البنيوية مذهب من المذاهب التي سيطرت على المعرفة الإنسانية في الفكر الغربي، مؤدَّاه الاهتمام أولاً بالنظام العام لفكرة أو لعدة أفكار مرتبطة بعضها ببعض على حساب العناصر المكوّنة له. ويعرف أحيانًا باسم البنائيَّة، أو التركيبيَّة . وقد امتدت هذه النظرية إلى علوم اللُّغة عامة وعلم الأسلوب خاصة حيث استخدمها العلماء أساسًا للتمييز الثنائي الذي يعتبر أصلاً لدراسة النص دراسة لغوية. يعد العالم اللغوي السويسري فرديناند دي سوسير مؤسس المنهج البنيوي الذي انطلق منه علم االلغة المعاصر، وذلك في بدايات هذا القرن. لكن المنهج اكتسب انتشارًا وعمقًا على يد عالم الانثروبولوجيا الفرنسي كلود ليفي شتراوس الذي صاغ في أعقاب الحرب العالمية الثانية مذهبًا جديدًا في المعرفة له قواعده. وقد وجه شتراوس النقد إلى الفلسفة الوجودية والوضعية المنطقية والفرويدية، وهاجم الماركسية وأفكارها الأساسية، مثل الصراع الطبقي والحتمية التاريخية، ونادى بالتحول من تحليل صراع الطبقات إلى تحليل البُنَى الأساسية، ورفض التسلط العرقي في التفسير الأنثربولوجي والتطور في خط مستقيم. كما رفضت البنيوية استخدام التفسير التاريخي باعتباره أداة منهجية. والحقيقة أن مصطلح البنيوية ليس جديدًا على المعرفة الإنسانية؛ فمنذ القرن السابع عشر الميلادي استخدم المصطلح في مجال علم الأحياء والهندسة والعمارة وعلم النبات وعلم التشريح وعلم وظائف الأعضاء. ويقصد بالمصطلح في كل هذه العلوم العلاقات الداخلية التي تكون الكل. أما في الجيولوجيا فيدل المصطلح على البنية الداخلية للكرة الأرضية. وفي العصر الحديث شمل المصطلح كل فروع المعرفة وامتد إلى علم النفس: بناء الشخصية والتحليل النفسي: بناء الخلق وعلم الاقتصاد: البناء الاقتصادي وعلم اللغة: بناء الجملة والكلمة. ويعني البناء في هذه العلوم ترابط الأجزاء في وحدة متكاملة وهي شيء ثابت ثباتًا نسبيًا ودائم إلى حد ما. وتظهر البدايات الأولى للنزعة البنائية المعاصرة في أعمال أوجست كونت ودوركايم وميردوك ومالينوفسكي. كما ساهمت الدراسات اللغوية والدراسات النفسية المهتمة بالإدراك في تشكيل البنيوية. ظهرت البنيوية في الغرب في مجال اللغويات وكان الدافع إليها تعذر دراسة اللغات الهندية والإفريقية والشرقية والأوروبية دراسة مقارنة، ومن ثم وجد اللغويون أن عليهم دراسة اللغة من داخلها أي دراستها دراسة بنائية بمنهج موضوعي. ومنذ كتب كلود ليفي شتراوس كتابه البنيات الأولية للقرابة عام (1949م) صارت البنيوية وما يرتبط بها من مترادفات (بنية وبناء والبنيوية والتحليل البنيوي) مفهومًا أساسيًا في الفكر المعاصر؛ فلم يعد هذا المفهوم يقتصر على البناء ذاته أو عمل البنية بل شمل ـ عند بعض المنظرين ـ العلاقات بين الفاعلين داخل البناء أو مكونات البنية ذاته أي العناصر الداخلة في تكوين البناء والعلاقات بين الأبنية. وقد طبق كلود ليفي شتراوس التحليل البنيوي في كتابه السابق. ويفسر هذا الكتاب العلاقات القرابية تفسيرًا بنيويًّا. والقرابة كما كشفت عنها الدراسات البنيوية حقل دراسة لا ينضب لطبيعة العلاقات وثباتها وتطورها وتكرارها وتباينها في مجالات لم تكن متوقعة. وامتد التحليل البنيوي عند شتراوس من النسق القرابي إلى تحليل الأسطورة واللغة، وكلها تشكيلات بنيوية دائمة، وهي مصدر لمعرفة الوعي الإنساني وعقل الإنسان. طبق كلود ليفي شتراوس مناهج العلوم الرياضية ومناهج علم اللغة في دراساته البنيوية. فالبنيوية في المعنى العام تعرض منهجًا تحليليًا يفترض أن الظواهر التي تخضع للملاحظة هي حالات خاصة لمبادئ عامة تحدد العلاقات بين عناصر البناء؛ فالبنيوي لا يحلل الظواهر التي تخضع للملاحظة ولكنه يفترض وجود علاقات هامة وكامنة تؤدي إلى تكون الكل المعُقَّد الظاهر لنا. فالبنية مركب من عناصر بينها علاقات، وهذه العلاقات لا تنشأ مصادفة ولكنها تقوم على مجموعة من القواعد المحددة. فالشعائر جزء من كيان أكبر وترتبط مع عناصر اجتماعية لتكون البناء الاجتماعي. وبعض البنيويين يهتم بشكل العلاقات وصورتها ويتجاهل مضمونها، أي يهتم بصورة العلاقات ولا يهتم بالمضمون. وينبغي أن يهتم البنيوي بشكل العلاقات اهتمامه بالمضمون؛ فالبنية نسق من العلاقات والمواقف. وهذا النسق أكثر واقعية من الدوافع والمقاصد، ويكشف عن قدرة العقل الإنساني على تنظيم عالم التجربة، وأن النظام الظاهر في عالمنا هو محصلة العقل البشري. وقد أثار نشر كتاب البنيات الأولية للقرابة ردود أفعال واسعة، وظهرت أعمال كثيرة تأثرت بنموذج التحليل البنيوي في علم النفس والتاريخ والنقد الأدبي وعلم الأديان وعلم الاجتماع وعلم اللغة. والعامل المشترك بين كل هذه الأعمال أنها أثارت التساؤلات حول جدوى التفسيرات التجريبية والتطورية والوصفية والتاريخية؛ فالبنيويون يؤكدون ضرورة البحث عن كيفية عمل العلاقات التي تؤدي إلى انتظام الظواهر وضرورة معرفة القوانين التي تحكمها. فالموضوعات التي تستحق الدراسة هي الكليات. وكما وجدت البنيوية من يناصرها وجدت المعارضين مثل عالم الاجتماع هومانز الذي اتهم البنيوية بالغائية. ورغم ذلك؛ فإن الإسهام الأكبر للبنيوية هو أنها أظهرت التقارب بين المذاهب الفكرية وحطمت الفواصل بين العلوم الإنسانية وولَّدت الطموح إلى تفكير شامل حول أهمية العلوم الإنسانية. سيطرت البنيوية على ساحة الفكر والمعرفة الإنسانية مدة ثلاثة عقود إلا أن الفكر الإنساني متجدد باستمرار ولا ينحبس في إطار واحد، ولهذا أخذت البنيوية في الانحسار عن المسرح الإنساني ابتداء من الثمانينيات وظهرت مذاهب جديدة تعبر كلها عن خصوبة العقل الإنساني وتبرز حالات القلق التي تسود العالم الآن.
….
نقلا عن الموسوعة الفكرية.