رثاء إصبع ينام وحيدا فى مقبرة/ عبد الغفار العوضي

 

 

 

(1)

 سيكون لكل إصبع إحساسه الذاتى بالزمن، يعرف جيدا كيف كبر هذا الطفل فجأة، كيف كان يستسلم ليد أمه وهى تقوده فى متاهة الإشارات، لم يتعلم بعد كيف يشير لأعدائه ..أو يعطى أمرا بقتل جماعى ..أو يحفر بأظفره الهش فى حجر السماء للحصول على إله يناسب قدرته اللامحدودة على الخلق ..

كيف كبر هذا الطفل،

وصار ظل البيت أكبر من ظل إصبعه الصغير..

ومن بعدها لم يعد إلى البيت.

 

(2)

لم أعرف كيف تخوض أصابع اليد صراعاتها الخاصة، كانت الفكرة القديمة عن وحدة اليد وقبضتها كافية لبناء حضارة تهدم نفسها تدريجيا، لكل إصبع سلطته الذاتية، فكرة أن تتحد الأصابع مؤقتا هى أن ينال كل واحد غنيمته الخاصة بعد انتهاء الحرب، إنها صفقة رابحة..

ماذا سيكون طعم الخسارة لو فقدنا إصبعا فجأة

او انكسر لأنه لم يستطع حمل عظم ثقيل من العاطفة المتناقضة

لأن الاتجاهات المتضادة تشبه فك جسد متهاو من مفاصله..

 

لا يستطيع إصبع واحد الإشارة لكل المصائر

ولكنه كان كافيا على الأقل لحفظ ذاكرة صغيرة من الألم

السعادة المؤقتة

الشعور بلذة اللمس لأول مرة

رؤية الدم يتدفق من ينابيعه الدافئة لإرواء شجرة الحزن فى غابة القلب.

 

(3)

إنه إصبع صغير

ولكنه يكفى ليكون جسرا بين طفل وأم

بين الحليب ومذاق الدهشة

بين الألم وكتابة سيرة التيه.

 

(4)

هل سندفن تلك الذاكرة الصغيرة بلحمها النيئ الذى ما يزال يحمل طعم الحياة فى نسيجه الممزق، إصبع ربما يبكى بمفرده حين تنام بقية الأصابع، هو يعرف أن فخ الحياة أوقعه فى تلك الحرب العائلية دون ان يمتلك قرار الإنتماء لجانب ضد آخر ..

 

لا يعرف الخير أو الشر،

ولكنه يعرف طعم السعادة حين يطعم عصفورا يقف على طرف أنمله.

 

 

يعرف كيف يصطاد طعم القبلة من شفة حبيبة تطبخ كل شهوتها فى مطبخ الغداء.

 

يعرف كيف يمسح دمعة من خد غريب.

 

كيف يتذوق بلهفة عرق مسافر أتعبه الإغتراب.

 

كيف يلتئم فى مواجهة البرد والظلمة لأنه ما يزال يشعر بوجع القلب ..فيخاف أن لا يجد العقل المشرد وسادة من قش الطمأنينة.

 

يعرف كيف يقلب ملعقة سكر فى كوب من الاحزان..

 

(5)

يموت بعيدا وغريبا الآن

يعرف الآن كيف يلتهم الرمل والتراب ما يسيل من شريانه المبتور من ذكريات حزينة.

 

يخاف من فكرة أن لا يعود إلى البيت مرة أخرى،

أن لا يرى وجوه إخوته من جديد!

اضف رد

لن يتم نشر البريد الإلكتروني . الحقول المطلوبة مشار لها بـ *

*