يندرج كتاب «الإنسان ـ الله» (L´homme – Dieu) للفيلسوف لوك فيري ضمن التراث الفلسفي ما بعد عصر الأنوار، الذي أحل العقل محل النقل، والنقد محل العقيدة، إنما على أساس روحاني جديد، يعيد الاعتبار للقيمة والمعنى، في ظل أزمة المعنى في عالم الحداثة الباهتة، مستفيداً من تطور علوم الإنسان، في مجال ظواهرية الأديان.
ومن الناحية الأكاديمية يُعتبر هذا الكتاب خاتمة لعدد من الدراسات التي تناولت موضوعة الدين والدينوية إنطلاقاً من إشكالية القدسية والدهرية، كمؤلفات مرشيا إلياد حول «تاريخ الأديان» و«القدسي والدهري»، ومؤلفات رينيه جيرار «المقدس والعنف» و«كبش الفداء» و«أشياء خفية منذ تكوين العالم».
تُعتبر محاولة جورج باتاي «نظرية في الدين»، هي إحدى مصادر الوعي المحتملة لهذا الكتاب وذلك في دعوته إلى إعادة الاعتبار للأمر الحميم L’ordre intime في نظام الأشياء ـ إنطلاقاً من الوعي والضمير، الذي يستبعد الأشكال الشطحية اللدّنية للدين، وهو موقف صوفي، روحاني، يخالف المحاولات التي تخلط الدين مع معطيات الحاضر الدنيوي، وهذه الفلسفة الصوفية تقوم على التمييز بين وعي الكائن وجوهره être sans essence mais concient.
لقد قامت الحداثة الراديكالية، في قطيعتها مع العصور الوسطى، والنظام القديم، على العودة إلى الطبيعة، والتفكير النقدي بالموجودات، في خارج كل سلطة مرجعية، ما خلا سلطة النقد ذاته، واعتبار الإنسان معيار القيمة والمعنى، وراعي الوجود والكينونة، وعلى الفصل ما بين الحقيقة الأرضية والحقيقة العلوية، باعتبار العقل والعقلانية مرجعية الحقيقة المطلقة.
وإذا كان سبينوزا في العصر الوسيط قد مهد للحداثة العقلية، بتجاوزه لإشكالية العقل والنقل، وتوطيده للعقل الفكري في المعرفة، من دون إلغاء القيمة، كنمط معرفيٍّ، فإنّ كلود ليفي شتراوس يَعتبر القيمة ـ بالمفهوم الإثنولوجي ـ محددة لقيمة، من هنا أهمية المقاربة للإنسان في بُعده الثقافي، إنطلاقاً من الكلية الثقافية، وليس من معطيات سابقة أو لاحقة، في بُعده الشخصاني الكليّ، الأمر الذي يخفف من غلواء الثقافة «العالمة» التي ترى الثقافة الحية والمعاشة كفولكلور أصولي، بدائي «وحشي» وما قبل ـ إنساني؟
فقدان القيم لطابعها القدسي
إن نهاية اللاهوتية ـ الدينية، وظهور ثقافة التدهير، العلمنة في أوروبا، كل هذه الكلمات وغيرها، تؤشر، بنظر الفيلسوف الفرنسي لوك فيري، إلى ذات الحقيقة الواحدة: ظهور العالم العلماني، بحيث أصبح الاعتقاد بالله مسألة شخصية، تتعلق بالنطاق الشخصي. إذ فَقدت القيم الأخلاقية والحقوقية والجمالية طابَعها القدسيُّ، واقتصرت على الصعيد الانساني، هذا، مع أن الأسئلة الميتافيزيقية، والسؤال عن المعنى لا زال يُغذي الوعي الحديث.
وفي ما يتعدى الأصوليات الدينية، فإن الغرب الحديث يطمح ويصبو إلى أشكال متجددة من الروحانية، الأمر الذي يفسر العودة إلى الحكمة الشرقية، وظهور الفرق السديمية من الأديان الجديدة.
لكن السؤال المهم الذي يستحث عليه كتاب لوك فيري هو التالي: كيف نفسر العودة إلى الروحانية في عالم العلمانية؟
لتفسير هذا الأمر يعود فيري إلى أصول الثورة العلمانية، وتحديداً إلى اللحظة الديكارتية، بوصفها اللحظة التي توطد الذاتية، الكوجيطية، وتضع على محك الشك، والاختبار النقدي، العقائد الدوغماطية، بواسطة العال (Sujet) في علاقته مع الذات. ويرفض أهل الحداثة، والحال هذه، كل رأي سُلطوي، لا يخضع لهذه القاعدة، (علاقة العامل مع الذات)، باعتباره «منطق سلطة»، بغض النظر عن طبيعة وشكل هذه السلطة، الخارجية، إلا إذا كانت سلطة وجيهة، تفرض الاعتراف بها، والقناعة فيها. وهي، إذ لا تستبعد الامتثال للدُرجة (الموضة) أو الانبهار بالقادة والزعماء، فإن هذا الإذعان يقوم على الضمير والوعي، على الصعيد السياسي أو الثقافي أو العلمي، وعلى الأخلاق الآدابية المتأسسة على الإنسان. وهل تعني هذه الأنسية الحديثة نهاية كلِّ شكلٍ من أشكال الروحانية؟
لقد تمت التسوية بين الإيمان والإلحاد. كما أن فكرة «الإله الذي يأتي إلى الروح» بحسب الفيلسوف لفيناس لم تتوار، بل ظلت قائمة، تضفي المعنى على القانون، والأمل على الواجب، والحب على الاحترام، انطلاقاً من إشكالية إنسانية بحتة. وهكذا بدأ الذهاب من الإنسان إلى الله وليس العكس. وإذا كانت المسيحية، اليوم، ترى في ذلك علامة من علامات الغرور فإن العلمانيين، ومن ضمنهم المسيحيين العلمانيين، يرون في ذلك علامة من علامات الأصالة والإيمان المتأسس على أفول الأخلاق اللاهوتية. وهكذا، لم يعد التعالي مرفوضاً، وفق هذا التصور، بل مشمولاً، كفكر، في العقل الإنساني، لكنه ينطوي في المحايثة، الملازمة للذات، في استقلالية العامل الذاتي (Sujet). إن الثورة العلمانية التي دخلت إلى الكنيسة ذاتها لم تعد تعترف بمنطق السلطة، وصارت تدعو إلى «أخلاقية حوار» تُغَيِّر العلاقة بين الأخلاق والدين. وهذه الأخلاق تقترح نوعاً آخر من التعالي، يقدمه هوسرل في منهجه الظواهري، قبل لِفيناس، مندمجاً في المحايثة. فالحقيقة العلمية تتجاوز الفرد والفردية مع كونها ملازمة للوعي، وليس ثمة حاجة إلى الركون إلى «منطق السلطة» لفرضها أو افتراضها، فالمتعالي محايث، ملازم الظاهرة، بحسب المعرفة الترانسندالية الظواهرية. فتعالي الحب يندرج في دخيلة الإنسان الصميمة، وتعالي الله يَنوَجد في الطبيعة والوجود والروح، إنَّ هذا المظهر من مظاهر الطبيعة هو الذي يتفق ويتوافق مع العلمانية، وهو الذي يعطي المعنى للروحانية الحديثة. في أي إطار تنطرح العودة إلى القدسيّ والمتعالي في الغرب المعاصر؟ إنّه المعنى واللامتناهي الذي يَنطرح بإزاء التناهي المطلق، الموت، في الرباط المعقود بين نهاية الحياة ومعناها الأقصى، بالتجرد عن التملك، في مقابل الكينونة الحقة، في حين أنَّ المعنى، في العالم العلماني الباهت يقتضي طرح سؤال (التناهي).
الحداثة التي أفقدت الإنسان معناه
يفقد الإنسان في الحداثة المأساوية كماله وأصالته، وغاية وجوده، ولقد اصطدم جهابذة الحداثة ـ وعلى رأسهم ماركس ـ بالصعوبة التي توقعها جان جاك روسو، الذي ذكر الإنسان بالانحطاط والعدمية، فاقترحوا فكرة خلود «النوع» الإنساني في مقابل الانحطاط الفردي، لكن كيركيجارد كشف عن هشاشة هذا الموقف، باعتبار أنَّ الفرادة الوجودية، هي حقيقة الإنسان الفريدة.
لقد ألهم المقدَّس ـ على امتداد آلاف السنين ـ كل قطاعات الثقافة الإنسانية، من الفن إلى السياسة، ومن المثولوجيا إلى الأخلاقية، فهل تستطيع أخلاقنا الخالية من التسامي أنْ تعوّض عن الانسحاب الإلهي؟!
إنَّ إحدى السِمات الفريدة للمجتمع العلماني هي وجوده في إطار مشروع يستمد منه المشروعية والقيمة والمعنى، مع ذلك، في مجتمع الأتمتة والاستهلاك تطغى الأداتية بحيث ينطرح معنى المعنى، وفائدة الفائدة للمشروعات القائمة، أي ينطرح المعنى الأقصى، النهائي، للمعنى والقيمة، وبما أن السؤال عن «معنى الوجود» يفوح بميتافيزيقيته، لكونه يَظل قائماً في عهدة الإيمان القديم، لا يظهرالسؤال إلا في ظروف استثنائية، كالحداد، والمرض العضال في قوالب من المؤاساة الشكلِّية.
لا يعني هذا الأمر أن التعالي القدسي ليس كامناً في الحداثة. فالأفكار الطوباوية الكبرى، كالماركسية، كانت ـ حسب فيري وسواه من الفلاسفة النقديين ـ عبارة عن «دين خلاص» طوباوي بإمتياز، يستبدل الجنة في الحياة الأخرى بجنة شيوعية مَوعودة فوق الأرض، يزول فيها صراع الطبقات، وتنتهي الدولة، وتتعمم ملكية وسائل الإنتاج، وكانت هذه النظرية تنطوي على فكرة «حياة أخرى»، تجمع ما بين الإلحاد والتعالي.
لكن السؤال عن معنى الحياة قد اختفى في مجتمع الأتمتة التقنوقراطية، مجتمع الاستلاب والاغتراب، الذي وصفه هيدغر بأنه المجتمع الذي يستدعي فيه الفعل فعلاً آخر بلا غاية.
وفي خاتمة كتابه يأخذ فيري على المادية وقوعها بالتناقض الأدائي، فهي في التعبير عن قضاياها تنسى موقفها الخاص. ويجد أن نيتشه نفسه أنه وقع في هذا التناقض الأدائي، بإصداره حكماً على الحياة يتصف بالخارجية، لا سيما في هجومه على فكرة التعالي. هذا في الوقت الذي تفترض الحياة نطاقاً متعالياً، مثالثاً، ما ورائياً لكي يحظى الحكم الصادر ـ ضدها بالمعنى والصدقية. والحال هذه، ألم يتصف حكم فيرّي على الإنسان الفاتك، المتناهي، اللاَّكامل، باعتباره انساناً ـ إلهاً بالخارجية أيضاً؟ «ألم يعترض إبليس على خلافة الانسان في الارض ـ معتداً بأصله الملائكي ـ بأنه يفسد فيها ويسفك الدماء؟» فكيف يصبح الإنسان غير الكامل، إنساناً ـ كاملاً، إلا على مستوى الرغبة والطموح والغاية القصوى، باعتباره صورة ـ الله، وخليفة الله على الأرض. ومن أوجه التناقض الأدائي اعتبار الإنسان «إنساناً ـ إلهاً» وإضافة صفة الألوهية إلى الإنسانية هي اعتراف بكونها بُعداً متعالياً ـ محايثاً بصورة تبادلية، وبمعزل عن التثنية والثنائية: ههنا نجد أنفسنا في خارج الثنائية (إنسان ـ إله وإله ـ إنسان). بل نجد أنفسنا أمام جدلية الإنسان ـ الله، والله ـ الإنسان، باعتبار الإنسان «شخصياً»، جمعية للروح والعقل والجسد، يتعالى على طبيعته المتناهية، باعتبار الطبيعة الصغرى امتداداً للطبيعة الكونية، والكائن نموذجاً للكينونة الكبرى، والعالم الأصغر صورة للعالم الأكبر، وتكون الأحدية والفرادة في علاقة جدلية مع اللاتناهي والأحدية الإلهية، في علاقة الإنسان بالله.