طرائق إيصال المعنى في الحديث النبوي

طرائق إيصال المعنى في الحديث النبوي

..
د. الحبر يوسف نور الدائم
أستاذ اللغة العربية بكلية الآداب جامعة الخرطوم

….

قلت في مقال سالف إن الرسول كان مثالاً في الإيجاز وخطم الكلام، وننبه هنا إلى أن الرسول صلى الله عليه وسلم لم يأت الإيجاز في كلامه مجرداً تجريداً، فقد تلجئه الضرورة أحيانا إلى ضرب من ضروب التكرار والترداد والإعادة، وإنما العبرة بالمقام فلكل مقام مقال، ولكل صناعة شكل كما كان يقول أبو عثمان عمرو بن بحر الجاحظ، والعرب أسهبوا في الكلام وأوجزوا إلا أنهم كانوا إلي الإيجاز أقرب، وفيه أرغب، وعليه أحرص قال الآخر:
يرمون بالخطب الطوال وتارة
** وحي الملاحظ خيفة الرقباء
والرسول وإن بسط القول أحيانا لغرض من الأغراض الداعية، إلا أن الغالب علي كلامه صلى الله عليه وسلم صفة الإيجاز، ولهذه الصفة البارزة في أحاديثه نجد كثيراً من منها قد خرج مخرج الأمثال، وجرى مجراها ونحن نعلم أن الإيجاز شرط من الشروط المقدمة في المثل، إذ المثل يعتمد علي الصياغة المركزة، التي تلخص المعنى تلخيصا وتدعه مركوزاً في الذهن، ثابتا في الذاكرة، ماثلاً في الخيال، سهلاً حفظه واسترجاعه والاستشهاد به في المناسبات المتباينة، والمقامات المختلفة.
والأحاديث التي طارت في الآفاق، وسارت بها الركبان، وصارت مثلاً، كثيرة مستفيضة نجتزئ بعضها. قالوا سمع أعرابي دندنة رسول الله فقال الأعرابي للرسول صلى الله عليه وسلم في بلاغة ولباقة: ( أما أني لا أحسن دندنتك ولا دندنة معاذ ولكنني أريد الجنة)، فقال الرسول في بلاغة ولباقة وإيجاز معجز: ( حولها ندندن )، وأسر الرسول صلى الله عليه وسلم أبا عزة الشاعر الجُمَحي في غزوة بدر فقال أبو عزة: (إنني رجل فقير ذو عيال فاعف عني)، فعفا عنه الرسول على ألا يظاهر عليه أحدا، و لكن أباعزة لم يرع عهداً ولا ذمة، فانطلق في ضلاله القديم يؤذي الرسول صلى الله عليه وسلم ويؤلب عليه، ويناصر المشركين، ودارت الأيام دورتها فإذا بابي عزة يؤسر في أحد، فشكا إلى الرسول صلى الله عليه وسلم فقراً وعيله، ورجاه أن يمن عليه، فقال له الرسول صلى الله عليه وسلم: ( لا يلدغ مؤمن من جحر مرتين، لا تمسح عارضيك بمكة تقول قد خدعت محمدا مرتين )، ومن الأحاديث التي تنحى هذا المنحى ويستشهد بها في كثير من المواقف؛ قوله صلى الله عليه وسلم: ( الحرب خُدعة)، وفي رواية خِدعة، وقوله: ( من حسن إسلام المرء تركه ما لا يعنيه)، وقوله: ( أسلم تسلم)، وقوله: ( الأرواح جنود مجندة، فما تعارف منها ائتلف، وما تناكر منها اختلف)، وقوله ( ليس الغنى عن كثرة العرض، إنما الغنى غنى النفس)، وقوله: ( لو كان لابن أدم واديان من ذهب لابتغي لهما ثالثا، ولا يملأ جوف ابن أدم إلا التراب)، إلي غير ذلك من الكلم الجامع البليغ الذي تثبت الأيام صدقه ونفاذه، يوما بعد يوم، وساعة إثر ساعة. ولقد جاءت أحاديثه صلى الله عليه وسلم جامعة مانعة تعالج القضايا الكبيرة الضخمة في الألفاظ القليلة المشرقة، وهذا مما ساعد الفقهاء والعلماء وأعانهم على وضع القواعد الدينية والأسس التشريعية والنظريات الفقهية، وكثير من الأصول التي تندرج تحتها الفروع، من ذلك قوله صلى الله عليه وسلم ( لا ضر ولا ضرار )، وقوله ( من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد ) وقوله: ( كل بدعة ضلالة )، وقوله: (إنما الطاعة في المعروف )، وقوله: ( لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق) وقوله: ( كل معروف صدقة )، وقوله: ( كل المسلم علي المسلم حرام دمه وماله وعرضه)، وقوله: ( إن الله طيّب لا يقبل إلا طيبا)، وقوله: ( إنما الأعمال بالنيات )، وقوله: ( كل شراب أسكر فهو حرام )، وقوله: ( ما كان من شرط ليس في كتاب الله فهو باطل وأن كان مائة شرط، قضاء الله أحق، وشرطه أوثق )، والأحاديث الكلية الجامعة كثيرة وهذا غيض من فيض، وقطرة من بحر، وفي كلها نجد المعاني تزدحم ازدحاما، ولا عجب؛ فهو رسول الله الذي بعث بجوامع الكلم واختصر له الكلام اختصارا.
وهكذا لاذ الرسول بالإيجاز فراراً من التطويل في غير ما فائدة. أما إذا كان التكرار والترداد والإيماءة والإعادة لهدف وغرض فلم يكن الرسول يتردد في الأخذ به. ومن هديه أن يكرر بعض الجمل أكثر من مرة تثبيتاً للمعنى، وقد يفعل ذلك تخويفا للناس من الذنوب، وتنفيرا لهم من المأثم؛ فقد جاء في الصحيحين عن أبى بكرة عن رسول الله أنه قال: (ألا أنبئكم بأكبر الكبائر ثلاثا : فقلنا بلي يا رسول الله قال وكان متكئا فجلس، الإشراك بالله، وعقوق الوالدين، ألا وقول الزور، ألا وقول الزور، ألا وقول الزور، فما زال يكررها حتى قلتُ لا يسكت )، وعنه أنه قال: ( هلك المتنطعون هلك المتنطعون هلك المتنطعون ) وروى أبو ذر الغفاري عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قوله: ( هم الأخسرون ورب الكعبة، هم الأخسرون ورب الكعبة، هم الأخسرون ورب الكعبة). قيل ومن هم يا رسول الله:( قال الأكثرون أموالاً، إلا من قال فيها هكذا وهكذا)، إشارة إلى الإنفاق في كل وجه من وجوه البر والخير والإحسان.
وترديد الجمل وتكرير المعاني يعين علي حفظها ولا سيما في زمان قلت فيه الكتابة وإن لم تنعدم مرة واحدة، وكان يؤكد المعاني ويوثقها ويقويها بالحركة والفعل كقوله( هكذا وهكذا ) في الحديث السابق، وقوله (المسلم للمسلم كالبنيان يشد بعضه بعضاً ) وشبك بين أصابعه، ومن هذا الباب قوله: ( بعثت أنا والساعة كهاتين ) وأشار بالسبابة والوسطى، وذلك ليوقع في روع السامعين أن أمر الساعة قريب وشيك ماثل, ومن إشاراته قوله صلى الله عليه وسلم: ( ما أحب أن أُحداً لي ذهبا تأتي علي ليلة أو ثلاث عندي منه دينار إلا ارصده لدين وإلا أن أقول به في عباد الله هكذا وهكذا وهكذا )، وقريب منه قوله لجابر بن عبد الله الأنصاري رضي الله عنه: ( لو قد جاء مال البحرين أعطيتك هكذا وهكذا وهكذا) فلم يجئ مال البحرين حتى قبض النبي فلما جاء مال البحرين أمر أبو بكر مناديا فنادى من كان له عند النبي صلى الله عليه وسلم عدة أو دين فليأتنا، فقلت إن النبي قال كذا وكذا فحثا لي حثية فعددتها فإذا هي خمسمائة، وقال خذ مثليها، وإنما ذكرت هذا الحديث بطوله لبيان كرمه وأريحيته صلى الله عليه وسلم أولاً، ولبيان حرصه علي تنفيذ عدته ثانيا, ومن الأحاديث التي أكد فيها النبي صلى الله عليه وسلم المعنى بالفعل؛ الحديث الذي يحكيه عنه رافع بن خديج ( إن لهذه الإبل أوابد كأوابد الوحش فإذا غلبكم منها شئ فافعلوا به هكذا)، وقوله (هكذا) إشارة إلى صفة رمي ما شرد من الإبل. وهكذا لم يدع الرسولطريقة من طرائق توصيل المعني وتقويته ألا أتبعها .