أغصان خضراء/ أيمن عامر

 

 

عند شريط السكة الحديد، وعلى الناحية الشرقية منها تحديدًا، تتراكم أكوام ممتدة من أغصان وفروع الشجر خضراء ما تزال، قد قُطعت حديثًا من أشجارها المبثوثة في أنحاء القرية ثم جُمعت في أكوام بجانب السكة الحديد. الأغصان ممتدَّة بأوراقها الخضراء اليانعة، وهي أغصان وفروع هشَّة وإن كانت كثيفة الأوراق. تبدو من بعيد متشابكة ثقيلة ولكنها ليست كذلك، بل هي على غلظها جوفاء من داخلها، والأوراق العريضة يبدو في داخلها ما يشبه غزل البنات. ومع أنها صارت مألوفة منذ زمن إلا أنها من أشجار مجلوبة ليست من الأشجار الأصيلة المعروفة في البلدة من قديم. هذا الزرع الهش المجوف غريب ليس كزرعنا النحيف الثقيل المدكوك. عدَّل من وضع البرنيطة الخوص على رأسه والمبطنة بقطع قماش طرية كي تكون حنونة على جلد رأسه خفيف الشعر. أدخل في عنق الحمار – رفيقه في العمل – طوقًا من الجلد محشوًا بالقش يشبه إطارًا داخليًا لعجلة سيارة وقد مدَّ من جانبيه حبلين ينتهيان بخطافين يسهِّلان عليه العمل، إذ ما أسهل أن يشبك الخطافين بجانبي كومة من الأغصان ويحث حماره فيجرها ليعبر بها السكة الحديد. ليس ثمة مكان محدَّد عليه أن يذهب إليه بهذه الفروع، فقط يعبر بها السكة الحديد ويلقي بها في الجهة الأخرى. ومع أنها في مجملها لا تسوء النظر فإنه يريد إبعادها. يداخله إحساس عميق بعدم الراحة تجاهها وإن لم يتحقق منه. على أية حال هذه الأغصان لن تبقى هشَّة متكاثرة هكذا، فما هي إلا بضعة أيام وتجففها الشمس فتصير هشيمًا ضعيفًا تطحنه الأقدام وتذروه فتختفي أو تكاد. هكذا حادث نفسه فارتفعت معنوياته وزال عنه شعوره بأنه لا يفعل شيئًا. فليكن هذا مصيرها ولكن فليكن بعيدًا، على الجانب الآخر من شريط القطار. كان كلما نقل كومة شعر بعبء ينزاح عن صدره، وكلما اقترب من النهاية تحسَّن مزاجه. اتخذت الشمس طريقها إلى كبد السماء، وسخن الجو بحرارة الصيف القائظة، وغزاه العرق فكان يمسحه من جبهته ووجهه بكمِّه، وقد تصل الملوحة إلى عينيه فتلسعه وتعشي بصره قليلاً وهو يكدُّ في عمله. كان يحث حماره على عبور الشريط الحديدي، والحمار يكافح في جرِّ كتلة متشابكة من الأغصان ليزحزحها مرتين من على القضيبين. اجتهد في عمله وكأنما يدفع عن بلدته شرًا مستطيرًا. وكلما عضَّه الجوع تناول من جيبه كسرة خبز أو قطعة من قشرة بطيخ مخللة، تلهب عطشه ولكنها تساعده على تحمُّل هذا الحر اللافح. كان الإرهاق قد تملَّكه والحر قد أنهكه والوقت الذي حدده لنفسه قد انتهى.. ولكنه قرر ألا يترك لعمله ذيلاً، وها نحن قد اقتربنا. كومة أو كومتان من تلك الأغصان ويكون قد انتهى ثم يمضي سالمًا مستريحًا. شعر بسخونة زائدة في قدمه اليمنى وهو يكافح من أجل العبور. نظر إلى قدمه فوجد فتحة الحذاء المطاطي حمراء قانية يسيل منها الدم. ترك الحمل قليلاً وأخذ ينكث الأرض باحثًا عن خرقة يمسح بها الدم عن قدمه، لكنه سمع صافرة القطار قادمًا في الأفق فساط الحمار وبالكاد نقل هذه الكومة حتى إن القطار شطر منها بعض الفروع أثناء مروره. تنفَّس الصعداء وراح يجمع ما يصادفه من خرق قديمة يلفها حول قدمه رابطًا إياها وصاعدًا بها إلى ساقه فصار منظر قدمه متضخمًا غريبًا في حجم وسطه أو يزيد. تعجَّب من المنظر وأخذ يضحك وقرر معالجة الأمر. جمع المزيد من الخرق ولفَّ ساقه الأخرى من أجل التوازن الجمالي فقط. صار أشبه بمنظر فارس قديم من العصور الوسطى وهو في زيِّه الكاكي وحماره بجانبه لا ينقصه سوى درع وسيف ليخوض معركة شرسة ضد هذه الأغصان. كانت حركة الناس قد هدأت في المكان بفعل الحر الشديد حينما أراد أن يريح حماره وأن يرتاح هو قليلاً. قبل أن ينقل الكومتين الصغيرتين المتبقيتين. أسند ظهره إلى صفصافة عتيقة بجوار المحطة. خلع البرنيطة الخوص وتناول القلة التي كان قد علقها إلى غصن من أغصان الصفصافة. روى ظمأه واستمتع بهطول الماء على صدره وملابسه. وما أن ارتاح وهدأت نفسه قليلاً حتى سيطر عليه مجددًا الوسواس الذي يلحُّ عليه بمهمته المرتقبة. أسند ظهره إلى جذع الشجرة، وأوقف الحمار بجواره. الشجرة دوحة كثيفة الأوراق لا ينفذ منها إلا أشعة ضعيفة. هبَّت نسمة هواء لطيفة لمست حبات العرق على جبينه وصدره فأنعشته برودتها. أخذ يتأمل الحمار، حدَّق فيه وأدرك كم أن حماره هذا، رفيقه هذا، شديد الجمال وبديع التكوين.. ثم راح ذهنه يعدد حسنات صديقه الحمار الحميدة. وراح يذكر بداية معرفته بهذا الحمار، وأنعشته أفكاره هذه كثيرًا. أدخل يده في جيبه فلمست شيئًا طريًا جافًا لم يعرف على الفور ما هو. أخرجه فإذا هو صديق حميم آخر. إنها كرة من خيط طويل مكوَّر. حاول لبعض الوقت أن يفكَّ تشابك الخيوط فلم يفلح، إذ ما أن تنفك بعض الخيوط ويشعر أنها قاربت على أن تنسل من بعضها فيشد طرفًا منها حتى تشتبك وتتعقَّد ثانية. أدرك أنها لعبة غير مجدية وآثر أن يتركها كما هي دون مزيد من التعقيد. أعادها إلى جيبه وتنهَّد. ارتخت عضلاته وحلَّ عليه تعب اليوم فجأة، فأسند رأسه إلى الشجرة وراح في إغفاءة. رأى في غفوته كأنه في نهر رقراق سلسبيل، ولكنه – حين يدقق النظر – ليس نهرًا بالمعنى المألوف، إنه أقرب إلى مجرى مائي رقراق نظيف، يضيق ويتسع كأنه مجرى مائي تحت الأرض. على سطح الماء تنعكس ظلال بنايات تبدو مألوفة أحيانًا وأحيانًا أخرى يراها كأنها بنايات من عوالم خيالية. يرفع بصره عن سطح الماء فلا يرى شيئًا. إنها انعكاسات وظلال فقط. ولا شيء سوى الماء وأفق يضيق أحيانًا ويتسع أحيانًا أخرى. كان يسمع صدى تنفُّسه، وصدى تنفس آخر يجاوره لا يعرف من أين يأتي. ينتظم هذا التنفس ويتحول إلى موسيقى صافية يعكسها الماء أنغامًا سماوية عذبة، بل ويعكسها أشكالاً جميلة غير محددة ولا يستطيع أن يصفها. تخفت الموسيقى ويخفت التنفس، ويرى تحت الماء أغصانه المألوفة التي ينقلها من مكانها تقاوم وتريد البروز من الماء، ثم تأتي موجة قوية فتغمر تلك الأغصان التي تغوص بقوة الموجة إلى الأسفل. ومن وسط سكينته خرج من فمه طائر من البلور وحلَّق بعيدًا. وجاء القطار بجلبته وضجيجه فلم يستطع إيقاظه وإنما حمل صوت القطار نفسه معه إلى الأفق البعيد.