أفاعٍ ملوّنة/ عماد غزالي

ترقدُ على بطنها عاريةً بجوارك.

كلما فكّرتَ في ملامستها،

تشكّلَ الجسدُ وتعدّدَ في ذاتِه.

تعودُ طفلةً، تنمو وتنضج،

وكأنّ الزمنَ، لعينيك فحسب، يعدو بسرعةِ الضوء. 

تنقسمُ إلى امرأةٍ وطفلةٍ، تتحاضنان وتتقلّبان.

وفيما تحاولُ التفرّسَ، تتبدّى الحقيقةُ جليةً

على شكل طفلةٍ لها رؤوسٌ عدة،

تطالعكَ كلُّها بملامح امرأةٍ طفلة

بينما تحتفظُ المرأةُ برأسٍ وحيدةٍ،

تتفرّجُ عليك

بأساريرِ امرأةٍ، لا طفولةَ لها.

….

يخبطُ رأسه، ويخطّ شيئا، ثمّ ينتشي.

لستُ أنا.

إنه الموهوب،

تهبطُ عليه الصور، كأفاعٍ ملونة

تتلوّى وتتشابكُ، لا تبينُ أطرافُها

تخزُه وهو كالمأخوذ

ينخطفُ ويخطّ ثانيةً

لستُ أنا.

….

منتصفَ المسافة، من أزلٍ إلى أبدٍ،

وُلدتُ.

لا كآلافِ من يولدون 

معلّقا على غصن،

على بُعدٍ سحيقٍ من الماضي،

على بُعدٍ شاهقٍ من القادم.

قال لي صديقي: لستَ ضلّيلا.

قلت: وهذه الشجرة؟

كنتُ حائرًا بين موضعِ قدمي ولهفةِ ذراعي

لكنني صدقتُه، واحتويتُ العالم.

….                 

أنتَ تنامُ لتنام،

أما أنا، فإلى لقاءِ أسراري أركض.

إلى فئرانٍ لا تكفّ عن الحركة،

تؤطّر نافذتي، في بيتِ العائلة القديم،

حيث يتوقفُ الكادر، وأحدهم يقذفني بفأرٍ مشقوق.

إلى مركزٍ تتفرَّعُ منه المدن،

الشوارعُ ذاتُها في كلّ مدينة، لحوانيتُ ودورُ العبادة،

المقاهي وباعةُ الفاكهة والبارات،

اللافتاتُ وحدها تنبّهني،

لأميِّز لغةَ قومي عن لغة الغاصب.

ليس هذا فحسب،

تنبّهتُ أيضا لعُملاتٍ مريبةٍ في يدي،

فهُرعتُ إلى الباص باحثًا عن ميدان العتبة،

هاربًا من المطارات،

ضجِرًا من فنادقَ انتقلتْ إليها طوابيرُ الخبز.

لكنّ الميدانَ لم يكن هناك،

كان بعيدًا، بعيدًا جدًا.

وهكذا …

….

لم ألتفت كثيرًا، فيما مضى، لهذه المعضلة

أعني الاعتياد.

عاداتي، لم تكن كلها سيئةً،

لم تكن كلها سرِّيةً.

كنتُ أغلق على نفسي الباب، وأمسك بالقلمِ فحسب.

من ذلك الاعتياد المبدئيّ، تولّدت كلُّ عاداتي الأخرى:

الحلمُ بالطيران، كراهيةُ السُّلطة، مراقبةُ أرداف النساء،

الكتابةُ حين يعتريني الضجرُ من ثباتِ الفصول،

التدخينُ منفردًا على المقهى،

المكوثُ طويلا في لحظة العبور إلى النوم،

تقطيعُ أبياتِ بحرِ الطويل بتأنٍّ شديد، إلى آخره.

كانت مشكلتي فقدانَ المتعةِ بسرعة.

ففور اكتسابي لعادةٍ ما،

تتسرّب الدهشةُ المصاحبةُ ببطء،

أجدُ نفسي مدفوعًا إلى البحث من جديد،

دون أدنى قدرةٍ على التخلصِ من عادةٍ قديمةٍ واحدة.

وهكذا تنضم عاداتي الجديدةُ إلى أخواتها،

وتضيق مع الوقتِ المساحات.

صرتُ موزَّعا، ومفترَسًا بلا رحمة،

وبلا ألمٍ أيضًا،

ذلك أنني ربما اعتدتُ النقائضَ:

الفروضَ والفوضى، المجونَ والسموّ، المعرفةَ واليقين،

القلمَ والصفحةَ البيضاء، التعاطفَ والقسوة، إلى آخره …

                                   

….

قُلتُ للمجدِ سُحقًا،

لَلَحظةُ لذّةٍ فانيةٍ أبقى منك

إنها على الأقلّ

تُخلِّدُ كلَّ امرئٍ، في جحيمه.

                      

العينُ تقتلُ بالأُلفة.

الأذنُ تألفُ بالكثرة.

اليدُ تنتجُ اللمسات.

والقلبُ مركزُ الخلجاتِ التي تؤلف ولا تتشابه،

والتي تُفتَقَدُ حين تعبرُ مرةً واحدة.

الأنف تحللُ الروائحَ الذكيةَ والغبيةَ.

العقلُ يضخُّ الحقائقَ والخيالاتِ: التي كانت،

والتي ستكون، والتي بين بين.

اللسانُ يصنعُ اللغةَ، ويستهلكُ الطعوم،

ويغذي الأنفَ والعقلَ

والخلجاتِ التي بين بين.

معضلةُ الجنَّةِ،

ليست في ” ما لا عينٌ رأت ولا أذنٌ سمعت “،

بل ..

في إعادةِ تأسيسِ الحواس.

وإذْ أنقذناكَ من الخلود

وكتبنا عليكَ بحكمتنا الموتَ

لترقى.