تلك الرائحة/ أحمد يماني 

 

 

 

ليتني كنت سجيناً، أو عالم زهور، أو متسوّلاً يحتلّ رصيفاً وحيداً لا يغيّره. كنت بالتأكيد سأمضي أيّامي وأنا أتحسّس التراب، التراب المقيم في الزنزانة كآخر شاهد على الشوارع والتراب المبلل لزهرة ستذبل قريباً والتراب الآخر العالق بأحذية المارة. ساعتها كنت سأمضي مرتاحاً مع أشيائي الأليفة ولن أحتاج شهوراً من الانتظار كي آلف بيتي الجديد. كنت أردّد هذه الكلمات في عبوري اليوميّ أمام دار المسنّين ومن النافذة المشرعة على الشارع حيث بالكاد يختطفون نظرات سريعة على العابرين، من هذه النافذة نفسها التي أعبرها يومياً كنت أرى مصائرهم تتقافز أمامي بالوضوح نفسه الذي أتفادى به اصطدامي بالنافذة الأرضية: أيديهم التي تؤدي الحصة اليومية للتمرينات. الشعيرات البيضاء التي على وشك أن تهفهف نهائياً عمّا قريب عند أشجار السرو. ومع أن التراب لن يمسّ نتفة من هزال أجسادهم إلا إنّ كلّ عبور من هناك كان يجلب أتربة العصاري وقد هبطها الماء، رائحة لا تخصّهم ولن يعرفوها عمّا قريب، رائحة شممتها مرات كثيرة ونحن نهبط التراب بالماء نهبطه فقط من أجل تلك الرائحة.