حفريات علاء خالد قراءة في ديوان “العدم مكان حنين أيضا”/ فتحي عبد السميع

 

 

في كتابه الشعري الثامن “العدم مكان حنين أيضا” يحمل علاء خالد عدسة مكبرة أو مجهرا ضخما، ويتوقف أمام الأحداث الصغيرة التي تنتمي إلى سيرته الشخصية، وقد تحولت بين يديه إلى حفريات متحجرة، و آثارٍ كاشفة لا للتاريخ الشخصي للشاعر، بل للتاريخ الإنساني بشكل عام.
يتكون الديوان من ثلاث قصائد يمكن توزيعهما على قسمين مختلفين، القصيدة الأولى (الحياة التي اتخذتْ هيئةَ جسمي) تشغل ثلي الديوان تقريبا، ويمكن اعتبارها ديوانا مستقلا بذاته، أما القسم الثاني فيتكون من قصيدتين طويلتين نسبيا، وبفضلهما يتحول الديوان إلى مجموعة شعرية، إذا اتفقنا على أن الديوان يختلف عن المجموعة الشعرية في كونه ينطوي على وحدة، أو تتماسك كل أجزائه على نحو يمنحنا الشعور بوجود حالة واحدة، وعلى هذا يمكن النظر إلى القسم الثاني باعتباره ملحقا على القصيدة/ الديوان، وقد أشار الشاعر في البداية إلى تاريخ كتابة قصائد الديوان في الفترة من 2015 حتى 2020، ما عدا القصيدة الثالثة التي تتكون من أربعة نصوص والتي تعود لعقد التسعينيات، ولم تُنشر في أي ديوان من قبل.
القسم الأول يتكون من سبعة وخمسين نصا، لا يجمع بينها رابط خارجي، أو تسلسل منتظم، حيث يفصل بين كل نص والنص الذي يليه فراغ أبيض وعدد من النقاط، وقد آثر الشاعر أن لا يضع عناوين أو أرقاما تميز كل نص، وفي هذا سعْيٌ نحو تضييق الفوارق الشكلية بين أوصال الديوان، ودعم الشعور بأننا أمام نص واحد وإن تبعثرت أعضاؤه، وهذا الشعور يتأكد من الداخل من خلال هوية البطل الذي تدور حوله تلك المقاطع، فالمتكلم بامتداد الديوان شخص واحد منكفئ على عالمه الداخلي، ورغم أن القصيدة/الديوان تبدأ من زمن الطفولة إلا أنها لا تقدم ما يشبه السيرة الذاتية للشاعر، وإن احتوت على تفاصيل من عالمه الخارجي، لأن تلك التفاصيل تأتي خطفا، ولا تمضي في خط طولي ممتد بانتظام، بل هي أشبه بالشظايا المبعثرة التي يلتقطها في لحظة زمنية متأخرة عن زمنها، ويحولها إلى مرايا يعاين من خلالها عالمه الباطني.
تقسيم الديوان إلى سبعة وخمسين جزءا بلا عناوين أو ترتيب معين يبدو تصميما شكليا أو خارجيا، لكن معايشة النصوص تكشف عن اتصال عميق بين التصميم الخارجي والحالة الداخلية للذات، الذات التي تعاني من تمزقات أليمة، وتبعثر فوضاها الداخلية كتابة بهدف مقاومة التمزق وتحقيق التناغم مع العالم.
يختلف القسم الأول عن القسم الآخر من خلال اللغة بشكل أساسي، حيث تذهب اللغة كثيرا باتجاه الرمز، وتظهر الحفاوة بالتكثيف والإيحاء وتنكمش التفاصيل الواقعية إلى أقصى حد، بخلاف القسم الثاني الذي يحتفي بالتفاصيل والسرد أو الحكي، والسطر الشعري الممتد على النحو الذي يتطابق مع مثيله النثري، يقول في نص من نصوص القسم الثاني بعنوان المكتبة:
فجأة انهارت المكتبة الجديدة التي صنعت لها رفوفًا من الزجاج الثخين كي تتحمل ثقل هذه السنوات التي قضيتها في حب الروايات واستعبادها لي. لم تضم فحسب تاريخ محبتي الشخصية للكتب؛ بل محبة أبي أيضًا، بعد أن أدمجت، بعد وفاته، مكتبته الخشبية السوداء، التي تحوي تاريخًا آخر من الدراما الإغريقية، داخل مكتبتي. ورثت حب المأساة عن أبي، وبطله الذي لا يبحث أصلًا عن الانتصار، وخلطتها بحبي للبطل الذي يبحث عن الانتصار. ربما لم تتحمل المكتبة الجديدة ثقل تاريخين مهزومين، أو صراعًا بين بطلين مزيفين، فانفرط عقدها، وساحت خيوط الدماء فوق قطع الزجاج الصغيرة.
هنا يختفي الخيال ولا يظهر إلا في السطر الأخير عندما “ساحت خيوط الدماء” من الكتب، ويمتد السطر ليأخذ شكل السطر النثري المعتاد، كما يختفي المجاز، باستثناء موضع واحد حيث نجد كلمة (السنوات) مكان كلمة (الكتب) عندما يقول “صنعت لها رفوفًا من الزجاج الثخين كي تتحمل ثقل هذه السنوات التي قضيتها في حب الروايات” فالمكتبة في السياق العادي تتحمل ثقل الكتب، لكنها هنا تتحمل ثقل السنوات، وهذا الثقل يوحي بوجود أعداد كبيرة من الكتب، لكنه يحتوي على ثقل آخر، وهو ثقل الهزائم التي كانت تحملها تلك الكتب، ومن هنا يكون انهيار المكتبة مرآة عاكسة لانهيار الذات المهزومة نفسها، وهنا يعتمد الشاعر على الدمج بين عالمين مختلفين هما الزجاج والخشب، عالم البطل الإغريقي والبطل المعاصر، وتظهر المفارقة من خلال النتيجة الواحدة، رغم تباين العالمين.
ورغم الاختلاف بين قسمي الكتاب الشعري إلا إنهما يعبران عن سمات مشتركة، أهمها الهوية الزجاجية للذات بضعفها وشفافيتها، واجتناب العالم الخارجي بصخبه السياسي والاجتماعي، والانشغال بتركيز شديد على الداخل، لكن القسم الأول يحتفي بالخيال، والتكثيف والإيحاء والأبعاد الرمزية للكلمات، بشكل أكبر وأوضح، ولا يعتمد على السرد، بل يقوم على الانتقال من شظية سردية صغيرة إلى براح مجازي عميق، ومن حدث شخصي صغير إلى حدث كوني، ومن إنسان عصري يعيش بيننا الآن إلى روح تمتد إلى أزمنة بعيدة، وتتفاعل مع الوجود الإنساني برمته، يقول الشاعر في أحد مقاطع الديوان:
هذا النقر الخفيف من إبهامك على ظهري
هذه الحُفر الصغيرة التي تتجمع فيها المياه
هذه الخطوط التي تمتد بين نقاط المطر
هذه الخريطة التي تحول جسدي كله إلى مجرة سماوية
تتلألأ فيها النجوم
ويتعمق فيها الظلام ما بين النجوم
هذه الخطوط العشوائية التي ترسمينها بهذا الإبهام المخدَّر
تبعثر جسمي في كل اتجاه
كخطوط طرق تفضي إلى مداخل مدن مضاءة
في تلك اللحظة
كل جزء من جسمي يقف منبهرًا أمام باب مدينة
كان له فيها حياة
أسترد عبر إبهامك
خريطة كوني المبعثرة.
الحدث هنا هو النقر الخفيف بإصبع الإبهام فوق الظهر، النقر الذي تمارسه امرأة غامضة يسكت النص عن هويتها، لكننا نستوعبها بسهولة في إطار المحبوبة رمز الآخر الحميم، والحدث أشبه بالبوابة التي تأخذنا إلى عالم شاسع، يربطها به مفصل صغير، وهو التشابه بين أثر الإصبع فوق الظهر و أثر المطر فوق الشوارع.
التشابه يقف عند حد البعد الصوتي، صوت ارتطام القطرة بالأرض، لكنه يمتد عبر التداعي ليحمل صفات أخرى. نقرة الإصبع لا تُحْدِث حفرةً في الظهر، لكنها تفعل ذلك في العالم الداخلي، حيث تنتشر الحُفر الصغيرة التي تنشأ نتيجة سقوط القطرات، وتظهر الخطوط التي تمتد بين تلك الحفر.
الأثر الواقعي الخفيف يتمدد في العالم الجواني لتَظْهر لنا “مجرة سماوية تتلألأ فيها النجوم، ويتعمق فيها الظلام”.
كلمة سماوية لا تأخذنا إلى السماء بقدر ما تأخذنا إلى الأرض، تأخذنا إلى حيز جغرافي ولا تأخذنا إلى رمزية النور والأعالي، وربما لهذا تبدو كلمة السماء زائدة لأن كلمة مجرة تكفي، أما لماذا تأخذنا إلى حيز جغرافي فذلك بسبب الظلام الذي يتعمق فيها و يُعَبِّر عن رؤية أرضية لا سماوية، كما يعبِّر عن الغموض أو (“عدم النور” تماشيا مع عنوان الديوان)، وهذا الغموض أو العدم الداخلي للذات عدمٌ جزئي، وهو نتيجة وليس أصلا، ومن ثم تصبح حركة الإبهام فوق الظهر فعلا خلاقا غايته استرداد خريطة الذات الكونية المبعثرة، وإعادة كل جزء من الجسد إلى المدينة التي كان يعيش فيها.
أجزاء الجسم التي تقف منبهرة أمام أبواب المدن، تذكرنا بتلك المدن التي أنشأها أوزير أو تلك التي تبعثرتْ أشلاؤه فيها، الذات الأسطورية التي تأتي من التراث المصري القديم تتفاعل مع خريطة الكون المبعثرة في القصيدة، أو جسد الديوان المبعثر، والشاعر لا يقدم لنا تفاعلا ظاهرا مع التراث، بل تبدو الأسطورة ذائبة في القصيدة، كأنها خرجت إلى النور بقفزة باطنية لم يصممها الوعي.
بوسعنا رؤية إبهام الحبيبة وهو يقوم بوظيفة دموع إيزيس التي تتحول إلى مطر، ويدها التي تجمع أشلاء المحبوب، وبوسعنا أن نأخذ القصيدة إلى دلالات جوانية خاصة بالتماثل الصوفي الشهير بين العالم الأصغر والعالم الأكبر، وهكذا يتمدد النص أو يتمدد المشهد الواقعي البسيط من حركة محدودة على مستوى الظاهر إلى حركة شاسعة على مستوى الداخل، يقودها الخيال، ويدفعها التكثيف والإيحاء، وتعاونها الظلال الرمزية للكلمات.
الشظية الواقعية الصغيرة، أو حركة الضغط على الظهر بالأصابع، تقفز عبر التأمل والتداعي من سياقها الشخصي الصغير إلى سياق كوني، و الإنسان الذي يعيش بيننا يتحول إلى روح عابرة للزمن، تتفاعل مع الوجود الإنساني برمته، وهو ما نراه يتكرر في نصوص كثيرة.