السروة والعاصفة/ ديمة حسون 

كيف أنسى أنه لم يكن لديّ سريرٌ طوال عمري

وأنني اكتفيت بخُضرة الأحلام

تمامًا كشجرة الزنزلخت العجوز وشجرة الشوباس الوحيدة قرب نافذتي؟!

أي ريحٍ، بعثرت أوراقي

وتركتها للأزقة تلوكها كمُرِّ الوقت؟!

أقذفُ ذاكرتي للسّماء، أُغْرِق وجهي في الأشياء الّتي أحبها،

في الماء، في السّكون، في وجه البحر، والأمطار اليابسة، وأهزّ رأسي  عَلّني أرى الحياة كيف تجري؟

ثمّ أنام .. أنامُ حتّى ينتهي عزيف الرّيح وصفير السّفن البعيدة!

أفتح النّافذة على مصراعيها

ذاكرتي تخونني حقاً،

صرت أنسى ، عناوين قصائدي وكتبي، ألوان ثيابي المفضّلة،

 أسماء أصدقائي وأقاربي، وأسماء الشّوارع الّتي مررت بها والمقاهي الّتي كنت أجلس فيها.

كلّ شيء يغيب حتّى وجوه جيراني وطريق حارتي !

والآن يغيب بيتي بمائدته العامرة وموسيقاه!

يغيب بستارته الوحيدة وبابهِ المغلق ، بضحكات طفلتيّ، وصراخهما، بوقاري كأمّ حكيمة، وبلاغتي كمتحدثة، وصبري كمستمعة، يغيب قلمي كشاعرة، وصوتي كمغنّية، وريشتي كرسامة!

أنظرُ!

لا أجد الأفق؛ لأقول له مايقول شجر السّرو للعاصفة !

..

كلّ ما أعرفهُ أنّ الحبّ صبرٌ، وصمت، ليس بينهما إلا خيط شمس

وأنّ الكره حكاية للوحل والبرد!

كلّ ما أعرفهُ أنّ الحبّ قصير.. ولكنّ الكره طويل.. يترك لي بقايا الشّمس لأدفأ

بقايا الّليل لأنام

بقايا الفجر لأستيقظ،

بقايا الموسيقى لأبكي،

بقايا الأصابع لأكتب

بقايا الوسائد لأصرخ،

ثمّ بقايا أظافري المقضومة لأكتب:

أريد حصّتي من الشّمس والقمر والنجوم

من الأبجدية والقصائد المعلّقة إلى الأبد كدموع.

أريد حصّتي من أزهار الدّربيسة في قريتي وباقة من أزهار الأقحوان،

 وضمّة من فراشٍ عتيق قرب نافذتي لا يلحظها أحد سواي!

أمّا نوبات الشقيقة، الحبّ العتيق، الضحكات البلهاء، التعويض التقاعدي الّذي حصلت عليه مؤخرًا فهذا لا يعنيني.

لن أعود بأفكارٍ محطمة لأنّ القصيدة الأخيرة ستقال في ليلةٍ ما

فما أكتبهُ في المساء لن أمزّقه في الصّباح ومن يحدثني عند الساعة الثانية عشرة عن نيتشه وعظمته ومقطوعة الرّبيع المنسوبة خطأ إلى شوبان لن أشتهي قتله عند التاسعة،

لن أعود بذكريات كبيرة وأصابعَ ضجرة من بعضها،

 لأنّني لن أبحث في المرآة عن الأيام الغابرة و الحبّ الغريب،

 لن أمدّ رأسي خارج النّافذة لأعثر على الحقيقة في الظّلام. أريد فقط، وللحظة واحدة، أن أرى حزني الجّائع يبتعد عنّي رغيفًا رغيفًا وقطرة قطرة، ثمّ أنام بماضيّ بحاضري بمستقبلي حتّى الصّباح.

أن أرفع رأسي  عن الأوراق الّتي أدون فيها أوهام الحياة، ثم أصرخ:

لستُ وحيدة يا إلهي!

….

الأحلام ترحلُ خلسة في الّليل، ثم تعودُ خلسة من وراء النّوافذ والعيون المغلقة،

حين لا تبقى إلا سّماء فارغة وآثار مصابيح ضجرة،

أصحو وحيدة.. أثبُ، أضحكُ وأتألم، أسرّح شعري جيدًا، أشدّ مئزري جيّدًا،

أمسح دمعي بالجدار وأتذكر

أشياء كثيرة فقدتها بلا معنى: طوابع، صور، أزرار، مفاتيح، دفاتر، عملات قديمة، سوار جدتي، وأوراد جدي.

 كم من الأحلام فقدت أيضًا؟ وكم من أمنية حوّمت زمنًا ثم يبست؟!

لا غيوم، لا مطر، ولا غبار. والبحر أمامي ههنا مقفرٌ بلا مدارج!

 كلُّ شيء يفلت منّي،

وأنا التائهة أبدًا في جحيم ذاتي.