إشكالية الكتابة النسائية بين القبول والرفض/ د. صفاء درويش

 

 

إن الحديث عن الكتابة النسائية يَقتضي مني الإشارة لبداياتها وما حقَّقته المرأة من إنجاز ناجح في دخولها المدارس وتفوقها في الميدان الدراسي والعملي لتكتسب بذلك ثقافة واسعة وتتعرَّف على أهمِّ ما تَنطوي عليه من مواهب وخصوصيات مكَّنتها مِن الكِتابة والدخول إلى مجال الإبداع؛ إذ “يَبقى فعل المرأة الخلاق في شتى حقول الإبداع، ومنها حقل الكتابة الأدبية بصفة خاصة يُمارس نوعًا مِن الإغراء يُحفِّز على تقبُّله قراءةً ومقاربته نقدًا وكأنه نسَق جماليٌّ يَختلِف عن أنساق الحركة الإبداعية ككل..”[1].

إن كتابة المرأة واكتشاف موهبتها جعلها تُضيف لنا وإلى جانب كُتَّاب سبقوها في الكتابة نصوصًا شعريَّة وروائية وقصصية ومسرحية، أثرت الساحة الأدبية، فأصبحْنا نسمَع عن كتابات ليلى أبو زيد، وخناثة بنونة، ورفيقة الطبيعة، وغيرهنَّ من الأسماء التي حفرت أسماءها بجهد جهيد، ومِن ثمَّ برَز في الساحة الأدبية مصطلح جديد أطلق عليه “إبداع المرأة” أو “الكتابة النسائية” التي حقَّقتها نتيجة تفوُّقها تعليميًّا، فبدأ يتبلوَر بذلك “وعي المرأة تبعًا لتحسين الشروط الاجتماعية، إلى جانب كون أن تعليم المرأة العربية أدى إلى ولوج مناصب مهمة في المجتمع، وجعَلَها تفوز باستِقلالها المادي الذي يُكسبها خيرًا مهمًّا مِن استقلال الشخصية، مثَّل التعليم إحدى أدوات التنمية التي تتطلب انخراط المرأة فيها وفقًا لمُستجدات التحوُّلات الاجتماعية، وهو وضع جديد جعل المجتمع ينتبه إلى العنصر النسائي، خاصة وأن المرأة أصبحت تمثِّل نصف الطاقة الإنتاجية للمُجتمع، ولذلك فتحريرها اجتماعيًّا وإدماجها في الرهانات التنموية من خلالخلق فرص الشغل أصبح ضرورة اقتصاديَّةً واجتماعية”[2]، ومِن ثَمَّ أضحتْ قدراتها التي لطالما دُفنت بين غرف المنزل ومطبخه، بين الأواني وتربية الأطفال ورعاية الزوج وطلبات العائلة، فخرجت مِن إطارها الضيِّق بتدرُّج ليتمَّ بلورتها وإبرازها للعيان ولنفسها؛ فكان لا بد عليها أن تحقِّق المُوازنة بين أعمال البيت وكذا التعليم، والتفوُّق فيه والعمل والحفاظ على نجاحها، لتواجه بذلك الفهم الضيق والمحاصر لها بانتقادات لاذعة عند ملاحظة التهاون أو التعب، فمفروض عليها العمل دون تأوُّه؛ هذا التتبع والملاحظة الدقيقة لها كان حافزًا للمضيِّ إلى الأمام وإثبات صبرها وتحدِّيها.

 

لقد حاولت المرأة العربية والمغربية تتبُّع مسار المرأة الغربية بنشر الوعي وروح النِّضال في أوساط النساء بغية ولوج أحسن المراتب، “فقد تجلىهذا الوعي في مستوى نموِّ الحركات النسائية في الوطن العربي والتي ساهمتْ – بدَورِها – في تحرير العقلية العربية من بعض التصورات السائدة حول المرأة (العطالة، الدونية، النقص) لقد عرف الخطاب النسائي العربي شأنه شأن مُجمل الخطابات العربية الحديثة (السياسية، الاجتماعية، الاقتصادية، الثقافية) تدرجًا في التعامل مع سؤال التحرير تبعًا لوضعية السياق الغربي، وللعقليَّة العربية”[3].

 

تُعتبر الكتابة الوثيقة الأساس لإثبات الحضورالنسائي، الذي لا يتجزأ من الأدب الذي تعرَّض “علىيد الحركات النسائية في الغرب إلى الكثير من الانتقاء، ومِحوَر الهجمة الانتقادية يقوم على فكرة أساس مفادها أن الأدب مفهوم ذكوري، وقد ورث حمولةً عبر التاريخ ترجح قضايا الذكور وسلطة الرجل في المجتمعات، وتقلِّل من شأن المرأة في الحياة الاجتماعية الفعلية، وتكرِّس الوضعية البائسة للمرأة، وقد نشأ مفهوم النسائية ضدًّا لمفهوم الأدب اعتقادًا منهنَّ أن الكتابة مفهوم جديد، ويُمكن تحميله الكثير من المعاني والحمولات التي تشد من عزم المرأة”[4]، وترسم لها مستقبلاً زاهرًا بعيدًا عن تسلُّط الرجل، و”تتجلَّى إشكالية الصراع بين المرأة والرجل في قصص الكاتبات النِّساء في العالم العربي بشكل واضِح، فالقيود التي تَشعُر بها المرأة العربية بسبب هيمَنة الرجل تظلُّ قضيةً مؤرِّقةً تلازم فكرهنَّ..”[5]، من خلالها حاولت أن تُثبت نفسها، بتعلُّمها ونجاحها لتدخل مجال الإبداع.

 

و”يطرَح الحديث عن الأدب المنسوب للمرأة في ذاته إشكالية؛ حيث إنه حقل أدبي جديد داخل حقل الأدب العربي المعاصر، تأرجُح بين القبول والرفض والحضور والغياب، تأرجح منتجته المرأة التي تعدُّ جزءًا من القضايا المطروحة على محكِّ البحث من أيام النهضة الأولى (…) والظاهر أن التصورات النقدية التي حاولت الاقتراب من إشكاليات الأدب النسائي قصد معالجتها واستخلاص ما تتوفَّر عليه من سمات مُفيدة، وكذلك المنظورات الإبداعية التي أنتجت هذا اللون مِن الأدب تنزع إلى رفض هذا المصطلح (الأدب النسائي) الذي يُجزِّئ فعل الإبداع، وإن كانت تقرُّ في سياق رفضها له ما يتوفَّر عليه هذا النمط من الكتابة التي تُنشئها المرأة من خصوصيات تجعل منها ظاهرةً مُتميِّزةً في حقل الإبداع”[6]، ورغم تعارُض الآراء وتعدُّدها، إلا أن هناك حقيقة لا يُمكن تجاوزُها؛ هي الحضور القوي لهذا الإبداع الذي فرض نفسه في الساحة الثقافية العربية، بفعل اجتهاد المرأة في مجال الكتابة، وما استوجبه من متابعة نقدية مكثفة، انتقل معها البحث من مشروعية التسمية والأطروحات النقدية، لتحديد حمولتها الدلالية وتدقيقها، خصوصًا إن علمنا أن هذا المصطلح غالبًا ما يتداول نقديًّا بمفاهيم مختلفة، تبلغ أحيانًا درجة التناقض، مما يُسيء لقيمة المصطلح ويحول دون قيامه بوظيفته التواصلية، وعليه فإذا عُدْنا للتعريفات المقدمة لهذا المصطلح في معظم المراجع العربية، نجدها تتوزع غالبًا بين مفهومين مختلفين:

“الأول: يحدِّد فيما تكتبه المرأة تمييزًا لها عما يكتبه الرجل، بغضِّ النظر عن نوعيَّة موضوعاتها، خاصة كانت أو عامة، مُعتمدًا في ذلك طبعًا على قاعدة ربط الكتابة بجنس الكاتب ونفْي مُحاولة لكَشفِ آثار ذلك المُحتملة على المكتوب، فيستعمل المُصطلَح هنا مرادفًا (لأدب المرأة).

الثاني: يحصرها فيما يُكتَب عن المرأة، بغضِّ النظَر عن جنس صاحبه، رجلًا كان أو امرأة، وبذلك يربطها عكس السابق، بمَوضوعها فقط؛ (ككتابة عن المرأة)، ولو لم يكن كاتبها رجلاً”[7].

 

من ثمَّة يتَّضح حجم الاختلاف في تحديد المصطلح ومفهومه، وقد خلقت ضجة حول المفهوم في ذاته فما بالك بمواضيعه؟ والملاحظ أنه تمَّ التركيز في تحديد المصطلَح على المرأة وعلى الظروف القاسية التي عاشتها في الماضي والقهر، والظلم المُمارَس عليها، “فالمرأة تَكتب وعليها رقيب، عين الرجل بالأساس وعيون الآخرين، وهي تتبرَّج للقارئ مِن خلال إبراز نوع من الجرأة في التعرية، في سعيها إلى تحدي التزمُّت الاجتماعي، ولكنَّها جرأة لا تبلغ المدى في الحديث عن المسكوت عنه، فهي تَقترب من النار إلى حدِّ الوقوف عندها مخافة الاحتراق..”[8].

 

يتضح من خلال هذه التسمية حضور أدب مسمى باسمها، مما أدَّى إلى تعدُّد التفسيرات، فهناك من اعتمد في تحديد أصول هذا المصطلح على الفارق الفيزيولوجي؛ ذلك بأن الرجل عندما كان يكتب كان وحده، فبدخول المرأة وإبداعها اعتبرت جنسًا مختلفًا عنه فوصفت بأدب المرأة ليفهم أن ما تبقَّى للرجل.

 

إن هذا التعريف وتعدَّده أدى إلى عدة تشعُّبات في المفهومنفسِه، “فظهر نقادٌ ميَّزوا بين مصطلحين: كتابة المرأة L’ecriture féminineوالكتابة النسائيةl’ecriture feministe. على كل ما تكتبه المرأة، بغض النظر عن نوعية موضوعاتها، والثانية نسبة للاتجاه المناصر لقضية المرأة العادلة، المعروف ب féministeسواء أكان كاتبه رجلاً أم امرأة، وهو ما يعني بعبارة أخرى أن (موضوع المرأة) لا يمثِّل سوى جزء بسيط من مجموع اهتمامات المرأة في المجال الأدبي، وأن الاعتماد عليه وحده لا يعدُّ في الحقيقة كافيًا لاستِخلاص أبرز مقوِّمات هذه المساهَمة، فالكتابة النسائية بمفهومها الواسع لا تَنحصِر طبعًا فيما تُقدِّمه المرأة فقط بقدر ما تشمل كذلك الرجل”[9]، فكلما توغلْنا في المفهوم إلا وستتفرَّع عنه العديد من المصطلحات الأخرى، ولقد صاحب ظهور هذا المصطلح خلافًا بين النقَّاد والأدباء حول مضمون هذه التسمية، التي تتضمن إشكالية تصنيف الأدب على أساس الاختلاف الجنسي، مما وسم مواقف الذين ولجوا دائرة تقديم هذه الإشكالية بالتذبذب بين قبول هذا المصطلح ورفضه.

 

فهل الكتابة مجال خاص بالرجل لا يُمكن للمرأة أن تدخلَه؟

هل حان الوقت للمرأة لتأخذ القلم وتُبدِع وتَكتُب؟

وما الظروف المساعدة والمُعرقلة لإبداعها؟

هل حان وقت الثورة على العادات والتقاليد المزيفة وإبراز الحقيقة؟

هل يُمكن الوقوف عند موروث نسائي للإبداع في المجالات الثقافية المُختلفة ليكون نقطة انطلاق للمزيد؟

هل يَستطيع القلم أن يتمرَّد على الواقع وأن يخطَّ ما ينبع في الأعماق دون قيود؟

هل يستطيع الإبداع النسائي أن ينجَح في تجاوز النظرة الأحادية الضيِّقة؟

هل بالكتابة والإبداع استطاعت المرأة تحقيق ذاتها فعلاً؟

ما الهدف من إبداع المرأة، ولماذا انسحبَت وتوارت العديد مِن الأقلام النسائيَّة؟

كيف تَحضر المرأة في إبداعات المرأة وكيف يحضر الرجل؟

هل هناك نقط التقاء بين الإبداع النسائي والرجالي أم الخلاف فاصل وحادٌّ بينهما؟

هل بالكتابة مزقت الفروق بينها وبين الرجل؟

كيف تَنظر المرأة للإبداع النسائي؟

كل هذه الإشكالات وغيرها كانت وراء تقدم الكتابة النسائية، فهي المحفِّز والمعرقل في الوقت نفسه، لذا نجدها دائمًا تسعى نحو الجديد “فقد قطعت الأنثى فوق جسر الكتابة شوطًا ليس بالهين، هربت مِن سياف مسرور، وضغط القبيلة التي أرادت أن تكون جزءًا من متاعها ومُتعتِها فقط فلم تسلم من جرابها أسلحتها المعروفة للإعلان عن وجودها الجديد، بل امتشقَت سيف الكتابة، وبارزت به صفحات بيضاء أسالت فوقها عبير استشهادِها، ففي معبد الكتابة، تصلي الذات المبدعة في محراب الانعتاق من أنين الواقع وانجراحاته، هكذا تغتسل في محبرة الوجود، تحيط بها طقوس تسكر من معيني الخيال، وفي هذا الفضاء الفضفاض تنشر علامات الاستفهام والتعجب رداؤها، كلما غزت حقيقة أدبية قبيلة الذكور، وأعلنت أمام شيخِها أنها ترفض الاستسلام والخنوع لملابسات كثيرًا ما طفت مثل الفقاعات فوق صرحنا الثقافي، فكم هو غريب ألا نتخلَّص في ميدان الإبداع؛ حيث يَجلس القلم ملكًا، والحروف رعايا في مملكة اللغة، من هاجس الانزلاق في متاهة مصطلحات”[10]؛ ذلك بأن كثرة التدقيق في المصطلح يفقد الإبداع جماله، ويجعل فنية المادة الأدبية تخضع لقانون العلم، والتمييز الفيزيولوجي، وهذا من سمات العلوم الدقيقة لا الآداب التي تسعى لمخاطبة المتلقي بلغة أقرب لواقعه بعيدًا عن كل الحسابات والأعداد الدقيقة.

 

إن أيَّ إبداع كيفما كان، يجد في بداية ظهورِه مؤيِّدين ومُعارِضين؛ وذلك تطبيقًا للطبيعة البشريَّة، وهو ما ميَّز ظاهرة كتابة المرأة التي تعرَّضت للعديد من النقد، وصُنِّفت ضمن مصطلحات أبان من خلالها كل مُهتمٍّ عن وجهة نظره، فكثر الكلام، وتمَّ تصنيف الآراء في ثلاثة مواقف:

“هناك أولاً مَن يرفض استعمال كل مُصطلح يَستنِد إلى تصنيف جنسيٍّ مِن مثْل الأدب النسائي، النقد النسائي أو الكتابة والقراءة النسائية؛ لأن ذلك يبطن أيديولوجيا ذكورية تمييزية لا يصحُّ العمل بها عندما يتعلق الأمر بشيء (اسمه الأدب)، وما يؤخذ على هذا الموقف أنه يرى التصنيف قائمًا على التميز والهيمنة؛ ففي مجتمع ذكوري قبلي لا يمكن أن يكون إلا الرجل هو الذي يَصنَع كلَّ اللغات والرموز، وبالتالي فالأدب السائد يَخضع لعلاقات الهيمَنة بين المرأة والرجل، ولا يُمكن أن يتعالى عليها وينفصِل عن الأيديولوجية الذكورية التي تحكمها.

وهناك ثانيًا ذلك الموقف الذي يَعتبر الكتابة النسائيَّة هي كل كتابة صادِرة عن امرأة أو كل كتابة تتناوَل قضية المرأة، وما يؤخذ على هذا الموقف أنه واسع وغير دقيق إذ يَكفي السؤال: إلى أي حدٍّ يمكن اعتبار كل ما تكتبه المرأة كتابة نسائية؟ هو موقف غير دقيق؛ لأنه لا يلتفت إلى أن ما تكتبه المرأة هو – في الأغلب – يكون من خلال أشكال أدبية ليست المرأة بالضبط هي مَن وضَعَها وقنَّنها ورسَم حدودها، فهل يمكن للمرأة أن تعبِّر عن هُويَّتها وتَجربتها من خلال أشكال حامِلة لرُؤية ليست نسائية ما دامت متعلِّقة ببنيات ذهنية واجتماعية تَغلب الذكوري وتُقصي النسائي؟ لماذا لقي التراث النسائي كل ما لقيه من إهمال؟

هذه في الواقع أسئلة الموقف الثالث الذي يحول النقاش من الأحادية والإقصائية إلى التعددية والتعادليَّة، ويَفتح آفاقًا جديدة وخصبة أمام إشكالية الأدب”[11].

 

إن تعدُّد المواقف وانحصارها على ثلاثة أسس، جعلت المصطلح يتأرجَح بين التأييد والمعارَضة، وهذا دليل على مدى اهتمام النقَّاد بالإبداع النسائي، واختلافهم في الرأي، فللمُؤيدين والرافضين، والمحايدين، حججهم كما سيتَّضح من خلال العناصر الموالية.

 

• المؤيدون:

الفريق المتبنِّي لمصطلح الكتابة النسائية، والقائل بوجود خصوصيات في هذه الكتابة تُميِّزها عما كتبه الرجُل، ومِن مُتبنِّي هذه الفكرة نجد العديد من النقَّاد من جملتهم:

زهرة الجلاصي، التي أكَّدت أنَّ للمرأة حقًّا في الكتابة والتميُّز، فقد أُعطيَت حقوقًا كثيرة، و”لعلَّ مِن أهمِّ الحقوق التي كسبتْها المرأة حق امتلاك شهادة ميلاد كاتبة، تُخوِّل لها الخروج من دائرة المجموعة الصامتة، لتُصبح مقروءةً ومَسموعة، ولتتخذ لها مكانًا في المشهد الأدبي، وهي اليوم أشدُّ وعيًا مِن أيِّ زمن مضى بدورها كمُنتِجةِ خطابٍ يبلغ صوتها ويُساهم في توصيل مواقفِها ووجهات نظرها، سواء فيما يخص صورتها أو علاقتها بالمُجتمَع، فهي تُدرك دور أشكال التمثيل الأدبي (شعر، قصة، ورواية) في تغيير السائد، والانتصار على رواسب “ثقافة الموؤودة”؛ من أجل تكريس “ثقافة المولودة”[12]، من هنا يتَّضح بأنحصول المرأة على هذه الشهادة لم يكن من الأمور السهلة، بل كابدت وعانت لتجعَلَ لنفسِها قيمةً داخلَ الساحة الأدبية العربية والمغربية.

 

ومن مؤيِّديها في الرأي أيضًا: عبدالحميد عقار “الذي بيَّن أن الكتابة النسائيَّة حقَّقت خلال العقدين الأخيرين، تراكمًا وحضورًا ملحوظَين لافتين، هذا الإسهام يُعتبر علامة تغيُّر في أفق الكتابة الإبداعية، وفي محتواها وتشكيلها الأسلوبي والفني، وأبعد مِن ذلك فيها إغناء للمشهد الأدبي والثقافي عامة برؤية جديدة، أو مُغايرة في مستوى الرغبة والتحقق معًا، ولا يتعلَّق الأمر بمجرَّد استيهامات ضد سلطة الممنوع وقمْع الشريك ذي الهوية الجنسيَّة المختلفة؛ بقدر ما هو تَجسيد لكفاءة تعبيريَّة، ولخبرة فنيَّة في تصوير الجسَد النابض بالحياة، والمسكون بالافتِتان عاشقًا ومَعشوقًا..”[13]، بيَّن عبدالحميدعقارمن خلال قولهبأنكتابة المرأة مكَّنتها مِن وضْع مَسار كتابي تُعبِّر فيه عن رغبتها في الوصول وتحقيق الذات، الذات المتميِّزة فنيًّا وتعبيريًّا لا شكليًّا فقط.

 

أما جليلة الطريطر، فأكَّدت أن وصول المرأة لهذه المكانة كان بعد حرب ونِضال لتمنح مركز القوة والصوت الأقوى قائلة: “إن مسار المرأة الكتابي كان نضاليًّا عسيرًا، إنه يَعكس بالتأكيد الصراع الذي احتدَّ في واقع المرأة العربية بين التمسُّك بالأُنوثة والإمساك بالقلم، خاصَّة وأنَّ الكتابة سلطة ينهَض بها الصوت الأقوى والأكثر سُلطة، لقد أضحى القلم عند أكثر مِن كاتبة أكثر من أداة للكتابة، إنه سلاح وأداة وجود”[14]، فقد بينت الكاتبة أن فعل كتابة المرأة جاء بعد صراع وجهد، فقد اعتبرت الكتابة عند المرأة سلاحًا وأداة للوجود، بدونها لا وجودَ لها لتجزم في الأخير أن “الكِتابة النسائيَّة ظاهِرة فرديَّة واجتماعيَّة صحيَّة، وأن عود الكاتبات العربيات آخِذٌ في الاشتِداد..”.

تُضاف إليهم نعيمة هدى التي اعتبرت “النشاطات الثقافية والتأمُّلات التجريديَّة، والنظريات ذات التركيبة الفلسفيَّة والإبداعات الواعية للرجال، بينما تبقى للنساء إنتاج الأحاسيس والخيال غير المقيَّد بالفِكر العلمي، فالرجال يُفكِّرون برؤوسهم والنساء بأحشائهنَّ”[15]، ميَّزت نَعيمة هدى بين الكتابة النسائية والذكورية اعتمادًا على المواضيع، فاعتبرت أن للرجل مواضيعَه التي أبلغ فيها والمتعلِّقة بالجانب الثقافي، والتصورات التجريدية التي تعتمِد الرمز والفكر الفلسفي، في حين أن المرأة تتخصَّص في الإحساس والخيال العلمي، فهي تنطلق في كتابتها من إحساسها وخيالها مُبعِدة أي تصوُّر عِلمي دقيق؟

 

و”في ضوء كلِّ هذه العوامل والاعتِبارات المُتداخِلة يُمكن القول نسبيًّا أن نوعًا من حساسية وخصوصية الكتابة الأنثوية بدأت تتشكَّل وتتكون سماته وملامحه ومفرداته ومضامينه وجماليته..”[16]، فباختلاف الآراء يتبين أن هناك ظاهرة جديدة اكتسحت الساحة الأدبية فأثارت الجدل.

 

إن الكتابة النسائية حسب قول نعيمة هدى رسمتْ لنَفسها مسارًا جماليًّا وفنيًّا خاصًّا، والغريب في الأمر أن العديد من الناس يَعتبرون كتابة المرأة ظاهرةً جديدةً، وتَعتبر الباحثة رشيدة بنمسعود أن هذه الخصوصية كانت موجودة منذُ القِدَم فـ”الكتابة النسائية باعتبارها نشاطًا إبداعيًّا هي موجودة فعلاً منذ الخنساء حتى حنان الشيخ وسحر خليفة؛ لأن كل ما تَكتُبُه المرأة – حسب فرجينيا وولف – هو دائمًا نسائيٌّ، والكتابة الصادرة عن المرأة كما هو معروف تُعتبَر كتابة فئة كانت تعيش على الهامش، لكنها اليوم نراها تزحَف بإصرار وصمْتٍ نحو مركز الفعل الثقافي والسياسي، فمِن خلال مُقاربتنا لبعض الإصدارت النسائية خاصة على مستوى السرد، القصة / الرواية، وانطلاقًا مِن بعض المكونات السردية التي تتمثل في (الشخوص – اللغة – التيمة) نلاحظ أن السمات العامة التي تتميَّز بها الكتابة النسائية تتحدَّد أساسًا في الحضور المُرتفع للمرأة، البطلة، امرأة للركوب وإقبار الشهرة.

إن هيمنة حضور البطل الأُنثوي في كثير من النصوص السردية تسعى من خلالها إلى الكشف عن الموقع الاجتماعي الذي تحتله المرأة داخل الهرم المُجتمعي، وبهذا ترتبط الكتابة النسائية بما هو مرحلي، الشرط الاجتماعي بوجوهه المتعدِّدة: القهر، الاضطهاد، والدونية، لكن هذا الوضع الذي تُعاني منه المرأة والذي يَنعكِس بدَوره على كتاباتها له علاقة بمُواصَفات تاريخيَّة وثقافية وسياسية قد تؤول إلى الزَّوال إذا غابت شروطها الموضوعية، وهذا ما يجعل من الموقع الاجتماعي تعبيرًا عن لحظة في مسار الكتابة النسائية وليس شرطًا محدَّدًا لها”[17]، فهي تُميِّز الكتابة النسائية في موضوعها، وليس في جنسها، وهو ما تسعى إليه الجهود النسائية برفض التمايز على أساس جنسي، بل موضوعي أو أسلوبي بقولها: “الكتابة ككل كتابة مُغايرة، يُمكن مقاربتها من زاوية التنويعات الأسلوبية التي تَرتبط بالذات المتلفِّظة، وهذا ما يَحدو بنا إلى القول: إن علاقة كل من محمد شكري ومحمد زفزاف وإدريس الخوري باللغة ليست هي علاقة خناثة بنونة ورفيقة الطبيعة وليلى أبو زيد وزهرة زيراوي مثلاً، بمعنى أن علاقة المرأة المبدعة باللغة علاقة يحكمها “التابو اللغوي أكثر ممَّا يَحكم الكتابة عند الرجل، الشيء الذي يتجلى حتى على المستوى الشفوي”[18].

مِن هنا نستشفُّ أن التمايز ليس حبيس الاختلاف الجنسي، بل طريقة الكِتابة، ومُعالَجة المواضيع هي مقياس التمايُز عند الكاتبة، التي تَعتمِد لغتها الخاصة، إلى جانب الرجل.

 

كما بيَّنت خديجة أميتي، أن” الكتابة لا تخصُّ الذكور، بل قد تكون بأقلام نسائيَّة؛ لأنه مرتبِط بالثَّقافة وليس بالجنس، هذا لا يَعني تبنِّينا لنظرة “نسوانية” مُنغلِقة، بل الإقرار بوجود نمط مختلف من التعبير والكتابة، تتناول فيه المرأة الكلام عن نفسها دونما حاجة أن يقوم الرجل بذلك نيابةً عنها”[19]، فالكاتبة بيَّنت كغيرها من النقَّاد أن للمرأة الحقَّ في الكتابة والتعبير عن موهبتِها وما تُحسُّ به اتجاه مُجتمعها.

 

تؤكِّد يُمنى العيد أن المرأة أضافت لمستَها إلى جانب الرجل بطريقتها الخاصة، فقد أقرَّت “أن إسهام المرأة في الحقل الأدبي أضفى سمات جديدة على الأدب، وتضمَن علامات دالَّة جعلت الأدب يتجاوَزُ السائد مِن المَضامين، والمألوف من الأشكال، وهي تُثبِت أنَّ أدب المرأة يتميَّز بنوع من الخصوصية..”[20]، هذه الخصوصية تأسَّست “على مُستويات مُتعدِّدة، بما هو مؤشِّر هامٌّ على حضور الذات وامتلاكها لصوتها المتميز..”[21].

 

تُعتبر الآراء السابقة نابعة من دراسة العمل النسائي الذي توصَّل من خلاله النقَّاد إلى الإقرار بوجود خصوصية، وتمييز بين كتابة الرجل والمرأة؛ كل انطلَقَ مِن مبادئه وطريقة تعامله مع الظاهرة، وإلى جانبهم نَذكر كاتبة لم تتوصَّل لهذا التمايز انطلاقًا من دراسة، بل من عملها وإبداعها الخاص، وهي نتيجة لم تَعترِف بها في البداية، ولكنها اكتشفتها مع كتابتها ومقارنتها بين عملها وعمل الرجل، فقد أعلنت رفضها في البداية، إلا أنها غيرت موقفها بإقرارها المساواة بين الرجل والمرأة بعد إصدار مجموعتها الأخيرة “الشيخوخة وقصص أخرى”سنة 1986؛ حيث “أدركت أن رجلاً ما لا يستطيع أن يكتب مثل هذا الكتاب، وأصبحتُ على استعداد للإقرار بأني أكتُبُ أدبًا يَختلف عن ذلك الذي يَكتبه الرجل، يتَشابه معه في ذات الحين؛ من حيث إنه يَندرِج في التراث الأدبي، يُغنيه ويُثريه”[22]، اعتراف حيٌّ لمُبدعة أحسَّت أن طريقة كتابتها تَختلف عن كتابة الرجل انطلاقًا مِن المواضيع والأساليب، وطبيعة النظر للأمور، فهي من أنصار المَوقِف المؤيِّد لوجود كتابة نسائية.

 

ومِن الأقلام التي أيَّدت تميُّز الكتابة النسائية حميد لحميداني بتركيزه على جانب المعاناة بقول: “إن نسبة معالجة وضع المرأة وحالة القهْر التي تُعانيها كانت تَبرز أكثر في الكتابات النسائيَّة أكثر مما تَبرز في الكتابات الرجالية، والمسألة هنا لا يُمكن أن تفسَّر إلا بالوضع الخاص الذي تعيشُه في ظلَّ القوانين والضوابط المطبَّقة في العالم العربي، وهي في أغلب الأحوال قوانين وتشريعات وضوابط غير موجَّهة ومُثمرة عمليًّا لكي تكون في جانب المرأة كما هي في جانب الرجل”[23].

 

إنه إقرار آخر للمرأة تأكيدًا عما عانتْه، وأنها تميَّزت في وصف جانب المعاناة حتى التصَقَ بها، فكانت براعتها في وصف جوانب الألم والمعاناة جعلها تَطفو على السطح، فابتدأت بوصْف معاناة الشعوب المُستعمرة، وآلام المرأة الظاهرة والخفية، مما جعَلها تَستنهِض هِمَمها لتُخرجها من جهلها، متوجِّهة إلى أولئك النسوة الجاهلات، فكانت المحفز لهنَّ، والمعبِّر عن هُمومهنَّ بقلمها؛ لأنَّ “الكتابة أحفظ لهذا اللسان وأبقى لذلاقته باللفظ الحسن والعبارة، والفكرة الصائبة في صحبة القلم تختصر المرأة المسافات، وتهتك حجاب المَمنوعات، وتُفصح عن المكنونات، في هذه الوريقات وبيان عبارات، عاشت في صَدرها، ونمتْ في فِكرها، وأينعت بتجربتِها، فكان وسيلتها للتعبير عن ذاتها البوح بسرِّها، والصراخ بقلمها، معلنة عن ميلادها، مؤكِّدة لحضورها، محرِّكة للمنسي من أخبارها بوعي وإدراك وتبصر وإحقاق، وعلى الرغم من طموح الخطاب النسائي إلى امتلاك منصَّة تُترجم حقيقة الوجود الفعلي للمرأة ككيان إنساني يتفاعَلُ ويَنفعِل مع نفسه ومع مُحيطه، فإنه لا يزال يُصارع من أجل ذلك في السرِّ والعلن…”[24]، فقد حاول أصحاب هذا الفريق جاهِدين الرفعَ مِن قيمة القلم النسائي، وتمييزه على مستوى المواضيع، وطريقة الصياغة بين الكاتبة، وبقية الكتاب الآخرين سواء من جنسِها أو مِن الجنس الآخر، فخلقْن “نصًّا واحدًا يأخذ تلوينات متعدِّدة، ينحتْنَ نصًّا متشابهًا يتكرَّر جوهرُه، الكتابة تلي فعل البوح، بوح الذات وعذاب الذات والنساء حين يكتبْن عن ذواتهنَّ وحرقتهن وشوقهن وتطلُّعاتهنَّ إلى إثبات حضورهنَّ وتكديس كينونتهن فالكتابة في أبسط تجلياتها هي حركة دائمة ومتجدِّدة نحو هدْم وتثوير الواقع المادي، وهي حركة نحو ابتداع واختلاق واقع مُتخيل وحياة افتراضية يتحقَّق فيها التوازن النفسي والتكامل الإنساني، هكذا تصوغ المرأة المُبدعة عبر الكتابة حياتها الجديدة وولادتها الجديدة للامتِداد في الواقع الإنساني الرحب، الواقع الذي ألغى وجودها وركنها في الظل، اليوم تعلن النساء العصيان والتمرُّد على سلطة المجتمع” الأبيي” وتتوسَّل الكِتابة والإبداع لاقتباس أسرار الرُّؤيا والانعتاق مِن أسْر العتمة المُطبقة وأشكال الحصار”[25].

 

كما أقرَّ توفيق مصباح بوجود كتابة نسائيَّة ترصُد لنفسِها ميزة خاصَّة تَجعلُها تغوص في أعماق المرأة وأهممشاكلها، ومِن ثم أُطلق عليها “الكتابة النسائية“؛ لأنَّها تركز وتصرِّح بمشاكل المرأة، ففرضت شخصيتها وأصبحت كتابة مُعترفًا بها عند بعض الدارسين والباحثين من مثل:

عميد جامعة المولى إسماعيل في كلمته الملقاة إبان افتتاح أشغال الندوة التي نظَّمتها شعبة الإنجليزية وآدابها بكلية الآداب مكناس في موضوع: “المرأة والكتابة”؛ حيث قال: “إنَّ الحديث في المرأة كان يُعتبر في وقت من الأوقات، لا أقول جرمًا، بل أمرًا مكروهًا أو مستهجنًا، وكانت لفظة المرأة في حدِّ ذاتها تقرن بالصفات التي تعني المحاشاة والتحاشي، ووصلنا اليوم إلى وضع أصبح للمرأة فيه وجود مشاهَد ملحوظ، وأصبح الاهتمام بالمواضيع التي تتطرق إليها المرأة اهتمامًا يشكل مشغلة عديدٍ من الهيئات والجمعيات والمؤسَّسات”[26]

لقد أصبح إبداعها يحقِّق النقد ويطرح العديد من الأفكار السابقة، وهذه ليست النهاية بل النجاح يَستوجِب دائمًا المواصلة والحفاظ عليه بالدرجة نفسها، وهذا ما أكسبها “عنادًا جميلاً في البحث الجاد عن مناجم كتابية خاصَّة تنتج لها الحفر في عتمتها لإيجاد كوة ضوء تشعل في دهاليز ذاتِها الفرح ونار الإحساس بإنسانية الإنسان، كقيمة وروح ليس فقط حبسه الشهوة والإغراء والتشيئ”[27] ولتحافظ أيضًا على الاهتمام الذي حظيت به، والتميُّز الذي حصلت عليه بعد جهد جهيد، فرغم الاختلاف في الآراء وطريقة التعامل مع إبداعها؛ إلا أنه أكسبها ثقة ورغبة في الإبداع، “فالتركيز إذًا على إبداع المرأة يُقارب عدة واجهات يتداخَل فيها الإبداعي بالاجتماعي والسياسي بالاقتصادي والفني؛ إذ نقرأ من خلال هذا التراكب واقع الوعي العربي الراهن وما يُعرف مِن مستجدات في التغيير والتحوُّل، كما نترصَّد حدود وعي المرأة بأدوات الحوار والإنتاج، فمِن خلال شكل معمار متخيلها نقرأ مظاهر تحرُّر وعي المرأة من نمط العلاقات السائدة، وفي نفس الوقت نقرأ ملامح التطور الذي يعرفه الإيقاع الحضاريُّ للمُجتمع”[28].

ي

• المعارضون:

كان ذلك الجزء الخاص بالمؤيِّدين، فإذا كان الفريق الأول وقف بجانب المرأة وميَّز إبداعها، فما هو رأي الفريق الآخر؟ ومَن هم أنصاره؟ وما وجهة نظرهم المختلفة وحُجَّتهم في ذلك؟

الموقف الثانيالذي رفض تقسيم الكتابة إلى رجالية وأخرى نسائيَّة، ويُمثِّله عدد من الناقدات والكاتبات منهنَّ: فاطمة طحطح قائلة: “فقد قطعت المرأة العربية عمومًا والمغربية خصوصًا مراحل مضنية وعسيرة للخروج من ظلِّ التهميش الذي فُرض عليها تارة بالعمل، وتارة بالعلم والمعرفة، وتارة بالبحث والكتابة الإبداعية، عبر كل المنافذ التي تُوصِّلها إلى ضوء الحرية والعدالة الاجتماعية، لكنَّها رغم كل ما بذلته مِن مجهود شاقٍّ فإنَّ التهميش ما زال يُلاحقها حتى على مستوى المرأة المثقَّفة وما زال الاستخفاف بإنتاجها العلمي والإبداعي يتردَّد هنا وهناك مِن طرف بعض النقاد والمثقفين، بل هم مَن يَستعمل مصطلح “نسائي” لإظهار قصور الإبداع الخاص بالمرأة”[33]، يتَّضح من خلال قول الكاتبة أن المرأة حاولت جاهدة الخروج مِن الجَهل والقيود التي حاصرتْها ولسنوات، وبالرغم من ذلك ما تزال هناك أقلام معارضة، رافضة لهذه التسمية، من أمثال: خناثة بنونة، وفوزية رشيد، وغيرهنَّ ويمكن أن نضيف إليهنَّ نبيلة إبراهيم، ولأنَّ هذا المصطلح أثار جدلاً واسعًا وإشكالاً مُتكرِّرًا في الساحة الثقافيَّة، وهو إشكال مرتبط بمسألة تخصيص هذه الكتابة بالنسائية، خاصة وأننا لا نلجأ إلى هذا التخصيص عندما يتعلق الأمر بأعمال إبداعية رجالية، كما أن تصنيف هذه الكتابة جاء على أساس جنسي (امرأة / مقابل رجل) فكانت التسمية مرفوضة وغير مُستَساغة لدى الكثير من الباحثات والباحثين.

 

إن رفض هذا المصطلَح نابع من فكرة أن “الأدب واحد، لا يقبل التصنيف بناءً على معايير خارجية غريبة كليًّا عن كينونتِه، وأن ما يلاحَظ عادةً مِن اختلافات فنية وفكرية بين بعض الكتابات لا يعدو أن يكون مجرَّد تلوينات طبيعية، تشهد في مجموعها على دينامية هذا المجال الإبداعي وحيويته، ولا يُمكن اتخاذها أبدًا ذريعةً لأيَّة نمذَجة، غالبًا ما تَتجاوز وظيفتها الوصفية، لتكتسب دلالة معيارية إضافية تفقدها كل قيمة نقدية حقيقية، وتحولها لمجرَّد تصنيف تراتبي مرفوض”[34]، فـ”عبدالعالي بوطيب” وضَّح أن المرأة عندما كتبت لم تُمارس الإبداع ليوصَف بالنسائية، وإنما أبدعت تجاوبًا مع موهبتها التي صقلتها بالتعليم والممارسة والتجربة الإبداعية، ولتُصوِّر واقعَها بمنظارها الخاص؛ لا أن تكون منظارًا فقط يُنظر من خلاله، ولعل تصريحات المبدعات خير دليل على ذلك، ومن جملتهن: “نبيلة إبراهيم التي تجيز استخدام هذا المصطلح شريطة ألا يكون هذا حكمًا مسبقًا بأنَّ ما يَكتبه الرجل أرقى مما تَكتُبُه المرأة؛ لأن الأدب تعبير عن القضايا الإنسانية والاجتماعيَّة، والهموم الذاتية، ولا يَرتبط بجنس كاتب أو بطبيعة”[35].

يتَّضح من قول فاطمة طحطح أنها لا تدافع عن المصطلح بقدر ما تُدافع عن المواضيع التي يكتبها كلٌّ مِن الرجل والمرأة، على أساس أن التمايز بينهما يجب أن يكون علميًّا لا تَمييزيًّا، مبنيًّا على أسس جنسيَّة، فكلاهما متساويان في حقوق كثيرة أعطاها لهما الله عز وجل وأكَّدها العديد من الدراسين، منهم علال الفاسي؛ حيث قال: “فليس للرجل من حقٍّ لا تَملكه المرأة، أو ما يُقابله، وليس[*]يجب على المرأة إلا ما يجب على الرجل إذا تساوت المُهمَّات فالواجبات والمحظورات الشرعية يُخاطب بهما الرجل والمرأة، والثواب والعقاب متساوٍ فيالجزاء إذا تساوت في الأعمال”[36].

إن المرأة كانت ولا تزال كائنًا بشريًّا مُفكِّرًا وموجودًا بتعليمه وفكرِه، لذا فمن حقها التعلم والعمل والإبداع دون أن تُوضَعَ أمامَها عراقيل وإشكالات مزيَّفة تُعثِّرها عن بلوغ سيرها، أو تحدُّ من غزارة إبداعها، فهي والرجل يشتركان في صفة “إنسان”، وهذا الأخير ” ذو إبداعات خلاقة ومُجددة، فلا يمكن أن تأتي جميع الإبداعات مُتشابهة أو مُكررة، فلا بدَّ من التجديد والتلوين والتغيير حسب ثقافة كل مبدع وبيئته وظروفه”[37]، هي الفكرة التي انطلقت منها كل مبدعة للخلق، والتي تُناضل من أجلها بغية حذف تلك التسميات التي لا أهمية لها، مع العلم أن الكاتبات لسن الوحيدات، ولكن أيَّدهنَّ في الرفض بعضُ النقاد؛ منهم عبدالنور إدريس قائلاً: “إن مسألة الإبداع لا تخضع للتصنيف الجنسي، فكتابة الرجل هنا لا يمكن أن نضعها مقياسًا للكتابة المُحتداة، وإلا أصبحنا نقيس كتابة المرأة كهامش بالنسبة لمركزية الرجل، فعندما تحصل المرأة على نفس الحُظوظ في المشاركة، في الحياة العامة وفي الإنتاج الفكري والمجال الحقوقي سيَصعب على الناقد الاحتفاظ بتمييز واضِح بين كتابة المرأة وكتابة الرجل”[38].

 

من هنا يتضح أن الكاتب رفض التصنيف، فليس من المفروض وضع كتابة الرجل مقياسًا للكتابة، وإلا ستصنَّف كتابة المرأة في الهامش؛ لأنه سبَقها بسنوات، فكلاهما يَكتبان ويُعبِّران عما يُحسِّانه كلٌّ بطريقته الخاصة.

 

ومن الأقلام التي عبَّرت عن الكتابة النسائية نذكر الشاعر عبدالواحد معروفي الذي عرَّفها بـ”كلِّ ما تَكتبُه وتُبدعه في عالم الفكْر والثَّقافة والأدب هو أدب أُنثوي، وإن تعدَّدت الأسماء والصفات، هذا المُصطَلح هو ضيِّق الرؤيا، ضيق التعبير، لا ينهض على أسس صحيحة، ولا يُثبِت صحَّته للمفهوم الذي يَرمُز إليه”[39].

 

كما بيَّن عبدالواحد معروفي أن أدب المرأة هو كل ما تبدعه في مجال الأدب والثقافة معترضًا على التسمية؛ لأنه يرى فيها تضييقًا للمعنى؛ ففعل الكتابة عنده أكبر من أن يُحدَّ بمصطلح، فالمفروض أن يحظى الأدب بالدراسة لا المصطلح، فهو يَعتبره إبداعًا له أهدافه دون الرجوع إلى جنسِه مؤكدًا ذلك بقوله: “الأدب هو أدب المجتمع الذي يَنبثِق منه أدب الأمَّة التي يَعيش فيها ويَستوحي مِن واقعها أدب العقول المُنتجة، والأفكار المدبِّرة، وبالتالي فهو أدب نسائي بغضِّ النظر عن جنسه ذكرًا كان أو أنثى، وما يشترط في الأدب هو الجودة والفائدة والتبليغ والتأثير والواقعية… إلخ، وهذا ما يدفعنا إلى الفصل بين الأدب الرجالي والأدب النسائي، ولا يَنفي صفة الإبداع أوالكتابة عن أحد الجنسَين؛ لأن الذي يجب معرفته هو أنَّ للمرأة تصورًا مُختلفًا عن الرجل في كلِّ لحظة وفي كلِّ شيء، وهذا لا يعني أنَّها أقل منه، بل يُثبت لها جرأتها في الموقف”[40]، حقيقة مُعترَف بها، فالعديد من النقاد يرون في الأدب أدبًا لا يَعتمد على التصنيفات الجنسية.

 

نذكر أيضًا الناقد والشاعر أحمد الدمناتي بقوله: “الأدب في عُمقه تساؤلات وجوديَّة وحياتيَّة تَنفتِح على مُمكنات القول والإبداع الناعس في تلافيف الجسد والذات تضاريس العالم والكون وعملية التصنيف (أدب نسائي / أدب رجالي) أظنه مجرَّد عملية وضْع حدود وهمية أو متاريس غير مجدية لا تصلح أن تكون في محراب الإبداع أبدًا، باعتباره فضاءً كتابيًّا غنيًّا ومُفعمًا بالصَّفاء والنقاء والبهاء، والتصالح مع الذات أيضًا، الأدب تراث إنساني خصب، سواء كتبتْه المرأة أو كتَبَه الرجُل، كلٌّ من زاويته يُضيف مساحات جمالية، واحتراقات إبداعية لرفوف مكتبة الفكر والثقافة والكتابة”[41].

 

ومن وجهة نظري فإن إبداع المرأة ظاهِرة صحيَّة، فهو لصالح الرجل والمرأة والأدب والمُتلقِّي بشكل عام كيفما كان اتجاهه أوثقافته؛ إذ سيُوجد في المكتبات وغيرها ما يُنمي الفكر ويفتَح آفاقًا واسعة بالدراسة والبحث، وللتعرف أيضًا على جوانب من واقعه بطريقة فنية؛ وهذا ما أكَّده حميد لحميداني بقوله: “إنه يسلب المرأة والرجل معًا خصائصهما الأخرى باعتبارهما صنفين متعاونين على قيام النوع الإنساني ونشاطه، والعمل على تقدُّمه واستمراريته بكل ما يتصل بدورَيهما مِن وظائف متباينة أحيانًا، ومتكامِلة ومُتبادلة في أحايين أخرى”[42]، فكلا الناقدَين حَرصا على عدم تمييز الكتابة حسب الجنس أو غيره.

 

• المحايدون:

هم أصحاب الموقف الثالث، الذين حاولوا أن يتحدثوا عن الإبداع دون الدخول في إشكالات التأييد والمعارضة، ومن جملتهم:

حسن المودن الذي ذكر لنا أهم المواقف الثلاثة، إلا أنه يَميل إلى المَوقف الثالث – على حدِّ تعبيرِه – قائلاً: “ونحن نَميل إلى هذا الموقف؛ لأنه يَستنِد إلى فلسفة الاختلاف، معتبرًا أن مِن حقِّ المرأة أن تُعبِّر حقيقةً عن ما تريد أن تَعنيه، وأن تقول ما يتعلَّق بهويتها وتجربتها التي تختلف جسديًّا وثقافيًّا ونفسيًّا ولُغويًّا عن هوية الرجل وتجربته، وأن تسمع صوتها المقموع والمكبوت والمستلب داخل لغة ليست لغتَها، وأن تحكي تجربتها وشعورها، وتنسج رؤيتها للعالم في أشكال فنية تتلاءم مع جسدها ونفسها وثقافتها ولغتها، وهذا ليس مستحيلاً إذا انطلقْنا مِن أن اللغة الإنسانية أغنى مما نَعتقِد؛ إذ يُمكنها أن تقول الرجال والنساء بشكل مختلف، ولتكن البداية بافتراض أن اللغة الأدبية السائدة هي ذكورية يَصنعها ويُراقبها الرجل، ومِن حق المرأة أن تقول وأن تكتب خارج مُراقَبة بعيدًا عن أشكاله الفنية ورؤاه الحياتية”[43]، موقف يَنظر إلى الإبداع باعتباره إبداعًا قدَّم الجديد دون الدخول في إشكالات العصر، ومُتبنِّيه يَحرِصون على إخراجه مِن دائرة التشابكات التي أحدثت مؤخرًا، فكل واحد يَكتُب بطريقتِه دون أن يُراقب الآخر أو يَضعه بمَثابة العدوِّ الذي يجب هزيمتُه بأشرس الطرق، ولا الضَّعيف الذي يَحتاج إلى يد العون والشفقة، على كل واحد أن يسير في طريقه دون أن ينظر إلى الآخر نظرة احتقار أو استهزاء؛ فكلاهما أساس المجتمع وعماده.

 

إن تعدد الآراء والمواقف لا يَنفي أهمية كتابة المرأة عبر عصور مضت، والإنجازات التي قدمتها في العصور الحالية، وما ستقدمه في المستقبل.


[1] الرواية النسائية المغاربية، بوشوشة بن جمعة، المطبعة المغاربية للطباعة والنشر، تونس، (ص: 7).

[2] السرد النسائي العربي، مقاربة في المفهوم والخطاب؛ زهور كرام، مطبعة النجاح الجديدة، الدار البيضاء، 2004، (ص: 23).

[3] السرد النسائي؛ زهور كرام، (ص: 24).

[4] المرأة والسرد؛ محمد معتصم، دار الثقافة، البيضاء، (ص: 7).

[5] إشكالية الصراع بين الرجل والمرأة في قصص هدى النعيمي رؤية تحليلية في المضامين؛ د. هيفاء السنعوسني، مجلة كلية الآداب الجديدة، العدد 6، سنة 2001، (ص: 23).

[6] الأدب النسائي، حقل أدبي جديد داخل حقل الأدب العربي المعاصر؛ مباركة بنت البراء، الأنثى والكتابة، أفروديت، (ص: 9).

[7] الكتابة النسائية: الذات والجسد؛ عبدالعالي بوطيب، ضمن كتاب، الكتابة النسائية، التخييل والتلقي، منشورات اتحاد كتاب المغرب، الرباط، يوليوز2006، (ص: 8).

[8] مختارات من الرواية النسائية المغاربية؛ د بوشوشة بن جمعة (ص: 8).

[9] الكتابة النسائية، التخييل والتلقي، مجموعة من الكاتبات والكتاب، (ص: 9).

[10] الأنثى والكتابة “شغب الكينونة الموغلة في الجرح الثقافي “الشعر نموذجًا”؛ بقلم رئيس التحرير، أفروديت (ص: 10، 11).

[11] الكتابة والمرأة؛ حسن المودن، الأنثى والكتابة، أفروديت، (ص: 44 – 45).

[12] ما بعد الكتابة النسائية؛ زهرة الجلاصي (تونس)، آفاق، العدد 67، 2002، (ص: 34).

[13] صوت الفردانية؛ عبدالحميد عقار، الكتابة النسائية، محكي الأنا محكي الحيا؛ مجموعة من الكاتبات والكتاب، اتحاد كتاب المغرب، يوليوز، 2007 (ص: 3، 4).

[14] الهوية الأنثوية من الحكي الشفوي إلى الحكي الذاتي؛ جليلة الطريطر، الكتابة النسائية، محكي الأنا محكي الحياة؛ مجموعة من الكاتبات والكتاب، (ص: 9).

[15] النقد النسوي والسؤال السوسيو لغوي؛ نعيمة هدي، فكر، العدد 5، 2005، (ص: 33).

[16] قراءة في الكتابات الأنثوية، الرواية، والقصة القصيرة المصرية؛ عبدالرحمن أبو عوف، الهيئة المصرية العامة للكتاب، 2001، (ص: 7).

[17] الكتابة النسائية، بحثًا عن إطار مفهومي؛ رشيدة بنمسعود، بحث منشور ضمن سلسلة “مبادرات نسائية” نشر الفنك، مطبعة النجاح الجديدة، 1998، (ص: 46 – 47).

[18] المرأة والكتابة: سؤال الخصوصية / بلاغة الاختلاف؛ رشيدة بنمسعود، إفريقيا الشرق، 1994، (ص: 78).

[19] البُعد التراثي في الكتابة النسائية؛ خديجة أميتي، فكر ونقد، العدد 11، السنة الثانية، سبتمبر 1998.

[20] الرواية النسائية المغاربية، بوشوشة بن جمعة، (ص: 16).

[21] كتابة المرأة الروائية والبحث عن الانزياح؛ محمد عفط، المرأة والكتابة، كلية الآداب والعلوم الإنسانية، مكناس، سلسلة ندوات 8، 1996، (ص: 42).

[22] مفهوم الكتابة النسائية بين التبنِّي والرفض؛ فاطمة طحطح، الأنثى والكتابة، أفروديت، (ص: 56).

[23] حوار الدكتور حميد لحميداني، “الأنثى والكتابة”، أفروديت (ص: 74).

[24] علامات نسائية؛ نجاة المريني، مطبعة النجاح الجديدة، الدار البيضاء، 2006، (ص: 18 – 19).

[25] من يدفع النساء للكتابة؛ توفيق مصباح، الصحراء، يونيو، 2001، (ص: 4).

[26] الكلمة الافتتاحية للسيد عميد جامعة المولى إسماعيل، المرأة والكتابة، مجلة كلية الآداب والعلوم الإنسانية، مكناس، سلسلة ندوات، ع 8، 1996، (ص: 6).

[27] “حوار مع الناقد الشاعر أحمد الدمناتي، الأنثى والكتابة، أفروديت، (ص: 82).

[28] المرأة والتخييل؛ زهور كرام، المرأة والكتابة، مجلة كلية الآداب والعلوم الإنسانية، مكناس، سلسلة ندوات 8، (ص: 27).

[29] المرأة المغربية؛ عبدالواحد أخريف، قضية المرأة، المناهل، عدد 45، السنة التاسعة عشرة، يوليوز، 1994، (ص: 179).

[30] نصيحة إلى الفتاة المغربية؛ محمد بنبين، قضية المرأة، المناهل عدد 45 (ص: 173 – 174).

[31] الكتابة / المرأة والمجتمع، مقاربات وتجليات؛ فاطمة يوسف العلي، آفاق، عدد 67، سنة 2002، (ص: 42).

[32] الكتابة النسائية؛ التخييل والتلقي، مجموعة من الكاتبات والكتاب (ص: 8).

[33] مفهوم الكتابة النسائية (بين التبنِّي والرفض)؛ فاطمة طحطح، الأنثى والكتابة، أفروديت، (ص: 52).

[34] الكتابة النسائية الذات والجسد؛ عبدالعالي بوطيب، الكتابة النسائية التخييل والتلقي، (ص: 7).

[35] مفهوم الكتابة النسائية (بين التبني والرفض)؛ فاطمة طحطح، الأنثى والكتابة، أفروديت (ص: 53).

[*] كذا في الأصل، والصحيح: “ولايجب على المرأة إلا ما يجب على الرجل”.

[36] المرأة شقيقة الرجل؛ علال الفاسي، المناهل، قضية المرأة، (ص: 248).

[37] الكتابة النسائية بحثًا في إطار مفهومين، مبادرة نسائية؛ رشيدة بنمسعود، (ص: 14).

[38] المرأة والكتابة والجسد، دلالة الجسد الأنثوي في السرد النسائي العربي؛ عبدالنور إدريس، مطبعة سجلماسة، مكناس، 2006 (ص: 1).

[39] حوار مع الشاعر عبدالواحد معروفي، الأنثى والكتابة، أفروديت (ص: 84).

[40] نفسه (ص: 86).

[41] حوار مع الناقد والشاعر أحمد الدمناتي، الأنثى والكتابة، أفروديت (ص: 81).

[42] حوار مع الدكتور حميد لحميداني حول “الأنثى والكتابة”، الأنثى والكتابة، أفروديت (ص: 75).

[43] الكتابة والمرأة، حسن المودن، الأنثى والكتابة، أفروديت (ص: 45).