نفق سري للكاتب مصطفى سليم
الرؤية واللغة والخطاب المعرفي
اطلعت مؤخرا على مجموعة ( نفق سري) للكاتب والباحث دكتور مصطفى سليم، الصادرة عن دار الربيع للنشر والتوزيع .. وبقراءة أولية للمجموعة يمكن القول إن هناك خطوطا عريضة تميزها، ولعل من أبرز هذه الخطوط التي تشكل النص هو اختلاف قالب التقنية الأدبية التي عبر من خلالها الكاتب عن تجربته ورؤيته للعالم؛ فقد استخدم الكاتب قالب السرد القصصي الممتد الذي يعتمد الأقصوصة شكلا بنائيا يمثل كل منها وحدة صغيرة في بنية النص، بحيث تعد كل أقصوصة تجليا في انعكاس كلية الرؤية وشمولية البناء السردي، وقد وظف الكاتب اللغة القصصية بشكلها المكثف الذي يعتمد على الرمز والإحالة والتعبير الكنائي للتعبير عن رؤيته، متخطيا الدلالة الوضعية المعجمية لكثير من المفردات، لتتناسب لغة القص مع طبيعة السرد الذي يراهن فنيا على منطقة الحلم واللاوعي للبوح عن المسكوت عنه والذي يشكل أرق الذات الكاتبة وازمتها الوجودية وألمها وإخفاق الواقع وانكسارات الفرد في ظل طغيان المدنية ورسوخ مفاهيم الجماعة وتكلسها وعدم قدرتها على استيعاب الحلم والتمرد والرؤى الفردية التي تتطلع للوجود، وقد تضمنت المجموعة أكثر من خمسين قصة وأقصوصة، يمثل الكاتب السارد المركزي في معظمها، بما يمكن أن يعد إشارة لتقوقع الذات حول نفسها وبحثها عن تكريس هوية فردية تقاوم هذا الانسحاق، عبر وسيط فني لصناعة عالم موازٍ مقابل العالم الواقعي الذي يمثل ضغطا على الذات ومسرحا لتجلي الإخفاق وعدم القدرة على المواءمة والتعايش.
ولقد استطاع القاص بلغة متميزة أن يتحرر من البلاغة الكلاسيكية التي تعتمد على التشبيه والاستعارة والتلاعب اللغوي الشكلاني بالمحسنات اللفظية؛ مستخدما لغة خاصة تتميز بطابع صوفي وظلال شعرية تفتح أفق الدلالة، وقدمت المجموعة خطابا معرفيا داخل قصصها يخرج بها عن السرد الهذياني وعن نمطية الرؤية والمعالجة، فقد اشتملت المجموعة على أكثر من ثماني قصص ذات طابع صوفي؛ منها ( حضرة – المريد – الحالم – الضباب – حضن الجبل) كذلك على أكثر من عشر قصص ذات طابع وجودي؛ منها ( مسار إجباري- مطاردة – زيارة متكررة – مدينة الموتى – شباك رقم 5 ) وقصص أخرى ذات طابع رمزي تمثل تيار اللاوعي والحلم وفقا للمفهوم الفرويدي منها ( الكابوس – القرين – ذات حلم – الفراغ – الوسواس ) أيضا القصة الواقعية بإسقاطاتها على المعيش واليومي بكل ما يحمله من معاناة تمثل حياة الفرد المعاصر؛ منها ( الأجير – العمدة – القانون – رصاصة البدء – الساخر )، وتشير هذه التنوعات في قوالب التقنية والرؤى ولغة التعبير إلى ثراء النص فنيا وقدرة الكاتب على ترويض لغة السرد لاستيعاب معطيات المعرفة بروافدها المختلفة، وسعة مساحة التناقضات في الواقع والوجود، إذ راهن الكاتب على تقنية التضاد لإظهار المعنى في كثير من قصصه، مثل الشيخ والمريد / الحلم والواقع / الحياة والموت / .. غير أن الكاتب في بعض قصصه استجاب لفكرة الانسحاب والهروب من الواقع، أيضا التسليم ببعض الإجابات الوجودية الجاهزة، ورغم كثافة لغة القص وإيجازها إلا أن بعض القصص لم تخل من زوائد سردية تقريرية تمثل عبئا على النص كان يمكن الاستغناء عنها، لا سيما أنها أحالت بعض القصص إلى دائرة القصة المغلقة التي لا تسمح للقارى بمساحة أكثر اتساعا من التأويل واستبطان المعنى، إلا أن هذه السمة لم تتكرر كثيرا فقد كانت سمة عارضة لا تختصم كثيرا من جماليات النص وفنيته، فالنص في مجمله يعد إضافة لمنتوج الكاتب، ويمثل نقلة فنية في لغته تعبر عن نضج فني وتمكن من أدوات التقنية.