حاولت أن تتماسك قدر إمكانها، كتمت بكفها المرتعدة صرخة انفعال كادت أن تخرج، صكت أسنانها وابتلعت غضبها مرغمة، ثم لاذت بالصمت.
جلست على أقرب مكان رأته مناسبا لجلوسها، ولملمت ذيل فستانها “الكلوش”، الذي على اتساعه فهو لم يتخط ركبتيها البراقتين، ولم يستطع أن يكمل الاتساع ذاته عند الصدر، فظل يقاوم ثديين مكتنزين، لم يلبثا أن أعلنا انتصارهما، مشهرين في ثقة، يكادان يفران من فتحة مستطيلة زينت مقدمة الفستان، لتمنح الناظر شعورا أكيدا بأنه يقف أمام السندريلا.
انتقلت أصابعها لتجمع خصلات شعرها الكستنائي الطويل، التي تتناثر في تموج غجري مغرٍ، ونظرت إلى نقطة بعيدة، ربما لتهرب بتفكيرها عن كل ما يحوطها.
الصوت أمامها يعلو، حتى استحال صراخا لا يمكن تجاهله، فعادت من شرودها البعيد، ونظرت لتلك الصارخة أمامها، وفي هدوء لم تدر من أين حل بها، قالت في فرنسية سليمة، ذات لكنة فرانكفونية:
_ اصرخي كما تريدين، فلن تغير ثورتك مما انتويت عمله.
ضيقت الصارخة عينيها وفغرت فاها في غير فهم، ثم أشاحت بذراعها في غضب، وغمغمت ببضع كلمات غير واضحة، ثم غادرتها.
ارتسمت ابتسامة ساخرة على شفتيها، وهي توميء برأسها وكأنها تحيي نفسها، تلك التي استطاعت إنهاء الحوار الغاضب لصالحها، وبطريقتها التي أدركت مفعولها منذ وقت قريب.
تناولت حقيبة يدها الصغيرة، التي تبدو وكأنها حيكت من قماش الفستان نفسه، واللون ذاته، فتحت باب الشقة وغادرتها إلى عطفة تتفرع عن حارة شعبية في إحدى مناطق السيدة، تجاهلت همهمات النساء، ونظرات الرجال النهمة، واستقلت سيارتها التي اضطرت لركنها في الشارع الرئيس، على بعد ثلاث حارات وزقاقين وعطفتين.
عادت لتبتسم عندما جال بخاطرها أن كل ما دار بينها وبين جدتها منذ دقائق قد وصل إلى أسماع كل الجيران، وكيف لا، وتلك المسافة الفاصلة بين أي بيت والبيت المقابل له لا تتخطى الذراعين، حتى أنها رأت جدتها كثيرا ما تتناول ما تريد من جارتها عبر النافذة، مادة يدها إليها في بساطة.
ولم تلبث أن حمدت الله أنها استطاعت فرض رغبتها برفضها الانتقال للعيش مع جدتها، التي صارت كل من تبقى من عائلتها، بعد ذلك الحادث المروع الذي اختطف أباها وأمها وأخاها وخالتها.
استقرت أمام عجلة القيادة وهي تجيب محمولها مؤكدة لمحدثها أنها ستتزوجه رغم أنف من يعترض، وسوف تنتقل للاستقرار في بيت أمها الصغير بنيس، وستنتظر قدومه إليها كل صيف، بعد أن يدبر سببًا وجيهًا يقابل به استفسار زوجته عن تكرار سفره.
صمتت فجأة عندما تناهى لمسمعها صوت تعرفه، نطقت صاحبته كلمتين فحسب، ويبدو أنها أدركت أن هناك مكالمة تجرى، لكن بعد أن وصل صوتها إليها.
أغمضت عينيها وعصرت المحمول بين قبضتها عصرًا، وكأنها تعتصر عقلها في محاولة لتذكر صاحبة الصوت، وبين محاولات الطرف الآخر التشويش على ما حدث، فجأة قفزت صورة صاحبة الصوت إلى عينيها دونما تردد، فدفعت المحمول عن يدها وأسكنته المقعد المجاور بعنف، وهي تصرخ بالفرنسية:
_ صديقتي الأقرب مع حبيبي….
ثم وسدت رأسها كفيها، وانهارت في بكاء مرير، عندما أفاقت على صوت نقرات متعجلة قلقة على زجاج سيارتها، فرفعت وجهًا أغرقته الدموع، لتجد جدتها تستحثها أن تفتح الباب في لهفة.
ولأول مرة منذ ساقها القدر لمعرفتها المتأخرة، تلجأ لأحضان جدتها ولا تجد خجلًا في أن تريها دموعًا جاهدت طوال شهور مضت ألا تظهرها لها.
كم من الوقت مر وهي تسكن بين تلك الذراعين، هي لا تدري، لكن عندما ابتعدت ببطء عن حضن جدتها، وغادرت تربيتتها الحنون، كانت قد اتخذت قرارًا حاسمًا، ابتسمت على إثره وهي تقول في ود:
_ أتعلمين يا جدتي أنك ستسعدين كثيرًا بالحياة معي في نيس..
ثم غمزت بعينيها وهي تطلق ضحكة جزلة، وتحتضن تجاعيد كف جدتها في حنو.