ذهبت في زيارة عمل لإحدى المحافظات الساحلية؛ في نهاية اليوم رافقت صديقي التاجر الكبير بتلك المحافظة للقاء أصدقائه للسمر والتسرية، سهرة تمتد حتى الساعات الأولى من صباح اليوم التالي. “شلة” من الأصدقاء يجمعهم السمر، ويفرقهم مجالات العمل؛ هذا التاجر الكبير، وذاك الطبيب ذائع الصيت، وهذا مستورد الأجهزة الكهربائية، وآخر تاجر للسيارات، إلى جانب عمرو الضابط أحد قادة الأمن بالمحافظة، وصديقي كبير التجار في مجاله. “شلة” تمثل نموذج لنخبة مجتمعنا الجديد، ذهبنا جميعا إلى أحد مراكز الألعاب الإلكترونية الـ “play station” مركز يليق بـ “شلة” صديقي ومستواها الاجتماعي والمالي. غرف ألعاب كما يطلق عليها “vip”، أجهزة تكييف، أَرَائِك وثيرة مريحة، أحدث أجهزة الألعاب، شاشات عرض كبيرة، مقبلات ومشروبات ساخنة وباردة لزوم التسلية. عرضوا على باعتباري ضيفهم أن أتقدم لمشاركتهم اللهو واللعب، شكرتهم بلطف، لم يكن لي قدرة على استخدام تلك الأجهزة الحديثة، وهم يبدو عليهم أنهم متمرسون، هذه هوايتهم الليلية يوميا. وفي داخلي أيضا لم أكن أريد أن أكون مدعاه لسخريتهم ولو على سبيل الهزل والمزاح لزوم القعدة كما يتنادرون بينهم. جلست أتابعهم وهم يتبارون فيما بينهم، يتندرون ويتضاحكون على نتائج منافسات سابقة بينهم، ويتوعدون بعضهم البعض بالثأر والهزيمة. أرخيت ظهري مستمتعا بالأريكة الوثيرة بعد سفر وحرارة وعناء اليوم الطويل، رغم انتشار دخان سجائرهم وارتفاع أصواتهم، سرت الراحة والخدر إلى جسدي، ساعد على ذلك هواء التكييف فائق البرودة المنعش. رغما عني، عدت بذاكرتي إلى قريتي وطفولتي؛ تذكرت أبي، كان يجتمع وأقربائه للتسلية في الليالي الصيفية، صيفًا بلعبة النَرد “الطاولة” وصيفًا أخر يجتمعون على لعب الورق “الكوتشينة”. بينما عمي الأصغر خريج مدرسة المعلمين، باعتباره الوفر حظًا في التعليم كان يجتمع هو وأقرانه على لعبة الشطرنج. أما عني أنا؛ فكانت ولا تزال القراءة هي أحب الهوايات إلى قلبي، أستمتع أيما استمتاع بقراءة مجلات سمير، وميكي، وفلاش، أنتظر بشغف كبير صدورها أسبوعيا في محل العم سمير، أعاود قراءاتها مراراً وتكراراً، دون ملل، تنقلني لعالم آخر. تطور الحال، وامتلك أبناء الخالة الكبرى مشغل للألعاب “أتاري” كان بسيطاً، لكنه امتلك عقولنا، نقضي عليه ساعات طوال دون كلل أو ملل، تشتكي الخالة، ويتبرم زوجها ناظر المدرسة من ضجيجنا المتواصل. سارت الأيام، اجتاحت الأجهزة الصينية الجديدة أسواق العتبة، تطورت الألعاب أصبحت أكثر تجسيدا وأكثر إثارة، ألوان مبهرة، أكثر تسلية، من يمتلك شريط ألعاب جديد كأنه امتلك ثروة، يسير متباهياً بين أقرانه، ومن في مثل حظوته، يمتلك جهاز التشغيل، وأحدث ألعابه، يتحكم فيمن يحوز رضاه لينضم لصحبة المتعة واللعب. مع نهاية التسعينيات انتشرت محلات “الأتاري” في القرية، لكنها ليست كمركز صاحبي التاجر؛ دكاكين معتمة الإضاءة، رديئة التهوية، أجهزة تلفزيونيات تتصل بها مشغلات الألعاب بالية باهتة الألوان، تقول أمي أنها تسحب نور العين، أما عن نظافة تلك الدكاكين فأقل ما يوصف أنها قذرة، يتسرب إليها من المدرسة ومجموعات الدروس الخصوصية الأولاد “البايظين” على حد وصف أمي. عقد ذهني مقارنات تلقائية سريعة بينا ما كنا نعيشه من الصيف للصيف على قدر بساطته، لكنه كان أكثر متعة، وبين المركز المريح الفخم الذي يتبارى فيه صاحبي وأصدقائه في اللعب إلكترونياً. ألح ذهني بالتساؤل، هل تختلف المتعة ؟؟ هل تزداد مع كل وسائل الأبهة والراحة المحيطة؟؟ أم تنخفض ولا طعم لها مع كل هموم ومشاكل روادها المتزايدة بقدر حجم أعمالهم وثرواتهم؟؟ أم أنها متعة منزوعة الدسم، شأنها شأن كل وسائل المتعة والترفيه في عصرنا هذا.. عدت لأرض الواقع، استيقظت على ضجيج وهرج وصياح الفريق المنتصر، كان الرهان الليلة على مشروبات للطاقة يدفع ثمنها الفريق الخاسر، بينما كان يقتطع خمسة منا من مصروفهم اليومي نظير ساعة واحدة في دكان الألعاب القروي. الآن عادوا يبيعون لنا تلك أجهزة الألعاب القديمة عبر صفحات التسوق في مواقع “السوشيال ميديا”. لكن من يبيع لنا متعتنا القديمة، ويعيد لنا رفاق الأيام الخالية. ترحمت على أبي، وعلى أيام المتعة والبساطة الزائلة، أيام ليتها دامت، أيام ليتها تعود.
….