسُلِ، وَالتَّتَابُعِ التَّدريجِيِّ، فِيْمَا يَتَخَطَّى الزَّمَنُ السَّرديُّ هَذَا الأدَاءَ إلى العَديدِ مِِنْ الطَّرائقِ السَّرديَّة الَّتي تَرْتَبِطُ بِرؤيَةِ السَّادرِ؛ كَأنْ يَحْكِي “مِِنْ البِدَايَةِ لِلنِّهايَةِ، مُطابِقًا بِذلكَ بَيْـنَ زَمَنِ السَّردِ وَزَمَنِ الحِكَايةِ؛ ليُصْبِحَا مَعًا زَمَنًا وَاحِدًا، يُكَرِّرُّ الأوَّلُ مِنْهُمَا الثَّاني، لِدَرَجَةٍ لا نَشْعُرُ مَعَهَا بِأيِّ مَجْهُودٍ لِلسَّاردِ في إعَادَةِ خَلْقِِ الحِكَايةَِ، أوْ يَحْكِيْهَا مَعْكُوسَةً مِنْ النِّهَايَةِ لِلْبدايَةِ؛ في شَكِْلِ اسْتِرْجَاعٍ تَقَهْقُريٍّ يَنْطَلِقُ مِنْ نِهَايَةِ زَمَنِ الحِكَايَةِ، قريبًا مِِنْ حَاضِرِ السَّردِ، لِيَعُودَ لِبدَايَةِ الحِكَايَةِ، بِحَيْثُ يُحَوِّلُ الحِكايَةَ كُلَّهَا لِمَاضٍ مُنْتَهٍ، يُجِيْلُ نَظَرَهُ فيْهِ، مُحْتَرِمًا نَفْسَ نِظَامِ وُقوعِهِ على مُسْتَوَى زَمَنِ الحِكايَةِ، لَكِنْ بِشَكْلٍ مَعْكُوسٍ هَذِهِ المَرَّة”(14). وَلَهُ أيْضًا  أنْ يَحْكِيَهَا مِنْ وَسَطِ زَمَنِ الحِكايَةِ، لِتَكُونَ هَذِهِ المَنْطِقَةُ بُؤرَةَ التَّشظِّي الزَّمَنيِّ؛ فَتَتَدَاخَلُ الأزْمِنَةُ، وَيَتَفَرَّعُ السَّردُ، وَتَتَشَعَّبُ مَسَارَاتُهُ وَاتِّجَاهَاتِهِ الزَّمنيَّةُ، هُبُوطاً وَصُعُوداً وَتَوَقُّفًا، سَعْيًا مِنْهُ إلى إلقَاءِ أكْبَرِ قَدْرٍ مُمْكِنٍ مِنْ الأضْوَاءِِ الكَاشِفةَِ على اللحظَةِ المُتَأزِّمَةِ”(15)، اعْتِمَادًا على المُفَارَقَةِ السَّرديَّةِ؛ بِشَكْلَيْهَا: الاسْتِرْجَاعِيِّ وَالاسْتِبَاقِيِّ.

 

السَّردُ في الشِّعرِ، وَحُدودُ السَّردِ الشِّعريِّ

 

إذَا كَانَ السَّردُ يختلفُ في طبيعتِهِ الكيفيَّةِ في الرِّوايَةِ وَالنَّثر الفَّنيِّ عنه فيِ الشِّعرِ؛ فإنَّ مُرْتكزَاتِ النَّظريَّةِ السَّرديَّةِ الأسَاسيَّةِ قَابِلةٌ لِلتَّطبيْقِ على مُجْمَلِ الأنوَاعِ الأدبيَّةِ، وَغيرهَا مِنْ الفُنُونِ؛ كالسِّينما مَثَلاً، كَمَا أشَرْنَا في البدَايةِ(16)، وَتَكمنُُ أهميَّتُهَا، في الشِّعرِ، في إبرَازِ خصوصِيَّةِ السَّردِ الشِّعريِّ وتَمييزهِ عَمَّا لَيْسَ سَرْدًا شِعريًّا في سرودِ الشِّعرِ.

وَيُلاحَظُ أنَّ السَّردَ في العمليَّةِ الشِّعريَّةِ يتَّخذُ خصوصيَّةً تكمُنُ فيِ طبيعَةِ بنائِهِ؛ حَيْث تُصْبِحُ العمليَّةُ السَّرديَّةُ جُزءًا في عمليَّةٍ أشملَ؛ يَشْتركُ فيْهَا الإيقاعُ والتَّوازيَاتُ والتَّخييلُ، فينقْلِ التَّجربَةِ في بنَاءٍ شِعريٍّ خَاصًّ؛ يَتَجَلَّى فيْهِ السَّردُ الشِّعريُّ. وَقَوْلُنَا بِالسَّردِ الشِّعريِّ فيْهِ تمييزٌ لَهُ عَمَّا ليْسَ سَرْدًا شِعريًّا، وَتحديدًا عنْ السَّردِ النَّثريِّ؛ فالأخِيرُ صِيْغَةٌ يَتَجَلَّى فيْهَـا الحدَثُ بوضوحٍ، في تَتَابُعٍ مَنْطِقيٍّ، وَتَرَاتُبٍ مُسْتمرٍّ، وَتَرَابُطٍ، مُقدِّمَاتُهُ تَقُودُ إلى نتائِجِهِ، كَمَا يقولُ المنَاطِقةُ، هُوَ سَرْدٌ مَنْطِقيٌ، سَيَّالٌ، التَّراكيبُ فيْهِ بَسيطَةٌ، وَغَرَضُهُ توصِيليٌّ، وَطَبيعَتُهُ عقليَّةٌ، وَلغتُهُ دَقيقَةٌ وَمُحَدَّدةٌ، وَيقومُ على النَّظرةِ الحياديَّةِ، وَيُركِّزُ على المحكِيِّ، وَالحْكِيُ فيْهِ وَسِيلةٌ، وَالحِكَايَةُ هِيَ المقْصِدُ وَالغايَةُ، وَأحيَانًا يَتَحَّولُ السَّردُ النَّثريُّ إلى سَرْدٍ شِعْريٍّ؛ حِيْنَمَا تُهَيْمِنُ على أدَائِهِ بعضُ العنَاصِرِ الشِّعريَّةِ، وَنجدُ هَذَا في مَنَاطِقَ عديدَةٍ في رِوايَةِ: ثَرْثَرَة فوْقَ النِّيل، لنجيب محفوظ (1911 – 2006) ؛ يتمُّ فيْهَا تَدَاخُلُ الأزْمنَةِ في أدَاءٍ مُكثَّفٍ، هَذَه الخاصيَّةُ المؤكِّدَةُ لفاعليَّةِ الزَّمنِ السَّرديِّ في تحقيْقِ شِعريَّة البِنْيَةِ السَّرديَّةِ، نجدُهَا، أيضًا، بِوضُوحٍ، في رِوايَاتٍ لعبد الرَّحمن منيف (1933 – 2004)؛ مِثل: التِّيه، وَ: شَرْق المتوسِّطِ – في القِسْمِ الأوَّل منْهَا تحديدًا – ، ولحيْدَر حَيْدَر(1936- ) في أعْمالٍ عديدَةٍ مِثْل: مَرَايَا النَّار، وَ:الزَّمن الموحِش.

أمَّا السَّردُ الشِّعريُّ، فَهُوَ سَرْدٌ – مَهْمَا بَدَا مُتدفِّقًا وَطيِّعًا – يَكْشِفُ عَنْ عمليَّةِ بِنَاءٍ مُحْكَمَةٍ تَتَضَامُ فيْهَا عناصِرُ تَشْكيْلِ الخِطابِ السَّرديِّ، وَيَتبَدَّى فيْهِ التَّركيزُ على فِعْلِ السَّردِ، السَّردُ ذَاتُهُ فِعْلٌ مَقْصُودٌ؛ بحيثُ يَتَبَدَّى أنَّهُ يعملُ شِعريًّا، مختلِطًا بالإيقاعِ، وَبتفَاعُلِ التَّوازيَاتِ في مجْرَاهُ، في أدَاءٍ مُكثَّفٍ وَمُوْحٍ، السَّردُ هُنَا صِيْغَةٌ وَنَسِيْجٌ لُغَويٌّ خَاصٌّ، وَليْسَ مُجَرَّدَ حكي حِكايَةٍ؛ فَثَمَّةَ اخْتِلافٌ جَوْهَريٌّ عميْقٌ بَيْنَ السَّردِ وَالحكايَةِ، وَقَدْ مَيَّزَ شلوفسكي بَيْنَ “الِخطابِ بِاعْتِبَارهِ بنَاءًا فنيًّا وَجماليًّا، والحكايَةِ باعْتبارِهَا مَادَّةً أوَّليَّةً / خام “(17)، وَبَيْنَمَا تُهيمِنُ في الِخطابِ عمليَّةُ بناءٍ مُنَظَّمَةٍ، تَسُودُ في الحكايَةِ آليَّاتٌ سَرديَّةٌ عَامَّةٌ، وَقَدْ رَأى تُودوروف (1930 – ) أنَّ “السَّردَ، بِاعْتِبَارِهِ خِطابًا، يتميَّزُ عنْ الحكَايَةِ Histoireعلى مُسْتَوَى الزَّمنِ. هَذَا التَّمييزُ يَقَعُ على مُسْتَوَى الرُّؤيَةِ السَّرديَّةِ، وَأنَّ هَذِهِ الأخيْرَةَ تَرْجِعُ إلى العِلاقَةِ بَيْنَ السَّاردِ وَالمحكي”(18)، وَالزَّمنُ في الحكايَةِ يقومُ على التَّرَاتُبيَّةِ وَالتَّعاقُبيَّةِ والمنْطقيَّةِ، بَيْنَمَا يَتَحَطَّمُ هَذَا الزَّمنُ في الخِطابِ؛ ليتأسَّسَ الزَّمنُ السَّرديُّ، العابرُ لمنْطِقِ زَمَنِ الحكايَةِ، وَكانَ الشَّكلانيُّونَ الرُّوسُ يرونَ في هَذَا التَّحطيْمِ “سِمَةَ الخِطابِ الوَحيْدَةِ المميِّزَةِ لَهُ عَنْ القصيْدَةِ.”(19)

وَلا يَتَوقَّفُ السَّردُ الشِّعريُّ عندَ إطارِ القصيْدَةِ، وَإنَّمَا يَتَخَطَّاهُ، في أحْيَانٍ كثيرَةٍ، إلى أشْكالٍ شِعريَّةٍ أكْثَر اتِّساعًا وَرَحَابَةً؛ كَالنَّصِّ المفتوحِ أوْ النَّصِّ الجامِعِ(20)، وَتَتَبَدَّى شِعريَّةَُ السَّردِ الشِّعريِّ في قصيْدَةِ النَّثرِ، تحديْدًا، في تحقُّقِ شعريَّةِ النَّصِّ كَكُلٍّ؛ نتيجةً لِعلاقَاتِ التَّوازي وَالنَّبرِ وَتحوُّلاتِ إيقاعِ التَّجربَةِ البَاطنيِّ وَتَفَاعُلِ عَنَاصِرِ البِنْيَةِ السَّرديَّةِ.

وَبِسَببِ عَدَمِ الوعي بِالفَارقِ الجوهريِّ بَيْنَ السَّردِ كِخِطابٍ، وَالحكايَةِ كَمَادةٍ أوَّليَّةٍ لَهُ، لمْ يَتَحَقَّقُ السَّردُ في الشِّعرِ كثيرًا، كَمَا في هَذيْنِ النَّموذَجَيْنِ:

 

-1-

” منذُ أنْ دَلفَ إلى المَقْهَى وَعَيْنُهُ لمْ تنزلْ مِنْ عَليَّ

قلتُ في نَفْسِي: لعلِّي أُذكَّرُهُ بأحَدٍ مَا

وَانْصَرَفتُ إلى طرقعَةِ أصَابعي

كانَ يبتسمُ لي طِوَالَ الوَقتِ، أوْ هَكَذَا خُيِّلَ إليَّ.

هَشْشَتُ في وَجْههِ فَحَملَ كرسيَّهُ وَانْتقلَ ليجلسَ بجواري.

مِلْتُ على المِنْضدِة لأقلِّبَ كُوبَ الشَّاي مُتحاشيًا  النَّظرَ إليْهِ.

مالَ بدورهِ كأنَّمَا يَهْمِسُ لي بسرٍّ وَسَألنِي

(إنت جيت إمتى منْ هناك)؟

أحْسَسْتُ بخوفٍ غامِضٍ وَشُعورٍ أجْوَفَ كئيبٍ.

توقَّفْتْ يدي عنْ التَّقليبِ فاعْتَدَلَ فيجلْسَتِهِ

وَصَوَّبَ لينظرةً صَافيةً، كأنَّهُ لا يَرَاني.

لمْ أكدْ أفكِّرُ في فَحْوَى سُؤالِهِ، حَتَّى كانتْ يدُهُ المطوِّحةُ في الهَوَاءِ ترْتَطمُ بوجْهي لتَتَفَتَّقَ شَفَتِي السُّفْلَى.” (21)

 

-2-

“مُنذُ أنْ مَاتَ… لمْ أعُدْ أُحِسُّ طعْمًا للحياةِ… صَديقُ الصِّبَا هُوَ أهَمُّ شَخْصٍ في الحَيَاةِ… بعدَ أنْ مَاتَ… صَارَتْ الحياةُ مُرَّةً.. لَيْسَتْ المَرَارَةُ هُنَا مَعْنَى بلاغيّ.. لكنَّهَا مَعْنَى حَيَويّ. بَعْدَ مَوْتِهِ صِرْتُ حَسَّاسًا.. صِرْتُ أنْظُرُ بعينٍ أكْثَر رَهَافَةً لأطفال الشَّوارع.. أرْقُبِ صَمْتَ الهَاتفِ بقلقٍ.. كأنَّني أنْتَظرُهُ .. أظلُ أحَدِّقُ في السَّاعَةِ الحَائطيَّةِ.. وَتَمْلأنُي الرَّغبَةُ في السُّخريَةِ .. ذِكريَاتُ الصِّبَا وَالشَّبابِ تَغْزُوني.. مجلاَّتُ الحَائط ِالَّتي كُنَّا نَتَحلَّقُ حَوْلَهَا في الجَامِعَةِ.. الخُرُوجُ فيِ الأشْجَار للحَديثِ وَالتَّأمُّلِ.. أتَحَسَّسُ عُلَبَ الفيتامينَاتِ في جَيْبي وَأحُدِّثُ نَفْسِي :الإنْسَانُ اليومَ أقرَبُ لِمُهَرِّجِ سِيْركٍ بَائِسٍ.”(22)

 

يطرَحُ النَّموذَجُ الأوَّلُ حكايَةً لمْ تَتَشَكَّلْ بنائيًا تَشْكيلاً يَرْقى بهَا إلى حَيَّزِ السَّردِ الشِّعريِّ، الحكايَةُ هِيَ الشَّاغِلُ هُنَا، لا سَرْد الحكايَةِ، وَالحكْيُ ليْسَ قرينًا للسَّردِ، وَارْتباطُهُ به نَاجِمٌ منْ أنَّهُ المادةُ الخامُ له. نحنُ أمَامَ الحكايَةِ الشِّعريَّةِ الَّتي لا تبدو إلاَّ في عبثيَّةِ الموقفِ وَغَرَائبيَّتهِِ لا في طريقَةِ عَرْضِهِ: سَرْدِهِ.

 

ثَمَّةَ محاوَلةٌ لِصُنْعِ حَالةٍ شِعريَّةٍ بالمشْهَدِ الكُليِّ الغَرَائبيِّ، وَلكنَّ سَرْدَ هَذَا المشْهَدِ لمْ يكُنْ شِعريًّا؛ بلْ جَاءَ نَثْرًا محْضًا.

بَيْنَمَا يَكْشِفُ النَّموذَجُ الثَّاني أنَّ الحكايَةَ، هُنَا، غائبةٌ، وَلكِنَّ فِعْلَ الحكْي، هُوَ الشَّاغِلُ الأغْلَبُ، حَكْيٌّ مُبَاشرٌ، تقريريٌّ، يَبْدو، هُنَا، كَأنَّ الشَّاعرَ يَطْمَحُ إلى أدَاءٍ مَا بعدَ حَدَاثيٍّ، وَلكِنَّ أدَاءَهُ جَاءَ أقربَ إلى ثرثرةِ سَأمَانَ ينظرُ إلى العَالمِ باشْمِئزازٍ، ثَمَّةَ حَكْيٌ، يُركِّزُ على  حَالةِ اللا معنى وَالمرَارةِ وَالعبثيَّةِ، وَلَيْسَ ثَمَّةَ تَشْكيْلٌ بنائيٌّ لهَا، الحَكْيُ – أيضًا – لمْ يَصْنَعْ السَّردَ.

 

هَذَانِ النَّموذَجَانِ يُجَسَّدانِ غيابَ السَّردِ الشِّعريِّ، رَغْمَ وُجودِ الحكايةِ وَالحَكْي، في المقَابِلِ سنُطالِعُ نموذَجينِ آخَرينِ يُحَقِّقَانِ فعْلَ السَّردِ الشِّعريِّ بأدائينِ مُخْتَلفينِ، وَبتَوْظِيفٍ لِلحِكايَةِ وَالحَكْي:

– 1 –

 

“رَأيْتُهُ ينزلُ الدَّرَجَ المُؤدِّي إلى غُرفةِ “سُعَاد”

المُمَرِّضَةِ الَّتي تَعْطفُ على الشُّعرَاءِ المُفْلِسيْنَ في مَقْهَاهُم المُتَوَاضعِ  قريبًا مِنْ غُرفتِهَا؛ حَيْثُ يَجْلِسُونَ قُبَالةَ سَاقيةٍ مِنْ الوُحولِ تجري وَسْطَ الزُّقاقِ

المُمرِّضَةِ الليليَّةِ ذاتِ الحَذاءِ الأبيضِ الحَزيْنِ،

البَغيِّ المُتَسَاهلةِ في النَّهَارِ “سُعَاد”

وَحَيَّاني شَاردَ الذِّهنِ، مِنْ بعيدٍ، بإيمَاءَةٍ باهِتَةٍ

هُوَ الذي قَضَى مُعْظمَ النَّهَارِ يُحاصِرُني

على أريكةِ المَقْهَى لأسَلِّفَهُ نِصْفَ دينارٍ، مُتَحَسِّسًا بُقْجَةً

  صغيرةً جَاء بهَا قبلَ سَاعاتٍ مِنْ السِّجنِ.”(23)

 

-2-

 

“أأبُوحُ لَكُمْ كَمْ خَدَعَني الجيرَانُ لأدْخَلَ هَذَا السِّباقَ؟؛

أوْهَمُوني أنَّ لي رَشَاقةَ السِّلكِ، وَفُجُورَ السِّيَاجِ. وَأوْهَمُوا حَديقتي أنَّها الطَّيرَانُ البَاحِثُ عنْ ريْشٍ، ثُمَّ اسْتَلْقُوا على حُصُرِ تَحْتَ النَّدى الفاجرِ لِصَبَاحٍ مَسْكوبٍ مِنْ إبريقٍ حَجَريٍّ. وَتَأمَّلُوا خُرُوجي منْ البَابِ بَعْدَ مَا وَضَعُوا أمَامَ العَتَبةِ خُفَّيْنِ رياضِيَّينِ، وَقميْصًا غريقًا. وَأنَا اتَّخذْتُ ذَلكَ سَبَبًا لأسْتَسْلِمَ بقيودٍ مِنْ الأرْقامِ إلى انْتِصَاري. لقَدْ فَتَنْتُهُمْ؛ فَتَنْتُ الجيْرَانَ، وَالحَكَمَ الذَّابلَ، وَالضَّوْءَ المُمْسِكَ بزَانتِهِ الطَّويلةِ وَالحَلَبَةَ، مَعًا، رَاكِضًا مِنْ مَشِيْئَتهٍ إلى مَشِيْئةٍ، وَمِنْ حِبْرٍ إلى حِبْرٍ، مُلْتَقِطًا خَرَزَة الآدَمِيِّ المَكْسُورَةِ تَحْتَ أقْدَامٍ سَبَقَتْني وَلمْ تَنْتَصِرْ.”(24)

 

فيِ النَّموذَجِ الأوَّلِ، تَتَجَلَّى الحكايَةُ، مُقْتَرِنةً بنظَامٍ بنَائيٍّ يعتمدُ على توازي التَّرادُف؛ بجَعْلِ النَّصِّ يدورُ دَائمًا حَوْلَ بُؤْرَتينِ مَرْكَزيَّتينِ؛ صَدِيقِهِ العائِدِ مِنْ السِّجنِ، وَسُعَادِ البَغَيِّ، وَعَبْرَ فِعْلِ التَّوازي نَتَعَرَّفُ، شَيْئًا فشَيْئًا، على طَرَفٍ مِنْ شَأنِ سُعادٍ، وَآخرٍ منْ شَأنِ صَديقِهِ، وَمِنْهُمَا نَسْتَشْعِرُ مَأسَاويَّةَ كُلٍّ مُنْهُمَا.

النَّصُّ يدورُ في عَلائقَ، يُؤدِّي بَعْضُهَا إلى بعضٍ، في حَرَكةٍ دَائريَّةٍ وَأدَاءٍ يَنْزَعُ إلى جماليَّاتٍ بَصَريَّةٍ، مُسْتَمَدَّةٍ مِنْ نَثْرِ الحيَاةِ الخالِصِ. تَتَابَعُ حَرَكةُ التَّوازي؛ لتَجْعَلَ الخِطَابَ سِلْسِلةً مِنْ التَّعاشِيقِ، وَدَائرةً تَتَضَامُ جُزئياتُهَا، فيبناءٍ خَاصٍّ، يُؤدِّي تَوازي التَّرادُفُ فيْهِ نَبْرًا وَاضِحًا في الإيقاعِ الكُليِّ للنَّصِّ، وَتَتَبَّدى حَرَكةُ التَّوازي هَكَذا: (سُعَاد) في نهاية السَّطرِ الأوَّلِ، هِيَ (الممَرِّضَةُ التيتَ عْطِفُ على الشُّعرَاءِ) في بِدَايَةِ السَّطرِ الثَّانيِ، وَهِيَ (الممَرِّضَةُ الليليَّةُ ذَات الحذَاءِ الأبْيَضِ) في السَّطرِ الخامِسِ، وَهيَ (البَغِيُّ المتَسَاهلَةُ في النَّهَار) في بدايَةِ السَّطرِ السَّادسِ، وَفي ارْتدادٍ أبعَدَ ، يَعُودُ ضميرُ الغائبِ في السَّطرِ السَّابعِ إلى عائِدِه في السَّطرِ الأوَّلِ؛ الَّذي يعود – كَمَا يَكْشِفُ عُنوانَ النَّصِّ- على: (صَديْقِ السِّينيَّاتِ)، وَفي السَّطرِ الثَّامنِ يُوالي هَذَا الضَّميرُ حُضُورَهُ – وَمَعَ كُلِّ حُضورٍ يَتَزَايدُ التَّراكُمُ المعرفيُّ بِهِ؛ فَيَنْفَصلُ هَذَا الضَّميرُ البَارزُ. بهذَا البنَاءِ السَّرديِّ المحسوبِ، يُحقِّقُ النَّصُّ شِعريَّتَهُ، وَيَتَمَيَّزُ أداؤهُ السَّرديُّ عنْ خطِّيَّةِ الأدَاءِ السَّرديِّ النَّثريِّ.

بَيْنَمَا يكشِفُ النَّموذَجُ الثَّاني، عنْ توجُّهٍ آخَرٍ، لِتَحْقيْقِ شِعريَّةِ السَّردِ الشِّعريِّ، وَالفِعْلُ الشَّعريُّ هُنَا – في  إطَارِ مَوْقِفِ البَوْحِ – يَنْزَعُ إلى فِعْلِ الحكْي مُعْتَمِداً – أيضًا على خَصِيْصَةٍ شِعريَّةٍ خَالِصَةٍ في بناءِ خِطَابِهِ هِيَ التَّوازي؛ التَّوازي هُنَا يقومُ على تِكرَارِ صِيَغٍ؛ كَصِيْغَةِ الفِعْلِ الماضِي: (أوْهَمُوني / أوْهَمُوا / اسْتَلقوا / تَأمَّلوا)، وَصِيْغَةِ الحَالِ: (رَاكِضًا / مُلْتَقِطًا)، وَتِكرَارِ التَّراكيبِ؛ كقوْلِهِ : (مِنْ مَشِيْئَةٍ إلى مَشِيْئَةٍ، وَمِنْ حِبرٍ إلى حِبرٍ)، بالإضَافةِ إلى تِكرَارِ الإيقَاعِ النَّاتجِ عنْ انْتِظامِ النَّبرِ، وَيَنْزَعُ الأدَاءُ السَّرديُّ نزوعًا وَاضِحًا إلى تحقيْقِ شِعريَّتَهُ عَبْرَ إمكانيـَّاتِ شِعْـرِ اللغَةِ؛ فَيَحْتَفِي بالمجازٍ اللغَويِّ، الَّذي يقومُ أغْلَبُهُ، هُنَا، على عِلاقةٍ (جَديدَةٍ) لِلنَّعتِ بِالمنعوتِ؛ (الطَّيرَانُ البَاحِثُ عنْ رِيشٍ/النَّدَى الفَاجِرِ/صَبَاحٌ مَسْكوبٌ منْ إبْريْقٍ/ قَمِيْصًا غريقًا/الحَكَمُ الذَّابلُ/الضَّوءُ الممسِكُ بزَانتِهِ)، كَمَا يستفيْدُ، أيضًا، مِنْ تقنيَةِ التَّفصيْلِ بَعْدَ الإجمالِ في تفتُّحِ الحركَةِ السَّرديَّةِ . كأنَّ السَّردَ الشِّعريَّ هُنَا، بهذَا الأدَاءِ يكشِفُ عنْ جُنُوحِ الذَّاتِ الشَّاعرةِ إلى إنجازِ قَصِيدَةِ نَثْرٍ عربيَّةِ الأصُولِ؛ تَسْتَمدُّ حَدَاثَتَهَا مِنْ تَعَامُلِهَا اللغَويِّ.

اقْتَرَبَ النَّموذجـَانِ – في أداءَينِ مختلِفَينِ – مِنْ حَالةِ الشِّعرِ بِاقترَابهمَـا مِنْ حَالَـةِ الغِيَابِ، وَمِنْ صَوْتِ البَاطِنِ، وَهُوَ مَا يَكْشِفُ عنْ النَّفاذِ إلى أجْوَاءِ الشِّعريَّةِ؛ ليُصْبِحَ الخارجُ ذَاتُهُ مُتَحقِّقًا، وَبَاديًا، بوعي الدَّاخلِ؛ غيرَ أنَّ النَّموذَجينِ افْتَرَقا في طرائقِ الأدَاءِ؛ ففي حِيْن نَزَعَ الأوَّلُ إلى حِكائيَّةِ السَّردِ وَوقائعيَّتهِ الحياتيَّةِ المعيشَةِ، نَزَعَ الثَّاني – في سَرْدِهِ إلى تَشْكيلاتهِ اللغَويَّةِ، وَفي حِين نَزَعَ الأوَّلُ إلى مَشْهَدِ الوَاقِعِ المعيْشِ، عَمَدَ الثَّاني إلى عَوَالمِ اللغَةِ وَمجازَاتِهَا، وَفي حِيْن عَمدَ الأوَّلُ إلى علاقاتِ التَّوازي في تحقيْقِ شِعريَّةِ السَّردِ وَانْتِظامِ خِطَابِهِ مِنْ الدَّاخلِ؛ ليُحَقِّقَ صُورَتَهُ السَّرديَّةَ البَصَريَّةَ ، جَنَحَ الثَّاني إلى المجازِ اللغَويِّ – بالإضَافَةِ إلى التَّوازي – لِيُجَسِّدَ، مِنْهُ نَسِيجَْهُ السَّرديَّ المدِهْشَ؛ اسْتِنَادًا إلى طَاقاتِهِ التَّاريخيَّةِ.

 

تَجَلِّياتُ البِنيَةِ السَّرديَّةِ في  قَصيدَةِ النَّثرِ

 

تَتَجَلَّى البنيةُ السَّرديَّةُ عَبْرَ أدَاءَينِ أساسِيَّينِ؛ أدَاءِ الحكايَةِ وَأدَاءِ الحَكْي؛ إذْ لا يكونُ سَرْدٌ إلاَّ بأحَدِ الاثنيْنِ، وَيُشَاركُ في تَشْكيلِ البنيَةِ السَّرديَّةِ مجموعةٌ مِنْ العناصِرِ السَّرديَّة مِثْـل: السَّارد، وَالمسْرُود لَهُ، وَالزَّمَن السَّرديّ، وَالرُّؤيَة السَّرديَّة، وَالفَضَاء السَّرديّ، وَإنْ كَانَ مِنْ المتَحَقَّقِ أنَّ أحَدَ العناصِرِ يَظَلُّ مُهَيْمِنًا على فِعْلِ السَّردِ، وَفي الغَالِبِ يَكونُ السَّارِد، فَـ “العَمليَّةُ السَّرديَّةُ مَوْكُولةٌ إلى شَخْصيَّةِ السَّاردِ، مِمَّا يجعلُ النَّصَّ السَّرديَّ عَامةً يخضعُ لِسُلطةِ السَّاردِ، سَوَاء كَانَ صَريحًا، أوْ مُضْمَرًا، أوْ افْتِرَاضِيًّا”(25)، وَإذَا كَانَ السَّاردُ هُوَ الهيئَةُ المسئولةُ عَنْ عمليَّةِ السَّردِ بكامِلِهَا، فإنَّ الزَّمن السَّرديَّ مِنْ الأهميَّةِ بحيثُ رَأى فيْهِ تُودوروف أهَمَّ مُكوِّنٍ لِلْخِطَابِ.(26)

 

تجلِّيَاتُ البِنيَةِ السَّرديَّةِ في قصيدَة النَّثرِ تَتَّضحُ في النَّموذَجَيْنِ الشِّعريَّيْنِ الآتيينِ: أوَّلُهُمَا لِوديع سَعادة، وَالثَّاني لمحمَّد صَالح:

-1-

 

من نصِّ : ” لحظَاتٌ مَيِّتةٌ “، لِوديع سَعادة (1948- ):

” اخْتَفَى الشُّعَاعُ فَجْأةً. أعتقِدُ أنَّ غَيْمةً تَعْبُرُ

فَوْقَ البَيْتِ . أشِعَّةُ الشَّمْسِ تخْتَفي فقَط

لسَبَبَيْنِ: إمَّا يحْجُبُهَا الغَيْمُ أوْ يكونُ الوَقْتُ لَيْلاً.

وَبمَا أنْ الآنَ صَبَاح. الأرْجَحُ أنَّ غيمةً تَعْبُرُ.

 

رُبَّمَا قريبًا سَتُمطِرُ. حينئذٍ أسْتَطيعُ من

نافذتي، أنْ أتأمَّلَ المَطَرَ. الحَياةُ جَميلةٌ إلى دَرَجةِ

أنَّ الواحِدَ يستطيعُ، إذَا سَاعَدَتْهُ الظُّروفُ، أنْ

يتأمَّلَ المطَرَ. بُرْجي مَائي، وَأظنُ أنَّ كوْكبًا في

الفَضَاءِ يذوبُ أحْيانًا وَيَسيلُ هُنَا أمَامي. وَهْمٌ

لَطيفٌ أحْمِلُه وَأتقدَّمُ إلى النَّافذةِ: أفتحُ الزُّجَاجَ

وأنْظُرُ إلى السَّيارَاتِ وَالإسْفلتِ الجَافِّ وَالعُمَّالِ

المُتْعَبيْنَ . لمَاذَا يَتْعَبُ هؤلاءِ العُمَّالُ؟، أنا نَفْسِي

كُنْتُ أَتْعَبُ أحْيَانًا ويَنْضَحُ مِنّي العَرقُ، لَكنَّني

كُنْتُ أنْدَمُ بَعْدَ ذلكَ وَأسْتَريحُ سَنَوَاتٍ . عَرَقُ

الجِبَاهِ مَقِيتٌ، لا بلْ مُخْجِلٌ . وشيءٌ مُقَزِّزٌ أنْ

تَنْهَضَ مِنْ النَّومِ لِتَعْريق نَفْسِكَ . تَمُرُّ سَيَّارَةٌ

وَتترُكُ وَرَاءَها  غُبَارًا خَفيفًا. هِرَّةٌ نَائمَةٌ في

الزَّاويَةِ تَفْتَحُ عَيْنَهَا ثُمَّ تُغْمِضُهُمَا. أُغْلِقُ النَّافِذةَ

 وأعودُ ببُطْءٍ.”(27)

 

تَتَجَلَّى البنيَةُ السَّرديَّةُ، هُنَا، عَبْرَ إجْرَاءَاتٍ بنائيَّةٍ وَتطريزيَّةٍ، تقومُ على تكرارِ بنى مُحَدَّدَةٍ  على مَسَافاتٍ ، مِثْل بِنْيَة الاحْتِمَالِ: (رُبَّمَا قريبًا)، (أظنَّ أنَّ كَوْكبًا)، ثُمَّ تَوَازي التَّركيبِ؛ القائمِ على الجُمَلِ الاسميَّةِ المبثوثةِ في السِّياقِ: (الحيَاةُ جميلةٌ – بُرْجِي مَائيٌ- وَهْمٌ لطيفٌ – عَرَقُ الجبَاهِ مَقيْتٌ)، وَالانتقالات مِنْ حَالٍ إلى حَالٍ؛ فَمِنْ الاحْتِمَالِ إلى التَّقريرِ، وَمِنْ الدَّاخِلِ إلى الخارَجِ، وَهَذَا الارْتِدادُ بَيْنَ العَالَمَيْنِ يقومُ بمزجِ الزَّمنيْنِ: الدَّاخليِّ وَالخارجيِّ، وتَنْدُرُ حروفُ العطفِ، وَتَتَحَقَّقُ شِعريَّةُ السَّردِ هُنَا اعْتِمَادًا على المونتاجِ المكانيِّ أوْ مَا أسْمَاهُ روبرت همفري بـ (المشْهَدِ المضَاعَفِ)؛ حَيْثُ يبقى الزَّمنُ ثابتًا وَيَتَغَيَّرُ المكانُ، وَثَمَّةَ مُرَاوَحَةٌ بَيْنَ (الزَّمنِ النَّفسيِّ) و(الزَّمنِ الخارجيِّ)؛ الأوَّلُ فنيٌّ وَالثَّاني وَاقعيٌّ، وَيَنْزَعُ (الزَّمنُ السَّرديُّ) إلى مَزْجِ هَذَيـْنِ الزَّمَنيْنِ، وَالتَّنقُّلِ بَيْنَهُمَا ؛ ليَجْعَلَ النَّصَّ في حَالةِ حَرَكةٍ دَائبَةٍ.

والسَّاردُ، هُنَا، هُوَ السَّاردُ الذَّاتيُّ، المشارِكُ في الحَدَثِ، وَهُوَ بالطَّبعِ “كائنٌ مِنْ وَرَقٍ”؛ أيْ تقنيَةٌ سَرْديَّةٌ، يُجَسِّدُ اللحظَةَ الشِّعريَّةَ بما يختلجُ فيْهَا، بِضَميرِ المتَكَلِّمِ، وَتَصِلُنَا الرُّؤى الممتزجَةُ عَبْر السَّارِدِ نَفْسِهِ؛ فَهُوَ المسئولُ عنْ حَرَكةِ السَّردِ، وَإدارةِ العمليَّةِ السَّرديَّةِ كُلِّهَا بما فيْهَا التَّنظيمُ الدَّاخليُّ لِلخِطابِ، وَيَنْجَحُ هَذَا السَّارد، بتفاصِيلهِ الدَّقيقَةِ المهَنْدَسَةِ، في تَشْكِيْلِ حَالـَةِ العُزْلَةِ، وَالوحدَةِ، وَالصَّمتِ.

والفَضَاءُ السَّرديُّ هُوَ غُرْفَةُ الشَّاعرِ، المُشْرَعَةُ على العَالمَِ الصَّاخِبِ، وَالمغلَقـَةُ، أيضًا، دُوْنَهُ، هِيَ عَالَمُ الذَّاتِ الشَّاعرةِ وَمَنْفَاهَا، وَتَتَأرْجَحُ هَذِهِ الذَّاتُ بينَ عَالمَيْ الحُجْرةِ وَالشَّارعِ، رَاصِدَةً  مَا فيْهِمَا، رَصْدًا يعكسُ مَا يَعْتَريْهَا، هَكَذَا تَظَلُّ الذَّاتُ الشَّاعرَةُ على مَقْرُبةٍ مِنْ النَّافذةِ؛ الَّتي تُشَكِّلُ منطقةً فاصِلةً بَيْنَ الحُجْرَةِ وَالشَّارعِ، وَفي هَذِهِ المنطقةِ تُرفرفُ الذَّاتُ الشَّاعرَةُ وَلا تكفُّ عَنْ القَلقِ وَالهواجِسِ.

وَالرُّؤيَةُ السَّرديَّةُ تَرْتهنُ بموقفِ السَّارِدِ، وَتتبَّدى مِنْ اخْتِيَاره زَاويَةَ السَّردِ، وَعَرضْهِ، وَهَنْدَسَتِه إيَّاهُ؛ حَيْثُ تُهَيْمِنُ حَالةُ العُزلةِ على هَذِهِ الذَّاتِ، في حُجْرَتها، وَتَخْضَعُ للاحْتِمَالاتِ؛ فَهِيَ حَتَّى لا تُوقِنُ بِسَبَبِ اخْتِفَاءِ شُعاعِ الشَّمسِ، هِيَ بمعزلٍ، إذًا، عَنْ الحيَاةِ، وَتَقْتَربُ مِنْ النَّافذةِ لِتَرَى حَرَكَةَ الحيَاةِ وَتَرْتَدّ سَريعًا إلى سُكونِهَا وَهَوَاجِسِهَا وَتَدَاعيَاتِهَا، هَكَذَا يُركِّزُ الخِطابُ الشِّعريُّ هُنَا على تَشْكِيْلِ حَالَةِ الوحدةِ المطلَقَةِ؛ فَالتَّفاعُلُ الوحِيْدُ لِلذَّاتِ الشَّاعرةِ الوحيدةِ مَعَ العالَمِ يأتي كَفِعْلِ مُشَاهَدَةٍ ، عَبْرَ النَّافذةِ ، تُراقبُهُ مِنْ بَعيْدٍ وَهِيَ غارقةٌ في هَوَاجِسِهَا، وَمِنْ الجدَلِ الحادِثِ بَيْنَ الغُرفةِ وَالشَّارعِ وَبَيْنَ الدَّاخلِ وَالخَارجِ وَبَيْنَ اليقيْنِ وَالاحْتِمالِ، تَتَزَايدُ دَرَجةُ التَّوتُّرِ الشِّعريِّ، وَتَتَكثَّفُ حَالةُ العُزلةِ وَتَتَجَمَّعُ خُيُوطُهَا المتعدِّدةُ في مَرْكَزِ الدَّائرةِ، وَيأتي خِتامُ المقطعِ كَلَحْظَةِ إسْدَالِ السِّتارِ عَلى مَشْهَدٍ يَنْطَفِئُ تَدْريجيًّا.

وَالمسْرُودُ لَهُ؛ بِاعْتِبَارهِ تقنيَةً سَرديَّةً؛ لا تَتَجَاوزُ عَالمَ السَّردِ، وَكائنًا مِنْ وَرَقٍ، وَلَيْسَ قارئًا وَاقعيًّا، غَيْرُ وَاضِحٍ، في مَوْقعِ النَّصِّ السَّرديِّ هُنَا؛ فلا تَدُلُّ عليْهِ مُعْطيَاتٌ نَصيَّةٌ مُحَدَّدةٌ، غَيْرَ أنَّ وُجُودَهُ مُتَحَقَّقٌ مِنْ اعْتِبَارِهِ المخصوصَ مِنْ عَمليَّةِ السَّردِ، وَهُوَ مَنْ تَوَجَّه إليْهِ السَّاردُ؛ حَيْثُ يَقَعُ الطَّرفانِ في مُسْتَوىً سَرْدِيٍّ وَاحدٍ، وَهَذَا المسْرُودُ لَهُ في حَالةِ اسْتِغْرَاقٍ تَامَّةٍ وَامْتِثَالٍ لما يَنْقُلُهُ السَّاردُ لَه في حميميَّةٍ وَدِقَّةٍ.

 

-2-

 ” شَرَابُ اللوزِ”، لمحمَّد صَالح (1942-2009):

” عِنْدَمَا مَرضَتْ جَدَّتي

حَمَلنَاهَا إلى دَارِنَا

كانَتْ وَحِيْدَةً

وَكنَّا يَتَامَى

مَدَّدنَاهَا في قاعَةِ الفُرْنِ

أسْفلَ خزَانَةِ الكُتُبِ في الحَائطِ

وَغَطَّينَاهَا بِحِرَامِ أبي

ثُمَّ جَاءَ الكبَارُ

وَوَصَفُوا لَهَا شَرَابَ اللوزِ

قالوا إنَّ جَدَّتي عَادَتْ طفلةً

وَأنَّهُ أقربُ مَا يَكونُ إلى لبَنِ الأمِّ

وَلشُهُور طويلةٍ

ظَلَّتْ جَدَّتي تُحْتَضَرُ

كانَتْ معدتُهَا تَطرُدُ كُلَّ شَيءٍ

حَتَّى ذَلكَ الشَّرابَ الحَليبيَّ

الَّذي كُنَّا نَشمُّ رَائحَتَهُ في أنْفَاسِهَا

وَكَانَ وَجْهُهَا الأبيضُ يَزْدَادُ بَيَاضًا

كُلَّمَا نَصَلتْ حِنَّاءُ شَعْرِهَا

وَكانَتْ تَخْرُجُ مِنْ غَيْبُوبَةٍ

لتدخُلَ في أخْرَى

وَكلّ مَرَّةٍ

كَانَتْ تُكلِّمُ آخريْنَ لا نَرَاهُمْ

وَتُنَادينَا بغيْرِ أسْمَائنَا

حَتَّى كَانَ ذاتَ ليْلٍ

كَانَ أخي يَدْفنُ طفلةً في الحَائِطِ

عِنْدَمَا اسْتَيْقَظَتْ جَدَّتي

وَطَلَبَتْ أنْ نَفْتَحَ المَقْبَرَةَ

كَانَ الطَّريقُ طويلاً

وَكَانَ هُنَاكَ مَا يَكْفِي كَلَحْدٍ

لَكنَّهَا انتزعَتْ الطِّفلةَ مِنْ الشَّقِّ الضَّيْقِ

وَقَالَتْ إنَّهَا سَتَأخُذُهَا مَعَهَا

وَفي الصَّباحِ

مَاتَتْ جَدَّتي .”(28)

 

يَكْشِفُ هَذَا النَّصُّ عنْ وَلَعٍ شَديدٍ بِبِنَاءِ هَارمُوني، يَسْتَنِدُ إلى الميثولوجيَا الرِّيفيَّةِ، بِاعْتِقَادَاتِهَا شَديدَةِ الخصوصيَّةِ، في إطَارٍ حِكائيٍّ يَنْزَعُ إلى وَقائعيَّةِ السَّردِ، بِتَفَاصيلِهِ الرِّيفيَّةِ المصريَّةِ الخَالِصَةِ.

الزَّمَنُ السَّرديُّ، هُنَا، يُوازي زَمَنَ المتْنِ الحِكائيِّ وَيُوائِمُهُ؛ فَيَمْضِي بِالتَّسلسُلِ المنطقيِّ، ذَاتِهِ؛ ” لِيُصْبِحَا مَعًا زَمَنًا وَاحِدًا، يُكرِّرُ الأوَّلَ مِنْهُمَا الثَّاني؛ لِدَرَجةٍ لا نَشْعُرُ مَعَهَا بأيِّ مجهودٍ لِلسَّارِدِ فيِ إعَادَةِ خَلْقِ الحكايَةِ”(29)؛ فالسَّاردُ يَرْغَبُ في المحافظَةِ على خَطيَّةِ الحكايَةِ وَتَتَابُعِهَا، وَاسْتِحْضَارِ مَسَارِهَا الطَّبيعيِّ المتسَلسِلِ كَمَا حَدَثَ؛ وَلهذَا يُرَكِّزُ السَّاردُ على صِيْغَةِ الماضِي؛ الَّذي يَتِمُّ اسْتِرْجَاعُ تفاصِيله، بِتَتَابِعِهَا السَّرديِّ، في نبرةٍ أسْيَانةٍ، خَافتَةٍ، وَمِنْ البدَايَةِ يلجُ النَّصُّ من الزَّمنِ الحاضِرِ: زَمَنِ الكَتابَةِ ، إلى الزَّمنِ الماضِي: زَمَنِ الحكايَةِ، مُباشَرَةً، بعدَ أوَّلِ مُفْرَدَةٍ: ” عِنْدَمَا“، لِلمثُولِ في حَضْرَةِ هَذِهِ الفترةِ بِكلِّ تَفَاصِيلِهَا: ” عِنْدَما مَرِضَتْ جَدَّتي“، وَتَدْريجيًّا يَتِمُّ اسْتِدعَاءُ هَذَا الماضِي الحميْمِ المفقودِ في الحاضِرِ. السَّردُ هُنَا مَنْطِقيٌّ، عَمُودِيٌّ، مُتَسَلْسِلٌ، وَمُتَدَرِّجٌ في الزَّمنِ الماضِي ” سَِرْدٌ اسْتِذكَاريٌّ“، وَالزَّمَنُ هُنَا أقْرَبُ إلى الزَّمَنِ الفيزيقيِّ، في حَرَكتِهِ، وَتَدَفُّقِهِ فيخَطٍّ مُسْتَقيْمٍ.

وَالفَضَاءُ السَّرديُّ، هُنَا، دَارٌ ريفيَّةٌ، مَشْمُولَةٌ بِاعْتِقَادَاتٍ شَديدَةِ الخصوصِيَّةِ، تميِّزُ الرِّيفَ المصريَّ؛ الدَّارُ هُنَا تَتَّضحُ بملامِحِهَا الرِّيفيَّةِ الخالصَةِ: قاعَةِ الفُرْنِ- خَزَانَةِ الكُتُبِ في الحائِطِ – الحِرَامِ- الحنَّاءِ، وَتَفَاصِيْلُ السَّردِ الدَّقيقَةِ؛ كَدَفنِ الوليْدِ في حَائطِ الدَّارِ، تُرَسِّخُ لطبيعَةِ هَذِهِ الدَّارِ وَطُقُوسِهَا الحمِيْمَةِ الخاصةِ.

وَالسَّاردُ، هُنَا، هُوَ سَارِدٌ ذاتيٌّ، مُشَارِكٌ في الحدَثِ، وَرَاصِدٌ لَهُ، وَمُحرِّكٌ للسَّردِ، وَبانٍ لَهُ؛ يَسْتَدْعِي تَفَاصيْلَ مَرَضَ الجدَّةِ وَمَوْتِهَا، وَيَقُومُ بإدَارَةِ فِعْلِ السَّردِ، مُوازِنًا بَيْنَ زَمَنِ السَّردِ وَزَمَنِ الحكايَةِ ،وَفي النَّصِّ مَا يَدُلُّ على أنَّهُ يَسْتَدْعي مَاضيًا بَعيْدًا؛ حَيْثُ يقولُ: (كُنَّا يَتَامَى)، وَيَقُولُ: (جَاءَ الكِبَارُ)، هَكَذَا يُحاولُ السَّارِدُ (كتقنيَةٍ) أنْ يَتَّحدَ مَعَ السَّارِدِ (الشَّاعِرِ) في رَصْـدِ (السَّاردِ)(المُشَخْصَنِ في الماضِي)؛ لِيُعطيَ النَّصَّ مِصْدَاقيَّتَهُ وَمَرْجِعيَّتَهُ.

وَالمسْرُودُ لَهُ، يَتَبَدَّى في مَوْقعيَّةِ التَّلقِّي؛ حَيْثُ تُقَدَّمُ إليْهِ هَذِهِ التَّفاصيلُ الكامِلَةُ، وَمِنْ الوَاضِحِ أنَّهُ لمْ يَكُنْ يَعْلَمُ عَنْهَا مِنْ قَبْلُ شَيْئًا؛ فَالسَّاردُ لا يحُيلهُ لأيِّ جُزْئيَّةٍ مِنْهَا، إنَّهُ يَتَلَقَّى الحكايَةَ كامِلةً، وَلا يُعَزِّزُ حُضُورَهُ سِوَى هَذَا البَوْحِ لَهُ بِكُلَّ هَذِهِ التَّفاصيلِ المرْويَّةِ.

وَالرُّؤيَةُ السَّرديَّةُ؛ تَتَكَشَّفُ مِنْ ترتيبِ الأحْدَاثِ، مِنْ مَنْظُورِ السَّاردِ المشَارِكِ، ترتيبًا يُحَافِظُ على خَطِّيَّةِ زَمَنِ الحكايَةِ ؛ فَيَرْصُدُ الجدَّةَ في المشْهَدِ الأخِيْرِ، وَهِيَ تَذْوي شَيئًا فَشَيئًا، حَتَّى النِّهايَةِ، فَتَتَكَشَّفُ لوعةُ الرَّحيلِِ؛ الَّتي لا يَزَالُ السَّاردُ يحمِلُهَا بِتَفَاصِيْلِهَا، بِكُلِّ دِقَّةٍ، مُحْكِمًا القَبْضَ عَلَيْهَا.

ثَمَّةَ الكِتابَةُ في مُوَاجَهَةِ الموْتِ.

السَّردُ في مُوَاجَهَةِ الفَنَاءِ.

 

مُرَاوَغَاتُ السَّردِ الشِّعريِّ

 

لِكَي يُحَافِظَ السَّردُ الشِّعريُّ على خُصوصِيَّتِهِ، يَنْحُو، في كثيرٍ، إلى إجْرَاءَاتٍ سَرْديَّةٍ ، تخرجُ على نمطيَّةِ الأدَاءِ السَّرديِّ النَّثريِّ، عَلى المسْتَوَى النَّظميِّ تحديدًا، مُسْتَغِلاًّ في ذَلكَ آليَّاتِ الحَذْفِ، وَالفَصْلِ وَالوَصْلِ، وَتَقْنيَاتٍ أخْرَى، سِنيمَائيَّةٍ؛ كَالمونتاجِ، وَغَيْرِ ذَلكَ مِمَّا يُعَزِّزُ حُضُورَ الفِعْلِ السَّرديِّ أكْثَر مِنْ الحدَثِ الحكائيِّ، وَيَظَلُّ لِكُلِّ تجربَةٍ نِظَامُهَا التَّركيبيُّ الخاصُّ، وَبالتَّالي خُصوصِيَّتُهَا البنائيَّةُ.

وَقَدْ ظَهَرَتْ مُحَاوَلاتٌ لتدميرِ وَقائعيَّةِ الحَكْي، فيِ السَّردِ، وَإربَاكِ الحِكايَةِ، أوْ تَشَظِّيهَا، وَإضْمَارِ الكثير مِنْ تَفَاصِيلِهَا، وَتَشْتِيْتِ مَرْكزِهَا، وَإربَاكِ التَّتابُعِ الزَّمني للأحْدَاثِ، وَإقامَةِ فَجَوَاتٍ وَانْتِقالاتٍ وَانْقِطَاعَاتٍ مُتَعَدِّدةٍ دَاخِلَ الخِطابِ، بحيثُ يُضْمِرُ كثيرًا من المحكيِّ عَنْهُ، كأنَّهُ يفترضُ أنَّهُ يَتَوَجَّهُ إلى مَسْرُودٍ له عليْمٍ بِأطْرَافِ الحكايَةِ؛ فَيُقدِّمُ لَهُ خِطابًا عَنْ الخِطَابِ، أوْ يَفْتَرضُ أنْ يُشَاركَ المتلقي في سَدِّ هَذِهِ الفَجَوَاتِ السَّرديَّةِ، وَإتمامِ أجْزَاءِ الخِطابِ، حَتَّى تَكْتَمِلَ حَرَكَتُهُ السَّرديَّةُ، وَبالتَّالي تَتَشَكَّلُ الدَّلالاتُ، وَتَكْمُنُ الصُّعوبَةُ أحْيَانًا فيكَوْنِ السَّارَدِ يُحِيْلُ إلى تَاريخِهِ الشَّخصيِّ بِإشَارَاتٍ سَريعَةٍ، وَمِنْ هُنَا يَظَلُّ لِلخِطابِ حُضُورُهُ أكْثَرَ مِنْ مَوْضُوعِ الحكْي.

يَتَجَلَّى ذَلكَ بِشَكْلٍ خاصٍّ في عَمَلينِ شعريَّينِ؛ نَقْد الألم ، لعبَّاس بيضون، وَ: يُوجَد هُنَا عِمْيَان، لحِلمي سَالم .

عِنْدَ عبَّاس بيضون(1947-)، يبدو السَّاردُ كأنَّهُ يُقدِّمُ انطباعًا عن المحكيِّ عنه، يُركِّزُ فيْهِ على أجْزَاء مُحَدَّدةٍ مِنْ الكَلامِ، بحركةٍ اسْترجَاعيَّةٍ، في الغَالبِ، تَتَشَكَّلُ الذِّكرى، في عِبَارَاتٍ تَتَدَاخَلُ فيْهَا الأزْمِنَةُ وَالوَقائعُ وَتَتَوَالى فيْهَا الضَّمائرُ الَّتي لا تُحيلُ إلى مَعْلُومٍ:

 

مِنْ جِهَتيْنِ في الظَّلام

 

” حِيْنَ قتلوا الصَّديقَ اسْتَرَدُّوهُ. كَذَلكَ سَيُعيدُونني إلى أهْلي. الذِّكريَاتُ خَالاتٌ تَنْشَغلنَ بتَطْريَةِ مَرَاياهُنَّ وَلا تُشْبهنَّ سِوَاها. كُنْتُ أنتظرُ زيَارَاتِهِ. نورَهَ أوْ صَمْتَهُ أوْ رَائحَتَهُ، كَمَا كانَتْ نَظْرَتَهُ تُصَادفُ وَجْهي مِرَارًا وَنَحْنُ نُحَدِّقُ مِنْ جهَتيْنِ في الظَّلامِ. حِيْنَ نَعُودُ لا نَخْشَى منْ اللا شَكلِ. يُمْكنُ لكثيريْنَ أنْ يَقْفزُوا منْ محطَّةٍ إلى غيرِهَا. في الأرَقِ الموصُولِ لا ضَرُورةَ أوْ نِهَايَةَ للمصَابيحِ. فَقَط نورٌ مُتَسَاوٍ وَاحدٍ. أحيانًا أفكِّرُ أنَّ الفلاحيْنَ نَفَخُوا الأرْضَ منْ أمَامِنَا.“(30)

 

هَكَذَا آثَرَ عبَّاس بيضون أنْ يُشَيِّدَ نَصَّهُ السَّرديَّ، بقليْلٍ منْ الجُمَلِ المتَدَاخلةِ، أغْلبُهَا خَبَريٌّ، وَبَعْضُهَا مُضَمَّخٌ بالمجازِ، في نَسيْجٍ سَرْديٍّ انطبَاعيٍّ. الحكايَةُ ذَاتُهَا غيْرُ تامَّةٍ في النَّصِّ، وَالضَّمائرُ لا تُحيْلُ إلى مَعْلُومٍ، وَالشَّاعرُ، وَحْدَهُ، صَاحِبُ الحقِّ فيفَكِّ شَفَرَاتِ النَّصِّ، وَإتمامِ فَجَوَاتِ الحكايَةِ، تَتَجَاورُ شَذَرَاتُ الجُملِ، وَتَتَوَاصَلُ نثارَاتُهَا، وَتَبْقَى دَائمًا تفاصِيلُ سَرديَّةٌ أخْرَى مُضْمَرَةٌ، وَغَيْرُ مَعْلُومَةٍ سِوَى للسَّاردِ، وَهُوَ لا يُريدُ الحكايَةَ، بَلْ تَأْسِيْسَ خِطابٍ شِعريٍّ سَرْديٍّ بِشَظايَاهَا، خِطابٍ يَتَشَكَّلُ مجازُهُ منْ علاقةِ المنصُوصِ عليْهِ وَالمضْمَرِ، وَالظَّاهرِ وَالبَاطنِ، وَهُنًَا يَعْمَلُ المونتَاجُ وَالكُولاجُ على تَشْكيلِ هَذَا الفَضَاءِ المجازيِّ الغَرَائبيِّ، وَيَبْدُو هَذَا في النُّصوصِ التَّاليَةِ، على سَبيْلِ المثالِ:

 

النَّدمُ مِهْنَةُ الآخَريْنَ

 

” قَتَلُوا أبنَاءَهُمْ  بالغلْظةِ ذَاتِهَا الَّتي قاتَلوا بهَا أعْدَاءَهُمْ. مَعَ ذلكَ، الأسْرَةُ بكامِلِهَا تتزَيَّنُ في الدَّاخلِ. أحْيَانًا لا أصَدِّقُ أنَّ القطعَةَ الأكبرَ تُثيرُ صَخَبًا. كلُّ هَذَا لمْ يُخلِّفْ شَبَحًا. النَّدمُ بالفعلِ مِهْنَةُ الآخَريْنَ.”(31)

 

النَّردُ

 

” القممُ مَمْلُوكةٌ يَا سَيِّدي. الحُقولُ للأقزَامِ. أشْعرُ أنَّني أحْتاجُ لعَددٍ أكْبَرَ منْهَا كيْ أرَتِّبَ مَكتبةَ أبي. أُفرِّقُ أخطائي وَحيْنَ أفرغُ منْهَا لا يَعُودُ سِوَى ذلكَ النَّردُ وَحْدَهُ في قلبي. لقدْ صَنَعُوا دُونَ أنْ أدْري الدَّقيقةَ الكاسِرَةَ.“(32)

 

دقيقةُ العُبُور

 

” عَصَا أبي تَقُودُني إليْهِ: نلتقي عنْدَ نظارَتيهِ، وَمنْهُمَا نَعْبُرُ إلى السَّمَاءِ ، يَدًا بيدٍ. الأرْضُ وَالكُتُبُ وَالأصْدقاءُ دَقَائقُ مَاضِيْنَا. دَعْ حِدْوتَكَ في قلبي يَا سَيِّدي. سَاعِدْني عَلى هَذَا الحِقْدِ.”(33)

 

أمَّا عندَ حِلمي سالم (1951-2012)، فإنَّ الخِطابَ يُبَالغُ في إضْمَارَاتِهِ وَفَجَوَاتِهِ وَكُولاجاتِهِ؛ فَثَمَّةَ تفاصِيلُ سَرديَّةٌ كثيرةٌ مُسْتبعَدَةٌ مِنْ الخِطابِ، وَانقطاعَاتٌ وَاضِحَةٌ، وَتَدَاخُلاتٌ جَليَّةٌ، وَبرغْمِ حِكائيَّةِ السَّردِ- في: يُوجَدُ هُنَا عِمْيَان – إلاَّ أنَّه لا يَقُصُّ القِصَّةَ، وَإنَّمَا يَتَمَحْورُ حَوْلَهَا؛ فَيَكْشِفُ أشْيَاءَ وَيُضْمِرُ غَيْرَهَا، وَلا يكفُّ عنْ المراوَغَةِ، وَممَّا يُزيدُ المشهد السَّرديّ إثارةً أنَّ الوَقائعَ المسْرُودَةَ شَديدَةُ الذَّاتيَّةِ وَالخصوصيَّةِ وَالتَّشظِّي. ظاهِرُ الأمْرِ أنَّ ثمََََّةَ تَدَفَّقًا سرديًا، غَيْرَ أنَّ الوُلوجَ إليْهِ يكشفُ عنْ انقطاعَاتِهِ وَفَجَواتِهِ رَغْمَ التئامِهِ وَاتِّصَالاتِهِ:

” لا مَانعَ أنْ يُصَارحَا الطَّبيْبَ بالفِقْرَةِ المَعْطوبَةِ العُليَا في سِلْسِلةِ الظَّهرِ، بَدَلاً منْ أنْ يُمَوِّهَا عليْهِ بإفْهَامِهِ أنَّ إطفاءَ السَّجائر في اللحْمِ كَانَ تَمْثيليَّةً تربويَّةً. هِيَ مَعْذُورَةَُ في الخَوْفِ مِنْ فقدانِهَا، نَظَرًا لدَوْرِهَا الجَوْهريِّ إذَا كَانَ الفُسْتانُ بسَبْعَةٍ منْ الخَلفِ. وَإنْصَارَ لابُدَّ مِنْ بَتْرِهَا اقتراحًا على الجَرَّاحِ أن يُثبِّتَ مكانَهَا كُرَةَ بنجٍ بيضَاءَ تقومُ بنفسِ الدَّور. فَلَوْ أنَّهُ السَّرَطانُ لَكَانَ أمْرًا بَديعا. إذْ سَيَمْنَحُ الدِّبلومَاسِيِّينَ تكييفًا للشَّائعةِ التي تقولُ أنْ عِنْدَهَا جُرْثُومَةً تَحْتَ شَعر السِّرِّ، كَمَا أنَّ حَديثَهُمَا عَنْ الإخفاقِ سِوَى يَحْظى بمَصْدَاقيَّةٍ لمْ تُحقِّقْهَا حيْنَمَا أكَّدَتْ مِرَارًا أنَّهَا تكرَهُ العيشَ مَعَ شُرَكَاءَ.”(34)

 

هَكَذَا يُشَدِّدُ النَّصُّ على انغلاقِهِ على تفاصِيلَ خاصَّةٍ، مُقَدِّمًا مَا يُسَاهمُ في تَشْكيْلِ بِنْيَتِهِ المحْكَمَةِ فَقَطْ، وَضَارِبًا الصَّفحَ عَنْ تفاصِيلَ أخْرى، تَكْتَملُ بها الصُّورَةُ الكامِلةُ للحَدَثِ، كأنَّمَا السَّاردُ يعتمدُ على عِلْمِ المتلقِّي بهذهِ التَّفاصِيلِ، تمامًا كَالسَّاردِ .

إنَّ النَّصَّ يَتَأبىَّ على البَوْحِ إلاَّ بما يَعْرضُهُ عَبْرَ بنيَةِ القصِّ المحكَمَةِ، بما تحمِلُهُ مِنْ فَجَوَاتٍ دلاليَّةٍ في مجرَى السَّردِ، بفِعْلِ الحذْفِ، وَتَعْتيمِ بعضِ مَشَاهدِ النَّصِّ دلاليًّا، وَإزَالةِ بعضِ أطْرَافِ الحكايَةِ، وَيَقُومُ السَّردُ هُنَا باسْتِحْضَارِ شَظَايَا اللحظَةِ المشبوبَةِ، وَتجسُّدِهَا في أفُقٍ سَرْدِيٍّ يقومُ على الالْتِحَامِ التَّركيبيِّ وَتَشَظِّي أبعادِ الحدَثِ وَتَقْويضِ التَّراتُبِ الوَقائعيِّ:

” تَنْهَشُ الحَوَائطَ بأظافرِهَا لأنَّهَا لمْ تَسْتَطعْ تَحْذيرَهُ منْ عُدْوانِ الشَّوارعِ. تبادَلا تَعَارُفَ الأمْعَاءِ بالأمْعَاءِ، ثُمَّ تركتْهُ وَحيْدَ أحْشَائِهِ الَّتي يَهْركُهَا الكلابُ، وَهيَ العليمَةُ بالسَّاعةِ الَّتي يصيْرُ فيْهَا الفيروسُ سَيِّدَ المَنْزلِ.

ليْسَ منْ وَقتٍ لإثبَاتِ أسْبَقيَّةِ الرُّوحِ. وَهِيَ تَشمُّ عَرَقَهُ بَيْنَمَاالآخَرُونَ، يَمْسَحُونَهُ بفوطةٍ. تَضَعُ خَافضَ الحَرَارَةِ في الشَّرجِ، وَتَظلُّ وَاقفةً كَدَيْدَبَانٍ إلى أنْ يَنْتَظمَ الوجيْبُ وَيَرْحَلُ سَيِّدُ المَنْزلِ، فَتَسْتَطيْع أنْ تَرَى خيوطًا مِنْ الدَّمِ في القَنَوَاتِ الَّتي خَلَّفَتْهَا الأظافرُ.”(35)

 

إنَّ الحدَثَ على مُسْتَوَى نَصٍّ كَهَذَا يبدو غَيْرَ كامِلٍ، وَيحتاجُ المتلقِّي، “وَهُوَ يقرأُ، أنْ يَتَنَاصَّ مَعَ المؤلِّفِ فَيُحاولُ مُوَاكَبَتَهُ بإكْمَالِ بناءِ النَّصِّ المقروءِ”(36)، ذَلكَ أنَّ النَّصَّ يظلُّ محافِظًا على تاريخيَّتهِ الخاصَّةِ المغْلَقَةِ ؛ الَّتي تكتفِي بتقديْمِ إضَاءَاتٍ مُحَدَّدةٍ تحثُّ على ضَرُورَةِ الولوجِ إلى مَا وَرَاءَهَا، أوْ تُصوِّرُ هَذِهِ التَّاريخيَّةَ المكنونَةَ في بنيَةٍ مُحْكَمَةٍ.

إنَّ النَّصَّ السَّرديَّ، هُنَا، يَسْتَمِدُّ شِعْريَّتَهُ مِنْ فَجَوَاتِهِ السَّرديَّةِ وَاتَّصالِ الجُمَلِ المتبَاعدَةِ، بما يُشَكِّلُ انزيَاحَهُ السَّرديّ وَأُفُقَهُ المجازيّ.

 

ظَوَاهِرُ سَرديَّةٌ جديدَةٌ في السَّردِ الشِّعريِّ

 

لمْ يتوقفْ السَّردُ الشِّعريُّ عندَ مجرَّد شَكْلِ الدَّفْقِ الشِّعريِّ السَّرديِّ؛ حَيْثُ ظَهَرَتْ فيْهِ مجموعةٌ منْ الظَّواهرِ السَّرديَّةِ الجديدَةِ على الشِّعريَّةِ العربيَّةِ، في أعْمَالٍ شعريَّةٍ قليلَةٍ وَلكنَّهَا تُشَكِّلُ معالمَ مَسَارَاتٍ جديدَةٍ في السَّردِ الشِّعريِّ الرَّاهنِ، وَتَتَمَثَّلُ في: الصُّورِ السَّرديَّةِ – السَّرْدِ اللا مَسْرُودِ – السَّرْدِ منْ الخَارجِ – السَّرْدُ الموضُوعيُّ – السَّرْدُ الدَّائريُّ.

وَهيَ ظواهرُ فَتَحَتْ آفاقًا جديدَةً للشِّعريَّة الرَّاهنَةِ، على النَّحوِ الَّذي يَكْشِفُهُ تأمُّلُ كُلِّ ظاهرَةٍ منْ هَذِهِ الظَّواهِرِ.

 

الصُّورةُ السَّرديَّةُ

 

تختلفُ الصُّورَةُ السَّرديَّةُ عنْ الصُّورَةِ المشْهَديَّةِ، في أنَّ الأخِيرَةَ تعتمدُ المجازَ البصريَّ، في شَيءٍ منْ الحيَادِ، فيْمَا تعتمدُ الصُّورَةُ السَّرديَّةُ على حِكائيَّةِ السَّردِ وَحَدَثيَّتِهِ، وَتَدَفُّقِ الزَّمنِ فيْهِ، عَبْرَ تَوَالي أفْعَالٍ، ينتظمُ الحدَثُ فيْهَا لإنتاجِ الدَّلالةِ الشِّعريَّةِ، وَمِنْ أبْرَزهَا مَا يَأتي فيْهَا السَّردُ استبطانيًّا، مُتَّحدًا مَعَ الصَّوتِ الدَّاخليِّ للسَّاردِ، وَقَدْ سَاعدَتْ الصُّورَةُ السَّرديَّةُ على التَّخَفُّفِ منْ تَدَاعيَاتِ الغنائيَّةِ، وَمِنْ آليَّاتٍ أدبيَّةٍ تقترنُ بها وَتَسْتَتْبِعُهَا.

نقرأ لفريد أبي سِعدة (1946ـ ) نصًّا بعنوانِ:”اتِّصال”، جَاءَ على هَذَا النَّحوِ:

“في الليلِ

أيقظَهُ الرَّنينُ

وَجَاءَ صَوْتُ أبيْهِ حَزينًا في التِّليفونِ

حَكَى لأختِهِ في الصَّباحِ، فَرَبَّتَتْ على ظَهْرِهِ مُنْدَهشَةً

وَقالتْ: إنَّهُ يفعلُ ذَلكَ

مُنْذُ

وَفاتِهِ.”(37)

 

إنَّ الصُّورَةَ السَّرديَّةَ، هُنَا، تكتمْلُ عَبْرَ سِلْسِلةِ الأفْعَالِ الماضِيَةِ المسرودَةِ: “أيقَظَهُ الرَّنينُ.. جَاءَ صَوْتُ أبيهِ.. حَكى لأخْتِهِ.. رَبَّتَتْ على ظَهْرِهِ.. قَالَتْ..”؛ لِيَكْتَمِلَ مجازُ الصُّورَةِ السَّرديَّةِ الكُلِّيَّةِ؛ الَّتي تكتسبُ بلاغَتَهَا وَشِعْريَّتَهَا منْ طبيعَةِ المسَّرودِ الغَرَائبيِّ؛ اتِّصالِ أبيْهِ (الميِّتِ) بِهِ، في الليْلِ، بعدَ أنْ يُوقِظَهُ الرَّنينُ، وَلا تَقْتَصِرُ الغَرَابَةَ على هَذَا الحدَثِ؛ بَلْ تَتَعَدَّاه إلى مَا هُوَ أبعدُ؛ فَحِيْنَمَا يُصَارحُ أختَهُ بما حَدَثَ لا تَتَعَجَّبُ، وَإنَّمَا تُرَبِّتُ على ظَهْرِهِ؛ لِتُطَمئِنَهُ، وَلِتُخْبِرَهُ أنَّ هَذَا أمْرٌ مألوفٌ تمامًا يفعلُهُ منذُ وَفاتِهِ.

وَنَقْرَأُ لمحمَّد متولي، في نصٍّ بعنوانِ: “البرابرَةِ”، هَذَا المقطعَ:

“حيْنَ هَجَمَ البرَابرَةُ على المدينَةِ

 كانَتْ خَاويةً على عُروشِهَا

 لمْ يَجِدوا غيرَ السَّاقي في الحَانةِ

 فشَربُوا

 وَعنْدَمَا غَفَا أحَدُهُمْ

 خطفَ السَّاقي سِلاحَهُ

 وَأرْادَهُمْ قتْلَى

 عَلَّقَ رُؤوسَهُمْ على الحَائطِ

 بجوارِ الدُّبِّ وَالغَزَالِ

 حَرَقَ ثيابَهُمْ المَسْكونَةَ بالقَمْلِ في مقلَبٍ للقِمَامَةِ بالخَارجِ

ثمَّ اسْتأنسَ بالنَّارِ

رَاشفًا منْ كأسِ نبيذٍ ضَخْمٍ

 وَهُوَ يُحْصِي قطعَ السِّلاحِ .”(38)

 

إنَّ عناصِرَ الصُّورَةِ السَّرديَّةِ، هُنَا، تَتَنَامَى وَتَتَكامَلُ عَبْرَ تَوَالي الأفْعَالِ السَّرديَّةِ؛ الَّتي تُشكِّلُ الموقفَ السَّرديَّ، في جُنوحٍ وَاضِحٍ لِسَرْدِ الحكايَةِ، بمخيِّلَةٍ  سِينمائيَّةِ الأدَاءِ، تَسْتَدْعِي نَمَطَ أفلامِ رُعاةِ البقرِ الأمريكيينَ.

 

السَّردُ اللا مَسْرُودُ

 

وَهُوَ نَوْعٌ مِنْ السَّردِ, حَدَّدَهُ جيرالد برنس بأنَّه no marrted narrative، سَرْدٌ يكونُ فيه السَّاردُ غائبًا، سَرْدٌ يعرضُ الوقائعَ وَالموَاقفَ بأقلِّ دَرَجةٍ مِنْ التَّوسُّطِ السَّرديِّ (39). إنَّهُ سَرْدٌ تَتَشَكَّلُ فيْهِ الشِّعريَّةُ، مِنْ علاقَةِ الأشياءِ المتجاورَةِ في الفَضَاءِ الشِّعريِّ، سَرْدٌ يَتَخَفَّفُ مِنْ التَّذويتِ، وَتَعْلُو فيْهِ دَرَجَاتُ الموضوعيَّةِ وَالحيَاديَّةِ، وَمِنْهُ نَصٌّ لبَسَّام حَجَّار بعُنْوَانِ: بِضْعَةُ أشْيَاءَ فَقَطْ، يُشْبِهُ سَرْدُهُ الشِّعريُّ فيْهِ مَا يُعرَفُ، في الفنِّ التَّشكيليِّ بِفَنِّ  الطَّبيعَةِ الصَّامتةِ ؛ حَيْثُ تَتَوَلَّدُ الدَّلالاتُ الجماليَّةُ منْ علاقاتِ الأشْيَاءِ، في المشْهَدِ، على هَذَا النَّحوِ:

“منديلٌ  نَاصعٌ

وَحَرْفانِ مُطرَّزَانِ

بالأزْرَقِ أوْ

الزَّهريِّ.

 

كُرسِيُّ الخَيْرزَانِ

مُسْتقيمُ الظَّهرِ

قرْبَ اليَاسمينَةِ على الشُّرفَةِ

أوْ بجوارِ البَابِ في الصَّالةِ

على مَبْعَدَةٍ

مِنْ الجَالِسيْنَ كثيرًا وَغُيَّبًا

 

نَعْشٌ وَحيْدٌ 

زَنَابقُ كثيرَةٌ.”(40)

 

وَلنُلاحِظْ، هُنَا، غَلَبَةَ العناصِرِ المكانيَّةِ – في النَّصِّ – على العَنَاصِرِ الزَّمانيَّةِ، وَهُوَ مَا يُبرزُ الامتدادَ الأفقيَّ للنَّصِّ على الامتدادِ الرَّأسِيِّ؛ فثمَّةَ تركيزُ أسَاسِيٌّ على الأشْيَاءِ وَالعَنَاصِرِ وَوَضْعِهَا في أبنيَةٍ، تَتَفَجَّرُ فيْهَا الشِّعريَّةُ منْ علاقةِ الأشْيَاءِ بعضِهَا بِبَعْضٍ.

وَنَقْرَأ لمحمَّد متولي:

” الكُرسيُّ الهَزَّازُ يتحرَّكُ جوارَ النَّافذةِ

وَعليْهِ ملابسُ الطِّفلِ وَتَبْغُ الرَّجلِ

في مُوَاجَهَةِ السَّريرِ الخَالي

ذي الملاءَةِ الصَّفرَاءِ وَالوسَائدِ الوَرْديَّةِ

وَكانَ المَطرُ غزيرًا بالخَارجِ.”(41)

 

السَّردُ مِنْ الخَارجِ

 

هُوَ سَرْدٌ بَصَريُُّ، خَارجِيٌّ، لا يبدو الدَّاخلُ، فيْهِ إلا بإشارَاتٍ مِنْ حَرَكةِ المشْهَدِ الخارجِيِّ، بتفاصِيلِهِ السَّرديَّةِ الدَّالةِ، وَلهذَا السَّردِ أوَاصِرُ عميقةٌ بآليَّاتِ السَّردِ السِّينمائيِّ، وَمِنْهُ قولُ  كريم عبد السَّلام:

“المَرْأةُ الَّتي تبيعُ السَّّجائرَ وَالحَلْوَى أشْعلَتْ مِصْبَاحَ الكيروسيْنِ ثمَّ حَدَّقتْ جيِّدًا إلى القُروشِ، حَتَّى لا يخدَعُهَا أولادُ الشَّياطينِ، الَّذين ينجحونَ في تَوجيْهِ زَفَرَاتٍ قويَّةٍ لشُعلةِ المِصْبَاحِ ثمَّ يَجْرُونَ

حيْنَ تخرجُ منْ الكُشْكِ لإخَافتهِمْ

يلمَحُونَ ظِلَّها طويلاً مائلاً في ضَوْءِ القَمَرِ

تُشعِلُ ثانيةً، وَيَتَسَلَّلُ الأوْلادُ باتِّجاهِ الكُشكِ

وَتَخْرُجُ المَرْأةُ في ضَوْءِ القَمَرِ

مَرَّاتٍ يشتدُّ الهَوَاءُ حَولَ الكُشكِ، مُحَرِّكًا دوَّامَاتٍ

مِنْ التُّرَابِ وَيَنْطفئُ المِصْبَاحُ، فيظهرُ ظلُّ المَرْأةِ،

 وَهيَ تبحثُ عنْ أولادِ الشَّياطيْنِ

طويلاً مائلاً في ضَوْءِ القَمَرِ

حيْنَ لا تَجدُ أحَدًا تُغلِقُ نافذَةِ الكُشكِ وَتَذْهَبُ

إلى وَكْرِِهَا بطيئةً في خُطُواتٍ مُهْتَزَّةٍ.” (42)

 

إنَّ الفعلَ السَّرديَّ، هُنَا، يرصُدُ الحركةَ الخارجيَّةَ، الدَّالةَ ، لهذِهِ السَّيِّدةِ، في وُقُوفِهَا لِبَيْعِ السَّجائرِ وَالحَلْوَى، وَإشْعَالها مِصْبَاحَ الكيروسِيْنَ، وَمُطَارَدَتها للأطفَالِ العَابثيْنَ، الَّذينَ يَتَسَلَّلونَ إليْهَا؛ لإطفاءِ المصبَاحِ، بزَفَرَاتٍ قويَّةٍ، ثمَّ يَهْربونَ مِنْهَا، وَخُروجهَا لإخَافَتِهِمْ، ثمَّ إطْفَاء الرِّيحْ المصْبَاحَ، وَخُروجها، منْ جَديدٍ، وَيَرْصُدُ السَّاردُ حَرَكتَهَا (الخَارجيَّةَ) وَظِلالَهَا المهتزَّةَ في عَوْدَتها، مِنْ الكُشْكِ، إلى وَكْرِهَا، في ضَوْءِ القَمَرِ.

 

السَّردُ المَوْضُوعيُّ

 

وَهُوَ نوعٌ منْ السَّردِ،عَرَّفَهُ جيرالد برنس بأنَّهُ objective narrative، سَرْدٌ يتميَّزُ بموقفِ السَّاردِ المسْتَقلِّ عنْ المواقفِ وَالوقائعِ المرويَّةِ(43)؛ فَهُوَ سَرْدٌ تتقدَّمُ فيْهِ الأحْدَاثُ وَالأشْيَاءُ وَالعنَاصِرُ، على أدْوَارِ السَّاردِ، وَيَتَبَدَّى هَذَا النَّوعُ السَّرديُّ في نَصِّ: “العَرَبَة”، لمحمَّد صَالح؛ الَّذي جَاءَ على هَذَا النَّحوِ: 

” لمْ يكنْ الحُوذيُّ وَحْدَهُ

فَحَتَّى المَرْأةُ كانَتْ تَتَطوَّحُ

وَالنِّسوَةُ خَليْطٌ  مُتَرَجْرِجٌ

منْ الثِّيَابِ وَالأثْداءِ وَالعَصَائبِ

وَغُنْحٌ فائحٌ.”(44)

 

ففي هَذَا النَّصِّ تتبدَّى عناصِرُ المشْهَدِ الشِّعريِّ في أدَاءٍ بَصَريٍّ، مَوْضُوعيٍّ؛ لا يتبدَّى فيْهِ موقفُ السَّاردِ، أوْ تَعْلِيقَاتُهُ، أوْ ذَاتُهُ، وَثَمَّ يتقدَّمُ المسرودُ على السَّاردِ؛ لِتَجْسِيدِ حَالةٍ عامةٍ مِنْ الشَّبقِ، وَطَقْسًا رَغْبَويًّا مُتَّقِدًا وَنابِضًا.

 

السَّردُ الدَّائريُّ 

 

 هُوَ سَرْدٌ يدورُ فيْهِ السَّردُ حَوْلَ ذَاتِهِ، في تَدَفُّقٍ سَرْديٍّ، عَبْرَ سِلْسَلةٍ مِنْ التِّكرَارَاتِ وَالتَّوازيَاتِ؛ لِتَبْئير حَالةٍ شِعريَّةٍ ما، أوْ مَوْقفٍ شِعريٍّ مُحَدَّدٍ بالدَّورَانِ حَوْله، وَمِنْ ذَلكَ نقرأُ لبَسَّام حَجَّار:

 

“جَالسٌ  في الجَانبِ الآخرِ، يَرْتدي مِعْطفًا وَقُبَّعةً وَيَحْملُ حَقيبَةً صَغيرَةً.

كَانَ يُحدِّقُ سَاهمًا في نُقطةٍ مَا في فَضَاءِ الرُّدهَةِ الشَّاحِبِ، فأدْرَكتُ أنَّهُ نائمٌ، يُحدِّقُ وَلا يُبْصرُ، يُحَدِّقُ وَلا يَرَى.

لمْ أنْظُرْ إليْهِ طويلاً، أحْسَسْتُ بالحَرَجِ كأنَّ عَشَرَاتِ العيونِ رَمَقتْني فَجْأةً بنظرَاتِ ازْدِرَاءٍ، وَأدْرَكتُ أنَّ النَّظرَ إلى وَجْهٍ نائمٍ عَمَلٌ فاضحٌ وَإباحِيٌّ، كأنَّكَ تنظرُ منْ وَرَاءِ سِتَار، أو ْمِنْ خِلالِ ثُقبِ البَابِ، إلى جَسَدٍ عَارٍ لَمْ يَتَعَرَّ لأجْلكَ، تنظرُ إلى الوَجْهِ، أيِّ وَجْهٍ، وَتَرَى قناعًا، الوَجْهُ إيَّاهُ هُوَ القناعُ الَّذي يُعَرِّضُ نَفْسَهُ لأنْظاركَ لِترَاهُ كَمَا يُريدُ أنْ تَرَاهُ، فَرِحًا، لا مُبَالياً مُتَهكِّمًا، فاتنًا، أوْ مُجرَّدَ وَجْهٍ، هُوَ قناعٌ لِمُجرَّدِ وَجْهٍ، لكِنَّ وَجْهَ النَّائمِ بلا قنَاعٍ، رُبَّمَا ارْتَسَمَتْ عليْهِ سِيمَاءُ دَََعَةٍ، أو ْتَغَضَّنَتْ مَوَاضعُ منْهُ عندَ الجَبيْنِ أوْ بَيْنَ الحَاجبيْنِ، أوْ رُبَّمَا انْفَرَجَتْ الشَّفتَانِ قليلاً أوْ كثيرًا،لكِنَّ المُؤكَّدَ أنَّهَا ليستْ ابتسامةً . لَيْسَتْ ضِحْكةً. وَجْهُ النَّائمِ بلا قناعٍ، وَجْهُ النَّائمِ بلا وَجْهٍ، إذْ كيفَ يكونُ وَجْهٌ إذَا كانَتْ العينَانِ مُطْبقتَيْنِ،إذَا كَانَ الجَبيْنُ مُحَايدًا، وَالأنفُ سَاكنًا، وَإيقاعُ التَّنفُّسِ على وَتَائرَ مِنْ الانتظامِ المُملِّ،وَتَحْسَبُ أنَّ النَّظرَ إليْهِ مُجَرَّدَ النَّظرِ إليْهِ ،عَمَلٌ فاضِحٌ، لَنْ تغفرَهُ لنَفْسِكَ، كَأنْ تَدْخُلُ فجأةً على جَمْهَرَةٍ دُونَ اسْتئذانٍ، كَأنْ  يُعْهَدَ إليْكَ برسَالةٍ لِصَديْقٍ فَتَقْرَأهَا، كَأنْ تَضْحَكُ في مَأتمٍ، كَأنْ تُحَدِّقَ فيوَجْهِ النَّائمِ .

رَأيْتُهُ جَالسًا في الجَانبِ الآخَرِ.

وَكُنْتُ أُحَدِّقُ سَاهِمًا في نُقْطَةٍ مَا في فَضَاءِ الرُّدهَةِ المَاصِلِ فأُدْركُ أنَّني نائمٌ.

أُحَدِّقُ وَلا أُبْصِرُ،أُحَدِّقُ وَلا أرَى.

وَكُنْتُ أرْتَدي مِعْطفًا وَقُبَّعةً وَأحْمِلُ حَقيبَةً صَغِيْرَةً.”(45)

 

يَتَمَحورُ فِعْلُ السَّردِ، هُنَا، حَوْلَ الوَجْهِ السَّاهمِ الَّذي يُطَالِعُهُ السَّاردُ، وَيَتَخَلَّلُ السَّردَ بعضُ التَّداعِيَاتِ السَّرديَّةِ المعيشَةِ، وَفي النِّهايَةِ يَتَّحدُ السَّاردُ بالآخَرِ الَّذي يُطَالِعُهُ، وَأثْنَاءَ حَرَكَةِ الفِعْلِ السَّرديَّ تَوَالَتْ مجموعَةُ التِّكرَارَاتِ وَالتَّوازيَاتِ التَّراكِيبيَّةِ وَالدَّلاليَّةِ في سَرْدٍ اسْتِبطَانيٍّ عَمِيقِ النَّبرَةِ.

وَمِنْ ذَلكَ أيضًا، قوْلُ عبده وَازن (1956- ):

 “أعْرِفُ أنَّني وَحْدي الآنَ لا ألْمَحُ إلاَّ وُجُوهًا غَامضَةً، تلتَمِعُ وَتَخْبُو سَريعًا في رَمَادِ العَيْنِ، لا أذْكُرُ إلاَّ أصْوَاتًا تَرْتَجفُ في صَمْتٍ كُلِّيٍّ، غَائبٌ في زَمَنٍ غَائبٍ ،ذِكريَاتٌ  قليْلةٌ  تنبثقُ في عَتْمَةِ الذَّاكرَةِ، وَأحَاسيسُ غريبَةٌ  تَخْتَطِفُني، غائبٌ  في زَمنٍ رَتيْبٍ وَخَاوٍ، حُطَامٌ جَسَدي وَرُوحِي مَهِيْضَةٌ، رُبَّمَا فَقَدْتُ حَوَاسِي، رُبَّمَا مَاتَ فيَّ كلُّ شَيءٍ، أجْلسُ إلى أوْرَاقي وَلا أرْغَبُ في رَفْعِ نَاظريَّ، يُخَالجُني البَيَاضُ كالْمَوتِ، فأتذكَّرُ دُفْعَةً وَاحدة ًمَا لمْ أقْدرْ على تِذْكارِهِ، وُجُوهٌ  تَتَنَاثرُ، ظلالٌ وَأصْوَاتٌ وَوُجُوهٌ، وَوُجُوهٌ وَأطيَافٌ تَخْتلِطُ عليَّ وَتَتَبَعثَرُ، غابَ جَسَدي عَنِّي وَغَدَوتُ بلا جَسَدٍ، أجْلسُ كَالظِّلِّ، أرْقدُ كَالطَّيفِ، لا أتَخَيَّلُ وَهْدَةً أنزلُ فيْهَا وَلا هَاويَةً أسْقطُ في عتْمَتِهَا، البَيَاضُ أمَامي، البَيَاضُ يَغْزُو الجهَاتِ كُلَّهَا، يَرفُّ جَسَدي على مِسَاحَتِه، يَتَوَارَى في ثَنَايَاهُ الخَبيئةِ، وَلمْ أكُنْ قادرًا عَلى تَحْريكِ يَدَيَّ، ضَوْءُ الصَّفحَاتِ يَجْعَلُ يَدَيَّ عَاجزتيْنِ، وَرُبَّمَا هُوَ الخَوْفُ، رُبَّمَا الرَّهْبَةُ الَّتي تَعْتَريني، لَمْ أبْقَ قادرًا على تَحْرِيكِ يَدَيَّ كَأنَّني فَقَدْتُهُمَا في فقدانِ هَاويتي، في فقدانِ الرَّغبةِ الَّتي تَدْفَعُني إلى الهَاويةِ شَديدِ الغِبْطةِ مَليئًا وَخَاويًا كالقَمر، كَانْ الوَقتُ يَمْضِي بَطيئًا وَغَامِضًا، وَلَمْ أكُنْ أعِي مُضِيَّهُ، ليْلٌ  فليْلٌ وَصَبَاحٌ وَليْلُ وَلمْ أكُنْ أسْمَعُ وَلا أُبْصرُ إلاَّ لِمَاحًا، رَغَبَاتٌ  عميقةٌ تَسْتَعِرُ في أعْمَاقِ رُوحي كَالأُوَارِ، يَمْتَلِكُني جَفَافٌ كَجَفافِ الصَّحَرَاءِ، الوَرَقةُ البَيْضَاءُ أمَامي، أمَّحِي بهدوءٍ على صَفْحَتِها المَلْسَاءِ البَاردَةِ، أحْمِلُ البَيَاضَ فيَّ كَمَا لوْ أنَّهُ بَيَاضٌ، كَمَا لوْ أنَّني بَيَاضُ الأوْرَاقِ نَفْسِهَا”.(46)

 

يَتَدفَّقُ الفِعلُ السَّرديُّ، هُنَا؛ ليُجَسِّدَ حَالةَ الوِحْدَةِ المطْبَقَةِ على السَّاردِ، وَانْسِحَابِهِ التَّدريجيِّ مِنْ العَالمِ الخارجِيِّ المحيطِ بِهِ، وَمِنْ الوَعْي بِهِ، وَالرُّكونِ إلى أصْدَاءِ الوَحْشَةِ المبْهَمَةِ؛ لِيَنْحَلَّ ـ في النِّهايَةِ ـ في عَالمِ الفَنَاءِ، في أدَاءٍ سَرْديٍّ تَتَوَالى حَرَكتُهُ الدَّائريَّةُ الاسْتبطانيَّةُ، مُحَمَّلَةً بتَوَازيَاتٍ وَتِكْرَارَاتٍ تُشَدِّدُ على تبئيرِ هَذِهِ الحالَةِ.

وَتَجْدُرُ الإشَارَةُ ـ في النِّهايَةِ ـ إلى أنَّ هَذِهِ الظَّواهرَ السَّرديَّةَ يُمْكِنُ تَلَمُّسُهَا في نماذجَ مِنْ السَّردِ القَصَصيِّ الجديْدِ، كَمَا اسْتَجْلَيْنَاهَا في السَّردِ الشِّعريِّ، وَالفَرْقُ الجَوْهَريُّ بَيْنَ السَّردَيْنِ يَرْجِعُ إلى هَيْمَنَةِ الخاصيَّةِ الشِّعريَّةِ في السَّردِ الشِّعريِّ، أوْ الخاصيَّةِ القَصَصيَّةِ في السَّردِ القَصَصيِّ، على آليَّاتِ الخِطابِ؛ إذْ أنَّ الخاصيَّةَ الأساسيَّةَ القارَّةَ للسَّردِ الشِّعريِّ، تَتَمَثَّلُ في أنَّ الفاعليَّةَ السَّرديَّةَ فيْهِ تظلُّ مُوَظَّفةً لصَالحِ الوظيفَةِ الشِّعريَّةِ؛ الَّتي تُهَيْمِنُ على بنيَاتِ ِالخِطابِ وَإنْتَاجِ جماليَّاتِهِ، الشَّأن الَّذي يغدو معهُ السَّردُ عَجَلةً تَدُورُ عَلَيْهَا الفاعليَّةُ الشِّعريَّةُ.(47)

 …..

 

 

الإحَالاتُ والتَّعلِيقَاتُ

 

المُصْطَلحُ:

 

(1)رَاجِعْ- على سَبيلِ المثالِ- مُناقَشَتَنَا لمواقفِ الشُّعراءِ وَالنُّقادِ منْهَذَا المصطلَحِ، فيِ مجلَّة: (نِزْوى)- العدد: 15 –  يوليو 1998- ص ص:107 – 108، وَرَاجِعْ أيضًا: محمَّد إبراهيم أبو سِنَّة: قصيدَةُ النَّثرِ تنتشرُ بالإرهَابِ– جَريدَة: (القَاهرة)- العدد 166- الثُّلاثاء 17من يونيه 2003 – ص: 17.

(2) رَاجِعْ- على سبيلِ المثَالِ- خَالدة سعيد – البحثُ عن الجذور – دار مجلَّة شِعر – بيروت، أول نيسان 1960 – ص: 71، ود. محمَّد العَبد: اللغةُ وَالإبداع الأدبيُّ – دار الفِكر – القاهرة / باريس 1989 – ص: 177، د. إبراهيم حمادة: قصيدَةُ النَّثرِ- مجلة:(القاهرة)- العدد: 73 – 15 يوليو 1987 – افتتاحيَّةُ العَدَد.

(3) إدوار الخرَّاط – الكتابَةُ عَبْرَ النَّوعيَّةِ-  دار شرقيَّات – القاهرة – 1994 – ص: 18.

(4) رَاجِعْ- على سبيلِ المثَالِ- د. علي عَشري زَايد – إنْ كَانَ هَذَا شِعرًا فَكَلامُ العَرَبِ باطلٌ – مجلَّة :(إبدَاع)- العدد الثَّالث – مارس 1996- ص: 25.

(5) رَاجِعْ- على سَبيلِ المثَالِ- عبد القادر القِطّ – رُؤيَةُ الشِّعر العربيِّ المعاصِرِ في مِصْرَ- مجلَّة:(إبداع)- سَابق – ص:17.

(6) رَاجِعْ مجلَّة:(القاهرة)- العدد: 73 – 15 يوليو 1987- افتتاحيَّةُ العَدَد.

(7) د.عبد الحميد إبراهيم – قصيدَةُ النَّثـرِ- مجلَّة:(الوسطية)- العَدَد الرَّابع – نوفمبر1999- ص:5.

(8) د. محمَّد العبد – اللغَةُ وَالإبدَاعُ الأدبيِّ– سَابق – ص: 177.

(9) رَاجِعْ رَأيَهُ في جَريدَةِ:(القاهرة)- العدد 166 – الثُّلاثاء 17 يونيه 2003 – ص: 17.

(10) أحمد عبد المعطي حِجَازي – قَدْ أُفسِدَ القولُ حتَّى أُحْمِدَ الصَّممُ – جريدة:(الأهرام)- الأربعاء 2 مايو 2001 – السَّنة 125 – العدد 41785- صفحة: الكُتَّاب.

(11) نُشِرَتْ دِرَاسَةُ نازك الملائكة عن قَصيدَةِ النَّثرِ، في مجلَّة: (الآدَابِ)، البيروتيَّة، العدَد الرَّابع -1962، وَأيضًا في كِتَابها: قَضَايَا الشِّعرِ المعاصِرِ- دَار الآدَابِ- بيروت – الطَّبعةُ الأولى-1962، وَتُرَاجَعُ الطَّبعةُ الثَّامِنَةُ – دَار العِلْم للملايين – بيروت – أكتوبر1992- ص ص:213 :227.

 (12) د.أحمد سُليمان الأحمد- الشِّعرُ الحديثُ بَيْنَ التَّقليدِ وَالتَّجديدِ- الدَّارُ العربيَّةُ لِلكِتَاب- طرابلس – ليبيا – ص:161.

(13) صبري حافظ – مجلَّة: الآداب- السَّنة الرَّابعة عَشَرَة – العدد الثَّالث – 1966- آزار (مارس) : ص: 156.

(14) رَاجِعْ مجلَّة :(نِزْوى)- العدد” 12 – أكتوبر 1997 – ص:32.

(15) أحمد عبد المعطي حِجازي – سَابق .

(16) في حِوارِهِ مَعَ جِهاد فاضل . رَاجِعْ: قَضَايا الشِّعر الحديثِ، لجهاد فاضِل، دَار الشُّروق- الطَّبعة الأولى- 1984 – ص:281.

(17) أحمد عبد المعطي حِجازي – سابق .

(18) محمَّد عفيفي مطر- لا يُوجَد مَا يُسمَّى بقصيدَةِ النَّثرِ- في حِوَارِهِ مَعَ أشرف عبد القادر- جَريدَة: الأهْرَام المسائي، الصَّادرة بتاريخ: 7/2/1999.

(19) أحمد عبد المعطي حِجازي – قَدْ أُفسِدَ القولُ حَتَّى أُحْمِدَ الصَّمَمُ- سابق.

(20) في حِوَارهِ مَعَ جِهاد فاضِل، في كِتَابِهِ: قَضَايا الشِّعرِ الحديث – سابق – ص: 268.

(21) أدونيس – في قصيدةِ النَّثر- مجلَّة:(شِعر)- المجلَّد الرَّابع – العدد: 14-1960- ص ص:75 : 80 .

(22) نَقَلَ هذا- عن كلامٍ لَهُ، نُشِرَ سَنَةَ 1960- س. موريه (رَاجِعْ لموريه: الشِّعر العربي الحديث : 1800 – 1970، ترجمة وتعليق: د. شفيع السَّيد، وسعد مصلوح – دار الفِكر العربي – 1986 – ص 446)، غَيْرَ أنَّ أدونيس، فيمَا بعد، ذَكَرَ التَّاريخَ نَفْسَه: 1958 وَلكنْ مَعَ قصيدةٍ أخْرَى؛ فَمَا نَقَلَهُ موريه يُشِيرُ إلى قصيدَةِ: “وَحْدَهُ اليأسُ”، وَلكنَّ أدونيس في مُقدِّمة الطَّبعةِ الخامسةِ مِنْ الأعمال الشِّعريَّة الكاملة يَذْكُرُ أنَّ قصيدَةَ :”أرْوَادُ يَا أميرةَ الوَهْمِ، بدايةُ تجربتي الكتابيَّةِ شِعرًا، بالنَّثرِ، بدأتُهَا سنةَ 1958، وَنَشَرْتُ جُزْءَهَا الأوَّلَ في مجلَّة “شِعر”.(العدد العاشِر10، السَّنة الثَّالثة 1959)، كَتَبْتُ هذه القصيدةَ في مناخِ الجدَلِ الَّذي أثرنَاهُ في مجلَّة “شِعر” حَوْلَ أشْكالِ التَّعبيرِ الشِّعريِّ، وَمَشْروعيَّةِ البَحْثِ عنْ أشْكَالِ جديدَةٍ، وكتبتُهَـا تجريبًا”: أدونيس- الأعمال الشِّعريَّة الكاملة – المجلَّد الأوَّل – دار العودة – بيروت – الطَّبعة الخامسة 1/1/1988- ص ص: 5-6 .

(23) السَّابق – ص: 6.

(24) سوزان برنار- قصيدةُ النَّثرِ منْ بودلير إلى أيَّامنا – ترجمة: زُهير مجيد مغامس – مراجعة : د. علي جواد الطَّاهر – الهيئة العامة لقصور الثَّقافة – 1997 – ص: 129.

(25) د. طه حسين – التَّجديد في الشِّعر – جريدة: الجمهوريَّة – 29 أبريل 1956.

(26) شريف رزق – المفاهيمُ النَّظريَّةُ للأنواعِ الشِّعريَّةِ في شِعرِ مَا خَارج الوَزْن- مجلَّة: (نِزْوى) – العدد :15 يوليو 1998-  ص: 106.

(27) رَاجْعْ: أمين الرِّيحاني- الرِّيحانيَّات- الجزءُ الثَّاني – المطبعة العِلْميَّة، ليوسف صَادر-  بيروت – 1923 – ص:182.

(28) يُوسف الخَال – قَضَايَا الشِّعرِ المعَاصِرِ، لنازك الملائكة- مجلَّة:(شِعر) – العدد: 24- خريف 1962-  ص: 147.

(29) المقولة لدوجاردان، عن: د. سلمى الخضراء الجيوسِي – الاتِّجاهاتُ وَالحركاتُ في الشِّعرِ العربيِّ الحديثِ- ترجمة د. عبد الواحد لؤلؤة – مركز دراسات الوحدة العربيَّة – الطَّبعة الأولى-  مايو 2001 – ص :692.

 

 

الإيقــَـاعُ:

 

(1) سعيد توفيق – جماليَّاتُ الصَّوتِ وَالتَّعبير الموسيقيِّ – مجلَّة: (نزوى)- العدد: 15- يوليو 1998 – ص:127.

(2) د. عزُّ الدِّين إسماعيل – الأسسُ الجماليَّةُ في النَّقدِ العربيِّ – القاهرة – 1955 – ص: 384 .

(3) د. نُعمان القاضِي- شِعرُ التَّفعيلةِ وَالتُّراثِ- القاهرة – 1977 – ص :35.

(4) عن: س . موريه – (الشِّعرُ العربيُّ الحديثُ 1800 – 1970، تطوُّرُ أشْكَالِهِ وَموضوعَاتِهِ بتأثيرِ الأدبِ الغَربيِّ) – ترجمة: د. شفيع السَّيد، د. سعد مصلوح – دار الفكر العربي- القاهرة – 1986 – ص:430.

(5) خَالدة سعيد – البحثُ عن الجذورِ- سابق- ص:10.

(6) أنسي الحاج – لنْ- المؤسَّسةُ الجامعيَّةُ للدِّراسَاتِ وَالنَّشرِ وَالتَّوزيع – بيروت – الطَّبعة الثَّانية- 1982 – ص: 18.

(7) سوزان برنار – قصيدة النَّثر، منْ بُودلير إلى أيَّامِنا – سابق – ص :10.

(8) أدونيس  في قصيدة النَّثرِ مجلَّة:(شِعْر)- العدد: 14- ربيع1960-  ص:77.

(9) كمال أبو دِيب – قصيدَةُ النَّثرِ وَجماليَّاتُ الخروجِ وَالانقطاعِ- مجلَّة:(نِزْوى)- العدد: 17 – يناير 1999 – ص :20.

(10) د. محمد النِّويهي – قضيَّةُ الشِّعرِ الجديد – طبعة معهد الدِّراسَاتِ العربيَّة العالية التَّابعِ لجامعةِ الدُّول العربيَّة – 1964 – ص:244.

(11) عنْ : يُوري لوتمان – تحليلُ النَّصِّ الشِّعريِّ- ترجمة د. محمد فَتُّوح أحمد – دار المعارف – 1995 – ص:11.

(12) عنْ: د. عاطف جُودة نصر – الخيالُ: مفهومَاتُهُ وَوَظائِفُهُ- الهيئة المصريَّة العامة للكِتاب – 1984 – ص:191.

(13) د. كمال أبو دِيب – قصيدةُ النَّثرِ وَجماليَّاتُ الخروجِ وَالانقطاع – سَابق – ص: 22.

(14) د. محمَّد عبد المطَّلب – قصيدةُ النَّثرِ بينَ القبولِ وَالرَّفض – مجلَّة:(قُوْس قُزَح)- القاهرة – العَدَد الأوَّل – مايو 2003 – ص:76.

(15) سركون بولص – إذا كُنْتَ نائمًا في مَرْكبِ نُوحٍ- منشوراتِ الجَمَل – كولونيَا – 1998- ص:81 .

(16) عبَّاس بيضون – نقدُ الألم – دَار المطبوعاتِ الشَّرقيَّة – بيروت – 1987 – ص: 19.

(17) بسَّام حَجَّار – فَقَطْ لوْ يَدُكِ- دار الفارابي – بيروت 1990- ص :25.

(18) محمَّد الماغوط – حُزن في ضوءِ القمرِ- الهيئة العامة لقصورِ الثَّقافة – الطَّبعة الثَّانية- 1998 – ص:115.

(19) محمَّد إبراهيم أبو سِنَّة – الشِّعرُ وَالحِكْمَةُ- الهيئة المصْريَّة العامة للكِتاب- 2000- ص :74.

(20) محمَّد آدم – الأعمال الشِّعريَّة: أناشيدُ الإثمِ وَالبَرَاءَةِ- دَار الحِكْمَة – 2002 / 2003 – ص ص: 128 – 129.

 

إنجازُ الشِّعرِ بالنَّثر:

قصيدَةٌ أخْرَى ..

قصيدَةٌ منْ خارجِ الرَّحم :

 

(1) محمَّد قوبعة – جماعة مجلة شِعر وقصيدة النَّثر الفَرَنسيَّة – مجلة:(علامَات) – ج12 – م3 – محرَّم 1415 هـ يونيو 1994 م – ص ص: 88- 89 .

(2) في تعليقِهِ على مجموعة توفيق صايغ: (ثَلاثون قصيدة): 1954، رَاجْعْ الأعْمَالَ الكامِلَة، المجموعَاتُ الشِّعريَّة لتوفيق صايغ – رياض الرَّيس للكُتَب وَالنَّشر- نيسان (أبريل) 1990-ص:11.

(3) في تقديمهِ للمجموعَةِ الأولى: (ثلاثون قصيدة) – السَّابق – ص: 15.

(4) د. غالى شُكري – شِعْرُنا الحديثُ إلى أين؟ – طبعة دار الشُّروق الأولى – 1991- ص: 86.

(5) جهاد فاضل – قَضَايَا الشِّعر الحديث – سَابق – ص: 202.

(6) توفيق صَايغ – الأعمال الكاملة: المجموعاتُ الشِّعريَّةُ- ص ص:113 – 114.

(7) السَّابق – ص ص: 115- 116.

(8) شِعْرُنا الحديثُ إلى أين؟ – ص: 84 .

(9) رَاجِعْ- على سَبيلِ المثَالِ- صَفَحَات: 125 ، 128 ، 129 ، 131 ، 155 ، 197.

(10) رَاجِعْ- على سَبيلِ المثَالِ- صَفَحَات: 31 ، 33 ، 117 ، 118 ، 155.

(11) مجلَّة:(أدبي) – الإسْكندرية – مج 1 –ع :7 / 9 – 1936 – ص: 366 .

(12) جبرا إبراهيم جبرا- المجموعات الشِّعرية الكاملة – رياض الرَّيس للكُتب وَالنَّشر – 1990 – ص: 15، وقد صَدَرَ ديوانُ: (تموز في المدينة)، في بغداد، آزار 1959.

(13) السَّابق – ص: 25.

(14) عن: محمَّد جمال باروت – الحداثةُ الأولى – اتِّحاد كُتَّاب وأدباء الإمارات – الطَّبعة الأولى – 1991 – ص: 208.

(15) رَاجِعْ: أمين الرِّيحاني – الرِّيحانيَّات- الجزءُ الثَّاني- المطبعة العِلْميَّة ليوسف صَادر- بيروت – 1923 – ص: 182.

(16) عن: د. سَلمى الخضراء الجيوسِي- الاتِّجاهاتُ والحرَكَاتُ في الشِّعر العَرَبيِّ الحديثِ- ترجمة: د. عبد الواحد لؤلؤة – مركز دراسات الوحدة العربيَّة – الطَّبعة الأولى – مايو 2001 – ص:692.

(17) جبرا إبراهيم جبرا – المجموعاتُ الشِّعريَّةُ الكاملة – ص: 127.

(18) إبراهيم شُكْر الله – مَوَاقفُ العِشْقِ وَالهوَانِ وَطيورُ البَحْرِ –  دار العَالم العَرَبي للطِّباعة – 1982 – مُقَدِّمةُ الدِّيوان – ص: 8.

(19) السَّابق – ص: 9.

(20) السَّابق – ص: 10.

(21) فانسان جوف – رولان بارت والأدب- ترجمة: محمد سويرتي- إفريقيا الشَّرق-  المغرب – الطَّبعة الأولى – 1994 – ص: 103.

(22) أدونيس – الأعمال الشِّعريَّة الكامِلَة – المجلَّد الأوَّل – الطَّبعة الخامِسَة – 1/1/1988- دار العودة – بيروت – المقدِّمة – ص: 6.

(23) السَّابق – ص: 238.

(24) السَّابق – ص:240.

(25) السَّابق – ص ص: 230 – 231.

(26) كمال أبو دِيب- قصيدةُ النَّثرِ وَجماليَّاتُ الخروجِ وَالانقطاعِ- سَابق – ص: 25.          (27) أُنسي الحاج – لنْ- الطَّبعة الثَّانية – المؤسَّسة الجامعيَّة للدِّراساتِ وَالنَّشر وَالتَّوزيع -1982 – ص:72 .

(28) كمال أبو دِيب- سَابق – ص : 25.

(29) نَفْسُهُ .

(30) لنْ- ص ص : 68 – 69.

(31) السَّابق – المقدِّمةُ- ص: 18.

(32) صَدَرَ عنْ دَار مجلَّة شِعْر – 1962 –  وَفازَ بجائزتها في العامِ نَفْسِهِ .

(33) رَاجِعْ- مجلَّة شِعْر – مج 3- العدد: 11 – 1959 – ص ص: 79 – 82 .

(34) خَالدة سعيد – البحثُ عن الجذورِ- سَابق – ص: 12.

(35) محمَّد جمال باروت – الحداثةُ الأولى – سَابق – ص: 226.

(36) شوقي أبو شقرا – ماءٌ إلى حصانِ العائلةِ- دار مجلَّة شِعْر- بيروت – 1962- ص:29.

(37)  شوقي أبو شقرا – ماءٌ إلى حصانِ العائلةِ- مجلة: أدب – لبنان – يناير 1962- ص: 93.

(38) السَّابق – الصَّفحة نفسها.

(39) رومان ياكوبسون – قضايا الشِّعريَّة – ترجمة: محمَّد الوليّ ومبارك حنُّون – دار توبقال للنَّشر – الطَّبعة الأولى – 1988 – ص: 47.

(40) د. صلاح فضل – نظريَّةُ البنائيَّة في النَّقد الأدبي – دار الشُّروق – الطَّبعة الأولى – 1998 – ص:262 ، و: قَضَايَا الشِّعريَّة – سَابق – ص: 48.

(41) يوري لوتمان – تحليلُ النَّصِّ الشِّعرىِّ : بِنْيَةُ القصيدَةِ- سَابق – ص: 63.

(42) محمَّد الماغوط – حزنٌ في ضوءِ القمر – سَابق – ص ص: 29- 30.

(43) السَّابق – ص: 59.

(44) رَاجِعْ: د. غالي شُكري – شِعْرُنا الحديثُ إلى أينَ؟ – سَابق –  ص:94.

(45) محمَّد الماغوط  – حزنٌ في ضوءِ القمر- دار مجلَّة شِعْر – بيروت – 1959- ص: 53، وفي الطَّبعاتِ التَّاليةِ، أجْرَى الماغوط بعضَ التَّغييراتِ على هَذَا المقطعِ، وَهُوَ مَا أدَّى إلى تغييرِ بناءِ المشْهَدِ؛ حيثُ أصْبَحَ  هَكَذَا:

“يا قلبي الجريحُ الخائنُ

أنَا مِزْمَارُ الشِّتاءِ الباردِ

وَوَرْدَةُ العَارِ الكبيرةُ

تحتَ ورقِ السَّنديانِ الحَزينِ

وَقَفْتُ أُدخِّنُ في الظَّلامِ

وَفي أظَافري تبْكِي نَواقيسُ الغُبَارِ

( طبعة الهيئة العامة لقصور الثَّقافة – ص ص :106 – 107)

 

وَيشِي هَذَا التَّعديلُ في الصُّورِ، وَحَذْفُ بعضِها، باسْتِشْعَارِهِ أهميَّةَ التَّكثيفِ، في بنَاءِ النَّصِّ- وَهَذِهِ ظَاهِرَةٌ تتكرَّرُ كثيرًا عِنْدَ أدُونيسَ أيضًا- وَقَدْ لاحَظَتْ خَالدة سعيد، على شِعْرِ الماغوط في هذِهِ المجموعَةِ:(حُزن في ضَوءِ القَمَر)، أنَّ “الصُّورَةَ قِوَامُ التَّعبيرِ الشَّعريِّ عندَ الماغوط .. وَقَصِيدَتُهُ عِقْدٌ مِنْ الصُّورِ، وَلوْ أنَّهَا غيْرُ مُرَتَّبَةٍ وِفْقَ اتِّجَاهٍ أوْ تَسَلْسُلٍ مُعَيَّنٍ..وَهِيَ لا تعتمدُ الخَطَّ المسْتَقيمَ أوْ أسْلوبَ السَّردِ المرتَّبِ القديمِ..وَلا هِيَ تعتمدُ الأسْلوبَ الدَّائريَّ الحديثَ؛ فهِيَ مُبَعْثَرَةٌ.”:البحثُ عنْ الجذورِ- ص ص: 74 – 78.

 

قصيدَةُ النَّثر مِنْ مَنْظورِ التَّحليلِ السَّرديِّ :

 

(1) فاضِل الأسْود – السَّردُ السِّينمائيُّ- الهيئةُ المصْريَّةُ العَامةُ للكِتَابِ- الطَّبعةُ الأولى – 1996 -ص:140.

(2) السَّابق – ص: 151.

(3)، (4)، (5) روبرت همفري – تيَّارُ الوعي في الرِّوايَةِ الحديثَةِ- ترجمة د.محمود الرَّبيعي دار الهاني للطِّباعة – 1973 – ص:74.

(6) السَّابق – ص ص: 74 – 75.

(7) يوري لوتمان – سيموطيقا السِّينما – ترجمة: نصر أبو زيد – ضِمْنَ : مَدْخَل السَّيموطيقا – إشراف: سيزا قاسم، نصر حامد أبو زيد – دار إلياس العصريَّة – 1986- ص :277.

(8) السَّابق – ص:280.

(9) رَاجِعْ- على سبيلِ المثالِ- د.عبد القادر القِطّ – رُؤية الشِّعر العَرَبي المعاصِر في مِصر- مجلَّة:(إبداع)- العدد الثَّالث – مارس 1996- ص: 17، د. محمد عبد المطلب – النَّصُّ المشكل – الهيئة العامة لقصور الثَّقافة – 1999 – ص:190.

(10) عزُّ الدِّين إسماعيل- الأدب وفنونُهُ- دار الفِكر العربي- القاهرة – الطَّبعة السَّادسة – 1976 – ص:18 .

(11) عبد الملك مُرتاض – ألف ليلة وليلة، تحليلٌ سيمائيٌّ، تفكيكيٌّ لحكايةِ حَمَّال بغداد – ديوانُ المطبوعاتِ الجامعيَّة – الجزائر – 1993 – ص: 84 .

(12) عنْ: فاضِل الأسود – السَّردُ السِّينمائيُّ- سَابق – ص: 82 .

(13) عنْ: أيمن بكر – السَّردُ في مقاماتِ بديعِ الزَّمان الهمذانيِّ- الهيئة المِصْريَّة العامة للكِتاب – 1998 – ص:40.

(14) عبد العالي بُوطَيِّب – قراءةٌ في البنيةِ الزَّمنيَّةِ لروايةِ عامِ الفيل – مجلَّة:(البيان)- العدد: 31 – نوفمير 1996 – ص : 25 .

(15) عبد العالي بُو طَيِّب – إشكاليَّةُ الزَّمن في النَّصِّ السَّرديِّ – مجلَّة:(فصول)- المجلَّد: 12- العدد الثَّانى – صيف 1993 – ص : 133.

(16) يُراجَعُ في هَذَا البَحْثُ المتميَّزُ لفاضِل الأسودِ- السَّردُ السِّينمائيُّ- سَابق .

(17) عن: د. سعيد بو عَطيَّة – بنيةُ الخِطابِ في روايةِ التِّيه – مجلَّة:(البيان)- سَابق – ص: 7.

(18) السَّابق – ص:14.

(19) تزفيطان تودوروف – مَقولاتُ السَّردِ الأدبيِّ- ترجمة: الحسين سَحبان وفؤاد صَفا – ضِمْن كِتَابِ: طَرَائق تحليْل السَّردِ الأدبيِّ، لمجموعةٍ منْ المؤلِّفينَ الغربيينَ، وَترجمةِ مجموعةٍ منْ الباحِثينَ العَرَبِ- منشوراتُ اتِّحادِ كُتَّاب المغرب – الطَّبعة الأولى – 1992 – ص: 55.

 (20) جُنُوحٌ كبيرٌ لـ(السَّردِ) في (الشِّعرِ) الرَّاهنِ، يَتَخَطَّى حدودَ (القصيدَةِ)، وَيُوضِّحُ أنَّ (السَّردَ) حَرَّرَ (الشِّعرَ) في أعمالٍ عديدَةٍ مِنْهَا: “حكايةُ الرَّجلِ الَّذي أحَبَّ الكَنَاريَّ” (1996) لِبَسَّام حَجَّار، وَ” لحظاتٌ مَيِّتَةٌ” في كتابِ ” بسببِ غَيْمَةٍ على الأرْجَحِ” (1992) لوديع سَعَادة، وَلَهُ أيضًا: ” مُحَاولةُ وَصْلِ ضَفَّتينِ بِصَوْتٍ“(1997)، وَفي: “خَلاءُ هَذَ االقَدَحِ” (1989) لعبَّاس بيضون، وَفي: ” إذَا كُنْتَ نائمًا في مَرْكبِ نُوْح” (1998) لسركون بولص. وَقليلةٌ – لمْ تَزَلْ – هِيَ الأعْمَالُ الَّتي حَاوَلتْ الاسْتِفادَةَ مِنْ أشْكالٍ مختلَفةٍ للسَّردِ في بناءِ نَصٍّ جَامعٍ مُرَكَّبٍ، وَمِنْهَا: “النَّشيدَةُ” (2003) لعلاء عبد الهادي.

(21) أسامة الدناصوري- عينٌ سَارحةٌ، وَعينٌ مُنْدَهِشَةٌ- ميريت للنَّشر وَالمعلوماتِ- القاهرة – الطَّبعة الأولى – 2003 – ص ص: 65- 66.

(22) أمجد ريَّان – نستولوجيا – الهيئة المصْريَّة العامة للكِتاب – 2002 – ص: 87 .

(23) سركون بولص – الحياةُ قُرْبَ الأكروبول – دار توبقال للنَّشر – الدَّار البيضاء – الطَّبعة الأولى – 1988 – ص: 29.

(24) سليم بركات – الدِّيوان – دار التَّنوير – بيروت – الطَّبعة الأولى – 1992- ص: 299.

(25) د. سعيد بو عَطيَّة – بنيةُ الخِطابِ في روايَةِ التِّيه – سابق ص: 14.

(26) السَّابق – ص: 7.

(27) وديع سَعادة – بسبب غيمةٍ على الأرْجَح – دار الجديد – بيروت – الطَّبعة الأولى – 1992 – ص ص: 51 – 52.

(28) محمَّد صَالح – حياةٌ عاديَّةٌ- أصوات أدبيَّة – الهيئة العامة لقصور الثَّقافة – أكتوبر 2000 – ص ص: 13- 15.

(29) عبد العالي بو طَيِّب – قراءَةٌ في البِنيَةِ الزَّمنيَّةِ لروايَةِ عام الفِيل – سَابق – ص:40.

(30) عباس بيضون – نقدُ الألم – دار المطبوعاتِ الشَّرقيَّة – بيروت – الطَّبعة الأولى – 1987 – ص: 9.

(31) السَّابق – ص:10.

(32) السَّابق – ص: 18.

(33) السَّابق – ص:23.

(34) حلمي سالم – يُوجَد هُنَا عِمْيَانٌ- دار كاف نون – 2001 – ص: 67.

(35) السَّابق – ص: 69.

(36) د. عبد الملك مُرْتاض – في نظريَّةِ الرِّوايةِ: بحثٌ في تقنيَّاتِ السَّردِ- عالم المعرفَةِ- الكويت – ديسمبر 1998 – ص: 244.

(37) فريد أبو سِعدة ـ مُعلَّقةٌ بِشِصٍّ ـ أصوات أدبيَّة، العدد:236ـ الهيئة العامة لقصور الثَّقافة ـ أوَّل مايو 1998ـ ص: 79.

(38) محمَّد متولي ـ البَرَابِرَةُ ـ مجلَّة:(الهِلال) ـ مارس 2009ـ ص :201.

(39) جيرالد برنس ـ المصْطَلَحُ السَّرديُّ ـ ترجمة: عَابد خَزنْدَار ـ مُرَاجعة وتقديم: محمَّد بربري ـ المجلس الأعلى للثَّقافة ـ 2003ـ ص: 161.

(40) بَسَّام حَجَّار ـ بِضْعَةُ أشْيَاءَ ـ منشوراتُ الجملِ ـ الطَّبعة الأولى ـ كولونيا، ألمانيا ـ 1997ـ ص: 59، 60،62.

(41) من قصيدة: فَصْلٌ لونيٌّ، في كِتابِ: (ديوان الشِّعر): الملتقى الأوَّل لقصيدَةِ النَّثر ـ القاهرة: 15 ـ 17مارس 2009 ـ ص: 131 .

(42) كريم عبد السَّلام ـ فتاةٌ وصبيٌّ في المدافن ـ دار الجديد ـ بيروت ـ الطَّبعة الأولى ـ 1999ـ ص: 29.

(43) المصْطَلَحُ السَّرديُّ ـ سَابق ـ ص: 163.

(44) محمَّد صَالح ـ صيدُ الفَرَاشَاتِ ـ الهيئةُ المصْريَّةُ العَامةُ للكِتَابِ ـ 1996 ـ ص: 2.

(45) بَسَّام حَجَّارـ حكايةُ الرَّجلِ الَّذي أحَبَّ الكَنَاريَّ ـ دار الجديد ـ بيروت ـ الطَّبعة الأولى ـ 1996ـ ص ص: 13ـ 14.

 (46) عبده وازن ـ حديقةُ الحَوَاسِ ـ دار الجديد ـ بيروت ـ الطَّبعة الأولى ـ 1993ـ ص ص: 25 – 26.

(47) د.عبد الرَّحمن عبد السَّلام محمود ـ السَّردُ الشِّعريُّ وشعريَّةُ مَا بعدَ الحدَاثَةِ: دِرَاسَةٌ في “مُهْمَل” علاء عبد الهادي ـ مركز الحضارة العربيَّة ـ الطَّبعة الأولى – 2009 – ص:55، محمود أحمد العشيرى: البناءُ السَّرديُّ في القصيدَةِ الجاهليَّةِ ـ رِسَالةُ دكتوراه، كُليَّةُ دار العلوم، جامعة الفيوم، عام 2004 ـ ص: 16.