آمنت أن موتي مؤجّل/ عماد فؤاد

أتذكّر الآن الدّفء الذي اختزنته شفتاكِ من فنجان القهوة السّاخن، وأنا أُقبّلكِ في المقهى التُّركيّ العتيق على شاطئ مارماريس، تعرفين هذه اللحظة من الغياب والذّوبان في مشهد بعينه مرّ عليكِ من قبل، فتغمضين عينيكِ محاولة التّركيز في اعتصار المشهد لحظة بلحظة، للوصول إلى تذوّق قطرة التعتّق الكاملة لما يعنيه بداخلك، هذا بالضّبط ما شعرت به وأنا أغمض عينيّ لأسترجع هذا الملمس الدافئ لشفتيكِ

كنتِ تجلسين قبالتي مرتدية معطفكِ الأسود القطيفيّ، والهواء يطيّر شعركِ فيغمر وجهكِ، لتردّه أصابعكِ بحركة خفيفة إلى الوراء، أستطيع أن أكتب قصائد كاملة في وقع هذه الحركة على روحي الآن، كلّ مرّة بطعم مختلف، بشكل مختلف، بحسٍّ إيروتيكيّ مختلف

سأكتب عن لمسة امرأة لا تعرف أثر هذه الحركة من كفّها الصغيرة على النّاس

الماريجوانا تتيح لي هذه النّعمة؛ نعمة تعتيق الذّكريات، وترتيبها واحدة جوار الأخرى، كما لو كانت كتباً أصنِّفها على أرفف المكتبة

نعمة التّركيز في الأحداث، في الشّخصيات والأفكار

من بين جميع المخدّرات والكحوليّات، ظلّت الماريجوانا هي الوحيدة التي تمنحني هذه النّعمة، لذلك لم أكن أفهمكِ حين كنتِ تقفين أحياناً كثيرة في صفِّ أثر الحشيش، وتتركينني وحيداً أرفع راية الماريجوانا إلى الأبد.

 نعم..

لحظة أحسَّتْ شفتيَّ بالدّفء الذي اختزنته شفتاكِ من فنجان القهوة السّاخن

كان هذا المشهد هو غنيمتي الليلة، بعد عدّة سجائر ماريجوانا صافية من أفضل أصناف مقاهي أمستردام، أكره الذّهاب إلى هناك بدونك، ولكن غيابكِ الذي طال لم يترك لي بديلاً، اضطررت إلى السّفر وحدي لأجلب مؤونتي، واليوم دخّنت أوّل خمس سجائر بعد أربعة أيام كاملة من الحرمان

أحبّ تلمّس أثر المخدّر وهو ينتشر في جسمي بعد فترة من عدم التّدخين، أشعر بأنَّ نجوماً تتلألأ تحت فروة رأسي، وبأنّني صرت أخفُّ وزناً، وأنّ روحي صارت أقرب لي، بالشّكل الذي أكاد فيه أن أتلمّس حضورها الرّهيف بداخلي

هي ليست الحالة التي طالما عشناها سوياً من قبل، لكنّها حالة تشبه يقينكِ بأنّ هذه اللحظة هي لكِ بالكامل، لن يقاسمك فيها أحد، هي لحظتك، خاصتك، وعليكِ أن تبدئي في الاستمتاع بها، والتلذّذ بمرورها عليكِ

كانت كؤوس البيرة تُصبُّ من قبل يدي اليمنى، فيما يدي اليسرى مشغولة بالبحث عن سجائري لأشعل واحدة قبل أن أهمّ بلفِّ سيجارة جديدة من الماريجوانا، حين باغتتني هذه اللحظة

لحظة تذوّق أثر الدّفء

الذي اختزنته شفتاكِ

من فنجان القهوة السّاخن

وأنا أُقبِّلكِ في المقهى التُّركي العتيق

على شاطئ مارماريس.

الذكريات هي الجحيم

تستطيعين استعادتها بالمخيّلة، لكنّكِ لا تستطيعين الرّجوع إلى لحظة وقوعها، تحرقكِ بنارها في الحالتين

وكنتُ أظنّ أنّني بعد كلّ هذه السّنين، أصبحت صانع زجاج عجوز ومدرّب، يعرف كيف يتفادى اللسعات من كتلة الذّكريات السّائلة التي تضعها الماريجوانا بين كفّيه، لكنّني اكتشفت أنّني مازلت أتعلّم كلّ يوم من رعونة كتلة الذّكريات

صحيح أنّني كنت أستمتع بحالة بلورتها وتشكيلها من جديد، بحالة الاقتراب منها وتلمّس نتوءاتها التي سرعان ما تصل بي إلى مواضع نعومتها أو خشونتها، إلا أنّها لم تحرمني متعة اللسعات من وقت إلى آخر، متعة الوجع المفاجئة التي تلسعكِ في الموضع الذي لم تتصوّري أنّها قادرة على الوصول إليه.

 كان يمكن أن تكون لحظة استعادتي لملمس الدّفء الذي اختزنته شفتاكِ من فنجان القهوة السّاخن، عاديّة، لو أنّني رأيتها كذكرى مرّت كغيرها من الذّكريات، كان يمكن ألا تترك في نفسي شيئاً، لو أنّ فكرة أخرى طغت عليها، وحلّت مكانها، كان يمكن أن تصيبني بالأسى لا بالنّشوة، لو أنّني استعدتّها في اللحظة ذاتها التي أدرك فيها غيابكِ عنِّي، اقتنعت بأنّ عليَّ أن أتعامل مع نفسي على أنّني مجرّد صانع زجاج مبتدئ، عليه أن يؤمن بأنّ حرفة يديه المدرّبتين، ليست كلّ شيء، عليه أن يتعلّم أن يترك الكتلة السّائلة بين أصابعه على سجيّتها

ليرى إلى أين ستوصّله

أن يتركها تستنّ قوانينها بنفسها

وله أن يطاوعها أحياناً

أو يردّها أحياناً.