إنَّ شغف الإنسان بمعرفة أدق التفاصيل التي تحيط به وقراءة نص الوجود قراءة يقينيّة، هي التي تجعله يحاول باستمرار النفاذ إلى أعمق أعماق بواطن الموجودات لعلّه يكشف عن أسرارها ويسبر أغوارها. واستجابةً لمحاولات هذا الكائن العاقل الدائبة الإجابة عن أسئلة الوجود والدين والأخلاق التي تتجاوز الظاهر الحسّي المتعيّن، وتعايشاً خلاّقاً مع رهانات اللحظة المعيشة والمستقبلة، يحاول أن يجيب عن أسئلة تتعدّى الظاهر وتقبع في الباطن البعيد، فيمارس عملية محاولة الفهم التي تصاحبها تساؤلات تأخذه إلى رحلة التفسير، فالتأويل…، وذلك دون فصل تام بين هذه المراحل، إذ قد تتداخل المراحل الثلاث أحياناً. وتختلف الهرمنيوطيقا عن هذه المراحل الثلاث وتتلوها؛ لأنّها ببساطة نتاج ومعالجة للمشكلات الناجمة عن هذه العمليات الثلاث.
وإذا كان النص الأدبي أو الإبداعي بمختلف أشكاله وأنواعه من الممكن أن يتعايش معه المتلقّي بطرق متعدّدة ليكشف عن طبيعته ومعناه، فيبحث في العلائق التي تربط بينه وبين ما يحيط به، فإنّ هذا المتلقّي الباحث عن المعنى الكامن في الفراغات بين السطور يبحث في علاقة النص بالتراث والتقاليد، والعلاقة بين النص والمؤلّف، والنص والمتلقّي. وهو مهموم دائماً بقضية المعنى الكامن داخل النص المفتوح لعدد لا نهائي من التفسيرات والتأويلات، فتدفعه الرغبة للكشف عن المسكوت عنه بين مضامينه، بل يسعى لفهم النص ـ كما يشير «شلايرماخر» أهم أعلام هذا الاتجاه ـ ليس كما فهمه مؤلّفه بل أحسن مما فهمه مبدعه!
فمن امتزاج أفق المتلقّي مع أفق النص ينشأ فهم جديد ربما لم يقصد إليه المؤلّف سبيلاً، فتتنوّع التفسيرات والمعاني من شخص إلى آخر، ويصبح من المشكوك به – كما يُلاحظ عند نيتشه وهايدغر وفوكو ودريدا وهم أبرز رواد الهرمنيوطيقا – أن يتمكّن المتلقّي من التوصّل للمعنى الأصلي للعمل، وحينها تصبح كل التفسيرات لمعنى النص احتمالية ونسبية وممكنة.
وهنا تطرح أسئلة مُلحّة نفسها من قبيل: هل يمكن تطبيق الهرمنيوطيقا على النص الديني دون أن يفقد ذلك النص الديني معرفته اليقينية المقدّسة؟ ودون أن يتعذّر معه الوصول إلى قصد الشارع وتعاليمه الدينية المقدّسة؟ أم أنّ هذا المنهج الهرمنيوطيقي يهدم كل الثوابت المقدّسة فيصبح التفسير بالرأي هو سمته الغالبة فتسود المعرفة النسبية التي تختلف من فرد إلى آخر؟! وهل يعني رفض الهرمنيوطيقا هو رفض لديناميكية النص وحيويّته والوقوع في هاوية الجمود والظن بامتلاك الحقيقة المطلقة؟ رغم الاعتقاد بأنّ النص الديني متطوّر وصالح لكل زمان ومكان. أم يكون الوضع الآمن هو الوقوف عند المعنى الظاهري خوفاً من التأويل الذي يخرج بالنص الديني عن معانيه الأصلية؟ وهل من الممكن أن يصبح تدخّل الهرمنيوطيقا إلى فضاء النص الديني مسوّغًا لبروز الأيديولوجيات الدينيّة المختلفة التي يغذّيها المعنى النسبيّ للنص؟
كل هذه إشكاليات واجهت تطبيق الهرمنيوطيقا في تأويل الخطاب الديني وتفسيره، رغم البداية المرتبطة للهرمنيوطيقا بالنص الديني. وسبيلنا إلى تناول هذه الإشكاليات هو البحث في الأفكار الأساسية للجدل الهرمنيوطيقي في علاقته بالنص الديني، متّخذين من الأسئلة التي طرحناها محاور لتحليل هذه الأفكار والمقارنة بينها، لعل تلك المحاولة تكشف لنا عن المدى الذي يمكّننا من الوقوف على طبيعة العلاقة بين الهرمنيوطيقا والنص الديني، وهل يجوز تطبيق المناهج الهرمنيوطيقية على النصوص المقدّسة بقدر ما يمكن تطبيقها على نصوص الأدب والقصص والشعر والأساطير؟
أولاً- الهرمنيوطيقا وطبيعة علاقتها بالنص الديني:
يرجع الأصل اللغوي لمصطلح الهرمنيوطيقا Hermeneutics إلى الفعل الإغريقي hermeneuein وهو فعل يدلّ على عملية كشف الغموض الذي يكتنف شيئاً ما. وقد اشتق الفعل من اسم الإله الإغريقي «هرمس Hermes» وهو إله متعدّد المواهب، فهو: رسول الآلهة، ومفسّر الوحي الإلهي إلى البشر، وإله الحدود، وإله التجارة، وصانع القيثارة والمصفار. وتجتمع مواهب «هرمس» في سمتين اثنتين: الأولى: هي الوساطة بين طرفين، والثانية هي القدرة على استخدام الحيلة في الوصول إلى الهدف. وكلاهما ضروري في عملية كشف الغموض التي يدلّ عليها اللفظ الاغريقي hermeneuein، فالغموض لابد وأن يُكشف من خلال وسيط، وهو يتطلّب استخدام أدوات غير مألوفة كتلك التي يستخدمها هرمس. ومن اللفظ الإغريقي اشتقت الكلمة الإنجليزية Hermeneutics والتي درج الباحثون العرب بتسميتها بالهرمنيوطيقا أو الهيرمنيطيقيا[2]. وقد تم ورود الجذر اللغوي للهرمنيوطيقا عند أرسطو حيث كان أحد عناوين كتبه «PeriHermeneias» أي «عن الهرمنيوطيقا»، وموضوعه هو منطق القضايا والبنية النحوية التي تسمح بالربط بين الموضوع والمحمول من أجل الكشف عن خصائص الأشياء[3].
أما المعنى الاصطلاحي لمصطلح «الهرمنيوطيقا» فيعني وصف الجهود الفلسفية والتحليلية التي تهتم بمشكلات الفهم والتأويل. و الهرمنيوطيقا هي معضلة تفسير النص بصفة عامة سواء أكان هذا النص نصاً دينياً، أم نصاً تاريخياً، أم نصاً أدبياً. فتثير تبعاً لذلك أسئلة كثيرة معقدة ومتشابكة حول طبيعة النص وعلاقته بالتراث والتقاليد من جهة، وعلاقته بمؤلّفه من جهة أخرى. والأهم من ذلك أنّها تركّز اهتمامها بشكل لافت على علاقة المفسّر بالنص[4].
وقد نشأ مصطلح الهرمنيوطيقا في الأساس مرتبطاً بالنص الديني، حيث بدأ استخدامه في دوائر الدراسات اللاهوتية ليشير إلى مجموعة القواعد والمعايير التي يجب أن يتّبعها المفسّر لفهم النص الديني (الكتاب المقدس). و الهرمنيوطيقا بهذا المعنى تختلف عن التفسير الذي يشير إليه المصطلح Exegesis على اعتبار أنّ هذا الأخير يشير إلى التفسير نفسه في تفاصيله التطبيقية، بينما يشير المصطلح الأول إلى نظرية «التفسير». ويعود قدم المصطلح للدلالة على هذا المعنى إلى عام 1654م ومازال مستمرًا حتى اليوم في الأوساط البروتستانتية[5].
أي أنَّه يمكن القول إنَّ النشأة الحقيقيّة للمفهوم كانت تحديداً في عصر النهضة الأوروبية؛ حيث نهضة الإصلاح الديني في القرنين السادس عشر والسابع عشر الميلادي، وانتشار الفكر البروتستانتي الذي أدّى إلى قطع علاقة المسيحيين بالكنيسة في روما، ومن ثم القضاء على مرجعيّة تلك الكنيسة في تفسير النصوص المقدّسة، وبذلك شعر البروتستانت بالحاجة الملحّة لوضع قواعد ومنهجية معينة لتفسير الكتاب المقدّس، وكان هذا الاحتياج هو السبب الرئيس لهذا الاتجاه في المعرفة، والذي يتكفّل بمهمة القيام بطرح منهج ومنطق لتفسير الكتاب المقدّس، وقد صدر أوّل كتاب يحمل اسم الهرمنيوطيقا عام 1654م لمؤلّفه دان هاور Dann Hawer وعنوانه باللغة اللاتينية: «Her-muntica Sacrasive Methodus Exponendarum»، أي التفسير المقدّس أو منهج شرح النصوص المقدّسة[6].
وهكذا تكون الهرمنيوطيقا قد نشأت مرتبطة بالنص المقدّس في ظروف خاصة، ومن ثمَّ تحولّت كنظرية بديلة للكنيسة في تفسير الكتاب المقدّس، فكان لابد للكهنة البروتستانت الذين قطعوا صلتهم تماماً بكنيسة روما الكاثوليكية صاحبة الحق الحصري في تفسير الكتاب المقدّس، أن يعتمدوا على أنفسهم في تفسيرهم للكتاب المقدّس، وأن تكون لهم مرجعية نظرية للتفسير يستأنسون بها.
ثم تلا ذلك التأسيس الهرمنيوطيقي العملي على يد شلايرماخر وشليجل كمحاولة لوضع منهج للتفسير، وتبعهما كانط في محاولة وضع تأويلية نقدية، ثم جاءت محاولة «ديلتاي» كمحاولة لتطبيق التأويل على العلوم الإنسانية، ثم كان التأويل في المنهج الفينومينولوجي على يد هوسرل وهايدغر ومحاولات تفسير الوجود، ثم استكمل غادامير طريق هوسرل، ثم توالت جهود نيتشه وفوكو ودريدا وهابرماس وكارل أوتو آبل للوصول بها إلى معناها الحالي الذي يُطلق على كلّ تأمّل نظريٍ وفلسفي يستهدف فهم النص وأسسه وفرضياته المسبقة. أي أنَّ المصطلح قد اتسعت رقعة استخدامه في التطبيقات الحديثة، فانتقل من مجال علم اللاهوت إلى دوائر أكثر اتساعاً تشمل العلوم الإنسانية كافة كالتاريخ وعلم الاجتماع والأنثروبولوجى وفلسفة الجمال والنقد الأدبي والفولكلور.
يتّضح ممّا سبق أنَّه إذا كان الأصل في نشأة الهرمنيوطيقا هو النص الديني المسيحي، فإنّ هناك محاولات إسلامية دائبة لاستعارتها وتطبيقها مرةً أخرى على النص الديني الإسلامي، أو أن يصبح النص الديني الإسلامي مجالاً من مجالات تطبيقاتها، فكثر الحديث حول هذا الطرح الجديد للهرمنيوطيقا في الفضاء العام الإسلامي. ومن هنا ارتبطت الهرمنيوطيقا بالكثير من القضايا المعاصرة المطروحة في مجال الفكر والثقافة والمعرفة الدينية، فصارت تبحث عن إمكان أو مشروعية القراءات المختلفة للدين أو النص الديني الإسلامي، مع مراعاة تاريخية الفهم وحصر كل فهم وتفسيره بزمانه، والتغير المستمر والدائم لعملية الفهم، على اعتبار أنّها ترى أنّ كل فهم يتأثّر بظروفه وخلفيات مفسّره، كما تضع في الاعتبار تاريخيّة النص وتأثّره بثقافة عصره، وبالوعي التاريخي لمؤلّفه، والاهتمام بدور المفسّر ومحوريّته في تفسير النص بدلاً من الاهتمام بالمؤلّف والنص ومحوريّته، وبالتأكيد على التفسير الدائم والجبري لوعي المفسّر وخلفياته وظروفه ومعلوماته وميوله وأحكامه المسبقة في تفسير النص.
ثانياً- سمات التحليل الهرمنيوطيقي:
قصد الباحثون المهتّمون بدراسة المنهج الهرمنيوطيقي إلى تحديد السمات التي تميّزه عن غيره، وخاصة بعد أن تحوّل عن طابعه التقليدي الذي كان يعنى إيجاد قواعد لفهم الكتاب المقدّس ليشمل تفسير كل نص أدبي وإبداعي في كافة العلوم الإنسانية والاجتماعية، التي أصبحت تعرّف الهرمنيوطيقا بأنّها فن قراءة النصوص، أي فن تفكيك النصوص وتحليلها على أساس أنَّ الكلام له معنيان: معنى ظاهر جليّ، ومعنى خفيّ تدلّ عليه النصوص عبر رمزيتها. ومن أهم أسس التحليل الهرمنيوطيقي[7] ما يلي:
النص المفتوح (لا نهائية المعنى): أي انفتاح الدلالة في النص لعدد لا نهائي من التفسيرات والتأويلات، وانفتاح القراءة على مصراعيها حسبما يظنّه المؤوّل أقرب إلى الصواب والحقيقة، فلا مجال لرأي واحد، ولا لكلمة أخيرة عن معنى النص.
انعدام القراءة البريئة: أي إنّ عصر القراءة البريئة للنص قد ولى واندثر، ومن ظنَّ أنَّ أي قراءة للنص هي قراءة صحيحة فقد أخطأ، فكل قراءة هي قراءة محتملة، وبهذا يتعدّد الحق بتعدّد القراءات.
موت المؤلّف: إنَّ ميلاد القارئ ـ وفقاً للهرمنيوطيقا ـ رهين موت المؤلّف، فالقارئ له الحق في الإبداع في قراءته للنص دون سلطة من أحد حتى لو كان المؤلّف نفسه. فالمؤلّف قد أدّى دوره وانقضى، وحان الآن دور القارئ.
إلغاء مقصديّة النص:أي إنَّ النص ليس له مقصد ولا دلالة، بل تنتقل مقصديّته إلى القارئ عبر مجال واسع من الـتأويلات يقوم فيها القارئ بعمليات استكشافية، يستكشف من خلالها كل إشارة من الممكن أن تخفي دلالة معيّنة. بحيث تعني مقصدية النص وإعطائه مدلولاً نهائياً موت النص وإغلاقه.
الرمزيّة:أي إنّ النص منفتح على جميع الإشارات اللغوية والدلالات والرموز، وهي سمة تعد بمثابة امتداد طبيعي لموت المؤلّف ولا نهائيّة المعنى، وذوبان مقصدية النص في مقصدية القارئ، فالرمزية تتيح للقارئ حرية أوسع في تقويل النص وتضمينه ما يشاء من المعاني والدلالات.
التناص: أي رصد مجموعة علاقات النص بالقارئ، وبالنصوص الأخرى، وبالثقافة والبيئة. فالمؤلّف في بنائه للنص يحاكي نصوصاً أخرى، والقارئ حين قراءته للنص يستحضر نصوصاً أخرى. فالتناص قائم على التعدّد في المنابع الدلالية للنص التي تنتج عن اختلاف بيئة الكتابة عن بيئة القراءة والتلقّي.
الفراغات بين السطور: أي إنَّ المعنى لا يتوقّف عند حدود الألفاظ، ومن ثم لابد أن يتحرّر القارئ من سلطة السطور لينصت إلى ما تبوح به الفراغات ما بين السطور، وهو المعنى الخفي المحايث للمعنى الظاهر. فعملية التفسير في المنهج الهرمنيوطيقي تقوم على حل شفرة المعنى الباطن في المعنى الظاهر، وفي كشف مستويات المعنى المتضمّنة في المعنى الحرفي.
ولا شك أنَّ هذه الأسس أو السمات العامة للهرمنيوطيقا لا تستقيم أبداً ولا تتناسب مع طبيعة النص الديني المقدّس، وأنّ تطبيقها يؤدّي إلى طابع القداسة عنه، ويجذب النص نحو التأويل الفسيح الذي يضيع في فيافيه النص والقارئ معاً، ويضع النص الديني بمحاذاة النصوص الإبداعية البشرية مساوياً بين ما هو إلهي وما هو إنساني بلا تفرقة تذكر.
اختلفت التيارات في حقل الدراسات الدينيّة والثقافة الإسلاميّة حول تطبيق الهرمنيوطيقا كمنهج على النص الديني الإسلامي؛ فمنهم من سلَّم بهذه الرؤية الهرمنيوطيقية، ووظّفها في فهم النصوص الدينيّة وتفسيرها، بل ورأى فيها ضرورة عصرية تُخرج النص إلى الفضاء المتّسع وتقيه من الوقوع في خطر الجمود والانغلاق. ومنهم من رفض تطبيق مناهج الهرمنيوطيقا على النص الديني الإسلامي، ورأوا فيها بدعة علمانية وضلالة غربية تهدف إلى تقديم تأويل عبثي للنص الديني، يروم تحريف المعنى بعد أن عجزوا عن تحريف النص. وسوف نتناول بالعرض والنقد والتحليل لكلا الرأيين قبل أن ننحاز لأحد الرأيين المتناقضين.
ثالثاً- الهيرمينوطيقا كضرورة عصرية للنص الديني:
يرى أنصار هذا الاتجاه أنَّ الهرمنيوطيقا تعد محاولة ذات أهمية لتجاوز أزمة القراءة التقليدية للنصوص الدينيّة الإسلامية، فالنص الديني بحكم منشئه ووظيفته أكثر النصوص إثارة للإشكاليات والأسئلة، ممّا يجعله نصاً يكتنفه الغموض، فيأتي دور الهرمنيوطيقا لتخلع عليه رحابة في الفهم تخلّصه من ذلك التفسير الوحيد الذي رعته مؤسسة الإسلام التقليدية كما يُقدّم في كتب ومدوّنات التفسير التاريخية[8].
ومن أنصار هذا الاتجاه عدد غير قليل من مفكّري الإسلام المعاصرين من أمثال:محمد أركون، والطيب تيزيني، وحسن حنفي، وعلى حرب، ونصر حامد أبوزيد، وعبد المجيد الشرفي، وعبدالكريم سروش، ومحمد مجتهد شبستري وغيرهم. وسوف نتناول بالتفصيل هنا موقف كل من نصر حامد أبوزيد ومحمد مجتهد شبستري كأنموذجٍ لممثّلي هذا الاتجاه.
1 – نصر حامد أبوزيد: الهرمنيوطيقا وخروج النص إلى الفضاء المتسع
يرى نصر حامد أبو زيد (1943 – 2010) أنّ الهرمنيوطيقا تُخْرِج النص الديني من الفضاء الضيّق إلى الفضاء المتّسع، حيث يعتبر أنَّ الخطاب الديني التقليدي يزعم امتلاكه وحده للحقيقة المطلقة، ولا يقبل مبدأ الاختلاف بأي حال من الأحوال. الأمر الذي يحصر النص الديني في إطار ضيّق يقوم على التوحيد بين الفكر والدين، وإلغاء المسافة بين الذات والموضوع، وتفسير الظواهر كلّها بردّها إلى علة أولى، ويعتمد على سلطة السلف أو التراث بعد تحويل النصوص التراثية من نصوص بشرية إلى نصوص مقدّسة تتمتّع باليقين الذهني والحسم الفكري القطعي، هذا فضلاً عن إهدارها البعد التاريخي وتعمّدها تجاهله.
ويرى نصر حامد أبو زيد أيضاً أنَّ الهرمنيوطيقا ضرورة منهجية لتفسير النص الديني، فهي –عنده- قضية قديمة وجديدة في نفس الوقت، وهي في تركيزها على علاقة المفسّر بالنص ليست قضية خاصة بالفكر الغربي، بل هي قضية لها وجودها المُلح في تراثنا العربي القديم والحديث على السواء. لكن تبقى الهرمنيوطيقا عند أبي زيد منهجية غربية، لذلك يرى ضرورة أن نكون على وعي دائم في تعاملنا مع الفكر الغربي في أي جانب من جوانبه بأن نظل في حالة حوار جدلي وأن لا نكتفي بالاستيراد والتبنّي، بل علينا أن ننطلق من همومنا الراهنة في التعامل مع واقعنا الثقافي بجانبيه التاريخي والمعاصر، من هنا يكتسب حوارنا مع الفكر الغربي أصالته وديناميته.ولهذا وجب أن نكفّ عن اللهاث وراء كل جديد ما دام قادماً إلينا من الغرب (المتقدّم).
ويرى أبو زيد أنّ هذا الوعي بعلاقتنا الجدلية بالفكر الغربي – من جانب آخر- يخلّصنا من الانكفاء على الذات والتقوقع داخل أسوار (تراثنا المجيد) و(تقاليدنا الموروثة)، ومن الغريب أنّ واقعنا الثقافي – وكذلك الاجتماعي والسياسي – يتّسع لشعاري (الانفتاح الكامل) و(الاكتفاء الكامل) دون أدنى إحساس بالتعارض الجذري بين الشعارين. وإنّ صيغة ( الحوار الجدلي) عند أبي زيد ليست صيغة تلفيقية تحاول أن تتوسّط بين نقيضين، بل هي الأساس الفلسفي لأي موقف بصرف النظر عما نرفعه من شعارات أو نتبنّاه من مقولات ومواقف[9].
ويفرّق أبو زيد بين موقفين من التفسير أو بين (التفسير بالمأثور) و(التفسير بالرأي أو التأويل)، ويرى أنّ الأول حاول تفسير النص عن طريق تجميع الأدلة التاريخية واللغوية التي تساعد على فهم النص فهماً(موضوعياً)؛ أي كما فهمه المعاصرون لنزول هذا النص. أمَّا التفسير بالرأي أو(التأويل) فقد نُظر إليه على أساس أنّه تفسير (غير موضوعي)؛ لأنّ المفسّرلا يبدأ من الحقائق التاريخية والمعطيات اللغوية، بل يبدأ بموقفه الراهن محاولاً أن يجد في القرآن (النص) سنداً لهذا الموقف[10].
ولم يوافق أبو زيد على هذه التفرقة ورأى أنّه لم تخل كتب التفسير بالمأثور من بعض الاجتهادات التأويلية حتى عند المفسّرين القدماء الذين عاصروا في بواكير حياتهم نزول النص كابن عباس مثلاّ. ومن جانب آخر رأى أنّه لم تتجاهل كتب التفسير بالرأي أو (التأويل) الحقائق التاريخية واللغوية المتّصلة بالنص. ليبقى السؤال الجوهري لدى أبي زيد: كيف يمكن الوصول إلى المعنى (الموضوعي) للنص القرآني؟ وهل في طاقة البشر بمحدوديّتهم ونقصهم الوصول إلى (القصد) الإلهي في كماله وإطلاقه؟! يرى أبو زيد أنّه لم يزعم أيّ من الفريقين إمكان هذا، غاية الأمر أنّ المؤوّلة كانوا أكثر حرية في الفهم وفتح باب الاجتهاد، بينما تمسّك أهل السلف – وإن لم يقرّروا ذلك صراحة – بإمكانية الفهم الموضوعي…[11]
ومن ثم يقرّر أبوزيد أنَّ الاتجاه الأول يتجاهل المُفسِّر ويلغى وجوده لحساب النص وحقائقه التاريخية واللغوية. بينما لا يتجاهل الاتجاه الثاني مثل هذه العلاقة، بل يؤكّدها، على خلاف في مستويات هذا التأكيد، وفاعليّتها بين الفرق والاتجاهات التي تتبنّى هذه الزاوية ويذكر أبو زيد أنّ اختلاف مناهج المفسّرين في العصر الحديث فيما يتّصل بتفسير النص القرآني ما تزال تدور حول هذين المحورين، وإن تكن الغلبة – على المستوى الإعلامي- كما كانت في الماضي لأصحاب المنهج التاريخي الموضوعي[12].
وإذا كان أبو زيد يقدم التأويل على التفسير، فهو يرى أنّ التفسير هو شرح معاني الكلمات المفردة، بينما التأويل هو استنباط دلالة التراكيب بما تتضمّنه من حذف وإضمار وتقديم وتأخير وكناية واستعارة ومجاز…الخ. [13]. ممّا يجعل النص القرآني متّسعاً وأكثر رحابة بحيث يمكنه أن يستوعب ما لا يمكن له استيعابه في حالة التفسير التي تضيّق إطاره.
ومن ثم رأى أبوزيد أنَّ الدراسات القرآنية يجب أن تفتح النص القرآني على الحياة، وأن تسهم في بناء حياة يدخلها النور؛ نور المعرفة والفهم، والحق في اختلاف الفهم والقراءة والتفسير. فيرى أنّه لا يعقل أن يتعامل المسلمون مع القرآن الكريم ذلك الكتاب العظيم بمنطق ضيّق، يُضيّق على المسلمين حينما يصبح التأويل عملاً مرذولاً. أمّا عندما يتم تفعيل آليات التأويل فإنّ ذلك يعني فتح الباب مشرّعاً أمام المؤمنين لفهم النص الديني خارج إطار فهم المؤسّسة الدينية الرسمية التقليدية، وهذا يفتح العلاقة بين المؤمن وربه من دون المرور الإجباري بتفسيرات وتأويلات الفقهاء الرسميين. وكلّما كان الطريق بين المؤمن وربه مشرّعاً كلّما ازداد المؤمن إيماناً، لكنه إيمان مختلف عن إيمان غيره، إيمان نابع عن ذاته ومن رؤيته ومن أفكاره، إيمان حر. وفي هذا إقرار بحق المؤمن في أن يكون قلبه وعقله دليله إلى الإيمان الحق[14]. لكنّه- في الحقيقة- حذَّر من وقوع المؤوّل في التأويل المنحاز أو الخاضع للميول الشخصية والأيديولوجية، وأنّ المؤوّل لابد أن يكون على علم بالتفسير الذي يمكّنه من التأويل المقبول للنص.
وبالرغم من ظاهر دعوة أبي زيد التي تبدو للوهلة الأولى تنويرية لا تتابع الغرب وما يدعو إليه إلا بعد تعقّل ونقد وتمحيص لما يأتي منه، ولا تقع في التأويل المرفوض الخاضع للأهواء. إلا أنّها ـ في وجهة نظر كاتب هذه السطور ـ وقعت فيما حذّرت منه مهما حاول أبو زيد نفسه نفي ذلك، ولم تخرج تأويلاته عن تصوّرات وآراء أعلام الغرب ومفكّريه وفلاسفته؛ فبدا التأويل عنده جهداً عقلياً ذاتياً لإخضاع النص الديني لتصوّرات المؤوّل، مفاهيمه وأفكاره، وهي نظرة تغفل دور النص وما يرتبط به من تراث تفسيري وتأثيره على فكر المفسّر. وهذا ما يتّضح من قوله في كتاب «فلسفة التأويل» حيث قال:»إنّ العلاقة بين المفسّر والنص ليست علاقة إخضاع من جانب المفسّر وخضوع من جانب النص، والأحرى القول إنّها علاقة جدليّة قائمة على التفاعل المتبادل»[15]. ما يعني تحرّر المؤوّل من أي شرط سبق اشتراطه عليه؛ ففي العلاقة الجدلية لا يمكن أن يتحرّر المفسّر من أهوائه وتحيّزاته.
كما أنَّ هذه العلاقة الجدليّة بين القارئ والنص تنزع القداسة عن النص الديني؛لأن قداسة النص الديني تمنع التعامل معه بما يختار القارئ من مناهج -كما يُفهم منة كلامه-، وفي المحافظة على القداسة ما يمنع المؤوّل من الزيغ والضلال والخروج عن المقاصد أثناء عملية التأويل بحجة الانصياع للعقل الذي يرفض اللامعقول. ولذلك فإنّ أبا زيد عندما نزع القداسة عن النص الديني، وعمل على أنسنته حيث نظر إليه على أنّه نص لغوي، تُمثل اللغة نظامه الدلالي المركزي، وينتمي إلى ثقافة معيّنة تقبّلت هذا النص واحتفت به، استخدم في تأويله بعض المناهج النقدية الحديثة كالتأويلية واستبدلها بقواعد التأويل التي وضعها علماء التفسير بالإضافة إلى اعتماده على مناهج أخرى كالمنهج السيميوطيقي والنقد التاريخي والسوسيولوجيا ومناهج اللسانيات الحديثة. الأمر الذي يفتح باباً واسعاً في تأويل القرآن بلا ضوابط أو قيود أو يؤدّي إلى فتح باب التأويلات على مصراعيه.
لتنتهي محاولة أبي زيد إلى جعل النص الديني من نتاج الثقافة، لأنّه قد ربط النصوص الدينية بالبشر رغم أنّ مصدرها هو الله عز وجل، وهو الأمر الذي نرفضه ها هنا، فلا القرآن منتج ثقافي ولا تشكّلت نصوصه من الواقع؛ لأنّ القرآن الكريم تجاوزت مفاهيمه المستوى الثقافي الذي كان سائدًا آنذاك. ما يسقط رؤية أبي زيد في منظور التيار الماركسي، وفتح المجال أمام الأفكار الماركسية المعادية لكل الأديان للتغلغل في البحوث والدراسات الدينية. كما يتحوّل القصد الإلهي الثابت وفقاً لرؤية أبي زيد هذه إلى قصد متحرّك وفهم بشري نسبي يتغيّر من آن لآخر، الأمر الذي يؤدّي بنا إلى تفسيرات لا نهائية للنص الواحد، وهذا ما يؤدّي إلى فقدان النص لقيمته ويؤدّي إلى تسرّب الأباطيل، والتأويلات المغلوطة، وانتشار الكذب في معنى النص.
2 – محمد مجتهد شبستري: من الهرمنيوطيقا الدوغمائية إلى الهرمنيوطيقا العقلانية
يرى المفكّر الإيراني محمد مجتهد شبستري(1936 -؟) الذي يشاطر أبا زيد الاتجاه نفسه، أنّ التفسير الفقهي التقليدي للنصوص الدينية أصبح عبئاً وعائقاً دون الحياة العصرية؛ الأمر الذي أدّى إلى إشكاليات تطبيقية عويصة بين متطلّبات الفقه والشريعة والمتطلّبات السياسية ومصالح العباد، وأنّ الإشكالية الحقيقية تكمن في المباني الفكرية للفقهاء المتصدّين للعمل السياسي، لذلك ارتبط الأمر عنده بالهرمنيوطيقا. حيث وصف تطبيق الهرمنيوطيقا على النص الديني بأنّها انتقالاً من الدوغمائية إلى العقلانية لتغيير واقعنا الثبوتي وتحرير النص من سلطة المعنى الوحيد.
وقد التفت شبستري إلى هذا الأمر عندما كان في ألمانيا واطّلع على كتاب «الحقيقة والمنهج» لغادامير وأبحاث «رودلف بولتمان» عن «التديّن والفهم» وكتابات شلاير ماخر وآخرين من المهتمّين بالهرمنيوطيقا الفلسفية بالمعنى الأعم والذين كان لهم دور في تطوّر الإلهيات المسيحية.
وقد بدا شبستري أكثر تطرّفاً وتحمّساً للمنهج الهرمنيوطيقي وتطبيقه على النص الديني من كافة أقرانه المسلمين والعرب، وكذلك كان في نقده ومراجعته للنظريات التقليدية السائدة في تفسير النصوص الدينية. وقد ظهر ذلك بوضوح في نقده للنظريات التقليدية المناوئة للاتجاه الهرمنيوطيقي وإصراره على وضع نظرية تفسيرية بديلة للاتجاه التقليدي في تفسير النصوص الدينية.
وقد نشر شبستري تأمّلاته الهيرمنيوطيقية في البداية تحت عنوان «الدين والعقل» ثم جمع مقالاته ونشرها في كتابه «الهرمنيوطيقا ـ الكتاب والسنة»، التي عمل من خلالها على لفت الانتباه إلى الهرمنيوطيقا الفلسفيّة الحديثة التي راجت منذ «شلاير ماخر»، وضرورة تنقية الأحكام المسبقة والقبليات، وأنّ نظرية التوصّل إلى مراد المتكلّم من خلال ظاهر كلامه ليست إلا نظرية واحدة من بين النظريات المبحوثة في علم الهرمنيوطيقا، وأنّ هناك في هذا الخصوص نظريات كثيرة أثرى وأعمق. ولذلك يتساءل شبستري: لماذا لا يطّلع الفقهاء عليها عسى أن نجد فيها ما يروى غليلنا؟ ويتساءل مستنكراً، لماذا اكتسبت نظرية التوقّف عند ظاهر الكلام قداسة كبيرة بحيث ما عاد بوسع أيّ منا أن يتحرّر من قيودها أو يفكّر في تعريضها للمساءلة[16].
ورأى شبستري أنَّ السبب في ذلك هو أئمة الدين العظام بقولهم وفعلهم دلّونا على التوقّف على هذا المنهج، والذي كان المنهج الشائع والمتعارف عليه في عصرهم لفهم النصوص ولابد لنا من السيرعلى خطاهم في هذا المضمار[17]. ومن ثم رأى أنّه وجب علينا التساؤل: هل هذا الفهم الظاهري هو الصورة الوحيدة لفهم النص الديني أم أنّ هناك بدائل ممكنة؟ فإنّ كان هناك بدائل ممكنة فلماذا نتوقّف عند ذلك التفسير الوحيد؟ لماذا لا نختار من النظريات التي تفسّر حقيقة الفهم ما هو أقرب إلى منطق العقل وأنسب للغة العصر؟
وبصدد الإجابة عن هذا التساؤل ينطلق شبستري للدفاع عن مقصده بافتراضه أنّنا إذا علمنا أنّ النص الديني يتطوّر فهمه ليتناسب مع الأزمنة المختلفة والأماكن المختلفة، وأنّه ليس هناك تفسير واحد يجب التوقّف عنده، وأنّه ـ حتى الفقهاء أنفسهم ـ فيما يختصّ بالحكمة العملية يؤيّدون ما تتوصّل إليه البشرية من قيم ومبادئ أخلاقية عامة، وأنّ الأحكام الشرعية التي صدرت عنهم إنّما كانت في ضوء ملاحظة خصوصيات الحقبة الزمنية والبيئة المكانية التي عاشوا فيها آنذاك.
وانطلاقاً من هذا الفهم يؤكّد شبستري أنّه لابد أن يكون لنا فهم جديد لفكرة أبديّة التشريع، وأنّه لا يجب أن نكون ملزمين بالعمل بنظرية التوقّف عند ظاهر النص التي أطلق عليها «ا الهرمنيوطيقا الدوغمائية»، وتحدّى القائلين بها على أن يقيموا دليلاً واحداً على صحّة نظريّتهم هذه، ورفض أن يكون تذرّعهم في ذلك هو تبعيتهم لأئمة الدين السابقين، فالتبعية لابد أن تكون قائمة على فهم، وإلا فالأحرى رفضها، فالعلماء والأئمة- كما يرى شبستري- ليسوا بمعصومين، وإن كان ذلك اجتهادهم فلنا اجتهادنا، هم رجال ونحن رجال، ولماذا نغادر عصرنا الذي نحن فيه إلى عصور ماضية لم تعرف ما توصّلنا إليه من مناهج حديثة؟! فإذا كانت نظريات السابقين مُقنِعة أخذنا بها أو جعلناها نظرية مقبولة إلى جوار النظريات والفرضيات الأخرى التي تتوفّر على مقوّمات الإقناع. ومن ثم يرى أنّنا نبقى في حاجة إلى التوجّه مباشرة إلى «الهرمنيوطيقا العقلانية» التي سوف تفتح في وجوهنا آفاقاً واسعة للأخذ والاستفادة من النظريات الحديثة للهرمنيوطيقا[18].
ثم يحاول شبستري الدفاع عن نظريّته التأويلية ضد المهاجمين لها فيحاول تبرئتها مقدّماً من سهام النقد التي يمكن أن توجّه إليها فرفض أولاً أن تكون الهرمنيوطيقا إحدى نظريات «التفسير بالرأي» التي رفضها علماء المسلمين جملةً وتفصيلاً؛ لأنّ التفسير الهرمنيوطيقي يقوم على قراءة النص وتفسيره سواء كان بالاستناد إلى ظاهر الكلام وصولاً إلى مراد المتكلّم (وهذا ما يقبله الخصم) أو بطريقة ثالثة وهذا ما لا يتوفّر في التفسير بالرأي. ثم يستطرد دافعاً سهاماً نقدية أخرى قائلاً: «ليس من الصحيح أن نستنبط عدة مبادئ عقائدية من الكتاب والسنة، ثم نجعل هذه المبادئ فرضيات وقواعد نستند إليها في فهم الكتاب والسنة؛ إنّه الدور بعينه! ولا محيص من الوقوع في هذا الدور إلا باعتماد المسلمين على الهرمنيوطيقا الفلسفية، ليس بالضرورة بمعناها الخاص الذي نظَّر له كل من هيدجر وغادامير، بل تكفيهم الهرمنيوطيقا بمعناها العام والأوسع والذي يعنى أيّ شكل من التنظير الفلسفي في مجال الفهم»[19]. ثم يستنكر شبستري فعل هؤلاء الذين يتعاملون مع الهرمنيوطيقا كأنّها شخص أو كيان تم تهريبه بشكل غير قانوني إلى فضاء النص الديني الإسلامي، أو من يعتبرها مؤامرة ضد الإسلام والمسلمين، مرتئياً أنّ الهرمنيوطيقا علم، والعلم ليس عرضة للشك. إنّها قضية فلسفية نظرية ولا معنى لوصفها بهذه الأوصاف[20].
ومن ثم يقرّر شبستري أنّ هدفه من تطبيق الهرمنيوطيقا الفلسفية العقلانية على النص القرآني لن يتيسّر له التحقّق إلا إذا آمنا بأن فهم النص القرآني خاضع هو أيضاً للهرمنيوطيقا الفلسفية، ولا يتسنّى له ذلك إلا إذا أبرز شواهد وأدلة كافية على إنسانية التخاطب اللغوي الموجود في القرآن. وهذه هي المهمة التي اضطلع بها شبستري وحاول أن يبرهن على أنّ النص القرآني كلام إنساني صادر عن النبي بوحي إلهي! وهو بذلك على خلاف تام في ما يتعلّق ببحث حقيقة الوحي عند عموم المسلمين، حيث يذهب عموم المسلمين إلى الاعتقاد بأنّ القرآن كلام الله، وأنّ النبي قد تلقى هذا الوحي الإلهي، وأبلغه إلى الناس، فالقرآن هو نص إلهي، وأنّ الله هو المتكلّم بألفاظه وهو الذي أملى مفرداته، وأنّ الألفاظ والمعاني القرآنية منسوبة إليه، وأنّ النبي مجرّد ناقل لكلامه، فهو وسيط بين الله والناس في نقل رسالته إليهم. إلا أن مجتهد شبستري يرفض هذا التفسير للوحي صراحة، ويدّعي أنّ شخص النبي هو صاحب النص القرآني، وأن القرآن بألفاظه ومعانيه هو كلام النبي، بل يذهب حتى إلى القول بأنا لنبي الأكرم نفسه لم يدع بأنّ آيات القرآن وألفاظه هي من الله، بل كان يقول بأن القرآن إنّما هو كلامه![21].
ولا شك أنّ كلام شبستري ونظرته إلى النص القرآني بوصفه «فعل قولي» للنبي يخبر فيه عن مراد الوحي الإلهي، وأنّ الآيات القرآنية الموجودة بين دفتي المصحف إنّما هي فهم وتفسير النبي وقراءته عن الكون، وأنّ القرآن كي يكون مفهوماً من البشر لابد أن يكون المتكلّم به من بني البشر، أقوال عارية تماماً عن الصحة بإجماع المسلمين في كل زمان ومكان، كما أنّ أدلّته التي يسوقها للتدليل على أقواله تشكو من الضعف والفتور والسطحية. فالقرآن الكريم كلام الله الموحى إلى رسوله، والألفاظ والمعاني القرآنية منسوبة إلى الله وحده، وأنّ النبي مجرّد ناقل لكلامه دون تدخّل أو تصرّف، فهو وسيط بين الله والناس. ولا أعلم كيف يستقيم فهم شبستري هذا ما صريح الآيات القرآنية التي تدلّ على عكس ما يراه شبستري، من قبيل: وَلَا مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِ اللَّـه[22]وقوله تعالى:وَاتْلُ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِن كِتَابِ رَبِّكَ ۖ لَا مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِهِ وَلَن تَجِدَ مِن دُونِهِ مُلْتَحَدًا[23].
ويعد هذا الرأي الذي يتمسّك به شبستري نفسه -أنّ النبي مجرّد ناقل للوحي- رأي غاية في السطحية؛ لأن دور النبي صلى الله عليه وآله سلم لم يقتصر على إيصال القرآن وتبليغه إلى الناس كما يزعم شبستري، وإنّما قام ببيان التعاليم الإلهية والحقائق الإيمانية للناس، وإتمام مكارم الأخلاق، وإقامة القدوة الحسنة للبشر، وتقوية وترسيخ الأسس الإسلامية، وبسط الثقافة الإيمانية والتوحيدية، ونفي الشرك وعبادة الأوثان، وإعلاء كلمة الله، والإشراف على تربية نفوس المسلمين وتزكية المؤمنين وتعليمهم الكتاب والحكمة. وجميع هذه الأمور التي تمثّل جوهر البعثة لا تتنافى مع كون القرآن كلاماً إلهياً، بل إنّ تناغم وانسجام هذه الأمور مع كونه مبعوثاً من قبل الله وكونه حاملاً لرسالته لا يبقي مجالاً للشك أو الترديد[24].
وبذلك يصبح المشروع الهرمنيوطيقي عند شبستري كما عند غيره من أصحاب هذا الاتجاه، محاولة لتجاوز كل تفسير ديني ينتمي إلى التراث الديني بغية التفاعل المباشر مع النص القرآني، وذلك عبر الإجابة عن السؤال المركزي: هل الإنسان هو الذي يستنتج المعنى أم أنّ المعنى مُعطى مقدّس؟ وطالما أنّ الإنسان هو الذي يستنتج المعنى من النص فعليه أن يزيح النص من المركزية كما دأبت على ذلك التفسيرات التقليدية ويضع بدلاً منه العقل الإنساني كمركزية فاعلة، ومن ثم يمكّن العقل أن يسعى إلى الانفتاح على الفهم الذاتي والتأويل المختلف، وبهذا -وعلى حد قول أحد الباحثين- «تكون «الأنسنة» شرطاً للتأويل، ويكون التأويل شكلاً للأنسنة»[25]. ويصبح النص متّسعاً لكافة التفسيرات والمعاني على كل الأوجه والمستويات، وفق قواعد وأسس التحليل الهرمنيوطيقي التي سبق لنا أن ذكرناها والتي لا تتّسق أبداً مع طبيعة النص الديني الإسلامي.
ومن ثم يمكننا القول إن رؤية شبستري تقوّض أساس الإيمان وتعمل على اجتثاث مفهوم الوحي والرسالة، وتفتح النص القرآني أمام عدد لا نهائي من التفسيرات. وإنّ ما يَقصد إليه شبستري هو عين ما يُقصد به التأويل العبثي للنص، وهو – في نظرنا – لا يختلف عن إنكار النص بل هو أخطر منه لما فيه من التدليس والتلبيس. وأنّ رفع القداسة عن النص تعادل إلغاء النص.ولا شك- أيضاً- أنّ آراء شبستري التي زعم فيها أنّ تعدّد التفسيرات للنص الواحد يمكن النظر إليها على أنّها محاولة تهدف إلى تجاوز تلك المعاني المضطربة للآيات القرآنية –بناءً على زعمه الغريب والمريب- التي تبلورت عبر كلام مضطرب ناشئ عن الحماسة المفرطة من شخص أسكرته البعثة والانبعاث (يقصد النبي). وأنّ هذه الآيات صدرت بداعي إرجاع جميع الأمور إلى الله، وأنّها مجرّد تفسير من قِبل النبي لرؤيته عن الوجود والكون، دون أن تكون قد صدرت عنه بداعي البيان والإخبار عما هو موجود أو غير موجود في العالم الواقع. فلا شك أنّ شبستري هنا قد جافى المنطق والمعقول وما اجتمع عليه الناس ليعبّر عن رأي غريب ومريب يضع مجموع آرائه في خانة الآراء المتطرّفة قلباً وقالباً، وتبرّر ما زعمه الفريق الآخر من انتقادات جادة لما ذهب إليه أنصار الهرمنيوطيقا ـ والتي سنعرض لها في المحور التالي ـ والتي تدور في مجملها حول أن الهرمنيوطيقا ضلالة علمانية وبدعة غربية لا محلّ لها في واقع النص الديني الإسلامي.
رابعاً – الهرمنيوطيقا ضلالة علمانية وبدعة غربية:
يقف في صف الرافضين لاقتحام الهرمنيوطيقا كمنهج لتأويل النص الديني غالبية المسلمين الذين يرون أنّ بدعة «التفسير بالرأي» عادت إلينا مرة أخرى في ثياب ا الهرمنيوطيقا، وتوجّسوا ريبة منها وعدّوها مؤامرة غربية حيكت بليل ضد الإسلام ينفّذها المستغربون في بلاد الإسلام. وأنّها ليست أكثر من بدعة تطاول فيها تلاميذ الغرب على أحكام الشريعة لهدم مبانيها واستبدالها بآراء أهل الضلال[26]. وأنّها ليست أكثر من وجه من وجوه مطاعن الأعداء وافتراءاتهم على الدين الصحيح.
ولما كان موقف الرفض هو الموقف الذي تّتسم به التيارات السلفية الإسلامية، آثرنا أن نعرض أولاً لموقف أحد العاملين بمجال الدراسات العقلية والفلسفية، وهو موقف الدكتور محمد عمارة، حتى لا يتهمنا أحد بقصر العرض للرأي المخالف على آراء أصحاب الاتجاهات السلفية الذين يقفون ضد كل ما هو جديد ويعدّونه بدعة مرفوضة، وإن كان في ذكرنا لرأيهم جنبة بحثية لتكتمل الصورة المنجية في البحث، وهو الرأي الذي تمثّل ثانياً في رؤية الشيخ محمد صالح المُنجد.
1 – محمد عمارة: الهرمنيوطيقا تأويل عبثي للدين بهدف أنسنته
ويأتي محمد عمارة على رأس الرافضين للهرمنيوطيقا ودخولها مجال النص القرآني، فيرى أنَّ الهرمنيوطيقا بدعة وضعية علمانية غربية تسعى إلى «أنسنة» الدين، وإحلال القارئ محلّ الوحي، بحيث يكون الوحي هو ما توحيه القراءة الذاتية للقارئ، وما توحيه كينونة عالم القارئ إلى النص ـ بدلاً من العكس ـ كما سعت هذه الهرمنيوطيقا إلى عزل القيم والأخلاق والأحكام الدينية عن مصدرها الإلهي «اللاهوت»، وإقامة قطيعة معرفية كبرى مع الموروث، والموروث الديني على وجه الخصوص..حتى بلغت حد الصيحة المنكرة: «لقد مات الله»!! ليحلّ «الدين الطبيعي» محلّ «الدين الإلهي» بعد أن جعلت الإنسان طبيعياً، وليس ذلك الربّاني الذي نفخ الله فيه من روحه[27].
كما يرى عمارة في ذلك التأويل الهرمنيوطيقي الذي بلغ من الغلو حداً فرَّغَ النص الديني من محتواه، فلا فرق عندهم بين متواتر وغير متواتر، ولا بين محكم ومتشابه، ولا بين وحي وغير وحي، وذلك بدعوى الهرمنيوطيقيين أنّه لا يوجد نص لا يمكن تأويله من أجل إيجاد الواقع الخاص به[28]. وبذلك يسوّي دعاة الهرمنيوطيقا بين قطعي الثبوت وقطعي الدلالة وبين الظنّي والمتشابه، بل إنّهم يسوون بين كلام الله وكلام الإنسان. ومن ثم يعد عمارة أنّ الهرمنيوطيقا اجتراء غير مسئول على النص الديني المقدّس.
ومن المساواة بين الإلهي والإنساني لصالح الإنساني يتم «أنسنة» الدين وعقائده؛ فالله باعتباره الوجود الواحد، أو المجرّد الصوري، أو العلة الغائية، فإنّ كل هذه التصوّرات تصبح عند الهرمنيوطيقيين مقولات إنسانية تعبر عن أقصى خصائص الإنسان، بل إنّ الإلهيات وإن بدت نظرية في الله ذاتاً وصفاتاً وأفعالاً، هي وصف للإنسان الكامل ذاتاً وصفاتاً وأفعالاً، فيصبح الله ـ عندهم ـ ليس له وجود ذاتي مفارق، وإنّما هو اختراع الإنسان المحبط، عندما عجز عن تحقيق ذاته الحية، العالمة، القادرة، السميعة، البصيرة، المتكلّمة، الفعالة لما تريد… فإذا ما نهض الإنسان، فحقّق ذاته، وتحلّى بهذه الصفات، طويت هذه الصفحة من صفحات العلم الإلهي، وأصبحت عبارة «الإنسان الكامل» هي البديل والأدق في التعبير عن كلمة «الله» التي تنتفي مبرّرات وجودها حتى في اللغة[29].
وتظلّ «أنسنة الدين» هي مقصد دعاة الهرمنيوطيقا عند عمارة لتصبح الصفات الإلهية السبع صفات إنسانية خالصة وهذه الصفات في الإنسان ومنه على الحقيقة، وفي الله وإليه على المجاز. كذلك يتم «أنسنة النبوة» لتصبح النبوة ليست غيبية، بل حسيّة تؤكّد على رعاية مصالح العباد، والغيبيات اغتراب عنها والمعارف النبوية دنيوية حسية. أو يصبح اتصال النبي بالله كاتصال الشاعر بشيطانه! أي تصبح النبوة حالة فعّالية خلاّقة للمخيلة الإنسانية وليست «ظاهرة فوقية مفارقة» للواقع وقوانينه المادية كما ادّعى شبستري وغيره من دعاة الهرمنيوطيقا. ومن ثم يكون الفارق بين النبي والشاعر والصوفي والكاهن، هو فقط، في الدرجة، درجة قوّة المخيلة وليس في الكيف أو النوع! وهذا كلّه يؤكّد أنّ ظاهرة الوحي ـ القرآن ـ لم تكن ظاهرة مفارقة للواقع، أو تمثّل وثباً عليه وتجاوزاً لقوانينه، بل كانت جزءاً من مفاهيم الثقافة ونابعة من موضوعاتها وتصوّراتها[30]. ومن ثم فإنّنا لا نكون أمام النص القرآني بإزاء أيّ إعجاز، وإنّما أمام قوّة»مخيلة» جاءت بقرآن يمكن – بل يجب- تأويله تأويلات متعدّدة بتعدّد القرّاء لنصّه، لأنّه لا يتضمّن معنىً ثابتاً ولا خالداً.
ومن ثم نصبح أمام نص بشري أو منتج ثقافي تشكّل في الواقع والثقافة، ومن لغة هذا الواقع وثقافته صيغت مفاهيم القرآن فيصبح الواقع أولاً والواقع ثانياً والواقع أخيراً، فالإسلام كلّه واقعةً تاريخية كما يذهب نصر حامد أبوزيد[31]. وبعد أنسنة الإله، وأنسنة النبوة، ونفي التنزيل والإعجاز عن القرآن والوحي، ونفي كل خلود عن معاني القرآن، تذهب الهرمنيوطيقا المعاصرة إلى أنسنة عالم الغيب، فترى في أنباء الغيب تعبيرات فنية وصوراً خيالية تعبّر عن أماني الإنسان…ثم إلى تأليه العقل الإنساني الفردي والاستغناء به وبالحواس عن الوحي والغيب…، فالوحي لا يعطي الإنسانية -عند دعاة الهرمنيوطيقا- شيئاً لا تستطيع أن تكتشفه بنفسها من داخلها![32]. ليجد العقل أمامه نصّاً قد مات مؤلّفه فينطقه كما يشاء، وكما يريد، متحرّراً من السلطة المزعومة للنص؛ لكي يقرأ ما لا يقوله، فالنص محتاج إلى عين ترى فيه ما لم يره المؤلّف وما لم يخطر له ببال. فإذا كان هذا الكلام يجوز على النص الأدبي أو العمل الفنّي فإنّه يصبح بالنسبة للنص القرآني عبثياً واجتراءً ما بعده اجتراء على الله وعلى دينه، وهو في المقام الأول محاولة لطمس نور الله والله متمّ نوره ولو كره دعاة الهرمنيوطيقا.
2 – محمد صالح المنجد: الهيرمينوطيقا وبدعة إعادة فهم النص
ينطلق محمد صالح المنجد(1961-؟) من القول بأنّ دعاة التأويل والهرمنيوطيقا هم أهل بدعة تأويل النص بعد أن فشلوا تماماً في تحريف النص لجأوا إلى بدعة تحريف المعنى[33]. ويرى أنّ التسليم والإذعان لنصوص الكتاب والسنة هو مقتضى الشهادتين، فإنّ الشهادة لله بالوحدانية الموجبة لإفراده بالعبودية مبناها على التسليم التام له في أمره، ونهيه، وخبره، وعد المعارضة وإيراد الأسئلة، ومقتضى الشهادة للنبي صلى الله عليه وسلم بالرسالة تصديقه فيما أخبر، وطاعته فيما أمر، والانتهاء عما عنه نهى وزجر، وألاّ يُعبد الله إلا بما شرع[34].
ووصف «المنجد» دعاة الهرمنيوطيقا أو كما يسمّيهم دعاة (تأويل الوحي) بأنّهم الصنف الثاني من المعادين للنصوص الشرعية، وهم المحرّفون لمعانيه لما يتخوّفون من حمية الناس لدينهم، وهم الذين يقومون على تكذيب «معنى النص» وهو مراد الله ورسوله منه. ويرى أنّهم في الحقيقة يستهدفون أصل الدين، الذي هو الانقياد والاستسلام لله ورسوله، بالمقاومة والمعارضة، فالتأويل فيه عناد وعدم انقياد لمعنى النص، والانقياد والاستسلام هو أصل الدين كلّه، فحقيقته الانقياد التام للفظ نصاً ومعنى[35].
فيرى الشيخ المنجد في موقفه المناهض لدعاة التأويل والهرمنيوطيقا بإطلاق أنّ الدعوة التي ينتهجها دعاة االهرمنيوطيقا لقراءة جديدة ومعاصرة للنص الشرعي لها نتائج خطيرة، منها:
نزع الثقة بمصدر الدين، فهذه القراءة الجديدة للنص تفضي إلى نزع الثقة في مصدر الدين قرآناً وسنةً من النفوس.
إلغاء العمل بالقرآن الذي نزل ليكون مرجعاً ومنهاجاً للناس؛ لأنّ كل إنسان سيفهم منه فهماً مغايراً لفهم الآخر. ألم يزعم دعاة الهرمنيوطيقا أنّ النص يتّسع للكل، ويتّسع لكل الأوجه والمستويات. ما ينتج عنه أن لا يكون هناك قانون عام يحتكم إليه جميع الناس. والنتيجة رفع القرآن الإلهي من الأرض ولا يبقى غير القراءات البشرية النسبية المحتملة[36].
ومن أخطر نتائج هذه القراءة الهرمنيوطيقية: إلغاء الفهم الصحيح للدين، فالقراءة الجديدة للنص الشرعي بما أنّها قراءة محرّفة لمعنى النص باحتمالات غير متناهية، وبما أنّها شأن شخصي فردي، وبما أنّنا الآن في زمن تغيّرت ظروفه تغيّراً جذرياً عما كان عليه الأمر من قبل، فإنّها ستكون قراءةً ناسخةً للدين الصحيح الذي تناقلته أجيال الأمة من العهد النبوي حتى الآن. فهذه القراءة الجديدة سينشأ عنها دين يمكن أن يسمّي أيّ شيء غير الإسلام[37]. أو بالأحرى دين جديد ليس للشهادتين فيه مدلول إيماني، والصلاة مسألة شخصية ليست واجبة بل تغني عنها رياضة اليوجا، والزكاة اختيارية لمن أحب وشاء، والصوم مفروض على العرب فقط وهو اختيار لغيرهم، والحج ليس أن يُقام بالضرورة بطقوسه المعروفة، إذ يغني عنه الحج العقلي أو الروحي…الخ ما زعمه دعاة الهرمنيوطيقا الغربية أو التأويل[38].
والحقيقة إنّه إذا كنّا نؤيّد إلى حدٍ ما موقف الشيخ المنجد في موقفه من دعاة الهرمنيوطيقا إلا أنّ موقف الإذعان الكامل لما ارتضاه السابقون في فهم النص الديني الذي يدعو إليه الشيخ «المنجد» فيه تطرّف في الناحية المضادة لتطرّف دعاة الهرمنيوطيقا وهو يلتقي معهم في غاية واحدة وهي قتل النص واغتياله.
فالنص الديني عموماً ليس نصّاً جامداً وإنّما هو نص ديناميكي متطوّر ومتعدّد المعنى صالح لكل زمان ومكان، فمن الخطأ حبسه داخل إطار محدّد سلفاً أو تقييد معناه بحوادث أسباب النزول، فالعبرة في عموم اللفظ لا في خصوص السبب. مع مراعاة الفرق بين الأصول التي لا يمكن الخوض فيها، والفروع التي تقبل التأويل. أو بين المحكم قطعي الثبوت والدلالة الذي لا اجتهاد معه وبين المتشابه الذي يمكننا فهمه وتفسيره وتأويله بأكثر من طريقة. مع التسليم بأنّ كل ما يقدّمه المؤوّلون ليست أراء قطعية ملزمة ولكنّها محاولات في فهم المراد من النص، ولا مانع من الإضافة عليها والاختلاف في وجاهتها، هذا فضلاً عن ضرورة أن يلتزم المؤوّل بضوابط التأويل، ومنها عدم معارضة نص آخر، ومعرفة لسان العرب من مفردات وتراكيب ومعان، ومعرفة عادات العرب في أقوالها وأفعالها ومجاري أحوالها، وحالة التنزيل، ومعرفة أسباب النزول، ومقتضيات الأحوال، ومعرفة علم القراءات، والناسخ والمنسوخ، وقواعد أصول الفقه التي تتحدّث عن المبيّن والمؤوّل والمقيّد والمتشابه والعام والمطلق. فالجديد لا يمكن أن يولد إلا من رحم القديم، ولا يمكن تقديم تفسيرات جديدة للنص الديني تقوم على قطيعة تامة مع التفسيرات التراثية.
خاتمة
مما سبق يمكننا أن نتوصّل إلى مجموعة من النتائج، لعل أهمّها:
أولًا: تنوّع معاني الهرمنيوطيقا واختلافها من عصر إلى عصر ومن مفكّر إلى آخر؛ فهي تارة تبحث ـ بحسب مراحلها واتجاهاتها ـ عن تفسير للكتاب المقدّس (البروتستانت)، أو تبحث في تفسير عامة النصوص(مارتي كلاديتوس)، أو العلم بقواعد فهم النصوص (أوغوست ولف)، أو منهج لتجنّب سوء الفهم (شلاير ماخر)، أو منهج لمعرفة العلوم الإنسانية (دلتاي)، أو هي تفسير لحقيقة الفهم (هايدغر وغادامير). فإذا كان الاتجاه المحافظ الذي يمثّله شلايرماخر وهيرش يرى أنَّ المفسّر يمكنه من خلال المنهج الصحيح أن يتوصّل لمقاصد المؤلّف الحقيقية والموضوعية، فإنّ الاتجاه الذي يمثّله غادامير وريكور يرى أنَّ التفسير الهرمنيوطيقي خلَّاق دائماً وأنّ هناك حواراً جدلياً دائماً بين المفسّر والنص؛ لذلك لا يمكن أن تكون هناك حقيقة موضوعية واحدة للنص الذي يمتزج مع أفق المفسّر فهناك دائماً تفسيرات لا متناهية للنص الواحد. بينما يؤكّد نيتشه وهايدغر وفوكو ودريدا على خلاّقيّة المفسّر فلا يمكن التوصّل للمعنى الأصلي للنص، فكلّ التفسيرات احتمالية ونسبية. في حين يؤكّد هابرماس وآبل على ضرورة تحرّر المفسّر من كافة التراكمات الأيديولوجيه والثقافية والاجتماعية وكافة التقاليد التي يعيشها المفسّر! ما يؤدّي إلى الهرمنيوطيقا كعلم قد اعتراه تبدّلات كثيرة من حيث المفهوم والأفكار، ومن حيث نظريّاتها في التحليل حتى يومنا هذا. وهي نقطة مهمة يجب الالتفات إليها بأنّها نظريات نسبية، تختلف صلاحية تطبيقها من خطاب إلى خطاب، وقد تصدق على خطاب بشري دون آخر فما بالك بصلاحيّتها للخطاب الإلهي.
ثانيًا: بدت الهرمنيوطيقا بكل معانيها غير صالحة للتطبيق على النص القرآني الذي يفترض ضرورة وجود الفهم الموضوعي الحقيقي المعين للنص، والهدف النهائي لقصد المفسّر هو التوصّل لقصد المؤلّف، ويكون ذلك معياراً لتمييز تفسيره عن غيره. ومن ثم يصبح تطبيق الهرمنيوطيقا على النص القرآني دعوة للشك والنسبية وتعدّد الحقيقة بتعدّد المفسّرين. ومن ثم ينتهي البحث إلى اعتبار الهرمنيوطيقا جنوحًا عن المقاصد والدلالات الموضوعية في القرآن، ومحاولة إدخال أفكار غريبة أو بدع وضلالات من خلال تحريف مقصود لدلالات المفردات والتراكيب القرآنية ومعانيها. فإن لم يكن هناك حقيقة واحدة معيّنة وراء النص يتسابق المفسّرون للفوز بالوصول إليها فلا جدوى من البحث عنها إذاً. كما أنّ هذه النظرية تؤدّي للتناقض وذبح نفسها، فلأجل أن نؤمن بعدم صحة جميع القضايا فلا بد أن نؤمن بصحّة بعضها وهذا تناقض واضح.
ثالثاً: بدت الهرمنيوطيقا ملائمة جداً للنص الأدبي والعمل الفني الإبداعي، فهي نصوص مفتوحة على جميع التأويلات قابلة لكثرة التفسيرات وتنوّع المعاني، فلا ضير أبداً في أن تتعدّد معاني النص بتعدّد قراءاته، بل بالعكس فهذا إثراء خلاّق للعمل الإبداعي البشري، في حين أنّ الهرمنيوطيقا بدت غير ملائمة تماماً للنص الديني المقدّس غير القابل للاختلاف والتعدّد اللانهائي، وإن تذرّع أحدهم باختلاف الفقهاء فيمكن الردّ عليه بأنّ أحكام الفقهاء تابعة لجلب المصالح ودرء المفاسد. فإذا كانت الظروف والموضوعات واحدة فالحكم واحد لا يتغيّر.
رابعًا: بناءً على ما سبق تُعدّ الهرمنيوطيقا من قبيل التفسير بالرأي المذموم حسب المنطق الإسلامي؛ فالأديان السماوية تؤمن بمحورية النص لا محورية المفسّر؛ لأنّ النص من لدن الله الكامل الذي أرسله للعباد من أجل تكاملهم وسعادتهم، فإذا ما تم الأخذ بتفسيرات الهرمنيوطيقا اللامتناهية للنص كان هذا تبريراً مشروعاً لاعتقادات المهرطقين البعيدة تماماً عن روح الدين الحقيقية. فالنص القرآني متعدّد الدلالة وفق ما تقضيه صورة الخطاب وسياقه ومقصده.
خامساً: لا يعني هذا القول بأنّ القرآن الكريم قد فُسر وأُوّل وانتهى البحث في معانيه، وأنّ المتقدّمين لم يتركوا للمتأخّرين مجالاً للزيادة والاستطراد، وما علينا إذا أردنا أن نفهم آياته الكريمة إلا أن نعكف على المؤلّفات الجليلة لهؤلاء السابقين؛ ففيها ما يشبع النهم، ويشفي الغليل، ويروي صدى الصادي، ولا مجال بعدها لمستزيد، فلكلّ جيل حظّه في فهم النص القرآني وتفسيره وما عليه إلا أن يجد ويجتهد في التفكّر والتدبّر حسب قواعد معيّنة في إطار الاستمرارية مع التراث وليس بالخروج عنه؛ كي يدرك أبعاداً في النص لم يدركها السابقون، فالقول بأن القرآن الكريم أُدرك كلّه في جيل معيّن فقط يعني محاصرة القرآن وجموده وإلغاء صلاحيته لكل زمان ومكان. فالتشدّد في إغلاق باب البحث والتحقيق العلمي خشية التفلّت يقوم في إضعاف التسليم بنفس الدور الذي يقوم به فتح الباب على مصراعيه لتأويلات لا متناهية.
——————————————
[1]*ـ أستاذ الفلسفة الحديثة المساعد بكلية الآداب، جامعة بني سويف، جمهورية مصر العربية.
[2]- أحمد زايد، الهرمنيوطيقا وإشكالية التأويل والفهم في العلوم الاجتماعية، حولية كلية الإنسانيات العلوم الاجتماعية، العدد الرابع عشر، جامعة قطر، 1991، ص229.
[3]- مراد وهبة، المعجم الفلسفي، القاهرة، دار قباء للطباعة والنشر والتوزيع، الطبعة الرابعة، 1998، ص 716.
[4]- نصر أبوزيد، الهرمنيوطيقا ومضلة تفسير النص، مجلة فصول، المجلد الأول، العدد الثالث، أبريل، 1981، ص 141.
[5]- المرجع نفسه.
[6]- منى طلبة، الهرمنيوطيقا ـ المصطلح والمفهوم، مجلة أوراق فلسفية، القاهرة، العدد العاشر، 2004، ص 133. وانظر أيضاً:
palmer.Richard E.Hermeneutics, Northwestern University Press Evanstston, 1969, P.34.
[7]- انظر، بالطير تاج- عباس مصطفى، قراءة النص القرآني على ضوء المنهج الهرمنيوطيقي- نصر حامد أبوزيد أنموذجاً، مجلة قراءات للبحوث والدراسات الأدبية والنقدية واللغوية، العدد 7، جوان 2017، ص 5-10.
[8]- محمد ألحيان، الهرمنيوطيقا، محاولة لتجاوز أزمة القراءة التقليدية للنص القرآني، الرباط -المغرب،2015، ص 1.على الرابط الإلكتروني التالي:
https://www.mominoun.com/pdf1/2015-11/5650806be4762996800977.pdf
[9]- نصر حامد أبوزيد، الهرمنيوطيقا ومعضلة تفسير النص، ص 142.
[10]- المصدر السابق، ص142.
[11]- المصدر السابق، ص 142.
[12]- المصدر نفسه.
[13]- نصر حامد أبوزيد، التجديد والتأويل والتحريم بين المعرفة العلمية والخوف من التكفير، الدار البيضاء- المغرب، المركز الثقافي العربي، الطبعة الأولى، 2010، ص 133.
[14]- ياغي، حسن، مقدمة كتاب» التجديد والتأويل والتحريم بين المعرفة العلمية والخوف من التكفير، الدار البيضاء- المغرب، المركز الثقافي العربي، الطبعة الأولى، 2010، ص 16.
[15]- نصر حامد أبوزيد، فلسفة التأويل، الدار البيضاء- المغرب، المركز الثقافي العربي، الطبعة السادسة، 2007، ص 5.
[16]- محمد مجتهد شبستري، الهرمنيوطيقا والفهم الديني للعالم، حوار معه منشور بمجلة «قضايا إسلامية معاصرة» بغداد، مركز دراسات فلسفة الدين، السنة السابعة عشرة، العدد 53/54/شتاء وربيع 2013، ص 18.
[17]- المصدر السابق، ص.18.
[18]- المصدر السابق، ص19.
[19]- المصدر السابق، ص19.
[20]- المصدر نفسه.
[21]- أحمد واعظي، الهرمنيوطيقا المعاصرة والنصوص الدينية، رؤية نقدية لمفهوم محمد مجتهد شبستري، مجلة «قضايا إسلامية معاصرة» بغداد، مركز دراسات فلسفة الدين، السنة السابعة عشرة، العدد 53-54/شتاء وربيع 2013، ص 359.
[22]- سورة الأنعام- الآية 34
[23]- سورة الكهف، الآية 27.
[24]- المرجع السابق، ص 374-275.
[25]- مصطفى كيحل: الأنسنة والتأويل في فكر محمد أركون، الجزائر، منشورات الاختلاف، ط1، 2011، ص 52.
[26]- صالح بن فوزان الفوزان، مقدمة كتاب بدعة إعادة فهم النص لمحمد صالح المنجد، مجموعة زاد للنشر، السعودية، الطبعة الأولى، 2010، ص 5.
[27]- محمد عمارة، التأويل العبثي في الدراسات الإسلامية، القاهرة، مجلة الأزهر، مجمع البحوث الإسلامية، عدد جمادى الأولى 1434ه أبريل 2013، الجزء 5، السنة 86، ص 898.
[28]- المصدر السابق، ص 898.
[29]- المصدر السابق،، ص 898-899. ولا شك أن محمد عمارة يقصد ما ذهب إليه حسن حنفي في كتابه «من العقيدة إلى الثورة»، الجزء الأول، طبعة القاهرة، 1988، ص 397-398. وباقي انتقاداته لدعاة الهرمنيوطيقا تنصب في الأساس الأول على آراء حسن حتفي في مجمل دراساته.
[30]- محمد عمارة، التأويل العبثي في الدراسات الإسلامية، ص 900-901.
[31]- انظر، نصر حامد أبو زيد، نقد الخطاب الديني، القاهرة، سينا للنشر، الطبعة الثانية، 1994، ص 99.
[32]- محمد عمارة، التأويل العبثي في الدراسات الإسلامية، ص901.
[33]- محمد صالح المنجد، بدعة إعادة فهم النص، ص 15.
[34]- المصدر السابق، ص 27.
[35]- المصدر السابق، ص 47.
[36]- المصدر السابق، ص80.
[37]- المصدر السابق، ص 82.
[38]- وتتّسع دائرة دعاة الهرمنيوطيقا عند الشيخ المنجد لتشمل كل من: محمد أركون، حسن حنفي، على حرب، نصر حامد أبو زيد، عبدالمجيد الشرفي، محمد الشرفي، الطيب تيزيني، أبو القاسم حاج حمد، محمد شحرور، محمد سعيد العشماوي، حسن الترابي، مصطفى محمود، عبد الهادي عبد الرحمن، محمود محمد طه، الصادق النيهوم، جمال البنا.
***
المصدر
مجلة الاستغراب